جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه » ‌المنجبر بما سمعت ، المؤيد‌بالرضوي (١) « وان مسست شيئا من جسد أكيل السبع فعليك الغسل ان كان فيما مسست عظم ، وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليك ».

وبالمستفاد مما تقدم سابقا عند البحث على نجاستها من تنزيل القطعة المبانة منزلة الميتة المقتضي لجريان أحكامها عليها ، بل لعل الظاهر منها كغيرها دوران الحكم مدار تحقق معنى الموت ، فضلا عما تقدم في باب أحكام الأموات من ظهور تنزيل الصدر منزلة الميت ، بل قد يعطي التأمل الجيد القطع بفساد القول بعدم جريان حكم المس على القطعة في القطع العظيمة ، سيما التي يصدق عليها اسم الميت كالباقي من الجسم بعد قطع اليدين والرجلين والرأس.

ومنه ينقدح القطع بعدم اعتبار اجتماع جميع أجزاء الجملة ، وإلا لانتفى وجوب الغسل بانتفاء اليسير من البدن ، وهو واضح الفساد ، واحتمال الفرق بين ما ينتفي الصدق بانتفائه وعدمه لو سلم لم يتم في الميت المقطع قطعا متعددة ، بل والمقدود نصفين ، بل والمنفصل بعضه بحيث لا يصدق على ما بقي جسد الميت ، فإنه لا ينبغي التأمل في وجوب غسل المس بذلك ، إذ ليس التقطيع من المطهرات.

ومن ذلك كله ظهر لك ضعف ما سمعته من المعتبر ، واندفاع ما أورده على الخبر من الإرسال ، وقلة العمل ، وعدم ثبوت دعوى الإجماع من الشيخ سيما بعد ما عرفت من إنكار المرتضى أصل وجوب غسل المس ، لانجبار الإرسال بما سمعت ، ومنع قلة العمل بعد دعوى الشيخ الإجماع ، وقد حكي التصريح من الصدوق وابن إدريس به في المقطوع من الميت كما عن ابن الجنيد والإصباح في الحي ، إلا أن الأول قيدها بما بينه وبين سنة ، ولعل الباقين اكتفوا بإطلاقهم وجوبه بمس الميت ، إذ قد يندرج ما نحن فيه‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ١.

٣٤١

فيه ، ولضعف المناقشة في الإجماع بعد حجية المنقول منه بخبر الواحد المحكية في الذكرى عن كثير ، خصوصا والناقل مثل الشيخ ، إذ ليس ما يحكيه إلا كما يرويه ، على انك قد عرفت عدم انحصار الدليل في ذلك.

وعلى كل حال ففي اعتبار البرودة في وجوب الغسل بالضم بمس جزء الحي بل وبالفتح ان قلنا به في الجملة تأمل ، لكن قد يقوى في النظر العدم.

ثم انه قد يشعر عبارة المتن كغيرها بعدم وجوبه في مس العظم المجرد من حي كان أو ميت ، كما عن التذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام والتحرير وحاشية الميسي التصريح به ، واستصحاب الطهارة من الحدث السالم عن المعارض ، ولما تقدم سابقا مما يستفاد منه اشتراط غسل المس بنجاسة الجملة وان لم يعتبر نجاسة خصوص ما باشره مما صدق به اسم المس ، ولا عبرة بالنجاسة العرضية الحاصلة من الملاقاة لو قلنا بها ، إذ المراد النجاسة الذاتية ، على انه نفرضه فيما طهر من العظام ، ولا قائل بالفصل ، ولغير ذلك مما يظهر بالتأمل فيما تقدم ، ولعله الأقوى ، لكن في غير عظم يفرض صدق مس الميت بمسه ، بل ينبغي القطع به في مثل السن والظفر ونحوهما سواء كانا من حي أو ميت للسيرة القاطعة ، بل ربما يدعى ذلك أيضا فيما لو صاحبا لحما قليلا كما صرح به الأستاذ في كشف الغطاء في السن ، بل قد يمنع شمول تلك الأدلة السابقة لمثله ، أو يشك ، فيبقى الأصل سالما.

ودعوى عدم جواز التمسك به هنا لرجوع الشك في مانع العبادة يدفعها ـ بعد منعها في نفسها على الأصح عندنا من جريان الأصل في الشرائط والموانع ـ ان الاستصحاب خصوصا استصحاب الطهارة دليل شرعي يكفي في بيان العبادة ورفع إجمالها الموجب للاحتياط من باب المقدمة ، فما في الذكرى والموجز وعن الدروس وفوائد الشرائع والمسالك من ثبوت الغسل بمس العظم المجرد كالقطعة المشتملة عليه لا يخلو من نظر بل منع ، كمستندهم من دوران الحكم مداره وجودا وعدما ، إذ مثله لا يصلح لأن‌

٣٤٢

يكون مدركا لحكم شرعي ، نعم قد يحتج لهم بالاستصحاب في خصوص المبان من الميت ، ويتم في غيره بعدم القول بالفصل ، وهو كما ترى.

وكيف كان فمرادهم قطعا غير السن ونحوه ، وبه صرح في الذكرى هنا ، لكن وقع فيها ما فيه نظر من وجوه من غير هذه الجهة ، فلاحظ وتأمل هذا.

