جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

على حسب الغسل في الوضوء ، بل في الكفاية والحدائق أنه المشهور ، وشرح المفاتيح نسبته الى ظاهر الأصحاب ، كالمنتهى الى ظاهر عبارة المشايخ ، وهو كذلك ، بل لعله ظاهر المحكي عن الأمالي منسوبا الى دين الإمامية وان احتمل فيها كالمتن وبعض العبارات أو جميعها التحديد للممسوح للمنزلة والبدلية المشعرة بالمساواة في الكيفية ، سيما بعد‌قوله عليه‌السلام (١) : « التيمم نصف الوضوء » ‌وللمنساق الى الذهن من التيممات البيانية للسائل عن الكيفية ، بل لا يخطر بالبال غيره قبل التنبيه ، سيما مع ملاحظة كيفية الوضوء ، فلا يقدح عدم النصوصية في شي‌ء منها على الابتداء بالأعلى حتى يتأسى به ، على أنه لو وقع في البيان لذلك السائل ابتداء بغير الأعلى لنقله ، لظهور سؤاله بإرادة الاقتداء بخصوص ما وقع من ذلك الفعل المشخص ، وانه لم يكتفبإطلاق المسح الواقع في الكتاب والسنة ، ولا أنكر عليهم في السؤال له ، فيعلم منه عدم كفايته أو يشك ، وللاحتياط اللازم المراعاة هنا سيما بعد ما عرفت من فتوى الأصحاب نصا وظاهرا ، و‌الرضوي (٢) « تمسح بهما وجهك موضع السجود من مقام الشعر الى طرف الأنف » ‌وان احتمل التحديد للممسوح أيضا ، فما عن مجمع البرهان من القول بعدم الوجوب كما عساه يظهر من المدارك للإطلاق لا يخلو من نظر.

ثم انه مر في الوضوء في كيفية الابتداء بالأعلى ما يغني عن الإعادة ، لظهور اتحادهما في ذلك بناء على القول به ، كاتحادهما أيضا في حكم الجبيرة بلا خلاف أعرفه فيه ، كما أنه قد مر في الضرب باليدين ، ويأتي في المسح عليهما ما يغني تأمله عن كثير مما ذكر هنا ، كالمسح بالكفين في حالتي الاختيار والاضطرار ، وكالنجاسة على الجبهة أو على الماسح متعدية أولا ، ونحو ذلك ، فلاحظ وتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

٢٠١

و ( ثالثها ) مسح كل من اليدين في الجملة ضرورة من المذهب ان لم يكن من الدين ، والكفين ومن الزندين إلى رؤوس الأصابع على المعروف بين الأصحاب ، بل في ظاهر الانتصار أو صريحه كصريح الغنية وعن الناصريات الإجماع عليه ، كما في المحكي عن الأمالي بعد نسبته للرواية (١) انه مضى عليه مشايخنا ، بل عنه أيضا انه من دين الإمامية للتيمم البياني قولا وفعلا في المعتبرة المستفيضة جدا إن لم تكن متواترة ، بل في‌صحيح زرارة (٢) منها عن الباقر عليه‌السلام « ثم مسح وجهه وكفيه ولم يمسح الذراعين بشي‌ء » ‌وهو نص في خلاف ما حكاه المصنف وغيره منسوبا إلى علي بن بابويه من وجوب مسح الذراعين أيضا حتى قال من جهته والأول أظهر وكان اللائق به القطع بفساده لما عرفت ، وللباء في الآية الشريفة المفسرة بالصحيح (٣) السابق ، ولعدم قدح خلافه بعد معروفية نسبه في تحصيل الإجماع هنا ، سيما مع عدم تحققه أيضا بقرينة ما سمعته من ولده في الأمالي هنا وفي الوجه ، ونصه في الهداية والفقيه وعن المقنع بخلافه من غير تردد ، مع عظم منزلة والده خصوصا عنده.

