جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ومنهما كالتعليل السابق بل وتعليل عدم البأس في الانفحة بأنها ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم كما ستسمعه إن شاء الله يستفاد عدم شمول أخبار الميتة لهذه الاجزاء حتى يحتاج إلى التقييد أو التخصيص ، كما ظنه في الحدائق زاعما انها داخلة في مسماها كدخولها في مسمى الكلب والخنزير ، إذ لا يخفى وضوح الفرق بينهما ، فأصالة الطهارة وعموماتها حينئذ محكمة ، ودليل آخر على المطلوب بعد الإجماع والاخبار المتقدمين.

ومنه يظهر ما في شرح الدروس للخوانساري من أن العمدة في طهارة هذه الاجزاء عدم وجود نص يدل على نجاسة الميتة حتى تدخل ، لا عدم حلول الحياة ، وإلا لو كان هناك نص كذلك لدخلت كشعر الكلب والخنزير ، وإلا فزوال الحياة ليس سببا للنجاسة ، وإلا لاقتضى نجاسة المذكى ، على أنه لا استبعاد في صيرورة الموت سببا لنجاسة جميع أجزاء الحيوان وان لم تحلها الحياة ، وفيه نظر من وجوه أخر أيضا.

ثم انه لا فرق في طهارة المذكورات بين أخذها جزا ونحوه أو قلعا أو نتفا لإطلاق الأدلة ، بل في‌المضمر (١) « لا بأس بما ينتف من الطير والدجاج ينتفع به للعجين ، وأذناب الطواويس وأذناب الخيل وأعرافها » ‌الحديث.

نعم ان استصحب بعض اللحم ونحوه في الثاني وجب إزالته ، لما عرفت من نجاسته ، وان لم تستصحب فالظاهر وجوب غسل موضع الاتصال خاصة مع قلعها من الميتة ، لنجاسته بملاقاة رطوبة الجلد ونحوه ، وللأمر به في حسنة حريز المتقدمة المنزل على ذلك ، وإلا فلا يجب الغسل مع الجز قطعا ، بل واتفاقا كما قيل ، اللهم إلا أن يفرض نمو لها بعد الموت ، وقد تأخر الجز عنه بحيث كان فيما جز بعض الأصول التي لاقت الميتة برطوبة ، فحينئذ يتجه وجوب الغسل ، لكنه لم يثبت.

وعلى كل حال فالطهارة في المجزوز أو المقلوع غير محل الاتصال منه بل ومحله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١٣.

٣٢١

بعد الغسل مما لا ينبغي التأمل فيها بعد إطلاق الأدلة السابقة وخصوص البعض ، فما عن الشيخ في النهاية من تخصيص طهارة الصوف والشعر والريش والوبر بالجز خاصة غريب ، أو ينزل على إرادة عدم الانتفاع بالمقلوع حتى يغسل موضع الاتصال منه ، ولذا لم يعرف حكاية خلافه هنا ، إلا أنه يأباه ما ذكره بعضهم له من التعليل بأن أصولها المتصلة باللحم من جملة أجزائه ، وانما تكون استحالته إلى أحد المذكورات بعد تجاوزها عنه.

وفيه ـ مع إمكان منعه أولا ، وعدم قادحيته بعد التسليم لصدق اسم الشعر ونحوه حينئذ ثانيا ، واختصاصه بالأصول ثالثا ـ انه اجتهاد في مقابلة النص.

ومن العجيب ما في شرح الدروس ان الأحوط غسل الجميع في المأخوذ قلعا لا موضع الاتصال خاصة ، بل وكذا المأخوذ جزا لإطلاق حسنة حريز المتقدمة ، وفيه انه لا وجه له بعد الاتفاق والنصوص على طهارة المذكورات ، وحسنة حريز يراد منها موضع الاتصال قطعا ، واحتمال إرادته الخروج من شبهة خلاف الشيخ يدفعه أن الاحتياط لذلك يقضي بترك المقلوع خاصة رأسا ، لا تطهيره بالغسل.

وكذا لا وجه للاحتياط في اجتناب خصوص العظم من الميتة من جهة المناقشة في كونه مما لا تحله الحياة ، لقوله تعالى (١) ( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إذ هي اجتهاد في مقابلة النص والإجماع ، ولعل المراد بإحيائها في الآية إحياء الشخص المشتمل عليها ، لانه المراد من العظام ، هذا.

وقد اشتملت النصوص (٢) والفتاوى على طهارة غير المذكورات أيضا من الميتة كالبيض والانفحة واللبن ، بل الأول من معقد إجماع كشف اللثام ونفي الخلاف في المدارك وغيرها ، لكن مع التقييد فيهما باكتسائه القشر الأعلى الصلب.

__________________

(١) سورة يس ـ الآية ٧٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٣٢٢

قلت : وينبغي القطع به إذا كان من مأكول اللحم ، بل في المنتهى الإجماع عليه في الدجاج ، للأصل والعمومات السالمة عن معارضة ما دل على نجاسة الميتة ، لعدم شموله لذلك قطعا ، مضافا إلى التعليل السابق في صحيحة الحلبي وغيره من العمومات السابقة ، وإلى خصوص نفي البأس من الصادق عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) عن بيض الدجاجة ، وعن أكله في خبري ولده حسين (٢) عنه عليه‌السلام أيضا ، ونحوهما خبر الثمالي (٣) عن الباقر عليه‌السلام وغيره (٤) ويتم الجميع بعدم القول بالفصل بين الدجاج وغيره من المأكول ، فضلا عما دل على طهارة مطلق البيض من حسنة حريز السابقة و‌خبر إسماعيل بن مرار (٥) عن يونس عنهم عليهم‌السلام قالوا : « خمسة أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق : الانفحة والبيض والصوف والشعر والوبر » ‌و‌خبر ابن زرارة (٦) قال : « كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي يسأله عن السن من الميتة واللبن من الميتة والبيض من الميتة وإنفحة الميتة ، فقال : كل هذا ذكي » ‌و‌مرسل الصدوق (٧) عن الصادق عليه‌السلام بل عنه في الخصال انه رواه مسندا إلى ابن أبي عمير رفعه اليه عليه‌السلام قال : « عشرة أشياء من الميتة ذكية : القرن والحافر والعظم والسن والانفحة واللبن والشعر والصوف والريش والبيض ».