وفي الفقيه وعن المقنع « لا بأس بأن تمس عظم الميت إذا جاوز سنة » وهو مضمون‌خبر إسماعيل الجعفي (١) « سأل الصادق عليه‌السلام عن مس عظم الميت ، قال : إذا جاوز سنة فلا بأس » ‌وكأنه بمعنى عدم وجوب الغسل بمسه ، كما قال أبو علي انه يجب بمس قطعة أبينت من حي ما بينه وبين سنة ، أو عدم وجوب الغسل بالفتح ، وعلى الأول يعطي مساواة العظم للقطعة ذات العظم في إيجاب مسه الغسل ، لكن إلى سنة ، وعدم اعتبار سند الخبر المذكور واستقرار المذهب على عدم اعتبار ما فيه من الشرط وإجمال سؤاله بل جوابه يمنع من العمل به والالتفات اليه ، مع احتماله ما في الوسائل أن العظم قبل سنة لا يكاد يخلو من أجزاء اللحم الموجب مسها للغسل ، وفي المنتهى « ان في التقييد بالسنة نظرا » ، ويمكن أن يقال : إن العظم لا ينفك من بقايا الأجزاء ، وملاقاة أجزاء الميتة ينجسه وان لم تكن رطبة ، أما إذا جاز عليه سنة فان الأجزاء الميتة تزول عنه ويبقى العظم خاصة ، وهو ليس بنجس إلا من نجس العين » انتهى. وفيه ما فيه.

ثم انه وان قلنا بوجوب الغسل بالضم بمسه فلا يجب بمس الموجود منه في مقابر المسلمين المختصة بهم ، تحكيما للظاهر المعتضد بالسيرة وقاعدة اليقين على الأصل ، وبه صرح في الدروس والموجز والحدائق ، كما هو ظاهر غيرها ، بل صرح في الأولين بسقوطه أيضا في المشتركة بينهم وبين الكفار ، أو المتناوب عليها الفريقان في زمانين ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٢.

٣٤٣

لقاعدة اليقين ، لكنه لا يخلو من إشكال كما في الحدائق ، لانقطاعها باستصحاب عدم الغسل في الممسوس الوارد عليها كانقطاعها في الطهارة من الخبث بمستصحب النجاسة ، إلا أنه قد يقال بعدم صحة جريان أصالة عدم الغسل هنا بعد القطع بانقطاعها في الجملة القاضي بطرو صفة الاشتباه والإبهام على هذه الأفراد المختلطة ، كسائر شبه الموضوع التي لا يقطع مباشرة أحد أفرادها المحصورة كالاناءين استصحاب طهارة الغير من الثوب ، فضلا عن غير المحصور ، فيتجه حينئذ حكمهما بعدم الغسل في الفرض المذكور.

نعم لو كان العظم في مقبرة الكفار المختصة بهم اتجه حينئذ الحكم بوجوب الغسل كما هما صرحا به وغيرهما ، بل ينبغي القطع به في المعلوم كونه من الكافر ، لعدم صحة غسله ، بل وكذا مع احتمال كونه من مسلم ، بناء على عدم الالتفات إليه في مقابلة ذلك الظهور ، كما لا يلتفت إليه في جريان باقي أحكام الكفار في أمثاله إلا ما خرج بالدليل ، ولذا كان المتجه أيضا إلحاق المقبرة بالدار مع الجهل بها لأي الفريقين.

أما العظم المطروح في فلاة أو طريق فقد أطلق في الموجز وجوب الغسل بمسه كما عن الدروس ، ونفى عنه البأس في كشف الالتباس ، وكأنه لأصالة عدم الغسل ، لكنه لا يخلو من نظر إذا كان في فلاة المسلمين وأرضهم ، للحكم بإسلامه حينئذ كما لو كان حيا ، وقاعدة اليقين محكمة.

وفيه ان ذلك لا يقضي بأنه قد وقع عليه التغسيل المسقط لوجوب غسل المس ، لعدم اقترانه بشاهد حال كالدفن ونحوه ، إذ قد يكون ممن لم يعثر عليه مسلم ، بأن كان أكيل سبع مثلا ، ومجرد غلبة غيره لا يصلح كونه قاطعا للأصل ، نعم لو اقترن ذلك بظاهر فعل مسلم مترتب على التغسيل اتجه السقوط حينئذ.

ومما ذكرنا يظهر لك الحال في الميت نفسه والقطعة المبانة ذات العظم وغيرها‌

٣٤٤

بالنسبة إلى جريان سائر ما تقدم ، إذ مدار الجميع على الظهور المعتد به في قطع الأصل ، لاستفادة حجيته من الشرع ، وإلا فهو لا يقدم على الأصل بدون ذلك ، فتأمل جيدا.

والسقط بعد ولوج الروح كغيره يجب بمسه الغسل قطعا ، لتناول الأدلة له ، وولوجها بعد تمام أربعة أشهر ، أما قبل الولوج بأن كان دون الأربعة فعن المفيد انه لا يجب الغسل بمسه ، وقواه في المنتهى ، قال فيه : « لأنه لا يسمى ميتا ، إذ الموت انما يكون من حياة سابقه ، وهو انما يتجه بأربعة أشهر ، نعم يجب غسل اليد » انتهى.

قلت : هو جيد ، لكن قد يشكل بأن المتجه حينئذ الحكم بطهارته ، وان نفى الخلاف عن نجاسته النراقي في لوامعه ، لعدم تناول اسم الميتة له ، فلا يجب غسل اليد منه ، اللهم إلا أن يقال : إن نجاسته حينئذ لا لصدق الميتة ، بل لأنه قطعة أبينت من حي.

وفيه ـ مع بعده في نفسه ، وعدم انصراف دليل القطعة إلى مثله ، وكونه على هذا التقدير من أجزاء الحي التي لا تحلها الحياة إلا على اعتبار المنشئية ـ انه لا وجه لإطلاق القول بعدم وجوب الغسل بمسه بناء على ذلك ، بل المتجه حينئذ التفصيل بين المشتمل على العظم منه وعدمه كالقطعة المبانة من حي ، والقول بعدم اشتماله على عظم أصلا قبل ولوج الروح حتى الرأس غير ثابت ، بل لعل الثابت مما دل على تمام خلقته قبل ولوج الروح خلافه ، والله أعلم.

