جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كما انه ربما يمكن الاستدلال أيضا عليه ب‌خبر داود الرقي (١) « سأل الصادق عليه‌السلام عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي ولا أجده ، فقال : اغسل ثوبك » ‌مع التتميم بعدم القول بالفصل من الجميع الذي لا يقدح فيه ما سمعته من المبسوط ، لضعفه وعدم موافقة أحد له في ذلك فيما أعلم.

وما عساه يظهر من المختلف من الإجماع على النجاسة في الخشاف ليس في محله ، إلا أن يريد به من القائلين بالنجاسة والشيخ ، وإلا فلم ينقل هو ولا غيره التفصيل عن أحد عداه.

كل ذا مع ضعف مستند القول بالطهارة مطلقا أو في غير الخشاف من الأصل الذي لا يصلح معارضا لبعض ما سمعت ،كعموم (٢) « كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر » ‌و‌الحسن كالصحيح عن أبي بصير (٣) عن الصادق عليه‌السلام قال : « كل شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله » ‌المعتضد بما في البحار وجدت بخط‌الشيخ محمد بن علي الجعفي نقلا من جامع البزنطي عن أبي بصير (٤) عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : « خرء كل شي‌ء يطير وبوله لا بأس به ». و‌خبر غياث (٥) عن الباقر عليه‌السلام « لا بأس بدم البراغيث وبول الخشاشيف » ‌وبما عن‌نوادر الراوندي (٦) عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام « إن أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخشاشيف ودماء البراغيث ، فقال : لا بأس » ‌وترك الاستفصال في‌صحيح علي بن جعفر (٧) عن أخيه موسى عليهما‌السلام « أنه سئل عن الرجل يرى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

(٦) المستدرك ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب قواطع الصلاة ـ الحديث ١.

٢٨١

في ثوبه خرء الطير أو غيره هل يحكمه وهو في الصلاة ، قال : لا بأس » ‌ولعل مستند تفصيل الشيخ عموم الخبرين الأولين مع ما تقدم من خبر الرقي.

وفي الجميع نظر لظهور سؤال الأخير عن منافاة نفس الحك للصلاة باعتبار كونه فعلا كثيرا لا الطهارة والنجاسة ، على أنه محتمل إرادة المأكول والمجهول حاله ، وإلا فهو كما ينافي المختار من حيث النجاسة ينافي الخصم أيضا من حيث كونه من فضلات ما لا يؤكل لحمه ولا يصلح الصلاة به وان قلنا بالطهارة ، هذا مضافا إلى ما في الرياض « من عدم الملازمة بينها وبين نفي البأس عنه ، لعدم السراية مع اليبوسة كما هو ظاهر الحك في الرواية ، وليس نصا في صحة الصلاة ، ومن ان إطلاق الطير فيه ينصرف إلى المتبادر الغالب ، وهو مأكول اللحم ، وغيره نادر » انتهى. وان كان فيما ذكره نظر واضح.

ولعدم الجابر لسابقيه من الخبرين مع معارضتهما بخبر الرقي المتقدم ، بل وبإجماع المختلف في وجه ، واحتمالهما التقية كما قيل ، واحتياج الخصم أيضا إلى تأويل الخبر الثاني باعتبار منافاته للصلاة من حيث كونه من فضلات ما لا يؤكل لحمه.

بل وسابقه أيضا إن أريد بنفي البأس فيه ما يعم ذلك ، بل لعله الظاهر باعتبار كون الصلاة معظم ما يراد نفي البأس بالنسبة إليها.

وكذا الكلام في الخبرين الأولين مع قصورهما عن معارضة ما تقدم وان اعتبر سندهما ، سيما مع كون معارضتهما للعموم السابق في البول والقاعدة السابقة فيه وفي الخرء بالعموم من وجه ، ولا ريب في رجحانهما عليهما بالاعتضاد بالشهرة العظيمة ، بل تسالم الأصحاب عليه في بعض الطبقات التي هي أقوى المرجحات نصا واعتبارا ، على انه لو سلم تكافؤ المرجحات باعتبار ترجيح هذا العموم أيضا بالأصل وبأقلية الافراد ونحوهما يبقى ما سمعته من الإجماعات المحكية التي يشهد لها التتبع سالمة عن المعارض ، فلا محيص حينئذ عن القول بالنجاسة ، ولو لا ذلك لأمكن القول بالطهارة عملا بالمعتبرين السابقين ،

٢٨٢

سيما مع إمكان القول بعدم انصراف ما دل على نجاسة البول إلى بول الطير وان كان بالعموم اللغوي ، أو قلنا بعدم البول للطير وان تضمناه ، لكن يمكن حمله على ما يخرج من بعض الفضلات مجازا ، فلا يعارضها حينئذ ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ، وكان ذلك وأمثاله مع اختلال الطريقة هو الذي ألجأ متأخري المتأخرين إلى القول بالطهارة ، وقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه.

وأضعف منه ما يظهر من المحكي من عبارة ابن البراج في المهذب من القول بنجاسة الذرق والبول مما لا يؤكل لحمه من الطيور ، إلا أنه لا يجب إزالة قليلها وكثيرها ، وهو قول غريب لم يعرف نقله عن أحد من الأصحاب ، بل ولا عنه أيضا ، ولكن لعل مستنده الجمع بين ما دل على النجاسة مما عرفت وبين ما دل على الطهارة ، خصوصا مع إشعار الصحيح السابق بعدم منافاته للصلاة ، وفيه ما لا يخفى ، فقد ظهر لك من ذلك كله بحمد الله الحكم في الطير.