ومنها مع ما تقدم عدا الأخبار الخاصة بالدجاجة (٨) يستفاد طهارته وان كان من غير المأكول ، كما هو قضية إطلاق الأصحاب وتصريح بعضهم عدا العلامة في المنتهى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ٧ و ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٨.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٧ و ٩ و ١٢.

٣٢٣

وعن النهاية ، فحكم بالنجاسة ، ولم نعرف له دليلا ولا موافقا ، كما اعترف بذلك بعض من تأخر عنه.

نعم لا يبعد القول بتنجسها مطلقا بملاقاة رطوبة الميتة وان أطلق الاخبار والأصحاب عداه في المنتهى وبعض من تأخر عنه الحكم بالطهارة ، إلا أن الظاهر إرادة الجميع بها عدم النجاسة الذاتية بالموت لا العارضية بملاقاة الرطوبة ، وإلا فينبغي القطع بها بالنسبة إلى ذلك لقاعدة التنجيس ، وفحوى ما سمعته في الشعر المقلوع من حسنة حريز وغيره.

بل في الحدائق ان الحسنة (١) المذكورة المشتملة على البيض وغيره قد أمر فيها بغسل المأخوذ بعد الموت من كل ما ينفصل عن الدابة ، وهو شامل للبيض لا خصوص الشعر ونحوه ، نعم يخرج اللبن واللبأ عنه ، لعدم قابليتهما لذلك ، وفيه ان قوله عليه‌السلام فيها : « اغسله وصل فيه » قد يشعر بإرادة غيره ، لكن قد عرفت أنا في غنية عن ذلك بقاعدة ملاقاة النجس غيره برطوبة.

وكذا لا يبعد تخصيص الطهارة بالبيض إذا اكتسى القشر الأعلى الصلب دون غيره من الخارج بدونه مما يسمى في عرفنا بالنمرش ، وان أطلقت تلك الاخبار وغيرها ، وفيها الصحيح ، لكن‌قال الصادق عليه‌السلام في خبر غياث بن إبراهيم (٢) في بيضة خرجت من است دجاجة ميتة : « إن كان قد اكتست الجلد الغليظ فلا بأس » ‌وهو وان ضعف سنده بل ودلالته ، لأعمية ثبوت البأس من النجاسة إلا أنه منجبر بالشهرة بين الأصحاب ، بل قيل : إنه متفق عليه بين الشيعة وان اختلف التعبير عنه بالقشر الأعلى أو الصلب أو للغليظ ونحو ذلك ، لكن مراد الجميع واحد ، بل حكي ذلك عن جمهور العامة أيضا.

نعم نقل عن بعضهم الاكتفاء بالجلد الرقيق ، فمع عدمه حينئذ يتفق المسلمون على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٥.

٣٢٤

النجاسة ، فما عساه يظهر من المدارك والمحكي من المعالم من التأمل في هذا الحكم لضعف المستند مع إطلاق ما دل على طهارة البيض في غير محله ، سيما إن أرادا الحكم بالطهارة بدون الجلد الرقيق ، على انه قد يدعى انصراف تلك الإطلاقات إلى المتعارف من البيض ، وهو ذو القشر الأعلى ، بل قد يشك في شمول اسم البيض له حقيقة ، نعم لولا الإجماع السابق لأمكن المناقشة في الحكم بالنجاسة حال اكتساء الرقيق ، إذ ليست هي إلا عارضية لا ذاتية ، لعدم شمول أدلة الميتة لمثل ذلك ، والعارضية تندفع بصلاحية مانعية الرقيق عن تعدي رطوبات الميتة كما لو كانت في الخارج ، لكن لا يخفى عليك أن الله تعالى شأنه أعلم من غيره بالصلاحية وعدمها ، فعدم اعتبار ذلك شرعا دليل على عدم صلاحيته ، فتأمل.

وأما الثاني وهو الانفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف الحاء وتشديدها فلا أعرف خلافا في طهارتها ، كما اعترف به بعضهم ، بل في المنتهى انه قول علمائنا ، وفي المدارك انه مقطوع به في كلام الأصحاب ، وفي كشف اللثام كما عن الغنية دعوى الإجماع صريحا ، وهو الحجة بعد الأصل والعمومات والتعليل السابق والاخبار المتقدمة.

مضافا إلى‌خبر الثمالي (١) عن الباقر عليه‌السلام في حديث طويل ، قال فيه : « قال قتادة : فأخبرني عن الجبن ، فتبسم الباقر عليه‌السلام ثم قال : رجعت مسائلك إلى هذا قال : ضلت عني ، فقال : لا بأس به ، فقال : إنه ربما جعلت فيه إنفحة الميتة ، قال : ليس بها بأس ، ان الإنفحة ليس فيها عروق ولا فيها دم ولا بها عظم ، انما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال : إن الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة خرجت منها بيضة » ‌الحديث.

