جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وسيما النهي عن إبطال العمل لو سلم كون المراد من الآية ذلك ، لظهورها في إرادة النهي عن إبطال الأعمال بالارتداد والكفر ونحوهما ، ومن هنا أنكر بعض المتأخرين وجود ما يدل على النهي عن قطع الصلاة في الكتاب والسنة ، فليس حينئذ إلا الإجماع إن ثبت ، وهو هنا في محل المنع ، سيما بعد ما عرفت من الحكم بالاستحباب عند من تقدم ممن قال بالمضي ، وان ذلك منه عجيب بعد استدلاله بالنهي عن الابطال ، بل قد يتعجب أيضا حينئذ من جواز إتمام الصلاة بالتيمم مع التمكن من الطهارة المائية التي هي شرط للأبعاض كالجملة ، مع كون التيمم طهارة اضطرارية ، ولا اضطرار بعد فرض جواز القطع فضلا عن استحبابه ، وقد يتعجب أيضا من اجتماع استحباب القطع مع الوجوب إلا على تكلف ، هذا. على ان ذلك بعد ثبوته بطلان لا إبطال لعمل صحيح ، وكيف وصحته متوقفة على ثبوت عدم ناقضية الماء للتيمم في هذا الحال ، وهو محل البحث.

وكذا الكلام فيما دل على النهي عن الانصراف حتى يجد الريح إلى آخره. مع انه مساق لبيان أمر آخر ، وهو عدم الالتفات إلى ما يتخيله الإنسان حدثا مما ينفخ الشيطان في دبره.

وأما خبر ابن حمران فهو ـ مع ما في سنده من اشتراك ابني سماعة وحمران بين الثقة وغيره ـ محتمل لان يراد بالدخول في الصلاة فيه الدخول بالركوع منها ، إذ هو الدخول الكامل ، سيما مع ملاحظة ما ورد ان أولها الركوع (١) وان الصلاة ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود (٢) وان إدراك الركعة بإدراك الركوع (٣) إلى غير ذلك.

ومنه يعرف ما في دعوى صراحته أو ظهوره بما قبل الركوع ، ولو سلم لأمكن حمله على ضيق الوقت عن القطع والطهارة كما يشعر به ذيله ، فيخرج عن محل النزاع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الركوع ـ الحديث ٦ ـ ١ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الركوع ـ الحديث ٦ ـ ١ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

٢٤١

حينئذ ، ولو سلم عدم قبولها لذلك فلا ريب ان خبر زرارة المروي في التهذيب والكافي بأعلى درجات الصحة ، مع ان زرارة لا يقاس بغيره علما وعدالة المعتضد بخبر ابن عاصم المروي فيهما ومستطرفات السرائر أيضا ، بل في الأول منهما بغير واحد من الطرق ، بل يمكن تصحيحه بأحدها ، سيما بعد ما سمعته من المعتبر مما يفيد عدالة عبد الله ، وان ذكر أن غيره أعدل منه ، وبما تقدم سابقا من أصالة الشغل ، وما دل (١) على النقض بوجدان الماء ، وبما ورد (٢) من زيادة التأكد على الطهارة المائية حتى أمر بشراء مائها بأضعاف ثمنه ، وان التيمم طهارة اضطرارية ، بل ربما عد انه هلاك الدين ، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة أقوى وأرجح قطعا ، خصوصا مع موافقة خبر ابن حمران لفتوى كثير من العامة كالشافعي وداود وأحمد في رواية ، وأبي ثور وابن المنذر ، بخلاف رواية التفصيل ، فإنها لم ينقل عن أحد منهم القول بها ، والرشد في خلافهم.

ومن ذلك كله يظهر لك ما في دعوى العكس كما سمعته من المعتبر ، لكن قد يعتذر عنه بأنه لم يطلع على صحيحة زرارة ، ولذا لم يتعرض لها أصلا ، نعم يتجه ذلك على غيره كالمنتهى ، واحتمال دفع ذلك كله بالشهرة بل انقراض الخلاف بين عظماء المتأخرين مع الإجماع السابق عن السرائر والرضوي يدفعه ـ بعد تسليم صلاحية مثل هذه الشهرة لذلك ، لعدم ندرة مقابلها ، بل المسلم منها أكثرية المخالف في الجملة ـ قد يناقش فيها بعدم تحققها أيضا في محل النزاع ، وهو ما لو وسع الوقت للقطع والطهارة ، لاحتمال كلام كثير من المخالف هنا ان عدم جواز القطع للبناء منهم على التيمم عند الضيق الذي لا يسع معه ذلك ، وإلا فمع السعة له يتعين عندهم ما قلناه ، كما صرح به في التهذيب والاستبصار في وجه كالمختلف ، ويعطيه كلام ابن زهرة ، بل والسرائر ، كما عن الواسطة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب التيمم.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب التيمم.

٢٤٢

أيضا ، بل لعل المتجه حينئذ عندهم جواز القطع ولو تجاوز الركوع ، بل الى تمام الصلاة ، لأولويته من الإعادة بعد الفراغ لو ظهرت السعة المصرح بها في كلام جماعة منهم ، فظهر حينئذ ان حكمهم هنا بعدم جواز الانصراف ان كان مبناه مراعاة الضيق في التيمم لم يكن من محل النزاع في شي‌ء ، بل ينحصر حينئذ في القول بجوازه في السعة أو في الضيق ، لكنه عرفي لا يقدح فيه مثل ذلك ، أو يقال بعدم وجوب الإعادة معه لو اتفق السعة ، كما هو أقوى القولين على القول بالتضيق.

وأما إجماع السرائر فهو ـ مع إمكان منعه عليه ، لمعروفية الخلاف في المسألة ، بل هو نفسه نقل فيها الأقوال هنا ، ولم يقطع بواحد منها ، ولا ادعى إجماعا وان اختار القول بالمضي ـ محتمل بل ظاهر في غير ما نحن فيه ، وان كان ربما يوهم في بادئ الرأي ظاهر عبارته ذلك ، لكنه بعد التأمل يعلم أن مراده عدم جواز قطع الصلاة للتيمم بوجدان الماء في الجملة للإجماع لا للاستصحاب ، فلاحظ وتأمل ، على انه يحتمل أن يكون ذلك منه بناء على الضيق في التيمم كما هو مختاره ، بل ظاهره الإجماع عليه.