كما انه قد ظهر لك ما يصلح للاستدلال به على أصل نجاسة الفضلتين من سائر ما لا يؤكل لحمه مع قطع النظر عن الإجماعات ، فما في الرياض تبعا لشرح المفاتيح أن الدليل منحصر في الإجماع في غير محله ، إلا أن يريد أن غيره محتاج في إتمامه على وجه العموم اليه ، مع أن فيه نظرا أيضا يعرف مما مر ، لكن الأمر سهل وان تعدد المدرك عندنا واتحد عندهم بعد الاتفاق منا جميعا على نجاستهما من سائر ما لا يؤكل لحمه.

( سواء كان جنسه حراما كالأسد ) ونحوه ( أو عرض له التحريم ك‍ـ ) الحيوان الجلال والموطوء ونحوهما مما كان محللا بالأصل بلا خلاف أجده فيه ، لعموم الأدلة السابقة من الإجماعات وغيرها ، بل قد سمعت من الغنية الإجماع عليه بالخصوص في الجلال ، كما أنه في التذكرة نفي الخلاف عنه فيه وفي الموطوء ، بل في المفاتيح الإجماع عليهما معا صريحا ، بل وعلى كل ما حرم بالعارض ، وفي المختلف وعن التنقيح الإجماع‌

٢٨٣

على نجاسة ذرق الدجاج الجلال ، هذا إن لم نقل بنجاسة الجلال نفسه ، وإلا كان الحكم بنجاستهما حينئذ قطعيا.

كما انه يتجه الحكم بذلك أيضا لو قلنا بنجاسة عرقه ، للأمر بالغسل منه بناء على أولويتهما منه ، بل يمكن تأييد الحكم بالنجاسة بذلك وان لم نقل به.

وبذلك كله ينقطع الأصل وان تعدد ، ويقيد إطلاق ما دل على طهارة بوله وخرئه ان كان مثل ما دل على طهارتهما من البعير والبقر ونحوهما الشامل لحالتي الجلل وعدمه ، وان كان التعارض بينها وبين ما دل على النجاسة مما لا يؤكل لحمه تعارض العموم من وجه ، بل هي أخص مطلقا بالنسبة إلى إطلاق أخبار البول والعذرة.

كما انه يندفع احتمال إرادة الحلية الأصلية مما اعتبر في الطهارة من مأكولية اللحم ، فلا يقدح زوالها في بقائها أو احتمال إرادة الحرمة الأصلية مما اعتبر في النجاسة من عدم مأكولية اللحم ، فلا عبرة بالعارضية في ثبوتها ، كل ذلك لما عرفته من الإجماعات الخاصة المعتضدة بنفي الخلاف كذلك ، والتتبع مع قوة تلك العمومات ، وظهور إرادة الأعم من الحالتين في المأكولية وعدمها ، لكن مع دوران كل من الطهارة والنجاسة مدارهما وجودا وعدما لتبادر العلية منهما.

ويلحق بالجلال ونحوه المتغذي بلبن الخنزيرة حتى اشتد بناء على حرمة لحمه ، نعم هو لا يسمى جلالا ، لانه قد فسره غير واحد من الأصحاب بأنه المتغذي بعذرة الإنسان ، فلا يدخل فيه المتغذي بغيرها من النجاسات والمتنجسات ولو بمباشرتها ، وان كان قد قيل انما سمي جلالا لأكله الجلة ، وهي البعر ، إلا انه قد يدعى اختصاصه عرفا بذلك.

وربما يؤيده‌قول الباقر عليه‌السلام في مرسل النميري (١) في شاة شربت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٢.

٢٨٤

بولا ثم ذبحت : « يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به ، وكذلك إذا اعتلفت العذرة ما لم تكن جلالة ، والجلالة التي يكون ذلك غذاءها » ‌بناء على انصراف العذرة فيه إلى عذرة الإنسان ، وان الإشارة بذلك إليها ولتحقيق البحث فيه مقام آخر.

وفي رجيع ما لا نفس له وبوله من غير المأكول مما لا يشق التحرز عنه كالذباب ونحوه تردد دون ما يشق ، وان كان ظاهر المصنف هنا وصريحه في المعتبر التردد فيه أيضا ، لكنه في غير محله ، للأصل والسيرة القاطعة والحرج ، مع عدم شمول ما دل على التنجيس لمثله ، إذ هو ـ مع عدم تحقق البول منه ، وانصراف مثل لفظ الخرء والعذرة ونحوهما ، بل والبول أيضا لو كان منه إلى غيره ـ لا يدخل كثير من أفراده فيما لا يؤكل لحمه ، لظهوره في ذي اللحم المحرم دون ما لا لحم له ، ولذا لم تبطل الصلاة بشي‌ء من فضلاته ، فليس للفقيه حينئذ التردد في مثله ، بل لعله من الضروريات ، نعم هو في محله بالنسبة إلى ذي اللحم غير المأكول ولا مشقة في التحرز عنه ، من عموم ما لا يؤكل لحمه والقاعدة السابقة ، ومن الأصل وظهور انصراف البول لغيره لو قلنا بتحقق بول منه ، مع منع ما يدل على نجاسة غير البول على وجه يشمل مثل رجيعه ، ومن هنا قال في المدارك : « إني لا أعرف وجها للتردد في رجيعه » إلى آخره. ولطهارة ميتته ودمه ، فصارت فضلاته كعصارة النبات ، ولإشعار ما دل (١) على نفي البأس عما مات منه في البئر بذلك أيضا ، سيما مع شموله لما لو تفسخ فيها بحيث خرج جميع ما في بطنه من فضلاته ، ولعدم تحقق خلاف فيه من أحد كما اعترف به في الحدائق وشرح الدروس ، ومن هنا اختير فيهما الطهارة وفاقا لظاهر من قيد نجاستهما بذي النفس ، كالسرائر وأكثر من تأخر عنها ، ولصريح المعتبر والمدارك والمنتهى والتذكرة ، بل قد يؤذن نسبة الخلاف فيه إلى الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف خاصة في الأخيرين بعدم خلاف فيه منا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