ويجب غسل اليد مثلا دون الغسل بالضم على من مس ما لا عظم فيه من القطعة المبانة عدا ما تقدم استثناؤه من البثور والثالول ونحوهما مما انفصل من الحي أو مس ميتا له نفس سائلة من غير الناس أما عدم وجوبه بالضم فيهما فلا أجد فيه خلافا كما اعترف به في المنتهى في الثاني ، ونسبه إلى نص الأصحاب في الأول ، بل عن مجمع البرهان الإجماع عليه في الأول ، كما في كشف اللثام ذلك فيهما ، وهو الحجة بعد‌

٣٤٥

الأصل ، ومرسل أيوب بن نوح (١) السابق في الأول ، وصحيحة ابن مسلم (٢) عن أحدهما (ع) و‌الحلبي (٣) عن الصادق عليه‌السلام في الثاني « عن الرجل يمس الميتة أينبغي أن يغتسل؟ فقال : لا ، انما ذلك من الإنسان » ‌كخبر معاوية بن عمار (٤) قال للصادق عليه‌السلام : « البهائم والطير إذا مسها عليه غسل ، قال : لا ، ليس هذا كالإنسان » ‌وبذلك يخرج عن شمول بعض ما قدمناه في ذات العظم من الأدلة المجردة منه.

وأما الغسل بالفتح فلا أجد فيه خلافا مع الرطوبة ، وكون الممسوس غير ما عرفت طهارته من الأجزاء السابقة ، بل في كشف اللثام انه لعله إجماعي ، قلت : بل هو كذلك ، لما تقدم مما دل على نجاسة الميتة من الآدمي وغيره ، ونجاسة القطعة المبانة منها المقتضي لنجاسة الملاقي مع الرطوبة ، بل لعله في الجملة ضروري دين فضلا عن كونه إجماعيا بين المسلمين ، كما أنه يمكن دعوى تواتر الأخبار به معنى بملاحظة ما تقدم من الأخبار السابقة وغيرها ، كمرسل يونس بن عبد الرحمن (٥) عن الصادق عليه‌السلام « سأله هل يجوز أن يمس الثعلب والأرنب أو شيئا من السباع حيا أو ميتا؟ قال : لا يضره لكن يغسل يده » ‌الحديث.

وقد تقدم فيما مضى الإنكار على الكاشاني حيث ادعى عدم نجاسة الميتة بالمعنى المتعارف المقتضي نجاسة الملاقي ، بل المراد بها الخبث الباطني ، وقلنا هناك : إن الأخبار والإجماع بل الضرورة على خلافه لكن حكى في جامع المقاصد هنا عن المرتضى رحمه‌الله القول بأن نجاسة بدن الإنسان الميت حكمية كنجاسة بدن الجنب ، وهو بعينه ما اختاره الكاشاني في مطلق الميتة ، إلا أني لم أعرف أحدا حكاه عن غيره ، وظني أنه توهمه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٤.

٣٤٦

من قوله بعدم وجوب غسل المس ، وهو كما ترى لا يقتضيه.

وعلى كل حال فلا ينبغي البحث في ذلك بعد ما عرفت ، انما البحث في أن نجاسة الميتة من الإنسان وغيره كغيرها من النجاسات لا تتعدى إلى الملاقي إلا مع الرطوبة ، أو أنها تتعدى ولو مع اليبوسة ، فيجب حينئذ غسل الملاقي وان كان يابسا ، الأقوى الأول وفاقا لصريح الذكرى وجامع المقاصد وكشف اللثام وموضع من الموجز وغيرها ، كما عن صريح المبسوط وظاهر الفقيه والمقنع ، بل في شرح المفاتيح نسبته إلى الشهرة بين الأصحاب.

قلت : وهو كذلك ، بل لعله الظاهر من عامتهم عدا من صرح بخلافه ، لعدهم إياها في سلك ما حكمه ذلك من غيرها من النجاسات من غير تنصيص على الفرق ، بل هو مشعر بوضوح الحكم وظهوره لديهم كما لا يخفى على من لاحظ ذلك المقام ، خصوصا معاقد الإجماعات السابقة ، سيما ما في المعتبر منها من أن علماءنا متفقون على نجاسته نجاسة عينية كغيره من ذوات الأنفس السائلة ، للأصل في الملاقي بل والملاقي بالفتح في نحو ميتة نجس العين بل وطاهره على بعض الوجوه.

وعموم ‌قوله عليه‌السلام في موثقة ابن بكير (١) : « كل يابس ذكي » ‌المعتضد بالمستفاد من استقراء كثير مما ورد (٢) في غيرها من النجاسات كالعذرة والخنزير والكلب والدم والبول والمني اليابس وغيرها ، بل في بعضها ما هو كالصريح في ان مناط عدم التعدي فيها اليبوسة لا خصوص يبوستها ، بل يمكن استفادة ذلك منها على وجه القاعدة كغيرها من القواعد المستفادة من مثل ذلك كما لا يخفى على من لاحظها على كثرتها.

ولخصوص ‌صحيح علي بن جعفر (٣) عليهما‌السلام « سأل أخاه عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

٣٤٧

عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت هل تصلح له الصلاة فيه قبل أن يغسله؟ قال : ليس عليه غسله ، وليصل فيه ولا بأس ».