و‌خبر الحسين بن زرارة (٢) عن الصادق عليه‌السلام ففيه انه « سأله أبي عن الإنفحة في بطن العناق والجدي وهو ميت ، فقال : لا بأس به » ‌كخبره الآخر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١١.

٣٢٥

عنه عليه‌السلام (١) أيضا بعد أن سأله عن إنفحة الميتة وغيرها ، فقال : « كل هذا ذكي » ‌وكصحيح أبيه أيضا (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت قال : لا بأس به » ‌الحديث.

إنما الإشكال في المراد بالانفحة فعن القاموس والتهذيب والمغرب أنها شي‌ء أصفر يستخرج من بطن الجدي الرضيع ، فيعصر في صوفة مبتلة فيغلظ كالجبن ، واليه يرجع ما في القواعد وعن النهاية وكشف الالتباس من انها لبن مستحيل في جوف السخلة ، بل في كشف اللثام ان ذلك هو المعروف ، وقد يشهد له خبر الثمالي المتقدم ، واختاره الخوانساري في شرح الدروس معللا له بأنه يظهر من الروايات ان الإنفحة شي‌ء يصنع به الجبن ، والظاهر ان الجبن انما يعمل من الشي‌ء الذي في جوف السخلة مثل اللبن ، لا من كرشها الذي هو للحيوان بمنزلة المعدة من الإنسان ، وقيل كما عن الصحاح والجمهرة وأبي زيد انها كرش الحمل والجدي ما لم يأكل ، فإذا أكل فهو كرش ، وبذلك فسرت في السرائر كما عن أطعمة المسالك والتنقيح.

وربما يومي اليه عدم عدهم لها مما لا تحله الحياة ، وفي المدارك ان الأول أولى اقتصارا على موضع الوفاق وان كان طهارة نفس الكرش أيضا غير بعيد ، تمسكا بمقتضى الأصل ، وفيه انه لا وفاق بعد تقابل التفسيرين ، اللهم إلا أن يكون الأول لازما للحكم بطهارة الثاني لكون محله الكرش حينئذ ، وفيه تأمل ، كما ان في تمسكه بالأصل في طهارة الكرش وان فسرت الانفحة بغيره أيضا تأملا ، لانقطاعه بما دل على نجاسة الميتة إلا أن يكون مما لا تحله الحياة ، وفيه منع.

وقد يقوى في النظر اتحاد التفسيرين بأن يراد بالشي‌ء الأصفر في التفسير الأول

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٩.

٣٢٦

هو ما يصير كرشا للجدي بعد أن يأكل ، فهو قبل أكله إنفحة ، وبعده كرش ، ويومي اليه ما حكي عن الفيومي في المصباح عن التهذيب ، قال : لا يكون الانفحة إلا لكل ذي كرش ، وهو شي‌ء يستخرج من بطنه أصفر يعصر في صوفة مبتلة فيغلظ كالجبن ، ولا يسمى إنفحة إلا وهو رضيع ، فإذا رعى قيل استكرش ، أي صارت إنفحته كرشا ، بل ذيله كاد يكون صريحا فيما قلنا ، وكذا ما عن مجمع البحرين الانفحة هي كرش الحمل والجدي ما لم يأكل ، فإذا أكل فهو كرش حكاه الجوهري عن أبي زيد ، فإنه ظاهر في اتحاد موضوع الانفحة والكرش إلا أنه قبل الأكل يسمى إنفحة وبعده كرش ، وأوضح منه ما عن المغرب ، فإنه بعد أن فسره بالتفسير الأول قال : ولا يكون إلا لكل ذي كرش ، ويقال : انها كرشة ما دام رضيعا ، يسمى ذلك الشي‌ء إنفحة ، فإذا فصل ورعى الغيث قيل : استكرش.

قلت : لا استبعاد فيه ، إذ لعل ذلك اللبن بعد أن يأكل الجدي يكرش معدته ، وقبله لا تكريش فيها ، أو انه يستحيل كرشة بقدرة الله تعالى ، فتأمل جيدا خصوصا فيما مضى من العبارات ، فلعله به يظهر لك ما قلناه.

نعم ظاهر الجميع اختصاص الانفحة بما قبل الأكل ، لكن قال في الذكرى : « والانفحة طاهرة من الميتة والمذبوحة وإن أكلت السخلة » وهو مشكل إلا أن يريد الأكل الذي لا يعتد به.

وكيف كان فالظاهر وجوب غسلها من ملاقاة رطوبات الميتة وفاقا للمحكي عن الشهيد الثاني في بعض فوائده ، وربما يعطيه ما سمعته من المنتهى وغيره في البيض ، وخلافا للمدارك ، وظاهر بعض من تأخر عنه ، لتنجسها بها كما هي القاعدة في كل ما لاقى نجسا برطوبة ، واحتمال استثناء الإنفحة لإطلاق ما دل على طهارتها سيما مع عدم ذكر الأكثر وجوب الغسل وقد نصوا عليه في مثل الصوف المقلوع يدفعه ظهور سياق تلك‌

٣٢٧

المطلقات في إرادة عدم النجاسة الذاتية كباقي أجزاء الميتة ، ولعل عدم تعرض الأصحاب اتكالا منهم على القاعدة.

ومن العجيب ما عساه يظهر من مجمع البرهان من دعوى الإجماع على الظاهر والاخبار على استثناء الانفحة من تلك الكلية ، ولعله لا يريد ذلك ، بل يريد عدم النجاسة الذاتية كما عساه يشعر به ذكره ذلك في الاستدلال على طهارة اللبن ، فلاحظ وتأمل.