وأما الرضوي فمع احتماله ذلك أيضا ليس بحجة عندنا.

فاتضح من ذلك كله بحمد الله أن الأظهر الرجوع قبل الركوع وعدمه بعده وان كان الاحتياط مع السعة بالإتمام مطلقا ثم الإعادة لا ينبغي تركه ، بل ولو كان إصابته للماء بعد الركوع أيضا ، خروجا عن شبهة الخلاف المحكي عن ابن الجنيد ، قال : « إن وجد الماء بعد دخوله في الصلاة قطع ما لم يركع الركعة الثانية ، فإن ركعها مضى في صلاته ، فان وجده بعد الركعة الاولى وخاف من ضيق الوقت أن يخرج ان قطع رجوت أن يجزيه ان لا يقطع صلاته ، أما قبله فلا بد من قطعها مع وجود الماء » انتهى. وإن لم نعثر على ما يشهد لتمام دعواه حتى صحيح زرارة وابن مسلم المتقدم سابقا وان ظن ، بل

٢٤٣

فيه ما يشهد بخلافه ، نعم قد يشهد لبعضها‌خبر الصيقل (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل تيمم ثم قام يصلي فمر به نهر وقد صلى ركعة قال : فليغتسل ويستقبل الصلاة ، فقلت : إنه قد صلى صلاته كلها قال : لا يعيد ».

وهو ـ مع الغض عما في سنده ، وعدم نصه على القطع واستقبال الصلاة ، واحتماله فعل ما يريده من الصلاة بعد ذلك ، وان المراد بقوله : « ركعة » صلاة ، ولا ينافيه قوله ثانيا : « انه قد صلى صلاته كلها » لجواز كونه تكرارا لسؤاله الأول تصريحا بمراده ، وان المراد صلى صلاته اليومية كلها ، ومعارضته ب‌خبر زرارة (٢) عن الباقر عليه‌السلام في خصوص الركعة ، قال فيه : « سألته عن رجل صلى ركعة على تيمم ثم جاء رجل ومعه قربتان من ماء قال : يقطع الصلاة ويتوضأ ثم يبني على واحدة » ‌الحديث ـ قاصر عن معارضة ما تقدم من وجوه ، مع انه محتمل الحمل على التقية ، لموافقته للمحكي عن الثوري وأبي حنيفة وأحمد في رواية من القول بالرجوع مطلقا ، ولعل ذلك أولى من حمله على الاستحباب وان احتمله في الاستبصار ، لقصوره عن إفادته هنا وان قلنا بالتسامح فيه ، لمعارضته لما دل على حرمة القطع التي هي العمدة في الإتمام بالتيمم ، وإلا لو جاز القطع لم يثبت الاضطرار الذي هو شرط صحة التيمم ابتداء واستدامة ، فتأمل.

وكذا لم نعثر على ما يشهد للمحكي عن سلار انه ينقض التيمم وجود الماء مع التمكن من استعماله إلا أن يجده وقد دخل في صلاة وقراءة ، وان وجه تارة بأنه حينئذ أتى بأكثر الأركان من النية والقيام والتكبير وأكثر الافعال ، وهي القراءة ، وأخرى باعتبار مسمى الصلاة ، لكنه كما ترى.

كالمحكي أيضا في الذكرى عن ابن حمزة في الواسطة من القول بأنه « إذا وجد الماء بعد الشروع وغلب على ظنه عدم ضيق الوقت لو قطع وتطهر وجب عليه ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥.

٢٤٤

وإن لم يمكنه ذلك لم يقطعها إذا كبر ، وقيل : يقطع ما لم يركع ، وهو محمول على الاستحباب » انتهى.

واستغربه في الذكرى ، ولعله لانه لم يعرف أحدا من أصحابنا قال بجواز القطع مطلقا ، بل في نهاية الاحكام الإجماع على إتمام الصلاة لو كان قد وجد الماء بعد ركوع الثانية ، وكأنه فهم أن مراد ابن الجنيد فيما تقدم من الركعة الركوع.

قلت : لكن قد يقال : إن ما ذكره في الواسطة مع انه قضية ما في التهذيب والغنية وغيرهما لازم لكل من أوجب التيمم عند الضيق والإعادة مع ظهور السعة ، كما أشرنا إلى ذلك آنفا ، إذ هو أولى منها حينئذ ، على أن مبناها عندهم ظهور فساد التيمم ، فلا ينبغي استغرابه.

فتحصل من مجموع ما ذكرنا أن الأقوال خمسة ، بل ربما عد ما في الموجز الحاوي ـ من الفرق بين الصلاة المسقطة للقضاء وغير المسقطة بناء على ثبوتها في بعض الصور السابقة كالمتيمم للزحام أو واجد الماء في سعة الوقت ونحو ذلك ، فلا يقطع الاولى بمجرد التلبس ، بخلاف الثانية فيقطعها مطلقا ، لكونه أولى من الإعادة ـ سادسا ، واستجوده في الذكرى ، كما عن الدروس أنه الأقرب.

لكن قد عرفت فيما مضى عدم ثبوت الإعادة أو القضاء في المسائل السابقة عندنا مطلقا ، بل يمكن المنع بناء عليه أيضا ، للنهي عن إبطال العمل ، ومنع ظهور بطلانها بذلك ، نعم قد يقال بالبطلان في نحو صلاة فاقد الطهورين بناء على وجوب الأداء عليه ، للفرق بينها وبين الصلاة بالتيمم في المسائل السابقة وان اشتركا بوجوب الإعادة أو القضاء مع الوجدان ، على أنه لا يخلو من بحث ، فتأمل جيدا.