كصحيحه الآخر (١) « سأله أيضا عن الرجل وقع ثوبه على كلب ميت ، قال :ينضحه بالماء ويصلي فيه ولا بأس » ‌إذ لا يراد بالنضح التطهير قطعا ، وإلا لوجب الغسل دونه ، واحتمال إرادته منه مع انه لا قرينة عليه يدفعه ملاحظة كثير مما أمر فيه بالنضح مما علم عدم إرادة التطهير منه باعتراف الخصم.

خلافا للعلامة والشهيدين ، فتتعدى مع اليبوسة في ميتة الآدمي خاصة في التذكرة وعن الروض والبيان وفوائد القواعد مع نسبة له في الأخير إلى المعروف من المذهب ، كما في كشف الالتباس انه المشهور ، واليه يرجع ما في القواعد وأحد موضعي الموجز إن أريد بلفظ الميت فيهما خصوص الإنسان.

وفي ميتة غير الآدمي دونه عن موضع آخر من الموجز وهو غريب لم أجد له موافقا فيه.

ومطلقا كما هو الاحتمال الآخر في عبارتي القواعد والموجز ، بل هو الذي فهمه في كشف اللثام ، وحكاه عنه في النهاية ناسبا له فيها إلى الأصحاب كما عن ذلك (٢) في التذكرة أيضا ، واليه يرجع ما في المنتهى بعد التدبر في عبارته.

لكنه صرح فيه بحكمية النجاسة حينئذ على إشكال في الملاقي لميتة غير الآدمي بمعنى عدم نجاسة ما يلاقيه بيده التي باشر بها الميتة ، وان كان رطبا انما يجب عليه غسل يده خاصة وتقابلها العينية كما عن النهاية احتماله ، بل هو ظاهر القواعد في الجنائز أو صريحها.

وقد تجاوز في المنتهى فتنظر في وجوب غسل اليد لو مس الصوف أو الشعر المتصل بالميتة ، من صدق الاسم ، ومن كون الممسوس لو جز كان طاهرا ، فلا يؤثر نجاسة الماس مع الاتصال.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية ولكن الأصح « عنه » بدل « عن ذلك ».

٣٤٨

والكل ضعيف إذ لا نعرف لهم دليلا عليه ، بل ولا داعيا دعا اليه سوى إطلاق الأمر بغسل اليد والثوب ونحوهما من مباشرة الميتة فيما تقدم سابقا من الأخبار عند البحث على النجاسة كالتوقيع (١) وغيرها ، بل ربما يشم من سياقها اليبوسة.

وفيه ـ مع إمكان دعوى ظهور بعضها في الأمر بغسل الثوب من الرطوبات التي تكون على الميت لا مع اليبوسة ، كخبر إبراهيم بن ميمون (٢) « سأله عن رجل يقع ثوبه على جسد الميت ، قال : إن كان غسل فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، وان كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه » ‌ونحوه حسن الحلبي (٣) المتقدم هناك ، بل في شرح المفاتيح أنها في غاية الظهور بذلك ، بل لا يحتمل غيره ، بل قد يظهر حينئذ من اقتصار الأمر بالغسل من الرطوبات فيهما عدم الأمر به ان لم يكن رطوبة كما في اليابس ، فانحصر الدليل حينئذ في إطلاق غيرهما من التوقيع (٤) والمرسل (٥) ونحوهما (٦) القاصرة سندا بل ودلالة ، لضعف استفادة مثل الحكم المذكور من مثل هذه الإطلاقات الوارد كثير منها في كثير من النجاسات ، مع عدم دعوى أحد منهم شيئا من ذلك فيها ، وما ذاك إلا لأنهم فهموا أنها مبنية على مقدمات مطوية معلومة لديهم من قاعدة كل يابس ذكي ونحوه ، فيراد حينئذ الأمر بالغسل مع اجتماع شرائط النجاسة ، خصوصا ولم يكن السؤال فيها عن شي‌ء من أمر اليبوسة والرطوبة ، بل المراد معرفة حكم ذلك الحيوان مثلا من جهة نفسه ، فالاستدلال بهذه الإطلاقات حينئذ على ذلك انما هو على ما لم تسق لبيانه ، إلى غير ذلك ، على أن المرسل منها مشتمل على الأمر بغسل اليد من إصابة السباع في الحياة والموت ، ولذا جزم بعضهم بحمله على الندب ـ انها معارضة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب النجاسات.

٣٤٩

بما سمعته سابقا من عموم طهارة اليابس وغيره ، وهو وان كان بالعموم من وجه إلا انه يرجح عليه بالاعتضاد بالأصل ، والصحيحين (١) وتلك القاعدة ، وسكوت الأصحاب عن الفرق بينه وبين سائر النجاسات ، مع استبعاد خفاء مثل هذا الحكم عليهم إلى زمن العلامة ، كاستبعاد وكول بيان الأئمة عليهم‌السلام وإخراجه عما ضربوه من تلك القاعدة الكلية إلى مثل هذه الإطلاقات التي لا زالوا يستعملونها في بيان نجاسة العين في الجملة ، بل قد يومي تركهم التعرض إلى غسل اليد ونحوها في كثير من الأخبار (٢) المسؤول فيها عن إصابة الميت في حال الحرارة والبرودة إلى عدمه ، خصوصا مع إطلاق نفي البأس في بعضها بالنسبة للأول ، وخصوصا‌ما اشتمل منها (٣) على تقبيل الصادق عليه‌السلام ولده إسماعيل مع سؤالهم إياه عن ذلك ، فقال : « لا بأس به في حال الحرارة » ‌بل ربما يصل التأمل فيها إلى مرتبة القطع بمعونة قبح تأخير البيان والإبهام والاجمال.