كما أن اللائق القطع برد ما يشهد له ، أو حمله على التقية ، مما في‌خبر ليث المرادي (٤) عن الصادق عليه‌السلام في التيمم « وتمسح بهما وجهك وذراعيك » ‌و‌مضمر سماعة (٥) في الموثق « فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين » ‌جواب سؤاله عن كيفية التيمم ، و‌صحيح ابن مسلم (٦) عن الصادق عليه‌السلام عن التيمم « ثم ضرب بشماله الأرض ، فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع ، واحدة على ظهرها ، وواحدة على بطنها ، ثم ضرب بيمينه الأرض ، ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه » ‌الحديث.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥.

٢٠٢

عملا بما ورد (١) منهم عليهم‌السلام من العرض على كتاب الله والتمسك بما وافقه ، وعلى مذهب العامة والأخذ بما خالفه ، واحتمال المرفق في الصحيح الزند ، واشتماله على تثليث الضربات ، والطعن في سند الأول والثاني بالإضمار وغيره ، واحتمالهما إرادة بيان الحكم لا الفعل كما عن الشيخ أي كأنه غسل ذراعيه في الوضوء.

فلا وجه بعد ذلك وما تقدم للجمع بينها وبين ما دل على الأول بالتخيير وإن أمكن أن لا يكون مما بين الأقل والأكثر ، بل لعله خرق الإجماع المركب والبسيط ، وما في المعتبر « إن الحق عندي أن مسح ظاهر الكفين لازم ، ولو مسح الذراعين جاز ، عملا بالاخبار كلها لأنه أخذ بالمتيقن » لا يريده ، بل مراده الاحتياط كما يشعر به تعليله ، وهو غير التخيير ، ولا بأس به في حقه ، لعدم قطعه ، أو الاستحباب كما عن المنتهى والمدارك احتماله ، بل عن كشف الرموز الحكم به حاكيا له عن الحسن بن عيسى ، وإن كان لا يقدح فيه ظهور الخبر في التقية ، للتسامح الذي قد يكتفى من جهته بالاحتمال على بعض الوجوه ، وعليه بني استحباب الوضوء من بعض أسباب العامة ، لكن إعراض الأصحاب عن ذلك هنا يمنع الحكم به.

وما في الحدائق ـ ان أصحابنا جمعوا بين هذه الاخبار بالتخيير أو الاستحباب ، ثم أخذ بذكر التعجب منهم وما لا يليق به منه إليهم من غير مقتض ـ لم أتحققه من أحد منهم ، ولو ثبت ما حكاه لكان الحري بالاتباع ، إذ بفتاواهم تعرف أسرار الاخبار ، وينكشف عنها الغبار ، كما إني لم أتحقق ما حكاه في السرائر عن قوم من أصحابنا أن المسح على الكفين من أصول الأصابع إلى أطرافها ، ونسبه في كشف اللثام إلى القيل ، وهو محجوج بجميع ما تقدم من الاخبار ومحكي الإجماع ، بل لعله كسابقه لا يقدح في المحصل منه ، وان جهل نسبه عندنا ، لكنه مع عدم اعتبار ذلك في الإجماع عندنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.

٢٠٣

معروف عند ناقله على الظاهر وانه غير الامام ، ولذا لم يكترث به.

مع أنه قد يشهد له‌مرسل حماد بن عيسى (١) « ان الصادق عليه‌السلام سئل عن التيمم فتلا هذه الآية ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (٢) وقال ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (٣) قال : فامسح على كفيك من حيث موضع القطع ، وقال ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (٤) ‌مع إمكان حمل روايات الكف عليه.

لكنه مع قصوره عن معارضته ما تقدم بالإرسال وغيره انما يتم لو كان « حيث » مضافا إلى لفظ « موضع القطع » والفصيح إضافته إلى الجملة ، والمعنى من حيث الكف موضع القطع ، فكأنه عليه‌السلام استدل على أن المسح على الكفين بأن اليد مع الإطلاق يتبادر منها الكف ، وإذا أريد الزائد عليها نص عليه بدليل آيتي السرقة والوضوء ، مع احتماله أيضا الإلزام للعامة ، وتعليم الاستدلال عليهم ، فيراد حينئذ موضع القطع عندهم ، أو غير ذلك ، فلا يعارض ما سمعت.