ثم انه لا ينافي القول بغسل ظاهر الانفحة تفسيرها الأول باعتبار عدم قابلية اللبن للتطهير كما قد يتخيل ، لظهور ما سمعت من تفسيرها على كلا التقديرين في قابليتها لذلك ، وخروجها بالاستحالة عن اللبن ، فما في الحدائق وحكاه عن المعالم أيضا من ان الإنفحة شي‌ء مائع في جوف السخلة بناء على التفسير الأول لا يخلو من تأمل ، لكن عليه حينئذ يتجه عدم وجوب الغسل ، كما انه يتجه دعوى استثنائه من قاعدة تنجيس الملاقاة مع الرطوبة بما دل على طهارتها ، والله أعلم.

وأما الثالث وهو اللبن فالأقوى في النظر طهارته وفاقا للشيخ وابني زهرة وحمزة وكشفي الرموز واللثام والدروس والمنظومة وجماعة من متأخري المتأخرين وعن المقنع والمفيد والقاضي وغيرهم ، بل هو المحكي عن الأكثر في كشف اللثام ، والأشهر عن الكفاية ، وأكثر المتقدمين وجمع من المتأخرين عن المسالك والصدوق والشيخ ، وكثير من الأصحاب عن الذخيرة ، وفي البيان انه قول مشهور ، بل عن الدروس ان القائل بخبر المنع نادر ، للأصل والعمومات السالمة عن معارضة ما دل على نجاسة الميتة إلا بقاعدة نجاسة الملاقي مع الرطوبة التي يجب الخروج عنها هنا بإجماع الخلاف على طهارة ما في ضرع الشاة الميتة من اللبن ، وإجماع الغنية على جواز الانتفاع بلبن ميتة ما يقع الذكاة عليه ، وب‌صحيح زرارة (١) قلت : « اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت ، قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٩.

٣٢٨

لا بأس به » ‌و‌حسنة حريز (١) عن الصادق عليه‌السلام انه قال لزرارة ومحمد بن مسلم : « اللبن واللبأ والبيضة ـ إلى أن قال ـ : فهو ذكي » ‌و‌خبر الحسين بن زرارة (٢) أو موثقه قال : « كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، وأبي يسأله عن السن واللبن والبيضة من الميتة ـ إلى أن قال ـ : فقال : كل هذا ذكي » ‌و‌مرسل الصدوق (٣) عن الصادق عليه‌السلام قال : « عشرة أشياء من الميتة ذكية ـ وعد منها ـ اللبن » ‌بل قال :إني رؤيته في الخصال مسندا ، وبفحوى ما دل على طهارة الإنفحة بناء على التفسير الأول سيما التعليل في خبر الثمالي المتقدم آنفا.

والمناقشة في هذه الأدلة ـ بعدم إفادة تمام المدعى في بعض ، وعدم الحجية في آخر ، وبمعارضتها ب‌خبر وهب بن وهب (٤) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « ان عليا عليه‌السلام سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن ، فقال : ذلك الحرام محضا » ‌و‌مكاتبة الفتح بن يزيد الجرجاني (٥) أبا الحسن عليه‌السلام يسأله « عن جلود الميتة ، فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب ، وكل ما كان من السخال من الصوف وان جز والشعر والوبر والانفحة والقرن » ‌ولا يتعدى إلى غيرها ، مضافا إلى قاعدة النجاسة بالملاقاة ، وعموم النهي عن الانتفاع بشي‌ء من الميتة مع عدم جريان بعضها في بعضها ـ مدفوعة في الأول بعدم القول بالفصل كما ستعرف ، والثاني بالانجبار بما عرفت ، والثالث بعدم صلاحيته للمعارضة للشذوذ كما في الاستبصار ، وعدم التلازم بين الحرمة والنجاسة ، وللطعن في وهب بأنه عامي كذاب ، بل عن ابن الغضائري زيادة « ان له عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام أحاديث كلها لا يوافق بها » قلت : وهذا منها سيما مع موافقته لفتوى الشافعي والرابع بالضعف في السند ، وظهور السقط من الخبر كما عن بعض المحققين الاعتراف به ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٦.

٣٢٩

حيث قال : هكذا وجد هذا الحديث في نسخ الكافي والتهذيب والاستبصار ، وكأنه سقط منه شي‌ء ، قلت : ولعله لحذف الخبر فيه ، ومع ذلك فهو عام يجب الخروج عنه بتلك الأدلة كالقاعدة وعموم النهي لو سلم شمول الأخير لما نحن فيه.

فظهر لك بحمد الله تعين القول بالطهارة وانه لا استبعاد في ذلك على الشارع وان أطال الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح في مبعداته ، إلا أنها ليست بتلك المكانة ، خلافا لابن إدريس والعلامة والمحقق الثاني وغيرهم من الحكم بالنجاسة ، ولعله ظاهر الكتاب فيما يأتي ، بل في المنتهى وجامع المقاصد أنه المشهور ، والسرائر انه نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا ، لأنه مائع في ميتة ملامس لها ، قال : وما أورده شيخنا في نهايته رواية شاذة مخالفة لأصول المذهب لا يعضدها كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع.

ولا يخفى عليك ما في دعوى الشهرة هنا فضلا عن نفي الخلاف ، كما لا يخفى عليك ما في نسبة رواية الطهارة للشذوذ ، ولقد أجاد اليوسفي في كشف الرموز حيث قال بعد أن حكى عن الحلي ما سمعت : « والدعوى محرفة ، وفي الاستدلال ضعف ، أما الأول فلان الشيخين مخالفوه ، والمرتضى وأتباعه غير ناطقين به ، فما أعرف من بقي معه من المحصلين ، وأما الثاني فلانا نمنع ان كل مائع لاقى الميتة على أي وجه كان فقد نجس » انتهى.