ثم انه بناء على المختار من الإتمام لو كان قد وجد الماء بعد الركوع أو مطلقا على المشهور فهل ينتقض تيممه بالنسبة إلى غيرها من الصلوات لو فقده قبل الفراغ أو بعده‌

٢٤٥

قبل التمكن أولا؟ وجهان بل قولان ، أقواهما الثاني ، وفاقا للمصنف والشهيد والمحقق الثاني وغيرهم ، بل لم أعثر فيه على خلاف صريح إلا ما نقل عن المبسوط والموجز ، مع أن عبارة الثاني كالمحكي من عبارة الأول لا صراحة فيها بذلك ، بل لعل ظاهرهما خصوصا الموجز خلافه ، نعم نقل عن كشف الالتباس انه حكاه عن فخر الدين وقربه أولا في المختلف ثم توقف فيه بعد ذلك ، كما انه قواه في المنتهى ، وربما مال إليه في التذكرة.

وكيف كان فالأصح ما عرفت للأصل ، واستصحاب الصحة ، واستبعاد اجتماع الصحة والفساد في طهارة واحدة ، كاستبعاد البقاء على الصحة مع وجود الماء والانتقاض بعده ، ولإطلاق ما دل على عدم نقض التيمم إلا بالحدث أو إصابة الماء بعد إرادة التمكن من ذلك الذي هو أعم من الشرعي والعقلي كما تقدم ويأتي ، لتحريم قطع الصلاة عليه هنا ، ودعوى الاكتفاء في النقض بتحقق القدرة عقلا وان منع شرعا ممنوعة.

نعم قد يقوى القول بالنقض كما في المنتهى بناء على ما صرح به بعض من قال بالمشهور من جواز القطع ، وان أمكن النظر في جميع ما ذكره مستندا لذلك من أولويته من ناسي الأذان وسورة الجمعة وإدراك الجماعة ، ومن أنه كمن شرع في صوم الكفارة فوجد الرقبة ، بل ربما قيل باستحبابه قبل الركوع خروجا عن شبهة الخلاف ، وحملا لدليل الخصم من صحيح زرارة ونحوه عليه ، لعدم رجوع شي‌ء منها إلى دليل معتبر يقطع العذر في الخروج عما دل على حرمة إبطال العمل.

وكذا ما في القواعد من أن له العدول إلى النافلة ثم يقطع أو يتم ، لأولويته من إدراك الجماعة ، مع احتمال أن لا يكون مثلهإبطالا ، وفيه منع ، لكن على كل منهما يتجه القول بنقض التيمم حينئذ لحصول ما ينتقض به من التمكن عقلا وشرعا ، ولا ينافيه جواز إتمام خصوص تلك الصلاة به ، للأدلة الخارجية الحاكمة على عموم ما دل على ناقضية به ، مع احتمال عدم النقض أيضا وان قلنا به أى جواز القطع أو العدول

٢٤٦

كما هو قضية ما في الذكرى وجامع المقاصد ، تمسكا بما عدا الأخير من الأدلة السابقة.

ومن ذلك كله يعلم الحكم فيما لو كان الوجدان في أثناء نافلة بناء على مساواتها للفريضة فيما تقدم من الإتمام مطلقا أو قبل الركوع وعدمه ، كما اختاره في المنتهى والتحرير والقواعد وعن المبسوط ومعطي البيان والمسالك ، لأصالة البراءة ، واستصحاب الصحة وترك الاستفصال في الاخبار السابقة ، الى غير ذلك مما مر سابقا في الفريضة.

ويمكن الفرق بينهما ، بل قد يقوى ، فيتعين القطع فيها دونها بجوازه اختيارا هنا بخلافه في الفريضة ، ومعه يتحقق شرط النقض ، فينقطع الأصل ، وترك الاستفصال انما هو لظهور السؤال في الفريضة ، وإلا لم يتم الأمر بالإتمام مطلقا أو بعد الركوع الظاهر في الوجوب ، لجواز قطع النافلة اختيارا ، وحمله على غير الوجوب مجاز لا قرينة عليه ، على أن تخصيص ما دل على نقض الوجدان للتيمم بما عدا الواجد في الأثناء ولو كان نافلة ليس بأولى من تخصيص ما دل على عدم نقض الواجد في الأثناء بغير المتمكن من القطع كالفريضة ، لكن ذلك انما يتم على تقدير وجوب الاستمرار في الفريضة كما هو الأقوى ، وبه صرح بعضهم ، بل في المدارك نسبته الى المستفاد من الاخبار وكلام الأصحاب ، وإلا فبناء على ما سمعته سابقا من بعضهم من جواز قطعها هنا اختيارا لم يكن فرق بينها وبين النافلة في ذلك.

ومما ذكرنا يظهر لك الحال في الطواف ، إذ المتجه فيه انتقاض التيمم أيضا بوجدان الماء في أثنائه من غير فرق بين الواجب منه والمندوب ، بناء على حصول التمكن من جهة عدم ثبوت حرمة قطعه ، والتشبيه له بالصلاة منصرف الى غيره ، وتيمم الميت لفقد الماء مثلا ينتقض بوجدانه قبل الدفن وان صلي عليه ، لعموم ما دل على وجوب غسله مع عدم ما يصلح للمعارضة ، واحتمال تنزيل الصلاة عليه أو الشروع فيها منزلة التكبير في الفريضة أو الركوع فلا يجب الغسل كما لا يجب في الفريضة إلا لصلاة أخرى ضعيف جدا‌

٢٤٧

وان استشكل فيه العلامة في التحرير بل والقواعد.

نعم قد يقال بعدم وجوب إعادة الصلاة عليه كما في جامع المقاصد وعن نهاية الاحكام وغيرهما ، لاقتضاء الأمر الإجزاء ، بل استوجهه في المعتبر حتى لو وجد الماء في أثناء الصلاة ، وان وجب تغسيله بعد ذلك ، لكن قد يقوى القول بالوجوب في الأول فضلا عن الثاني كما في الموجز والبيان ، وعن الدروس كما عن كشف الالتباس الميل اليه ، لاعتبار وقوع الصلاة بعد الغسل وقد أمكن ، فلا يجزى ما قبله ، ولانكشاف فساد التيمم بالوجدان ، ولذا أعيد الغسل ، فيكون حينئذ كالصلاة عليه قبل تطهيره ، ومن المستبعد ان لم يكن ممنوعا هنا احتمال صحة التيمم بالنسبة إليها دون الغسل.