٢٨٥

قلت : لكن للنظر في جميع ذلك مجال لانقطاع الأصل بما مر في البحث السابق من القاعدة والعموم اللغوي الممنوع انصرافه إلى غيره ، سيما في كثير من الحيوانات البحرية العظيمة الهيكل ، واحتمال القول ان اللحم مطلق ولا عموم لغوي فيه ، فينصرف إلى المعهود ، فلا يشمل مثل الحية والوزغ ونحوها يدفعه ـ مع إمكان نقضه ببعض لحوم ذي النفس أيضا ، وانه مكابرة واضحة ، للقطع بعدم مدخلية النفس وعدمها في العهدية وعدمها ، وانا نمنع اعتبار هذا الانصراف ـ إنه من توابع العموم اللغوي وفي سياقه ، فحكمه حكمه.

ويؤيده ما يأتي في باب الصلاة من عدم جواز الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه وان لم يكن له نفس ، بل ولا شي‌ء من فضلاته بعد ان يكون له لحم يعتد به ، وما ذاك إلا لتناول ما دل على منع الصلاة في شي‌ء مما لا يؤكل لحمه لمثله ، وعدم اختصاصه بذي النفس ، فدعوى الانصراف هنا إلى ذي النفس والعموم هناك مع اتحاد العبارة بل هي في المقام أصرح في غير محلها ، ولظهور عدم التلازم بين طهارة الميتة والدم وبين ما نحن فيه ، ولذا رده في الحدائق وشرح الدروس بأنه قياس لا نقول به ، كظهور ضعف إشعار نفي البأس السابق ، لانسياقه إلى إرادته من حيث الموت ، على ان التحقيق عندنا عدم نجاسة البئر بملاقاة النجاسة ، وعدم تحقق الخلاف انما يجدي لو رجع إلى إجماع ، وإلا فلا ، على انه قد يقال بتحققه هنا ، لإطلاق أو تعميم جملة من الأصحاب الحكم بنجاستهما مما لا يؤكل لحمه من غير تقييد بذي النفس ، كالمقنعة والخلاف وجمل الشيخ والوسيلة والغنية وإشارة السبق والدروس ، بل والنافع خصوصا مع التقييد بذلك في الميتة والدم وتركه هنا ، فلعل هؤلاء قائلون بالنجاسة ، بل يخرج حينئذ إجماع الخلاف والغنية لإطلاق معقدهما كالمحكي عن غيرهما دليلا عليها أيضا ، ولا يعارضه ما حكي من الإجماع على النجاسة من ذي النفس بدعوى ظهور إرادة اختصاص النجاسة به ، لانه‌

٢٨٦

وان سلم ظهور القيد بذلك لكن يمنع إرادة الإجماع بالنسبة إلى الطهارة من غير ذي النفس.

مع أنه يمكن القول بكون المراد من القيد ذكر معقد ما اتفق عليه وقطع به لإخراج ما عداه عن القطع والاتفاق ، فلا يكون حينئذ فيه دلالة على الطهارة فضلا عن الإجماع عليها ، على انه من المستبعد دعواه عليها ، وكيف وقد سمعت التردد من مثل المصنف في الذباب فضلا عن غيرها.

فظهر أن الأحوط الاجتناب ، بل الأقوى ان لم ينعقد إجماع على خلافه ، اللهم إلا أن يدعى الشك في صدق اسم البول والخرء والعذرة والغائط ونحوها من الألفاظ التي علقت النجاسة عليها في المقام بالنسبة إلى ما لا نفس له ، وبه يفرق حينئذ بينه وبين الصلاة ، لكون الحكم معلقا هناك على الفضلة الشاملة لها قطعا بخلافه هنا ، لكن للبحث فيه مجال ، والله أعلم.

وليس كذلك البحث في ذرق الدجاج غير الجلال وان كان ظاهر المصنف مساواته للأول في التردد وفي أن الأظهر الطهارة إلا أن الفرق بينهما واضح ، لما قد عرفت ان التردد في الأول في محله بخلافه هنا ، فإنه ينبغي القطع بالطهارة كما هو المشهور بين القدماء والمتأخرين ، بل لا خلاف فيه إلا من الشيخ في الخلاف وعن المفيد في المقنعة والصدوق ، مع انه في الاستبصار الحكم بالطهارة ، بل عن كتاب الصيد من الخلاف ذلك أيضا مدعيا عليه الإجماع وعلى خرء كل ما يؤكل لحمه كالغنية بالنسبة إلى الكلية.