قلت : على انه من العجيب من مثله استبعاد هذا الحكم هنا مع قوله بعدم تعدي نجاسة ما ينجس بملاقاة الميتة ، بل لعل قوله هنا بنجاسة اللبن الظاهر في التعدي ينافيه ، لكن يهون الخطب أن حكمه على الظاهر بعدم التعدي انما هو في خصوص الإنسان لا مطلق الميتة.

ثم ان قضية إطلاق كثير من النصوص السابقة ككثير من الفتاوى عدم الفرق‌

٣٣٠

في الحكم بطهارة اللبن بين كونه من ميتة حيوان قابل للتذكية وعدمه كالمرأة ونحوها مع فرض طهارة الحيوان ، فما عساه يظهر من المنتهى « ان محل النزاع في الأول ، وإلا فالثاني لا إشكال في نجاسته » ليس في محله ، مع أن كلامه ليس صريحا في ذلك وان اقتصر في التعرض للأول خاصة ، كمعقد إجماع الغنية ، لكن الاحتياط لا ينبغي تركه ، لإمكان دعوى تبادر الأخبار السابقة في الأول وان كان واضح المنع بقرينة الاشتراك في غيره من الشعر ونحوه.

فالظاهر حينئذ انه لا فرق بين أفراد الحيوان في ذلك وفي جميع ما تقدم من الاجزاء التي لا تحلها الحياة إلا أن يكون عينه نجسة كالكلب والخنزير والكافر فإنه لا يستثنى منه شي‌ء منها على الأظهر الأشهر ، بل المشهور شهرة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك إذ لم نجد بل ولم يحك فيه خلاف من أحد إلا من المرتضى في الناصريات ، فحكم بطهارة شعر الكلب والخنزير فيها ، بل ظاهره ذلك في كل ما لا تحل الحياة منه ، وإلا ما عساه يظهر من المدارك من الميل إلى طهارة ما لا تحله الحياة من خصوص الكافر ، وهما غير قادحين في الإجماع المنقول فضلا عن المحصل.

على أنه لا مستند لهما سوى الحمل على الميتة من الطاهر ، وهو قياس بل مع الفارق ، وسوى الأصل والعموم المقطوعين بسائر ما دل على نجاسة الثلاثة ، لشمول اسم كل واحد للجملة الشاملة له ، بل فيها ما هو كالصريح في خصوص نجاسة شعر الأولين لغلبة الإصابة به ، بل هو صريح في الثاني ، كخبر سليمان الإسكاف (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شعر الخنزير يخرز به ، قال : لا بأس ولكن يغسل يده إذا أراد أن يصلي » ‌ونحوه خبرا برد الإسكاف (٢) وسوى‌صحيح زرارة (٣) « سأل

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٥ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١ و ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٢.

٣٣١

الصادق عليه‌السلام عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر أيتوضأ من ذلك الماء ، قال : لا بأس » ‌وهو مع انه قاصر عن المقاومة انما يتم لو كان الإشارة إلى الماء الذي استقي وكان قليلا وقد لاقاه الحبل ، والكل ممنوع.

ومن العجيب دعوى المرتضى في الكتاب المذكور عدم شمول اسم الكلب والخنزير لذلك ، وأعجب منه نسبة الطهارة فيه إلى أصحابنا ، بل ادعى الإجماع عليه ، مع أنا لم نقف على موافق له فيه منا ممن تقدمه بل ومن تأخر عنه ، نعم هو حكى القول به عن أبي حنيفة وأصحابه ، ولقد أجاد العلامة الطباطبائي في منظومته حيث قال : بعد ذكره ما لا تحله الحياة من طاهر العين :

فان يكن من نجس فهو نجس

كأصله ، والقول بالطهر درس.

إلخ إذ هو كذلك مندرس لا يقدح في تحصيل الإجماع كاندراس المحكي من قوله في شرح الرسالة والمصباح وظاهر الجمل باستحباب الغسل من مس الميت ولذا لم يشر المصنف اليه.

فقال ويجب الغسل بالضم على من مس ميتا من الناس قبل تطهيره وبعد برده وإن أشار إليه غيره ، بل قد يظهر من بعضهم وجود موافق منا له على ذلك ، كما انه ربما يظهر التوقف والتردد من الوسيلة والمراسم ، إلا انه قد استقر المذهب الآن على خلافه ، بل وقبل ذلك ، ولذا حكى الشيخ في جنائز الخلاف وغيره الإجماع على الوجوب من غير اعتداد به ، وهو الحجة بعد الاخبار (١) الصحيحة الصريحة وغيرها المستفيضة بل المتواترة فيه ، ولذا عمل بها من لم يقل بحجية أخبار الآحاد وقد مر عليك فيما مضى ويمر عليك فيما يأتي بعضها.

على أنه ليس في مقابلها سوى الأصل الذي لا يصلح لمعارضة شي‌ء منها ، كمفهوم حصر الناقض بغيره في بعض المعتبرة (٢).

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

٣٣٢

وسوى‌الصحيح (١) عن الصادق عليه‌السلام « الغسل في أربعة عشر موطنا ، واحد فريضة ، والباقي سنة » ‌إلى آخره.

والأمر به وبمعلوم الندبية في‌صحيح الحلبي (٢) عنه عليه‌السلام أيضا ، قال : « اغتسل يوم الأضحى والفطر والجمعة وإذا غسلت ميتا » ‌الحديث.