الخامس المتيمم ولو لغاية خاصة يستبيح جميع ما يستبيحه المتطهر بالماء من الغايات التي تشترط الطهارة أو نوع خاص منها كالغسل للبث في المساجد مثلا في جوازها أو كمالها من غير حاجة إلى تجديد تيمم لكل غاية غاية ، لعموم المنزلة والبدلية ، وانه كالماء لا ينتقض إلا بالحدث أو التمكن من الماء ، وهو عين ما عن المبسوط « إذا تيمم جاز أن يفعل جميع ما يحتاج فعله إلى الطهارة ، مثل دخول المساجد وسجود التلاوة ومس المصحف والصلاة على الجنائز وغير ذلك » انتهى. كما ان قضية كلام غيره ذلك أيضا ، بل لا أعرف فيه خلافا من أحد من الأصحاب بعد فرض كون الغاية مما تستباح بالتيمم ، بل في ظاهر المنتهى أو صريحه الاتفاق عليه.

نعم ربما كان بين الأصحاب بحث في أصل مشروعية التيمم لبعض الغايات كما ستسمعه إن شاء الله ، كالبحث الذي قد أشرنا إليه في النية في أنه هل يعتبر فيه نية الاستباحة من الحدث ، أو نية ما يشترط في صحته ذلك كالصلاة مثلا ، أولا بل يكفي فيه نية ما كان الحدث مانعا عن كماله دون جوازه؟ وقد ذكرنا أن الأقوى عدم اعتبار‌

٢٤٨

شي‌ء من ذلك في المائية والترابية ، وكيف كان فهو خارج عما نحن فيه هنا.

نعم ينبغي أن يعلم أن المراد من استباحة جميع ما يستبيحه المتطهر بالماء ما لو كان مسوغ التيمم موجودا بالنسبة الى كل غاية غاية من المرض وعدم الوجدان ونحوهما بحيث يصح وقوع التيمم لكل منهما ابتداء دون ما ليس كذلك ، فمن تيمم مثلا لضيق الوقت عن استعمال الماء للفرض مثلا لا يستبيح به مثلا مس كتابة القرآن ونحوها ولو حال الصلاة ، لعدم تحقق مسوغ التيمم بالنسبة إليها ، واحتمال القول ـ انه أينما شرع التيمم لاستباحة غاية استبيح به حال بقاء تلك المشروعية سائر الغايات المتوقفة على الطهارة وان لم يصح وقوع التيمم ابتداء لها تمسكا بإطلاق قولهم : يستبيح المتيمم ما يستبيحه بالمائية ، فإن قضيته عدم اشتراط ثبوت مسوغ التيمم لكل غاية غاية ، بل يكفي فيه حصوله بالنسبة إلى غاية خاصة نعم يعتبر فيه بقاء ذلك المسوغ لتلك الغاية الخاصة ، فلا يجوز مس كتابة القرآن في المثال المفروض بعد فعل الفريضة ، لانتهاء مشروعية التيمم حينئذ إما قبله أو في الأثناء ـ فجائز بعيد عن الصواب ، بل مقطوع بفساده من ملاحظة كلام الأصحاب ، وإلا لجاز إيقاع الفريضة بالتيمم لنافلة الزوال إذا ضاق وقتها ولا ماء أو علم عدم التمكن منه فيه مع عدوله عن صلاة النافلة وكان ذلك الوقت واسعا للفريضة ، فيصليها حينئذ بذلك التيمم المشروع للنافلة بضيق وقتها مثلا وان علم وجود الماء في الوقت ، وهو مقطوع بعدمه.

فالتحقيق حينئذ انه يستباح بالتيمم سائر الغايات إذا كان يشرع وقوعه ابتداء لكل غاية غاية باعتبار وجود المسوغ لها جميعها ، وإلا اقتصر في إباحته على خصوص تلك الغاية التي قد ثبت المسوغ لها ، وعليه ينزل كلام الأصحاب ولا يأباه ، وإلا لثبت مشروعية التيمم في الجملة بغير مسوغة ، وهو مناف للنصوص والفتاوى.

وكيف كان فلازم ما في المتن كالذي سمعته عن المبسوط انه يستباح بالتيمم كل

٢٤٩

ما يستباح بالمائية ، كما في الجامع والتحرير والإرشاد والمنتهى والقواعد والموجز والذكرى وجامع المقاصد والروض ومجمع البرهان والمدارك والمفاتيح والحدائق ومنظومة الطباطبائي وعن الخلاف ونهاية الاحكام والبيان والدروس وكشف الالتباس والجعفرية وشرحها والمسالك والدلائل والذخيرة مع اختلاف يسير في التعبير عن ذلك بحيث لا يقدح في المقصود ، إذ مراد الجميع على الظاهر من نحو قولهم : يستباح به ما يستباح بالمائية ـ كما صرح به جماعة منهم الشهيدان والمحقق الثاني والأردبيلي وغيرهم ، بل في الحدائق انه المشهور بين الأصحاب من غير خلاف يعرف فيه كما عن كشف الالتباس إلا من فخر المحققين ـ ان كل غاية منع الحدث أصغر أو أكبر من استباحتها ، بل ولو كمالا وكان الماء مما يرفع ذلك المنع فالتيمم يقوم مقامه عند تعذره ، فيجب حينئذ لوجوب تلك الغاية ويندب لندبها حتى الكون على الطهارة.

نعم قد يستثنى من ذلك التأهب للفريضة ، كما اقتصر على استثنائه في المفاتيح ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا عند البحث على عدم جواز التيمم قبل الوقت.