وفي السرائر هنا استدل على الطهارة بالإجماع من الطائفة على أن روث وذرق كل مأكول اللحم من الحيوان طاهر ، وفي باب البئر منها انه لا ينزح لذرق الدجاج غير الجلال شي‌ء ، لأنه طاهر ، لان ذرق مأكول اللحم طاهر بغير خلاف بين أصحابنا ، ثم قال أيضا بعد أن حكى عن بعض الأصحاب استثناء الدجاج من الحكم بعدم نزح‌

٢٨٧

شي‌ء من البئر لو وقع فيها خرء ما يؤكل لحمه : « إن أراد هذا المصنف سواء كان جلالا أو غير جلال فقد قدمنا أن إجماع الصحابة منعقد ، والاخبار به متواترة أن كل مأكول اللحم من سائر الحيوان ذرقه وبوله وروثه طاهر ، فلا يلتفت إلى خلاف ذلك إما من رواية شاذة ، أو قول مصنف غير معروف ، أو فتوى غير محصل ـ ثم قال أيضا ـ وذهب في بعض كتبه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله إلى نجاسة ذرق الدجاج مطلقا ، إلا انه رجع عنه في استبصاره ومبسوطة ، فقال في مبسوطة في آخر كتاب الصيد :إن رجيع ما يؤكل لحمه ليس بنجس عندنا » إلى آخره.

بل ظاهر الشيخ الإجماع كظاهر العلامة في المنتهى ، وأما الصدوق فظاهره في الفقيه أو صريحه الطهارة ، كما حكاه عنه وعن المرتضى وسلار وأبي الصلاح وظاهر ابني أبي عقيل والبراج في المختلف ، فانحصر الخلاف حينئذ في المفيد.

ومع ذلك كله فهو الموافق للأصل ، للعمومات والمعتبرة المستفيضة (١) الدالة على نفي البأس عن فضلة مأكول اللحم منطوقا ومفهوما ، وما سمعته من الإجماعات المحكية المعتضدة بالتتبع لكلمات الأصحاب أيضا ، وخصوص‌خبر وهب بن وهب (٢) المنجبر بما عرفت عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام انه قال : « لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب » ‌الى غير ذلك ، و‌رواية فارس (٣) قال : « كتب اليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج يجوز فيه الصلاة ، فكتب لا » ‌ـ مع أنها مكاتبة ومضمرة ، ولا ملازمة بين عدم جواز الصلاة والنجاسة ، بل كثير من الطاهر منع من الصلاة فيه ، وموافقة للمحكي عن أبي حنيفة ، وضعيفة جدا بفارس ، لانه على ما قيل المراد به هنا ابن حاتم القزويني ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

٢٨٨

وهو كما عن الشيخ غال ملعون ، بل في الخلاصة أنه فسد مذهبه ، وقتله بعض أصحاب أبي محمد العسكري (ع) ، وله كتب كلها تخليط ، وعن الفضل بن شاذان انه ذكر ان من الكذابين المشهورين الفاجر فارس بن حاتم القزويني ، إلى غير ذلك مما ورد من القدح فيه ـ محتملة للكراهة أو التقية أو الجلال أو إرادة رفع الإيجاب الكلي المفهوم من السائل أو غير ذلك ، فلا وجه للخروج عن قاعدة المأكول الثابتة بما عرفت بمثلها ، أو بما عساه يظهر من الخلاف من دعوى الإجماع على النجاسة بعد أن عرفت أن العكس مظنته.

كما انه لا ينبغي الخروج عنها أيضا في مثل أبوال الخيل والبغال والحمير على ما سيأتي الكلام فيه مفصلا إن شاء الله تعالى.

كما انه قد مضى البحث فيما استثني من قاعدة غير المأكول من بول الصبي والطير ، وان الحق عدم خروجهما عنها أيضا ، نعم قد سمعت تقييد الثانية من غير واحد من الأصحاب بما إذا كانت له نفس سائلة ، وقضيته طهارتهما من غير ذي النفس مطلقا ، وقد تقدم التأمل فيه بالنسبة إلى ما لا يشق التحرز عنه وكان له لحم.

لكن بقي شي‌ء بناء على اعتبار هذا القيد ، وهو أن مجهول الحال من الحيوان الذي لم يدر انه من ذي النفس أو لا يحكم بطهارة فضلتيه حتى يعلم أنه من ذي النفس ، للأصل واستصحاب طهارة الملاقي ونحوه ، أو يتوقف الحكم بالطهارة على اختباره بالذبح ونحوه ، لتوقف امتثال الأمر بالاجتناب عليه ، ولأنه كسائر الموضوعات التي علق الشارع عليها أحكاما كالصلاة للوقت وللقبلة ونحوهما ، أو يفرق بين الحكم بطهارته وبين عدم تنجسه للغير ، فلا يحكم بالأول إلا بعد الاختيار بخلاف الثاني ، للاستصحاب فيه من غير معارض ، ولأنه حينئذ كما لو أصابه رطوبة مترددة بين البول والماء؟ وجوه لم أعثر على تنقيح لشي‌ء منها في كلمات الأصحاب.