كما أنه لا يعارضه السؤال عن كيفية التيمم في الصحيحين عن الصادق عليه‌السلام بعد أن حكى قصة عمار وقبله « فمسح وجهه ويديه فوق الكف قليلا » وان ظهر من الفقيه الفتوى بهما في بدل الجنابة خاصة ، ولعله لاشتمالهما على قصة عمار ، بل مطلقا عن المقنع لإطلاق السؤال فيهما عن كيفية التيمم ، لوضوح قصورهما أيضا عن معارضة ما تقدم ، واحتمالهما ككلام الصدوق المسح فوقها من باب المقدمة ، فلا خلاف منه حينئذ ، وان السائل رآه يمسح فوقها وإن لم يكن مسح إلا عليها ، وان يكون « قليلا » صفة مصدر محذوف ، أي مسحا قليلا أي غير مبالغ في إيصال الغبار إلى جميعها ، وفوق الكف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٢) سورة المائدة ـ الآية ٤٢.

(٣) سورة المائدة ـ الآية ٨.

(٤) سورة مريم ـ الآية ٦٥.

٢٠٤

حينئذ بمعنى على ظهرها ، فيكون شاهدا حينئذ على ما ذكره المصنف وغيره من أن محل المسح ظهر الكفين لا المجموع ، بل في المدارك والحدائق أن ظاهرهم الإجماع عليه ، وفي الانتصار نسبته إلى الإمامية ، كما عن كشف الرموز إلى عمل الأصحاب ، بل هو بعض معقد المحكي عن الأمالي من النسبة إلى من مضى من مشايخنا.

ويدل عليه مع ذلك ما في‌صحيح زرارة (١) المروي في مستطرفات السرائر « ثم مسح بكفيه كل واحدة على ظهر الأخرى » ‌كحسن الكاهلي (٢) ولا ينافيها إطلاق الكف في غيرها ، لوجوب تنزيلها عليه بعد ما عرفت ، سيما وفي‌بعضها (٣) « على كفيه ».

نعم يجب الاستيعاب كالجبهة من غير خلاف يعرف فيها ، بل في المنتهى نسبته إلى علمائنا ، لتبادره من النصوص والفتاوى وإن كان ربما يتأمل في ترك بعض ما لا يخرجه عن مسمى مسحه عرفا ، سيما بعد ظهور التيممات البيانية في عدم التدقيق بذلك ، والاجتزاء بالمسح مرة واحدة ، ولعله لذا اكتفى في مجمع البرهان بمسح ظهر الكف مرة واحدة مع عدم التهاون والتقصير في الاستيعاب وان لم يستوعب جميع الظهر بحيث انتفى ما بين الأصابع ، سيما ما بين السبابة والإبهام وبعض الخلل ، لكنه لا يخلو من تأمل ان أراد غير ما ذكرنا ، بل وان أراده أيضا ، لما عرفت من الإجماع ظاهرا ، بل لعله محصل على وجوب الاستيعاب ، على أن ذلك الصدق من المسامحات العرفية في نفس الإطلاق ، نعم لا يجب استيعاب مسح الممسوح بتمام الماسح كما تقدم في الجبهة ، وبه صرح جماعة ، لصدق الامتثال ، خلافا للمحكي عن مجمع البرهان ، وربما توهمه بعض العبارات ، ولعله لدعوى التبادر من المسح بالكف ، وفيه منع واضح.

نعم يجب المسح بالباطن كالضرب ومسح الجبهة بلا خلاف يعرف فيه للتبادر ، كما أنه مع التعذر فبالظاهر ، وقد مر البحث فيه في الضرب.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٦.