كاقرانه به أيضا‌في صحيح ابن مسلم (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام وغيره (٤) « الغسل في سبعة عشر موطنا ، ليلة سبعة عشر من شهر رمضان ـ إلى ان قال ـ : وإذا غسلت ميتا أو كفنته أو مسسته بعد ما يبرد ويوم الجمعة ، وغسل الجنابة فريضة ».

و‌مكاتبة الحميري (٥) للقائم عليه‌السلام « روي لنا عن العالم عليه‌السلام أنه سئل عن إمام صلى بقوم بعض صلاتهم وحدث عليه حادثة كيف يعمل من خلفه؟فقال : يؤخر ويتقدم بعضهم ويتم صلاته ، ويغتسل من مسه ، فوقع عليه‌السلام ليس على من مسه إلا غسل اليد ، وإذا لم يحدث حادثة تقطع الصلاة يتم صلاته مع القوم ».

و‌مكاتبتي الصيقل (٦) وابن عبيد (٧) « هل اغتسل أمير المؤمنين عليه‌السلام حين غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند موته؟ فأجاب عليه‌السلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاهر مطهر ، ولكن أمير المؤمنين عليه‌السلام فعل وجرت به السنة ».

و‌الرضوي (٨) « والغسل ثلاثة وعشرون : من الجنابة والإحرام وغسل الميت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الجنابة ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٧.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٧.

(٨) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأغسال المسنونة ـ الحديث ١.

٣٣٣

ومن غسل الميت وغسل الجمعة ـ ثم عد باقي الأغسال ، وقال ـ : الفرض من تلك غسل الجنابة ، والواجب غسل الميت وغسل الإحرام ، والباقي سنة » ‌إلى آخره.

ولانه لو وجب لكان إما لنفسه أو لغيره ، والأول باطل عند الخصم ، والثاني لا دلالة في شي‌ء من النصوص عليه ، بل في المكاتبة السابقة ما يشعر بعدمه.

والكل كما ترى لا تصلح لمعارضة تلك الأخبار المعتضدة بعمل الأصحاب قديما وحديثا ، على أنه لا دلالة في الأول ، لاحتمال بل ظهور عدم إرادة خصوص الندب من السنة ، وإلا لاستلزم استحباب ما علم وجوبه بالإجماع وغيره من غسل الحيض وغيره ، والثاني لعدم رجحان مجازية خصوص الندب هنا على مجازية القدر المشترك ، والثالث لمنع دلالة الاقتران على التسوية في الحكم ، فإن إقران المندوب بالواجب خصوصا في الاخبار الجامعة للأغسال كثير شائع ، والمراد بالفرض منها الثابت بالكتاب ، فلا يدل على ندبية غير الجنابة ، والرابع لحمل المس فيه قبل البرد ، لشهادة الحال ، بل مر عند البحث على نجاسة ميتة الآدمي من المكاتبة (١) أيضا للقائم عليه‌السلام ما يعين ذلك ، فلاحظ.

والخامس لاحتمال إرادة جريان السنة في الغسل من مس الطاهرين كالشهداء والمعصومين عليهم‌السلام أو إرادة الواجب منها ، بل ربما احتمل عود الضمير فيه إلى غسل الميت ، فيخرج عن المقام.

والسادس لعدم حجيته عندنا ، بل وعند غيرنا أيضا هنا ، لضعف سندها ، ومتروكية ظاهرها من وجوب غسل الإحرام واختصاص الوجوب بالجنابة.

والسابع باختيار الشق الثاني ، ومنع خلو الاخبار عن الدلالة على اشتراط شي‌ء بهذا الغسل أولا ، ومنع دلالة الخلو على ذلك أيضا ثانيا بعد إمكان ثبوته من الإجماع أو إجماع القائلين بالوجوب ، وقد تقدم في أول الكتاب ما يفي بذلك ، فلاحظ.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٥.

٣٣٤

ولا صراحة في المكاتبة بجواز الصلاة للماس قبل الغسل مع وجوبه ، وكيف وقد عرفت ظهور الحال بكون المس في حال الحرارة ، فقد يحمل الأمر بالغسل فيها حينئذ على الندب وإن لم أقف على مصرح به من أحد من الأصحاب ، ولعلنا لو وقفنا على كلام المرتضى رحمه‌الله لأمكن حمل قوله بعدم الوجوب على مثل هذا الحال أي المس بحرارة ، للإجماع هنا بقسميه عليه ، بل في المنتهى انه مذهب علماء الأمصار ، وللنصوص الصحيحة الصريحة المستفيضة حد الاستفاضة فيه أيضا ، منها‌صحيح ابن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « قلت : الرجل يغمض عين الميت عليه غسل ، قال :إذا مسه بحرارة فلا ، ولكن إذا مسه بعد ما يبرد فليغتسل » ‌الحديث. ونحوه غيره (٢).

ولذا قيد المصنف الوجوب المذكور بما بعد البرودة ، وظاهره كالنصوص (٣) اعتبار برودة الجميع ، فلا عبرة بالبعض.

وكذا قيده بما قبل التطهير ، لعدم وجوبه بعده أيضا إجماعا بقسميه ، بل في المنتهى انه مذهب علماء الأمصار ، ونصوصا ، منها‌قول الباقر عليه‌السلام في صحيح ابن مسلم (٤) : « مس الميت عند موته وبعد غسله والقبلة ليس بها بأس » ‌كقول الصادق عليه‌السلام في خبر ابن سنان (٥) : « لا بأس بأن يمسه بعد الغسل » ‌الحديث.