٢٨٩

( الثالث المني )

( وهو نجس من كل حيوان ) ذي نفس ( حل أكله أو حرم ) إجماعا محصلا ومنقولا صريحا في الخلاف والتذكرة وكشف اللثام وعن النهاية وكشف الالتباس ، وظاهرا في المنتهى وغيره ، وهو الحجة في التعميم السابق لا النصوص المستفيضة (١) حد الاستفاضة المشتملة على الصحيح وغيره ، وان ذكر لفظ المني فيها معرفا باللام ، وعندنا انه لتعريف الماهية التي يلزمها هنا الحكم أينما وجدت ، لا لقصورها عن إفادة النجاسة كما ظن ، بل لتبادر الإنسان منها ، كما اعترف به جماعة من الأعيان حتى ادعى بعضهم انها ظاهرة في ذلك كالعيان بحيث لا يحتاج إلى البيان ، ولعله لاشتمالها أو أكثرها على إصابة الثوب ونحوه مما يندر غاية الندرة حصوله من غير الإنسان ، مع أنها انما اشتملت على لفظ المني ، وعن القاموس انه ماء الرجل والامرأة ، كالصحاح أيضا لكن بحذف المرأة ، إلا انه لا يبعد إرادتهما التمثيل ، نعم في‌صحيح ابن مسلم (٢) عن الصادق عليه‌السلام « انه ذكر المني وشدده وجعله أشد من البول » ‌إلى آخره. ما قد يستفاد من فحواه نجاسته من كل ما نجس بوله ، بل وان لم ينجس قضاء لشدته ، ولان المراد شدة حقيقة المني بالنسبة إلى حقيقة البول ، مع انه قد يناقش باحتمال إرادة الشدة بالنسبة للإزالة من جهة لزاجة المني وثخانته ، وبأنه بعد انصراف المني فيه إلى الإنسان إنما يفيد أشدية مني الإنسان من بوله لا مطلقا ، وبغير ذلك.

وأما غير هذا الصحيح من المعتبرة فظاهر في إرادة مني الإنسان ، وهو منه لا بحث فيه عندنا ، بل لعله من ضروريات مذهبنا ، وربما كان في قوله تعالى (٣) :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٣) سورة السجدة ـ الآية ٧.

٢٩٠

( ماءٍ مَهِينٍ ) دلالة عليه ، بل وفي قوله تعالى أيضا (١) ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) لما حكي عن المفسرين أن المراد به أثر الاحتلام ، بل في الانتصار « ان الرجز والرجس والنجس بمعنى واحد » انتهى. بل وافقنا عليه كثير من الناس أيضا.

نعم حكي عن الشافعي القول بطهارته سواء كان من رجل أو امرأة راويا له عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وعائشة ، قيل وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب وعطاء ، ولا ريب في خطائه ، ولعل ما في الصحيح والموثق والخبر من الاشعار بطهارته في الجملة صدر موافقة له تقية.

ففي أحدها (٢) « سأله عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ فقال :نعم لا بأس به إلا أن تكون النطفة رطبة ، فإن كانت جافة فلا بأس ».

و‌في الثاني (٣) قلت للصادق عليه‌السلام : « يصيبني السماء وعلي ثوب فتبله وأنا جنب فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني أفأصلي فيه؟ قال : نعم ».

و‌في الثالث (٤) « سألت الصادق عليه‌السلام عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتل ، قال : لا بأس ».

و‌في الرابع (٥) « سئل الصادق عليه‌السلام وأنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه ، قال : لا أرى بأسا ، قال : إنه يعرق حتى لو شاء أن يعصره عصره ، فقطب الصادق عليه‌السلام في وجه الرجل إن أبيتم فشي‌ء من ماء فانضحه به » ‌إلى آخره. أو غير التقية من وجوه قريبة سيما في بعضها ، فلا ينبغي الشك حينئذ في هذا الحكم من جهتها بعد ما عرفت.

__________________

(١) سورة الأنفال ـ الآية ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

٢٩١

كما انه لا ينبغي الشك بعده أيضا في نجاسته من المأكول ذي النفس من عموم‌موثقة عمار (١) عن الصادق عليه‌السلام « كلما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه » ‌كموثقة ابن بكير (٢) « وان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه جائز » ‌لوجوب حملهما على إرادة البول والغائط كما فهم الأصحاب من الأول ، أو على غير المني تحكيما لما تقدم عليهما.

ولكن ( في مني ما لا نفس له ) مما لا يشق التحرز عنه تردد كما في المعتبر ، ينشأ من إطلاق لفظ المني في النص وكثير من الفتاوى كمعقد إجماع الانتصار والخلاف والغنية وعن المسالك الطبرية وكشف الحق وغيرها ، مع ما في الثاني كما عن غيره التصريح بتعميمه لكل حيوان كبعض فتاوى الأصحاب أيضا ، ومن الأصل والعمومات وطهارة ميتته ودمه.

( والطهارة ) أشبه وفاقا لصريح المعتبر والمنتهى والتذكرة والذكرى وغيرها ، وظاهر كل من قيد نجاسته بذي النفس ، بل في الرياض انه المشهور ، بل كاد يكون إجماعا ، كما أنه في مجمع البرهان بعد ذكره ما دل على نجاسة المني قال : وكان تقييدها للإجماع ، قلت : ولعله كذلك ، إذ لا أعرف فيه مخالفا صريحا ، نعم ربما حكي عن ظاهر الأكثر توهما من الإطلاق السابق ، وفيه انه لا ينصرف اليه ، بل ولا إلى بعض أفراد ذي النفس لو لا الإجماع عليه ، سيما إذا كان الإطلاق من غير المعصوم مما لا يحضر في ذهنه كثير من أفراد المطلوب إلا بعد التنبيه ، مع ما في إطلاق معقد إجماعي الانتصار والخلاف بل والغنية أيضا من ظهور سياقها في مقابلة قول الشافعي وغيره من أقوال العامة.