ودعوى ترجيح تلك الإطلاقات بما سمعته من النسبة إلى الأصحاب في النهاية ، والمشهور والمعروف من المذهب في غيرها في غاية الوهن ، إذ لم نعرف نصا من أحد من الأصحاب قبل العلامة في ذلك ، بل ولا إطلاقا ، بل ربما كان سكوتهم عن الفرق بين نجاسة الميتة وغيرها ظاهرا في المختار.

نعم في المقنعة « وإذا وقع ثوب الإنسان على ميت من الناس قبل أن يطهر بالغسل نجسه ، ووجب عليه تطهيره بالماء ـ إلى ان قال ـ : « وإذا وقع على ميتة من غير الناس نجسه ، ووجب عليه غسله بالماء » إلى آخره. فربما استظهر منه ذلك ، وهو كما ترى لا صراحة فيه بل ولا ظهور ، لوقوع كثير من مثل ذلك منهم اعتمادا على مقدمات معلومة كما لا يخفى على الخبير الممارس.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥ و ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٢.

٣٥٠

قلت : ومع ذلك كله فالمتجه بناء على تمسكهم بتلك الإطلاقات عدم الفرق في حكمية النجاسة وعينيتها بين ما باشر الميت برطوبة وعدمه ، ضرورة عدم تعرض في الأدلة لشي‌ء من ذلك ، فالتفصيل بين المباشر بيبوسة فحكمية لا تتعدى إلى غيره ، وبرطوبة فتتعدى مما لا نعرف له وجها ، ولذا كان ظاهر المحكي من عبارة نهاية الأحكام العينية في الجميع ، بل نسبه إلى ظاهر الأصحاب ، وظاهر السرائر أو صريحها الحكمية في الجميع ، فلا ينجس ما باشر الميت ولو برطوبة غيره وان كان رطبا ، ولعله الظاهر من جنائز القواعد أيضا.

وإذ قد وقع من بعض الأصحاب إنكار استفادة ذلك من عبارة السرائر أحببنا أن ننقلها بنفسها ، قال فيها : « ويغتسل الغاسل فرضا واجبا إما في الحال أو فيما بعده ، فان مس مائعا قبل اغتساله وخالطه لا يفسده ولا ينجسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع ، فإنه لا ينجس ذلك المائع وان كان الإناء يجب غسله ، لأنه لاقى جسد الميت ، وليس كذلك المائع الذي يحصل فيه ، لأنه لم يلاق جسد الميت ، وحمله على ذلك قياس وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل قاطع للعذر ، وان كنا متعبدين بغسل ما لاقى جسد الميت ، لأن هذه نجاسات حكمية وليست عينيات ، وأحكام شرعيات ، فنثبتها بحسب الأدلة الشرعية ، ولا خلاف أيضا بين الأمة كافة ان المساجد يجب أن تنزه وتجنب النجاسات العينيات ، وقد أجمعنا بلا خلاف بيننا على ان من غسل ميتا يجلس فيه فضلا عن مروره وجوازه ودخوله إليه ، فإن كان نجس العين لما جاز ذلك ، وأدي إلى تناقض الأدلة ، وأيضا فإن الماء المستعمل في الطهارة على ضربين : ما استعمل في الصغرى ، والأخرى في الكبرى ، والماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا في أنه طاهر مطهر ، والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصحيح عند محققي أصحابنا‌

٣٥١

أيضا طاهر مطهر ، ومن خالف فيه من أصحابنا قال : هو طاهر يزيل النجاسات العينيات ولا يرفع به الحكميات فقد اتفقوا جميعا على أنه طاهر ، ومن جملة الأغسال والطهارات الكبار غسل من مس ميتا ، فلو نجس ما يلاقيه من المائعات لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله وإزالة حدثه طاهرا بالاتفاق والإجماع الذي أشرنا إليه » انتهى.

وهو صريح فيما حكيناه عنه ، نعم لا صراحة فيه في ثبوت ما ذكره من حكمية النجاسة في ملاقي الميت يابسا وان كان ظاهره ذلك ، لكنه لا يخفى عليك انه قد اشتمل على غرائب دعوى ودليلا ، خصوصا ما ذكره أخيرا ، إذ لا بحث في طهارة ماء غسله بالضم بعد تطهيره من النجاسة الحاصلة بالملاقاة.

بل وما ذكره أيضا أولا ، إذ ليس الحكم بنجاسة المائع الملاقي للإناء للقياس على الإناء بل لما ذكره المصنف في المعتبر في الرد عليه ، ولقد أجاد من انه لما اجتمع الأصحاب على نجاسة اليد الملاقية للميت ، وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقعت فيه نجاسة لزم من مجموع القولين نجاسة ذلك المائع لا للقياس.

كما أنه أجاد في رده عليه فيه بالنسبة إلى باقي ما ادعاه أيضا ، ومن هنا رماه بالضعف تارة ، وبالخبط أخرى ، إلا أنه قال بعد ذلك : اللهم إلا أن يريد أن الميت ليس بنجس ، وانما يجب الغسل تعبدا كما هو مذهب الشافعي.

قلت : مع أن كلامه صريح في خلافه قد عرفت فيما مضى حكاية الإجماع من غير واحد ، بل وتحصيله على النجاسة ، ولقد أطنب المصنف في مناقشته والإزراء عليه بما لا يسع المقام ذكره مفصلا ، بل ولا يحتاج بعد وضوح فساد الدعوى ، ولعل صدور مثل ذلك من الحلي كصدور نظيره من العلامة في خصوص المباشر اليابس ، وما سمعته سابقا من الخلاف في النجاسة وعدمها في حال الحرارة.