بل وعدم استحبابه أيضا ، للأصل المعتضد بالعمل ، وعدم نص أحد من الأصحاب فيما أجد عليه عدا الشيخ في استبصاره وعن تهذيبه ، حيث حمل موثق الساباطي (٦) عن الصادق عليه‌السلام « يغتسل الذي غسل الميت ، وكل من مس ميتا فعليه الغسل وان كان الميت قد غسل » ‌الحديث. عليه ، وهو وان كان لا بأس به‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٣.

٣٣٥

للجمع والتسامح في أدلة السنن (١) لكنه بعيد عن ظاهر اللفظ ، مع ما قيل من مشهورية روايات عمار المتفرد بها في نقل الغرائب ، فلعل الاولى طرحها كما في الحدائق ، أو حملها على من غسل بالسدر أو به وبالكافور فقط ، أو على إرادة غسل الميت من النجاسات لا التغسيل ، أو إرادة عدم سقوط غسل المس السابق على التغسيل به ، أو غير ذلك ، والأمر سهل.

ولا يلحق بالمغسل الميمم كما في صريح القواعد والمنتهى والمدارك وظاهر جامع المقاصد وكشف اللثام أو صريحهما ، بل لا أجد فيه خلافا مما عدا شيخنا في كشف الغطاء ، فألحقه به للعمومات ، وخصوص ما نطق من الاخبار بالغسل إذا مسه قبل الغسل ، ولبقائه على النجاسة ، ولذا يغسل لو أمكن بعده قبل الدفن.

لكن قد يشكل ذلك كله بعموم ما دل على تنزيل التراب منزلة الماء (٢) وانه أحد الطهورين (٣) وبمنع دوران الحكم على بقاء النجاسة لو قلنا بها لدليل خاص ، اللهم إلا أن يقال : إن الحكم بالتيمم في الميت ليس لتلك العمومات ، لظهورها في قيام التراب مقام الماء في رفع الأحداث لا في مثل غسل الميت المركب من الماء والخليطين المستتبع إزالة النجاسة ، بل التيمم فيه حينئذ لدليل خاص لا دلالة فيه على كونه حينئذ كالغسل.

وكذا البحث في الميمم عن بعض الأغسال ، خصوصا السدر والكافور ، أما فاقد الخليطين فلا يبعد جريان حكم الغسل الصحيح عليه ، فلا يجب الغسل بمسه حينئذ ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

٣٣٦

لسقوط اشتراطهما في هذا الحال ، فيقوم الباقي حينئذ مقام غيره في الواجد ، خلافا لجامع المقاصد ، فأوجبه بمسه للأصل ، وانصراف الغسل المعلق عليه نفي الوجوب إلى غيره ، وفيه تأمل.

ولو كمل غسل الرأس مثلا قبل إكمال الغسل لجميع البدن ففي القواعد والرياض لم يجب الغسل ، لطهارته ، وكمال الغسل بالنسبة اليه ، ويحتمل كما في جامع المقاصد وعن الذكرى الوجوب ، بل هو الأقوى كما في المدارك وعن الذخيرة ، للعمومات ، وصدق المس قبل الغسل ، لأن جزءه ليس غسلا ، ومنع طهارته قبل كمال الجميع لو قلنا بدوران الحكم مدارها ، ولا استبعاد في توقف طهارة العضو من الخبث على الإكمال ، بل قضية الاستصحاب وغيره ذلك.

فما في الحدائق ـ من انه مناف لمقتضى القواعد الفقهية من حصول الطهارة من الخبث بمجرد انفصال ماء الغسالة ، حتى انه التزم من جهة ذلك القول بحصول الطهارة من الخبث للعضو قبل الإكمال وإن أوجب الغسل بمسه ، وانه لا تلازم بين الطهارة وعدم وجوب الغسل ، تمسكا بظاهر الأدلة ـ في غير محله ، لرجوع أمر التطهير للشارع ، وإلا فأي نجاسة توقفت على سدر وكافور.

ثم انه قد يظهر من المتن كغيره من عبارات الأصحاب عدم وجوب الغسل بمس الشهيد ، وهو كذلك وفاقا لصريح جماعة منهم الفاضلان في المنتهى والقواعد وعن المعتبر ، بل لا أجد فيه خلافا للأصل ، وظهور سياق ما دل على وجوبه في غيره ممن وجب تغسيله ، خصوصا‌مكاتبة الصفار (١) « إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل » ‌كظهور ما دل (٢) على سقوط الغسل عن الشهيد في عدمه أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت.

٣٣٧

وفي مساواته لغيره بعد التغسيل ، سيما مع عدم اشتمال شي‌ء منها على الأمر به على كثرتها ، وظهور تحقق المس غالبا بمباشرة الدفن ونحوه فيها ، بل ربما يحصل القطع بالحكم للفقيه المتأمل في سبب سقوط الغسل عن الشهيد من الإكرام والاحترام وللتخفيف عن أولئك المجاهدين عن بيضة الإسلام ، ولذا لم يصل إلينا أمر به أو بالتيمم بدله من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام في يوم من الأيام في الوقائع المتعددة والغزوات المعظمة.

مضافا إلى ما يظهر من اشتراط نجاسة الممسوس في وجوب غسل المس من مكاتبتي الصيقل (١) وابن عبيد (٢) المتقدمتين آنفا المشتملتين على السؤال عن اغتسال أمير المؤمنين عليه‌السلام لما غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومنها مع الأصل يستفاد أيضا سقوطه بمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحوه ممن علم طهارته بعد الموت ، كما عن بعضهم التصريح به ، إلا انه قد يناقش فيه بتناول العمومات ، وبقوله عليه‌السلام في المكاتبتين السابقتين : « ولكن فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام وجرت به السنة » ولا ينافيه قوله عليه‌السلام قبل ذلك : « إنه طاهر مطهر » إذ أقصاه اختلاف حكمة الغسل بمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحوه عن حكمة غيره كأصل تغسيله ، فلا استبعاد حينئذ في القول بالوجوب بمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا هوان ، لعدم انحصار الحكمة في النجاسة إذ قد يقصد إرادة عمومية الحكم ، ونحو ذلك.