وأما الاخبار فقد عرفت انها ظاهرة في مني الإنسان خاصة ، فضلا عن أن تشمل

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب لباس المصلي ـ الحديث ١.

٢٩٢

مني غير ذي النفس ، كل ذا مع إمكان منع صدق اسم المني عليه ، سيما بعد ما سمعته عن القاموس والصحاح ، وإن قلنا إن مرادهما التمثيل ، إلا أنه ليس ذا من أمثال ما ذكراه ، فلعل التردد فيه حينئذ من المصنف هنا والمعتبر في غير محله.

كما انه لا ينبغي الشك في طهارة سائر ما يخرج من الحيوان من المذي والوذي والودي والقيح وجميع الرطوبات وغيرها عدا الثلاثة والدم بلا خلاف معتد به في غير الأول ، بل يستفاد من حصر الأصحاب النجاسات في غيرها الإجماع عليه ، للأصل المقرر بوجوه ، والعمومات ، وخصوص الصحيح (١) في بلل الفرج ، بل والأول أيضا لذلك ، وللأخبار المستفيضة (٢) حد الاستفاضة ان لم تكن متواترة الدالة بأنواع الدلالة من نفي البأس ، وانه لا يغسل منه الثوب ، وانه لا شي‌ء فيه ، وأنه بمنزلة النخامة ، إلى غير ذلك ، والإجماع بقسميه.

فما عن ابن الجنيد من نجاسة خصوص الناقض للوضوء عنده أي الخارج عقيب الشهوة ضعيف جدا محجوج بذلك كله ، كمستنده من‌خبر الحسين بن أبي العلاء (٣) عن الصادق عليه‌السلام « عن المذي يصيب الثوب قال : إن عرفت مكانه فاغسله ، وان خفي مكانه عليك فاغسل الثوب كله » ‌كخبره الآخر عنه عليه‌السلام (٤) أيضا « عن المذي يصيب الثوب فليتزق قال : يغسله ولا يتوضأ ».

إذ هما مع قصورهما عن المقاومة من وجوه محتملان التقية ، واشتباه الراوي في المني ، ولما كان طرف الإحليل نجسا ، والندب ، سيما وهذا الراوي بعينه‌روى (٥) عن الصادق عليه‌السلام « انه لا بأس بالمذي يصيب الثوب ، لكن قال : فلما رددنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

٢٩٣

عليه قال : ينضحه بالماء » ‌كخبر العلاء (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « عن المذي يصيب الثوب فقال : ينضحه بالماء إن شاء ».

( الرابع الميتة )

( ولا ينجس من الميتات إلا ما له نفس سائلة ) لا غيره مما لا نفس له كذلك كالجراد والذباب والوزغ ونحوها ، فان ميتته طاهرة ، للأصل المقرر بوجوه ، و‌قول الصادق عليه‌السلام في موثق عمار (٢) بعد أن سأله « عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك تموت في البئر والزيت والسمن وشبهه ، فقال عليه‌السلام : كل ما ليس له دم فلا بأس » ‌كقوله عليه‌السلام في خبر حفص (٣) ومرفوعة ابن يحيى (٤) : « لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة » ‌و‌قال عليه‌السلام في صحيح أبي بصير (٥) بعد أن سأله عن الذباب يقع في الدهن والسمن والطعام : « لا بأس » ‌وفي‌خبر ابن مسكان (٦) « كل شي‌ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » ‌كقول الكاظم عليه‌السلام في خبر أخيه (٧) المروي عن قرب الاسناد : « لا بأس به » ‌في جواب سؤاله عن العقرب والخنفساء وأشباه ذلك تموت في الجرة والدن يتوضأ منه للصلاة ، إلى غير ذلك من الاخبار.

وقصور بعضها سندا كآخر دلالة منجبر بالشهرة بين الأصحاب شهرة كادت تكون إجماعا بل عليه الإجماع في الغنية والسرائر والمعتبر والمنتهى وعن صريح الخلاف وظاهر الناصريات والتذكرة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١ ـ وهو عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٦.

٢٩٤

فما في الوسيلة وعن المهذب ـ من استثناء الوزغ والعقرب من هذا الحكم مما يشعر بنجاستهما عنده بعد الموت ، كما ان ظاهره قبل ذلك مساواة الوزغ للكلب في وجوب غسل ما باشرهما برطوبة من الثوب أو البدن في حال الحياة لكن قبل ذا صرح بكراهة استعمال ما باشره الوزغ حيا ـ في غير محله محجوج بما عرفت ، كما عن الشيخين في المقنعة والنهاية من الحكم بوجوب غسل ما باشره الوزغ والعقرب برطوبة من الثياب مما عساه يشعر بنجاستهما بعد الموت بالأولى ، كاشعار ما عن الصدوق بحرمة اللبن إذا مات فيه العظاية ، وما عن جماعة من الأصحاب منهم من حكى الإجماع هنا على الكلية المذكورة بوجوب النزح في الجملة لموت الوزغ والعقرب والحية.

إلا أنه قد يقال بل هو الظاهر المناسب للجمع بين كلماتهم : إن وجوب النزح أعم من النجاسة كما في اغتسال الجنب ، ولعله هنا لما فيه من السمية ونحو ذلك ، كما ان تحريم اللبن لذلك أيضا ، بل يحتمله كلام الشيخين أيضا ، بل والوسيلة في وجه ، كل ذا لعدم دليل صالح للخروج به عن تلك الكلية.