٣٥٢

وكذا إطلاق بعضهم حكمية نجاسة الميت ، وآخر العينية ، ونحو ذلك هو الذي ألجأ الصيمري في كشف الالتباس إلى إساءة الأدب مع الأصحاب الذين بهم تمت الحجة وقامت الشريعة ، وإلى ما لا نأمل أن يقع من مثله بالنسبة إليهم ، قال فيه : « اعلم أن نجاسة الميت أشكل مسألة في الشرع ، ولقد خبط فيها علماء السنة والشيعة خبط عشواء ».

ثم انه أطنب في المقال غاية الاطناب ، وظن أنه جاء بشي‌ء ، والناظر فيه يعلم أنه عن ذاك بمعزل ، وليت شعري ما الذي حداه إلى ذلك هنا ، فان كان تعدد أقوال الأصحاب فهو أقل قليل بالنظر إلى غير المقام ، وان كان إجمال الأمر عليه حيث لم يعرف مرادهم بالحكمية والعينية فهو قصور منه لا عيب منهم.

مع انه صرح غير واحد بما يكشف ذلك ، فقال : إن الحكمية قد تطلق ويراد بها ما لا جرم له من النجاسات كالبول اليابس ونحوه ، وقد تطلق ويراد بها ما يكون المحل الذي قامت به طاهرا لا ينجس الملاقي له ، ويحتاج زوال حكمها إلى النية ، وقد تطلق ويراد بها ما يقبل التطهير من النجاسات كبدن الميت ، وقد تطلق ويراد بها ما حكم الشارع بتطهيرها من غير ان يلحقها حكم غيرها من النجاسات العينية ، وتقابلها العينية في الأربعة ، فإطلاق الأصحاب حينئذ عليها حكمية تارة ، وعينية أخرى انما هو باختلاف الجهتين والاعتبارين ، أو من جهة اختيار أحد القولين السابقين ، وليس ذلك من التناقض في شي‌ء حتى يلتجى له إلى هذا التشنيع الشنيع ، وكأنه لم يلحظ إيضاح الفخر أو جامع المقاصد والروض وفوائد القواعد.

وقد عرفت أن الأقوى عندنا أنها حكمية بمعنى قبولها للتطهير واحتياجها إلى النية ، وعينية بمعنى تعدي النجاسة منها إلى ما يلاقيها برطوبة ، وكذا ما لاقى ما يلاقيها كذلك ، ولو لا مخافة الاطناب لتعرضنا إلى ما يكشف عنه ما توهم من دعوى التناقض في كلمات الأصحاب ، كما انه لولاه لكشفنا اللثام عن أمور أخر لها نوع تعلق في المقام ، ولعل فيما ذكرنا الكفاية إن شاء الله.

٣٥٣

( الخامس الدماء )

ونجاستها في الجملة إجماعية بين الشيعة بل بين المسلمين ، بل هي من ضروريات هذا الدين ، كما ان عدمها فيها في الجملة كذلك ، ولكن البحث في تعيين كل منهما ، ففي المتن لا ينجس منها إلا ما كان من حيوان له عرق وظاهره كغيره من كثير من عبارات الأصحاب نجاسة مطلق الخارج وان لم يكن من العرق نفسه ، بل من جلد ولحم ونحوهما كما هو قضية معقد النسبة إلى مذهب علمائنا عدا ابن الجنيد في المعتبر على نجاسة الدم كله قليله وكثيرة إلا دم مالا نفس له سائلة ، كنفي الخلاف في التذكرة عن نجاسته من ذي النفس السائلة وان كان مأكولا ، وما يفهم من الذكرى والروض بعد التدبر في كلامهما من الإجماع أيضا على نجاسته إذا كان من ذي النفس.

لكن قد يوهم خلاف ذلك جملة من كلمات الأصحاب حيث خصوا النجاسة في الدم المسفوح منه ، ضرورة أخصيته من مطلق الخارج من ذي النفس ، إذ المنساق منه ما انصب من العرق نفسه ، بل في الحدائق « ان ذلك معناه لغة ، فلا يدخل فيه حينئذ ما كان في اللحم ونحوه » وفي المنتهى « ان المراد به ما له عرق يخرج منه بقوة ودفع لا رشحا كالسمك » إلى آخره.

منها ما في الغنية « دم الحيض والاستحاضة والنفاس نجس بلا خلاف ، وكذا الدم المسفوح من غير هذه الثلاثة ـ من غير هذه الثلاثة ـ إلى ان قال في الاستدلال على طهارة دم السمك بمفهوم قوله تعالى (١) ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ) إلى آخره ـ : ودم السمك ليس بمسفوح ، وذلك يقتضي طهارته ».

ومنها ما في المنتهى « قال علماؤنا : الدم المسفوح من كل حيوان ذي نفس سائلة أي يكون خارجا بدفع من عرق نجس ، وهو مذهب علماء الإسلام ـ ثم قال في الاستدلال

__________________

(١) سورة الانعام ـ الآية ١٤٦.

٣٥٤

على طهارة دم ما لا نفس له ـ : بأنه ليس بمسفوح ، فلا يكون نجسا ، وألحق به الدم المتخلف في اللحم المذكى إذا لم يقذفه الحيوان ، لانه ليس بمسفوح ـ ثم استدل في خصوص دم السمك كالمصنف في المعتبر ـ بأنه لو كان نجسا لتوقف إباحة أكله على سفحه كالحيوان البري ».

ومنها ما في كشف اللثام في شرح قول العلامة : « الرابع الدم من ذي النفس السائلة مطلقا » قال : « الرابع الدم الخارج من عرق ذي النفس السائلة من العرق مطلقا مأكولا وغيره بالنصوص وإجماع المسلمين كما في المنتهى » إلى آخره. ثم استدل على طهارة المتخلف في لحم المذبوح وعرقه بخروجه عن الدم المسفوح ، كما أنه في جامع المقاصد استدل على المتخلف أيضا بأنه لما كان التحريم والنجاسة معا انما يثبتان في الدم المسفوح ، وهو الذي يخرج عند قطع العروق كان ما سواه مما يبقى بعد الذبح والقذف المعتاد طاهرا وحلالا أيضا إذا لم يكن جزءا من محرم ، سواء بقي في العروق أم في اللحم أم في البطن ، إلى غير ذلك من العبارات التي توهم خلاف ما تقدم.