نعم قد يتجه الحكم بسقوط الغسل بمس من أمر بتقديم غسله بعد قتله بذلك السبب وتقديمه الغسل وفاقا للفاضل في القواعد وغيره ، بناء على ما تقدم منا سابقا في محله من استظهار كون هذا الغسل غسل الميت وقد قدم مما دل على مشروعيته ، وأنه لا استبعاد في تقديم المسبب الشرعي على سببه ، فيجري حينئذ عليه حكم غسل الميت من عدم وجوب غسل المس بعده وغيره ، بل ربما ادعي تناول نفس ما دل على سقوط‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ٧.

٣٣٨

أثر المس بعد التغسيل له من غير حاجة لدعوى المساواة والتنزيل ، فما عن السرائر ـ من وجوب الغسل بمسه بناء على نجاسته بالموت عنده ، وتبعه عليه في الحدائق ـ في غير محله ، كتوقف المنتهى وعن الذخيرة في ذلك.

نعم يتجه عدم السقوط بمس من غسله الكافر بأمر المسلم كما هو صريح القواعد وظاهر جامع المقاصد وكشف اللثام أو صريحهما ، بناء على ما تقدم لنا في محله انه ليس من غسل الميت في شي‌ء ، وانما هو شي‌ء أوجبه الشارع لتعذر الأول ، وإلا فلو قلنا بكونه غسل الميت إلا انه سقط بعض شرائطه للعذر اتجه القول بالسقوط حينئذ.

ثم انه لا فرق في وجوب الغسل بين كون الممسوس مسلما أو كافرا كما صرح به جماعة منهم الفاضل والشهيد والمحقق الثاني ، لإطلاق النصوص والفتاوى ، بل لعله أولى ، إلا انه احتمل الأول في المنتهى والتحرير العدم ، لمفهوم تقييد غسل المس بما قبل التطهير نصا وفتوى أيضا الظاهر في اعتبار كون الميت مما يقبل التطهير ، ولأنه لا يزيد على مس البهيمة والكلب ، وهو ضعيف ، لخروج الأول بعد تسليم اعتبار مثله مخرج الغالب ، والثاني قياس.

كما انه لا فرق بين المس بأي جزء من أجزاء البدن لأي جزء من أجزاء الممسوس وان لم تكن مما تحله الحياة منهما بعد صدق اسم المس عليه وانصرافه اليه ، نعم لعله لا يصدق في خصوص الشعر ماسا أو ممسوسا سيما الثاني ، كما عساه يشعر به عدم وجوب غسله في الجنابة ، بخلاف السن والظفر والعظم ، فيصدق اسم المس بكل واحد منها ماسة كانت أو ممسوسة ، فما في المحكي من عبارة الروض ـ من اعتبار المس بما تحله الحياة لما تحله الحياة في وجوب غسل المس ، فمتى انتفى أحد الأمرين لم يجب ، ثم قال :وفي العظم إشكال ، وهو في السن أقوى ، ويمكن جريان الإشكال في الظفر أيضا لمساواته العظم ـ في غير محله ، لما عرفته من تحقق الصدق الذي لا ينافيه الطهارة ، ونحوه‌

٣٣٩

ما في جامع المقاصد من التردد في المس بالظفر والسن والعظم ، والذكرى أيضا في الثاني إذا كان ممسوسا ، نعم قد يشك في صدق اسم المس أو انصراف إطلاقه بالنسبة إلى بعض الأفراد ، فيتجه حينئذ التمسك في نفي وجوب الغسل بالأصل ، وباستصحاب الطهارة ونحوهما.

وكذا يجب الغسل بالضم ان مس قطعة منه أو من حي قبل التطهير وكان فيها عظم على المشهور بين الأصحاب قديما وحديثا ، بل لا أجد فيه خلافا إلا من الإسكافي ، فقيده في المبان من حي بما بينه وبين سنة ، وستعرف ما فيه ، وإلا من المصنف في المعتبر والسيد في المدارك ، فلم يوجباه ، للأصل السالم عن معارضة دليل معتبر على الوجوب.

وهو ضعيف ، لانقطاعه بصريح الإجماع من الشيخ في الخلاف المعتضد بظاهره من غير واحد من الأصحاب.

وبالشهرة العظيمة ، بل في الذكرى « ان الأصحاب منحصرون في موجب غسل الميت على الإطلاق ، وهم الأكثر ، وفي نافيه كذلك على الإطلاق ، وهو المرتضى ، فالقول بوجوبه في موضع دون موضع لم يعهد » انتهى.

وبالاستصحاب في المقطوع من الميت متمما بعدم القول بالفصل على الظاهر ، ونفي احتمال مدخلية الاتصال ثمرة الاستصحاب ، فلا يقدح حينئذ انسياق الاجتماع إلى الذهن من الأدلة.

وبفحوى وجوب جريان أحكام الميت عليها بناء عليه من التغسيل والتكفين ونحوهما.

وبمرسل أيوب بن نوح (١) عن الصادق عليه‌السلام « إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة ، فإذا مسه إنسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على كل من يمسه الغسل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ٢ ـ من أبواب غسل المس ـ الحديث ١.

٣٤٠