و‌قول الصادق عليه‌السلام في خبر سماعة (١) بعد أن سأله عن جرة وجد فيها خنفساء : « ألقه وتوضأ ، وان كان عقربا فأرق الماء وتوضأ من ماء غيره » ‌ـ مع قصور سنده ولا صراحة فيه بالموت ـ محمول على الندب ، كأمر أبي جعفر عليه‌السلام بالإراقة للعقرب في خبر أبي بصير (٢) ويشير اليه‌خبر هارون بن حمزة الغنوي (٣) وان كان في الحياة « عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ منه؟ قال : يسكب منه ثلاث مرات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثم يشرب منه ويتوضأ » لكن قال فيه : « غير الوزغ فإنه لا ينتفع بماء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ الحديث ٤.

٢٩٥

يقع فيه » ‌إلا أنه أيضا محمول على شدة الكراهة لما فيه من السمية كما تقدم البحث فيه في الأسئار.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في شي‌ء من أفراد تلك الكلية بعد ما عرفت ، نعم ربما يتأمل في اندراج الحية فيها وعدمه للتأمل في أنها من ذوات الأنفس السائلة كما هو صريح المعتبر والمنتهى ، بل عن بعضهم نسبته الى المعروف بين الأصحاب ، ويقتضيه ما عن المبسوط أن الأفاعي إذا قتلت نجست إجماعا ، أو أنها ليست منها كما لعله مال إليه في جامع المقاصد والروضة ، بل في المدارك أن المتأخرين استبعدوا وجود النفس لها ، قلت : إرجاع الأمر إلى الاختبار هو اللائق ، وقبله يجري البحث السابق في الغائط والبول ، فلاحظ وتأمل.

وأما ذو النفس السائلة فميتة غير الآدمي منه نجسة إجماعا محصلا ومنقولا في الغنية والمعتبر والمنتهى والذكرى وكشف اللثام والروض وعن نهاية الاحكام والتذكرة وكشف الالتباس وغيرها ، بل في المعتبر والمنتهى أنه إجماع علماء الإسلام ، كما ان ظاهر الغنية أو صريحها نفي الخلاف بينهم فيه ، وظاهر الجميع هنا عدم الفرق بين المائي وغيره ، وهو كذلك ، لإطلاق معاقد الإجماعات أو عمومها كغيرها من الأدلة التي ستسمعها.

فما عن ظاهر الخلاف من طهارة ميتة الحيوان المائي مطلقا ضعيف ، مع انه يجوز كما في كشف اللثام وغيره إرادته الغالب من انتفاء النفس عنه ، وإلا فعن التذكرة « أن ميتة ذي النفس من المائي نجسة عندنا » انتهى. كما أن مراد الجميع أيضا عدا المنتهى من الميتة ما يشمل الجلد قطعا ، بل والمنتهى وان قال فيه : « إنه حكي عن الزهري عدم نجاسة جلد الميتة » لكنه صرح قبل ذلك بنجاسته عندنا ، ثم قال : وهو قول عامة العلماء ، كما‌

٢٩٦

انه في الخلاف والانتصار وعن الناصريات ونهاية الاحكام وغيرها الإجماع عليه أيضا ، وكيف كان فهو بقسميه الحجة في نجاسة الميتة حتى الجلد.

مضافا إلى ما يمكن دعواه من التواتر معنى الحاصل بملاحظة ما ورد (١) من الأمر بنزح البئر في الاخبار الكثيرة لموت الدابة والفأرة والطير والحمامة والحمار والثور والجمل والسنور والدجاجة في البئر ، قيل : ولا ينافيه طهارة البئر عندنا ، لان ذلك انما هو لعدم انفعالها بالنجاسة ، لا لعدم نجاسة تلك الأعيان ، وإلا فلا خلاف في النجاسة بها مع التغير.

قلت : مع أنه قد يقال : إن الأمر بالنزح دال على نجاسة سببه وان قلنا باستحبابه باعتبار استقراء أكثر موارد ما أمر به له ، وعدم ثبوت مشروعيته حتى من القائلين بنجاسة البئر لشي‌ء من المستقذرات الطاهرة كالصديد ونحوه مما لم يرد فيه نص بالنزح له ، ولا ينافيه ورود الأمر به لاغتسال الجنب وموت بعض ما لا نفس له سائلة ونحوها مما علم طهارته ، إذ هو بعد تسليم العمل به لا ينافي حصول الظن الناشئ من تلك الغلبة ، اللهم إلا أن يمنع حجية مثل هذا الظن.

وما ورد أيضا من الأمر في الاخبار المعتبرة المستفيضة جدا بإلقاء ما مات فيه الفأرة ونحوها من المرق ، والاستصباح خاصة بالزيت والسمن ونحوهما إذا كان مائعا ، وإلا فيلقى الفأرة مثلا وما يليها ، كقول الباقر عليه‌السلام في الصحيح (٢) أو الحسن : « إذا وقعت الفأرة في سمن فماتت فان كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك » ‌و‌الصادق عليه‌السلام في خبر السكوني (٣) : « إن أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ و ١٧ و ١٨ و ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

٢٩٧

فأرة ، قال : يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل ».

وما ورد (١) من النهي عن الأكل في أواني أهل الذمة إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدم ولحم الخنزير.