كاستدلال الحلي في السرائر أيضا على طهارة دم السمك ونحوه بكونه ليس بمسفوح ، وبأنه لو كان نجسا لتوقف حلية أكله على سفح دمه ، لنجاسته كسائر ما كان كذلك من الحيوان ، ثم قال : الدم الطاهر هو دم السمك والبراغيث وما ليس بمسفوح ، وقال : أيضا الدم الطاهر على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام من غير خلاف يعرف فيه بينهم دم السمك والبراغيث والبق وما أشبه ذلك مما ليس بمسفوح.

وكتعليل المختلف طهارة المتخلف في الذبيحة بانتفاء المقتضي للتنجيس ، وهو السفح ، وقد اعترف في الحدائق بايهام هذا التعليل ذلك كعبارة المنتهى ، وقال : إن قضيتهما طهارة غير المسفوح كدم الشوكة ونحوها من ذي النفس مطلقا ، إلا أن الظاهر من الأصحاب الاتفاق على نجاسته ، وفي البحار انه يتوهم من عبارة بعض الأصحاب طهارة غير المسفوح ، وما له كثرة وانصباب من دم ذي النفس ، وهو ضعيف ، بل

٣٥٥

ظاهر الأصحاب الاتفاق على نجاسته ، كما انه في المعالم اعترف به أيضا من جملة من عبارات العلامة ، خصوصا المنتهى.

قلت : لكن الأقوى الأول أي نجاسة مطلق دم ذي النفس السائلة ، للإجماع السابق في المعتبر المعتضد بنفي الخلاف في التذكرة الظاهر فيما بين المسلمين ، وبصريح الإجماع أو ظاهره في الذكرى والروض كظاهر البحار والحدائق المؤيد بإطلاق أكثر الفتاوى ، سيما بعد النص على طهارة دم السمك والمتخلف ونحوهما ، وعدم ذكر أحد منهم طهارة شي‌ء من دماء ذي النفوس عدا المتخلف ، بل يمكن دعوى عدم الخلاف فيه حتى ممن سمعت ، لاحتمال إرادتهم مطلق الخارج من المسفوح كما في المدارك أو يقال : إن جميع دماء ذي النفس في عروق وان كانت دقاقا ، أو يقال : إن تقييدهم بالمسفوح لإخراج المتخلف في الذبيحة خاصة لا غيره ، خصوصا في عبارات العلامة ، ويومي اليه ما حكي عنه في النهاية انه قيد بذلك فيها ، ولم يزد عند عده المستثنيات من الدم على ما عند الأصحاب.

وإن أبيت عن ذلك كله فقد عرفت أن الأقوى الأول ، لما تقدم ، وللمستفاد من المستفيض (١) من الاخبار أو المتواتر من نجاسة مطلق دم الرعاف وما يسيل من الأنف ، بناء على منع لزوم المسفوحية في جميع أفراده.

وخصوصا مفهوم‌خبر ابن مسلم (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام « في الرجل يمس أنفه فيرى دما كيف يصنع؟ أينصرف؟ فقال : إن كان يابسا فيرم به ولا بأس » ‌إذ قد يدعى ظهوره في غير المسفوح.

كصحيح علي بن جعفر (٣) عن أخيه عليهما‌السلام « سأله عن الرجل يكون به‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١ و ٨ والباب ٢١ منها.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٣ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٥٦

الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته؟ أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ فقال : إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس ، وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله ».

كسؤاله الآخر له أيضا‌المروي (١) في الفقيه « عن الرجل يحرك بعض أسنانه وهو في الصلاة بل ينزعه ، فقال : إن كان لا يدميه فلينزعه ، وان كان يدمي فلينصرف ».

وأوضح منهما‌خبر المثنى بن عبد السلام (٢) عن الصادق عليه‌السلام « اني حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : إذا اجتمع قدر الحمصة فاغسله ، وإلا فلا » ‌إذ إرادة المسفوح منه بعيدة أو ممتنعة ، وذيله مع إمكان حمله على إرادة التقدير للعفو في الصلاة لا للنجاسة والطهارة لا ينافي الاستدلال بسابقه على المطلوب.

وللمستفاد أيضا من المعتبرة (٣) المستفيضة جدا من نجاسة دم القروح والدماميل ونحوها ، إذ دعوى المسفوحية بالمعنى السابق في جميع أفرادها كما ترى.

ولأصالة النجاسة في أنواع الدماء وأصنافها المستفادة من إطلاق‌قول الصادق عليه‌السلام في موثقتي عمار (٤) بعد أن سئل عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب : « كل شي‌ء من الطير يتوضأ بما يشرب إلا أن ترى في منقاره دما » ‌ومن ترك الاستفصال بعد السؤال عن الدم الذي أصاب الثوب ونحوه فنسي أو لم يعلم به وصلى في الاخبار (٥) الكثيرة الخارجة عن حد الإحصاء ، كتركه أيضا بعد غير هذا القسم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب النجاسات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ٢ و ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ و ٤٢ ـ من أبواب النجاسات.

٣٥٧

من السؤال في أخبار عديدة (١) منها ما تقدم في البئر وماء القليل ، ومنها غير ذلك.