وأما ما عداه فيجوز حتى التجديد كما عن المعتبر والمنتهى والجامع والنفلية النص عليه ، وان حكي عن نهاية الاحكام والبيان الاشكال فيه ، لكن الأول أولى ، لاشتراكه مع الوضوء في العلة ، ولخبر السكوني (١) « لا يتمتع بالتيمم إلا صلاة واحدة ونافلتها » ‌و‌أبي همام (٢) عن الرضا عليه‌السلام « تيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء ».

بل قد يظهر من المنتهى الإجماع على ما ذكرنا من جوازه لسائر غايات المائية ، حيث قال فيه : « يجوز التيمم لكل ما يتطهر له من فريضة ونافلة ومس مصحف وقراءة عزائم ودخول مساجد وغيرها » ولم ينقل فيه خلافا إلا عن أبي محرمة ، فلم يجوزه إلا لمكتوبة ، والأوزاعي فكره أن يمس المصحف به ، كما أنه قال فيه أيضا : « التيمم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٤.

٢٥٠

مشروع لكل ما يشترط فيه الطهارة ، ولصلاة الجنازة » واقتصر على نقل الخلاف عن بعض العامة في صلاة الجنازة ، بل في المعتبر دعواه صريحا ، حيث قال : « يجوز التيمم لكل من وجب عليه الغسل إذا عدم الماء ، وكذا كل من وجب عليه الوضوء ، وهو إجماع أهل الإسلام » انتهى.

وعن التذكرة بعد أن نص على الجمع بتيمم واحد بين صلاة وطواف ، وصلاتين وطوافين ، قال : « لا خلاف انه إذا تيمم للنفل يعني من الصلاة استباح مس المصحف وقراءة القرآن ان كان تيمم من جنابة » وقال أيضا : « ولو تيمم المحدث لمس المصحف أو الجنب لقراءة القرآن استباح ما قصده » كما انه عنه في النهاية النص على جوازه لكل ما يتطهر له من فريضة ونافلة ومس مصحف وقراءة عزائم ودخول مساجد وغيرها ، وقد تقدم ما عن المبسوط « إذا تيمم جاز أن يفعل جميع ما يحتاج في فعله إلى الطهارة مثل دخول المسجد وسجود التلاوة ومس المصحف والصلاة على الجنائز وغير ذلك » إلى غير ذلك من عبارات الأصحاب الظاهرة فيما قلنا.

فاحتمال كون المراد من تلك العبارة أنه يستباح بكل تيمم شرع بدلا من المائية ما يستباح بها ـ فلا يدل على عموم مشروعيته لكل ما تشرع له المائية ـ بعيد بل باطل قطعا ، كاحتمال كون المراد انه يستباح به ما يستباح بالمائية من صلاة وطواف ، حتى يجوز أن يصلى ويطاف بتيمم واحد عدة منهما فرائض ونوافل ، خلافا لبعض العامة ، وكذا احتمال كون المراد بمعقد إجماع المعتبر المتقدم الذي هو كعبارة الإرشاد « ويجب التيمم لما يجب له الطهارتان » أسباب الطهارتين لا غاياتهما ، إذ مع قصور العبارة عن ذلك يستغنى عنها حينئذ بما ذكر من أنه ينقض التيمم كل ما ينقض الطهارة ، لاتحادهما معنى حينئذ ، على أن ما ذكرنا من قيام التيمم مقام الطهارة المائية مع انه المصرح به في كلمات‌

٢٥١

جملة من الأصحاب ـ هو الموافق لظاهر الأدلة من قوله سبحانه وتعالى (١) بعد بيان التيمم ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) ومن‌خبر السكوني (٢) « يكفيك الصعيد عشر سنين » ‌وفي‌خبر آخر (٣) « الصعيد الطيب طهور المسلم ان لم يجد الماء عشر سنين » ‌و‌في ثالث (٤) « التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج » ‌و‌قول أبي جعفر عليه‌السلام (٥) في الصحيح لزرارة : « التيمم أحد الطهورين » ‌و‌الصادق عليه‌السلام في صحيح حماد (٦) : « هو بمنزلة الماء » ‌وفي‌الصحيح لمحمد بن حمران وجميل (٧) : « ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا » ‌أو لسماعة (٨) فيمن يكون الماء في السفر فيخاف قلته : « يتيمم بالصعيد ، ويستبقي الماء ، فان الله جعلهما طهورا الماء والصعيد » ‌إلى غير ذلك ، وفي‌الفقه الرضوي (٩) « ان التيمم غسل المضطر ووضوؤه ».

فما عساه يظهر من غايات الكتاب والمنتهى وعن التذكرة ونهاية الاحكام من عدم وجوب التيمم إلا للصلاة والخروج من المسجدين ـ بل وكذا القواعد وعن التحرير والإرشاد لكن مع زيادة الطواف فيها فيما يجب له ، بل كاد يكون صريح المنتهى ذلك ، كالمحكي من عبارة نهاية الشيخ ، بل عن الفخر « أن والده لا يجوز التيمم من الحدث الأكبر للطواف ولا مس كتابة القرآن » انتهى. بل نص في المنتهى على عدم مشروعية‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١٢.

(٣) كنز العمال ج ـ ٥ ـ ص ٩٦ ـ الرقم ٢٠٦٤ وفيه « وضوء » بدل « طهور ».

(٤) كنز العمال ج ـ ٥ ـ ص ٩٦ ـ الرقم ٢٠٧٤ مع اختلاف في اللفظ.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٩) فقه الرضا عليه‌السلام ص ٤.