وما عساه يشعر به أيضا ما ورد (٢) مستفيضا في النهي عن مطلق الانتفاع بالميتة حتى المقطوع من الحي معللا بذلك ، كاشعار النهي عن خصوص الصلاة بجلد الميتة.

وما ورد أيضا من المعتبرة المستفيضة جدا في اجتناب الماء القليل إذا مات فيها الفأرة ونحوها ، بل والكثير مع تغير الماء ، وقد تقدمت في محلها.

( منها )صحيح زرارة (٣) « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء تفسخ أو لم يتفسخ إلا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء ».

و‌موثقة عمار (٤) عن الصادق عليه‌السلام « في الفأرة التي يجدها في إنائه وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا وغسل ثيابه أو اغتسل وقد كانت الفأرة متسلخة ، فقال : إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة » ‌الحديث.

و ( منها )صحيحة حريز (٥) عن الصادق عليه‌السلام « كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب ، وإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ ولا تشرب » ‌إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة التي لا يسع المقام حصرها.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٢ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ الحديث ١.

٢٩٨

و ( منها ) ما سمعته سابقا فيما لا نفس له وتسمعه فيما يأتي إن شاء الله‌كالصحيح (١) عن الصادق عليه‌السلام « اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شي‌ء ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي ، وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه » ‌الحديث. وغيره ، وهو دال على المطلوب من وجهين.

واحتمال المناقشة في كل واحد من هذه الاخبار بالسند أو الدلالة بعدم العموم فيها للميتة والمائعات ، وعدم دلالة النهي عن الأكل ونحوه على النجاسة مما لا ينبغي أن يصغى إليها ، خصوصا بعد ما عرفته من اتفاق الأصحاب عليه ، بل لعله من ضروريات المذهب بل الدين.

فمن العجيب ما في المدارك حيث قال بعد أن ذكر دليل النجاسة مما في المنتهى بأن تحريم ما ليس بمحرم ولا فيه ضرر كالسم يدل على النجاسة ، وقال : إن فيه منعا ظاهرا ، ومن الاخبار المتضمنة للنهي عن أكل الزيت ونحوه ، وقال : إنه لا صراحة فيه بالنجاسة ، والصحيح الذي ذكرناه آخرا ، وقال : إن الأمر فيه بالغسل لا يتعين كونه للنجاسة ، بل محتمل أن يكون لإزالة الأجزاء المتعلقة من الجلد المانعة من الصلاة فيه ، كما يشعر به قوله (ع) : « وصل فيه » وبالجملة فالروايات متظافرة بتحريم الصلاة في جلد الميتة ، بل الانتفاع به مطلقا ، أما نجاسته فلم أقف فيها على نص يعتد به ، مع أن‌ابن بابويه روى في أوائل الفقيه مرسلا (٢) عن الصادق عليه‌السلام « انه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن والماء ما ترى فيه؟ قال : لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن ، وتوضأ منه واشرب ، ولكن لا تصل فيه » ‌وذكر قبل ذلك من غير فصل يعتد به انه لم يقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب النجاسات ـ الحديث ٥.

٢٩٩

قال : بل انما قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته واعتقد أنه حجة بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته ، فالمسألة قوية الإشكال ، انتهى.

وفيه ـ مع إمكان المناقشة في جميع ما ذكر حتى ما منعه من المنتهى ، وخصوصا ما سمعته منه في الصحيح ، بل وأخبار الزيت ، مع انه قد اعترف سابقا باستفادة النجاسة من نحو ذلك ، بل ليس في أكثر النجاسات دليل صريح ـ انك قد عرفت أن المسألة من القطعيات بل الضروريات التي لا يدانيها مثل هذه التشكيكات ، ولا يقدح فيها خلاف الصدوق ان كان ، ولا ما أرسله ، على أنه حكى الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح عن جده انه رجع الصدوق عما ذكره في أول كتابه ، ولذا ذكر فيه كثيرا مما أفتى بخلافه ، وقد يشهد له التتبع لكتابة ، مع احتمال إرادته بما ذكره أولا معنى آخر ليس ذا محل ذكره ، كما أن مرسلة ـ مع عدم حجيته في نفسه فضلا عن صلاحيته لمعارضة غيره بل في الذكرى انه شاذ لا يعارض المتواتر ـ محتمل التقية بإرادة بعد الدبغ ، ولإرادة جلد الميتة مما لا نفس له كالضب ونحوه ، بل قيل : إنه كان عادة أعراب البوادي جعل جلد الضب عكة للسمن ، ولعل في قوله في المرسل : « يجعل » إلى آخره إشعارا بذلك باعتبار ظهور إرادة الاستمرار والاعتياد منه ، ولا رادة ما يقال فيها انها جلود الميتة لا انها كذلك قطعا نحو ما ورد في الكيمخت (١) وجلود البغال والحمر الأهلية (٢) فيكون نفي البأس حينئذ لمكان فعل المسلم وتصرفه المحمول على الصحة ، وغير ذلك من الاحتمالات ، ولعله لذا لم يعرف حكاية خلاف الصدوق في ذلك ، مع أن المحكي عنه في المقنع أصرح منه في الفقيه حيث قال فيه : « ولا بأس أن يتوضأ من الماء إذا كان في زق من جلد الميتة » إلا أنه محتمل أيضا بعض ما تقدم وغيره ، بل ربما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٤.

٣٠٠