لكن لم أعثر في شي‌ء من سائر هذه الاخبار على ما كان الغرض الأصلي من السؤال عن نجاسة الدم ، لمكان تردد السائل في بعض الافراد حتى يكون ترك الاستفصال يفيد العموم بالنسبة الى ذلك ، بل ظاهر أكثرها علم السائل بنجاسته ، بل لعله المنساق من إطلاق لفظ الدم ، إلا أنه لم يعلم حكم الصلاة به مع الجهل به أو النسيان أو القلة أو الكثرة مع مشقة التحرز عنه أو نحو ذلك.

كما أني لم أعثر على خبر معتبر من طرقنا حكم فيه بالنجاسة أو لازمها مراد به بيان حكمها ، وموضوعه لفظ الدم ونحوه مما يستفاد منه حكم الطبائع ، فضلا عن عموم لغوي ، فاستفادة الأصل المذكور الذي هو العمدة في إثبات النجاسة في كثير من أفراد هذا القسم من مثل ما تقدم حينئذ لا يخلو من نظر وتأمل ، وان كان هو ظاهر الأستاذ في شرح المفاتيح ، والعلامة الطباطبائي في المنظومة وغيرهما.

وعليه فالمتجه حينئذ استفادته أيضا بالنسبة الى ما شك في موضوعه ، أي لم يعلم أنه من النجس أو الطاهر ، إذ كما ترك الاستفصال في تلك الاخبار عن أنواع الدماء وأصنافها وأطلق في خبر عمار فعلم عموم حكم النجاسة كذلك ترك أيضا وأطلق بالنسبة إلى موضوعها ، فينبغي أن يعلم ثبوت الحكم بالنجاسة حينئذ حتى ليظهر أنه من الطاهر ، وكذا الكلام في موثقة عمار السابقة وغيرها ، بل لم أعرف خبرا اختص به الأول عن الثاني.

ودعوى ندرة الطاهرة ، فلا اشتباه في الموضوع من جهتها ، فلا يقدح ترك الاستفصال عنها حينئذ ، بخلاف أنواع الدم ممنوعة ، سيما مع معروفية دم البراغيث والبق والسمك ونحوها في ذلك الزمان ، بل يمكن دعوى ظهور بعض الاخبار في الحكم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ و ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٥٨

بالنجاسة مع اشتباه الموضوع لترك الاستفصال وغيره ، ولذا كان ظاهر الأستاذ في شرح المفاتيح التزام أصالة النجاسة في مشتبه الحكم أو الموضوع.

بل قد يدعى ظهور موثقة عمار السابقة في مشتبه الموضوع ، لبعد معرفة حال الدم الذي هو في منقار الطير ، كخبر ابن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي ، قال : لا يؤذنه حتى ينصرف » ‌إلا أنه قد يقال : لعل النهي فيه عن الاعلام لمكان احتمال طهارة الدم ، كالأمر بالإتمام في‌خبر داود بن سرحان (٢) عن الصادق عليه‌السلام « في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما ، قال : يتم ».

نعم قد يستظهر ذلك من‌خبر ابن أبي يعفور (٣) عن الصادق عليه‌السلام « عن الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال : يغسله ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم » ‌الحديث. مع احتمال كون السؤال فيه انما هو لحكم النسيان ، وإلا فنجاسة ذلك معلومة لدى السائل.

ومن هنا حكم في المنتهى والذكرى والدروس والموجز وشرحه والمدارك والحدائق بالطهارة في الثاني أي مشتبه الموضوع كما عن نهاية الاحكام ، بل في الأخير انه لا خلاف فيه بين الأصحاب ، للأصل في الملاقي والملاقي بالفتح كما في سائر ما كان من هذا القبيل.

ودعوى خروج الدم من بينها مع ضعف الإطلاقات فيه وقوتها فيها كما ترى ، بل قد عرفت التأمل في ثبوت الإطلاقات والعمومات بالنسبة للأول أيضا أي مشتبه الحكم ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

٣٥٩

وان استند إليها بعضهم في نجاسة العلقة والدم في البيضة ونحوهما ، ولقد أجاد كشف اللثام في منع دعوى العموم على مدعيها.

اللهم إلا أن يستند في إثباتها إلى معقد إجماع المعتبر السابق المؤيد بما عساه يفهم من‌خبر السكوني (١) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « ان عليا عليه‌السلام كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل يعني دم السمك » ‌من ثبوت البأس في غير ذلك.

وما عساه يفهم من‌مكاتبة ابن الريان (٢) الى الرجل « هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه؟ وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع عليه‌السلام يجوز الصلاة ، والطهر أفضل » ‌بل قد يظهر منه معروفية النجاسة في سائر الدماء في تلك الأوقات.

ولما رواه في البحار عن‌دعائم الإسلام (٣) عن الباقر والصادق عليهما‌السلام « انهما قالا في الدم يصيب الثوب : يغسل كما تغسل النجاسات ، ورخصا عليهما‌السلام في النضح اليسير منه ومن سائر النجاسات مثل دم البراغيث وأشباهه ، قالا : فإذا تفاحش غسل » ‌الى آخره. من حيث تعليق الحكم فيه على طبيعة الدم.

و‌بالمروي (٤) في كتب الفروع لأصحابنا وإن لم أجده من طرقنا ، بل ظني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٣.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٤) بدائع الصنائع للكاشاني ج ١ ص ٦٠ عن عمار بن ياسر‌« كان يغسل ثوبه من النخامة فمر عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : ما تصنع يا عمار؟ فأخبره بذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء انما يغسل الثوب من خمس : بول وغائط وقي‌ء ومني ودم » ‌ورواه في المستدرك في الباب ١٢ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢ ولكنه ما ذكر لفظ القي‌ء والدم.

٣٦٠