٢٥٢

التيمم لصوم الجنب والحائض والمستحاضة ، كما عنه في النهاية الإشكال فيه ، كالشهيد في الذكرى بالنسبة إلى صوم الجنب ووطء الحائض بعد انقطاع الحيض ، لكن عنه في الألفية الميل إلى العدم في الأول ، وفي الدورس استقرب التيمم في الثاني لزوال الحرمة أو الكراهة ، كما انه احتمله في المنتهى ، لكن عنه في النهاية الجزم بجوازه ، ولعله لقول الصادق عليه‌السلام (١) : « نعم » بعد أن سئل عن المرأة إذا تيممت من الحيض هل يحل لزوجها وطؤها؟و‌خبر أبي عبيدة (٢) « سأله عنها ترى الطهر في السفر وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة ، قال عليه‌السلام : إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم تتيمم وتصلي ، قال : فيأتيها زوجها في تلك الحال؟قال : نعم إذا غسلت فرجها وتيممت » ‌وربما يظهر منهما عدم الاحتياج إلى تجديد التيمم لكل وطء ، كما عن النهاية النص عليه وإن أوجبنا الغسل ، قيل : لأن الجنابة لا تمنع الوطء ، فلا ينتقض التيمم المبيح له. قلت : لكن قد يشكل بانتقاض التيمم بكل ما ينقض الطهارة ولو حدثا أصغر بالنسبة إلى ما هو بدل الأكبر ، ومن ذلك يظهر وجه عدم مشروعية التيمم حينئذ له ، لعدم تأثيره بسبب انتقاضه بأول مسمى الوطء ، لكن قد يمنع في خصوص المقام ، إلا أن الأمر عندنا سهل ، لعدم اشتراط الوطء بالغسل كما مر في محله هذا كله ـ لا يخلو من نظر وتأمل مناف لما سمعته من إطلاق الأدلة ، بل ولما ذكروه في غايات التيمم ، فلاحظ المقامين.

وكذا ما يحكى عن فخر المحققين في الإيضاح من منع مشروعية التيمم للجنب لدخول المسجدين واللبث في المساجد ومس كتابة القرآن ، وقواه الأستاذ في كشف الغطاء ، بل في كل ما كان الموجب لرفع الحدث فيه الاحترام من مس أسماء الله تعالى وقراءة العزائم والوضع في المساجد ونحو ذلك ويجي‌ء على قول الفخر منعه أيضا بالنسبة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الحيض ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الحيض ـ الحديث ١.

٢٥٣

إلى الطواف ، لاستلزامه دخول المسجد كما حكي عنه التصريح به في شرح الإرشاد ، حيث قال : « يبيح التيمم الصلاة من كل حدث ، والطواف من الأصغر خاصة ، ولا يبيح من الأكبر إلا الصلاة والخروج من المسجدين ».

ومنه يفهم أيضا تعميمه ذلك بالنسبة إلى حدث الحيض والاستحاضة ونحوهما ، وفيه مع منافاته لما سمعت أنا لم نعرف له دليلا على ذلك مقيدا سوى ما حكي عنهم في قوله تعالى (١) ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) لجعله الغاية الاغتسال ، وهو ـ مع قصوره عن إفادة تمام المدعى إلا بعدم القول بالفصل ، وقد يمنع ، وابتنائه على كون المراد بالصلاة في ذلك مواضعها ، كما تدل عليه بعض الاخبار (٢) ـ وفيه بحث وارد مورد الغالب ، فلا يكون حجة ، على انه يجب الخروج عنه بما دل على البدلية من الأدلة السابقة ، بل في الآية نفسها ، حيث قال فيها بعد ذلك ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) الى آخره. الظاهر في شموله لتمام ما تقدم ، بل قد يشعر فحوى التيمم للخروج من المسجدين بذلك أيضا.

فظهر لك حينئذ ضعفه كضعف ما في المدارك في مبحث الغايات ، وقد مر هناك فلاحظ ، فالأقوى قيامه مقام كل طهارة مائية بالنسبة الى جميع الغايات عدا ما عرفت من غير فرق بين غاية رفع حدث خاص أو سائر الأحداث ، كل ذلك للأدلة السابقة من الاخبار وغيرها ، بل قد يظهر من إطلاق بعضها قيامه مقام غير الرافع من المائية أيضا ، كوضوء الحائض والجنب والأغسال المندوبة ، كما نص عليه في مجمع البرهان في البعض كغسل الزيارة ونحوه كظاهر المفاتيح وقربه الأستاذ في كشف الغطاء ، لكن قال : إن خلافه أقرب ، وعن المبسوط والقواعد النص على بدليته عن غسل الإحرام ،

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٤٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ الحديث ٢٠.

٢٥٤

كجامع المقاصد النص عليه في أول كتابه بالنسبة إلى ذكر الحائض ، قال فيه : « لا إشكال في استحباب التيمم إذا كان المبدل رافعا أو مبيحا ، إنما الإشكال في سوى ذلك ، والحق ان ما ورد به النص أو ذكره من يوثق به من الأصحاب كالتيمم بدلا من وضوء الحائض يصار اليه ، وما عداه فعلى المنع إلا أن يثبت بدليل ».

قلت : قد يقال : ان الدليل ـ بعد التسامح والأولوية من رفع الحدث واستبعاد سقوط هذه المستحبات أصلا لغير المتمكن وغير ذلك ـ إطلاق بعض الأدلة السابقة فتأمل.

( السادس إذا اجتمع ميت ومحدث بالأصغر ولو متعددا وجنب ومعهم من الماء ما يكفي أحدهم فإن كان ملكا لأحدهم اختص به وحرم تناول الغير له ان كان للميت وان وجد وارثه ، لخروج ماء الغسل من أصل المال ، كما انه يحرم على كل من الأخيرين بذله لغيره مع تحقق الخطاب باستعماله وضيقه ، بل وسعته مع عدم الرجاء لغيره ، بل ومع الرجاء ما لم يعلم المكنة في وجه تقدم سابقا ، وكذا لا يجب على كل منهما بذله حتى لتغسيل الميت وان لم يتحقق الخطاب عليهما باستعماله ، بناء على ما تقدم سابقا من وجوب مؤن التجهيز في ماله ، وانها لا يجب بذلها على أحد مطلقا.

وان كان الماء ملكا لهم جميعا وكان لا يكفي حصة كل منهم لتمام المطلوب ، ولم يعلم المكنة مما يكملها ، وقلنا بعدم وجوب الممكن من أغسال الميت ، أو يفرض عدم إمكان ذلك وإن أمكن غسل بعض الاجزاء لكن لا عبرة به كما لا عبرة به في غسل الجنابة أو كان الماء مباحا لا مالك له واشترك فيه المحدث والمجنب بمبادرتهما اليه وإثبات أيديهما عليه دفعة وحدهما أو مع غيرهما ، إذ يصير حينئذ ولو بتغلب وقهر للآخر كسابقه أو كان مع مالك يسمح ببذله فالأفضل تخصيص الجنب به أي الماء المبذول أو المشترك بينه وبين المحدث ووارث الميت ، ويؤمم الميت ويتيمم المحدث ، لعظم حدث الجنابة ، ولأن غاية غسله فعل الطاعات كاملة ، بخلاف غسل

٢٥٥

الميت ، فان غايته التنظيف ، مع انه سنة وغسل الجنابة فريضة ، فيقدم عليه ، لأنه أهم ، وللأمر به كما ستعرف.

ولصحيح ابن أبي نجران (١) على ما في الفقيه ، فلا يقدح إرساله في التهذيب « سأل أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن ثلاثة نفر كانوا في سفر ، أحدهم جنب ، والثاني ميت ، والثالث على غير وضوء وحضرت الصلاة ، ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم ، من يأخذ الماء؟ وكيف يصنعون؟ قال : يغتسل الجنب ، ويدفن الميت بتيمم ، ويتيمم الذي هو على غير وضوء ، لان الغسل من الجنابة فريضة ، وغسل الميت سنة ، والتيمم للآخر جائز ».

و‌خبر التفليسي (٢) « سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ماء يكفي أحدهما ، أيهما يغتسل؟ فقال : إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض ».

كخبر الحسين بن النظر الأرمني (٣) المروي عن التهذيب والعلل والعيون قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن القوم يكونون في السفر ، فيموت منهم ميت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما ، أيهما يبدأ به؟ قال : يغتسل الجنب ويترك الميت ، لان هذا فريضة وهذا سنة » ‌الحديث.

وقيل لكن لم نعرف قائله كما اعترف بذلك بعضهم يختص به الميت لكون غسله خاتمة طهارته ، ولان من غايته أيضا نظافة الميت ورفع نجاسة مما لا يقوم التيمم مقامه ، ولان الموت جنابة فيقدم على المحدث ، و‌للمرسل (٤) عن الصادق عليه‌السلام قال : « قلت له : الميت والجنب يتفقان في مكان ، لا يكون الماء إلا بقدر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥.

٢٥٦

ما يكفي أحدهما ، أيهما أولى أن يجعل الماء له؟ قال : يتيمم الجنب ويغسل الميت بالماء ».

ومن هنا قال المصنف في ذلك تردد لكن لا ريب في ضعفه ، لمعارضة ما ذكر من الاعتبار بمثله ، وقصور مرسله بالنسبة للصحيح المتقدم المعتضد بالخبرين ، وبما فيه وفيهما من التعليل ، وبالشهرة بين الأصحاب قولا ، والرواة رواية ، وإمكان تأويل المرسل وإرجاعه للأول ، كخبر أبي بصير (١) قال : « سألت الصادق عليه‌السلام عن قوم كانوا في سفر فأصاب بعضهم جنابة وليس معهم من الماء إلا ما يكفي الجنب لغسله ، يتوضؤون هم هو أفضل ، أو يعطون الجنب فيغتسل وهم لا يتوضؤون؟فقال : يتوضؤون هم ويتيمم الجنب » ‌إذ يمكن حمله على كون الماء لهم ، أو كون حصة كل منهم تكفي لوضوئه ، مع أنا لم نعثر على من عمل به بالنسبة الى ذلك ، بل ظاهرهم الاتفاق كما قيل على تقديم الجنب عليه ، أو الميت لو كان ، بل في المحكي عن التنقيح الإجماع على تقديم سائر أنواع الأكبر عليه.

ومن ذلك كله يظهر ضعف ما في الخلاف وعن المبسوط ، لكن أبدل المحدث بالحائض فيهما من القول بالتخيير معللا في الأول بأنها فروض اجتمعت وليس بعضها أولى من بعض ، فتعين التخيير ، لان الروايات اختلفت على وجه لا ترجيح فتحمل عليه ، لما عرفت من ظهور الرجحان ، ولعل مراد الشيخ نفي الأولوية الإلزامية لا الندبية ، فلا يكون حينئذ مخالفا ، قال في المعتبر : « وما ذكره الشيخ ليس موضع البحث ، فانا لا نخالف أن لهم الخيرة ، لكن البحث في الأولى أولوية لا تبلغ اللزوم » إلى آخره.

وصريحه كصريح بعض من تأخر عنه أن محل النزاع في الأفضلية ، بل قد تشعر عبارته بالإجماع على عدم الوجوب ، وبه يوهن احتمال الأخذ بظاهر الأمر في الاخبار السابقة ، والخروج بذلك عما تقتضيه أصول المذهب من تسلط الناس على أموالهم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

٢٥٧

وعدم تسلط أحد منهم على أحد في ذلك.

قلت : وهو متجه في المشترك أو المبذول ، لأصالة براءة الذمة وغيرها من تعيين ذلك على ملاكه ، بل لعل الاخبار لا تشملهما كما ستعرف ، أما لو كان الماء مباحا أصليا أو من مالك على جهة الإطلاق من غير تعيين ودار الأمر بين رفع الجنابة وتغسيل الميت مع وجوبهما معا عليه فقد يتأمل حينئذ في جواز تغسيل الميت به والتيمم للجنابة ، سيما إذا حازه وملكه ، لظاهر المعتبرة السابقة ، ولصدق اسم الواجد ، وإيجاب غسل الميت عليه مع ترجيح الشارع رفع الجنابة لا ينافيه ، ولعله لذا كان ظاهر الموجز وجوب تقديم الجنب فيه.

كما انه قد يتأمل في إطلاقهم تقديم الجنابة مع أن المتجه وجوب تقدم التغسيل في حال عدم وجوب رفعها ، كما لو كان قبل الوقت.

وكذا التأمل فيما يستفاد من عبارة المصنف ونحوها من استحباب تخصيص الجنب بالماء المباح إن أريد بذلك عدم مزاحمة المحدث إلى حيازته ، إذ المتجه وجوب المبادرة على كل منهما مقدمة للواجب من الطهارة عليه.

وكذا ينبغي التأمل في المراد من الاستحباب هنا هل هو تكليفي يحتاج إلى مخاطب به ولو الجنب نفسه فلا يثبت في مال الشريك لو كان طفلا ونحوه ، أو مالي كاستحباب الحبوة وزكاة مال الطفل؟ ظاهر بعض الأصحاب الأول ، ولعل ظاهر الروايات (١) الثاني ، وكان منشأ الإجمال وعدم التفصيل في هذه الاخبار ، مع ظهور السؤال فيها باشتراك الماء بين الميت وغيره عدم المداقة في أمر الماء ، وبنائه على التسامح فيه وعلى المتعارف في ذلك الزمان من عدم اختصاص كل شخص من المسافرين بماء على حدة بل كان يجمع كل جماعة منهم ما يحتاجون اليه من الماء في مكان واحد ، بل لا يقصد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب التيمم.

٢٥٨

من حازه الاختصاص به والملكية له دون أصحابه ، ولا يداق بعضهم بعضا بالنسبة إلى كثير الاحتياج اليه وعدمه ، ولذا لم تقع الإشارة في شي‌ء من هذه الاخبار إلى تعرض لذلك ، بل أمروا فيها باغتسال الجنب مع غلبة تعدد وارث الميت وعدم حضوره وطفوليته.

ولعله لما ذكرنا من الإجمال في تلك الروايات سؤالا وجوابا ، بل ربما يخالف ظاهرها أصول المذهب وقواعده أعرض عنها ابن إدريس في سرائره ، حيث قال بعد أن نسب ما عليه المشهور إلى الرواية : « والصحيح أن هذا الماء إن كان مملوكا لأحدهم فهو أحق به ، ولا يجب عليه إعطاؤه لغيره ، ولا يجوز لغيره أخذه منه بغير اذنه ، وان كان موجودا مباحا لكل من حازه فهو له ، فان تعين عليهما تغسيل الميت ولم يتعين أداء الصلاة لخوف فواتها وضيق وقتها فعليهما أن يغسلاه بالماء الموجود ، وان خافا فوات الصلاة فإنهما يستعملان الماء ، فإن أمكن جمعه ولم يخالطه نجاسة عينية فيغسلانه به على ما بيناه من قبل في الماء المستعمل في الطهارة الصغرى على الصحيح من المذهب » انتهى.

لكن في كشف اللثام ان ذلك منه ليس طرحا لاخبار المشهور ، بل تنزيل لها على ما لا يبعد عنها ولا يأباه الشرع والاعتبار ، قلت : إلا أن فهم أكثر الأصحاب على خلافه ان لم نقل هي ظاهرة فيه أيضا أو صريحة ، نعم ما أشار إليه في آخر كلامه من جمع المستعمل مع إمكانه وتغسيل الميت به مثلا إن أمكن جيد ، وقد نص عليه بعض الأصحاب ، وخلو الاخبار عن التعرض له لعله لعدم تيسر ذلك غالبا.

فما في الذكرى ان فيها إشارة إلى عدم طهورية المستعمل وإلا لأمر بجمعه يدفعه ما سمعت ، هذا.

وكان اقتصار المصنف كبعض الأصحاب على خصوص هذه الصورة من بين صور الجمع والتعارض انما هو لمكان ورود الاخبار بها في الخصوص ، وإلا فالصور الحاصلة ـ من اجتماع المحدث بالأصغر مع أنواع الأكبر من الحيض والمس وغيرهما ،

٢٥٩

بل هي في نفسها أيضا وبالنسبة إلى الميت وإلى مريد إزالة النجاسة عن ثوبه وبدنه ان لم يتم الإجماع المحكي عن المعتبر والمنتهى والتذكرة على تقديم الأخير على رفع الحدث الأصغر وغير ذلك ـ كثيرة ، لكن مدار الترجيح فيها جميعا بعد فرض عدم الدليل بالتخصيص على وجوه لا تخفى ، كعظم الحدثية وعدمها ، ومشروعية البدل وعدمه ، وتعدد الغايات وكثرتها ، وكون الوجوب بالفرض وعدمه ، ونحو ذلك وان كان في ثبوت الأولوية والرجحان بحيث ينصرف اليه الوصايا والنذور والايمان والبذل ونحوه من بعضها مع كون التعارض من وجه لا يخلو من نظر ، وقد تعرض جماعة من الأصحاب لجملة منها.

نعم في المحكي من عبارة التنقيح الإجماع على تقديم الأكبر على الأصغر ، ولولاه لأمكن ترجيحه على بعضها بأنه فرض وغيره سنة ، بل وعلى غسل الميت أيضا بذلك ، اللهم إلا أن يرجح عليه بما ورد من تعليل غسل الميت على نحو غسل الجنابة بخروج النطفة منه عند الموت ، فيكون حينئذ كالجنابة ، فيرجح عليه حينئذ ، بل وغيره مما يرجح عليه غسل الجنابة ، فتأمل.

وقد يظهر من بعضهم الرجوع في جملة من هذه الصور إلى القرعة ، وهو لا يخلو من وجه لو علم تعينه في الواقع واشتبه ، لكنه أحوط على كل حال.

الحكم السابع الجنب إذا تيمم لفقد الماء أو غيره بدلا من الغسل ثم أحدث أعاد التيمم بدلا من الغسل سواء كان حدثه أصغر أو أكبر فلا يتوضأ حينئذ لو وجد ماء له خاصة على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا شهرة كادت تكون إجماعا ، إذ لم أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن المرتضى في شرح الرسالة من عدم وجوب إعادة المحدث بالأصغر ، بل يتوضأ ان وجد الماء له خاصة ، وإلا تيمم عنه لا عن الغسل ، لارتفاع حدث الجنابة بالتيمم سابقا لها وعدم إيجاب هذا الحدث غير الوضوء ، مع أن‌

٢٦٠