٢٠٥

ولو تجدد العذر بعد مسح الوجه ولم يفتقر مسح اليدين إلى ضربة أخرى فالأحوط بل المتعين الاستئناف ، لظهور الأدلة في المسح بما يضرب به.

ولو تجدد بعد الضربة الثانية قبل المسح احتمل الاكتفاء بضرب الظهر مرة أخرى ، ولو تعذر الظهر احتمل صيرورته كالاقطع ، والتولية ، وكونه فاقد الطهورين ، والجميع للاحتياط ، ولم أعرف من احتمل هنا جواز الضرب له بغير الظهر من الذراع كما احتمل في ما مسح الوضوء ، وقد مر هناك ما له نفع هنا ، كما أنه قد مر في حكم الجبائر وما في حكمها منه ما يغني عن التعرض لها. على أنه لم أعرف خلافا فيه هنا أيضا ، بل قد ذكرنا هناك ان مطلق الحاجب وان لم يكن من الجبائر وما في حكمها ينتقل اليه حكم المحجوب مع تعذر إزالته أو تعسره ، ولكن الاحتياط لا يترك ، كما أنه قد مر في الجبهة من البحث في الابتداء من الأعلى ما يظهر منه الحكم في الابتداء من الزند هنا ، لاتحادهما في أكثر ما ذكر هناك ، ومن هنا لم يفرق أحد بينهما إلا من ندر من بعض متأخري المتأخرين كأصل الخلاف فيه أيضا.

وكذا مر في الضرب باليدين من البحث عن حكم النجاسة ما يكتفى به هنا ، وذكرنا أن المختار عندنا جواز المسح عليها مطلقا مع تعذر الإزالة ، سواء كانت حاجبة أولا ، ومتعدية أولا ما لم تستلزم نجاسة التراب ، بل ومعها في احتمال ، وفي آخر التولية أو السقوط في خصوص ذلك العضو ، أو يكون فاقد الطهورين ، أو غير ذلك وان كان تفصيل البحث في هذه الفروع مما يحتاج إلى تطويل وإطناب ، خصوصا بالنسبة للنجاسة باعتبار عروضها للماسح فقط مع الاستيعاب وعدمه ، والتعدي وعدمه ، والحجب وعدمه ، أو للممسوح فقط كذلك ، أو للجميع ، وبالنسبة إلى صور التعذر أيضا كذلك ، لكن التأمل في مطاوي كلماتنا في الضرب وفي الجبائر وفي ماسح الوضوء وغيرها يظهر منه حكم كثير من ذلك ، إلا أن الاحتياط لا بد منه ، لعدم وضوح استنباطها‌

٢٠٦

بحيث يطمئن إليه الفقيه ، إذ لا دليل خاص فيها ، والأصول وقاعدة انتفاء المركب كقاعدة الميسور وغيرها متصادمة ، مع عدم التنقيح والتحرير لشي‌ء منها هنا ، والله ورسوله وحججه ( صلوات الله عليهم ) أعلم.

كما أنه يظهر لك مما تقدم في الوضوء من حكم اليد الزائدة والأصلية واللحم المتدلي من غير محل الفرض والنابت فيه وغير ذلك ، وكذا حكم الشعر ، وان الأقوى عدم وجوب استبطانه هنا ، حتى لو كان التيمم بدل الغسل ، وحتى لو كان فيما لا ينبت فيه غالبا كالجبهة ، بل يمكن القول بعدم وجوب استبطان شعر الأغم ، وهو من كان قصاص شعره على بعض الجبهة أيضا ، للعسر والحرج وغيرهما ، فتأمل جيدا.

ويجزئ في ما هو بدل الوضوء من التيمم ضربة واحدة بباطن كفيه على حسب ما تقدم لجبهته وظاهر كفيه ، ولا بد فيما هو بدل من الغسل عن جنابة أو حيض ونحوهما من ضربتين واحدة للجبهة ، وأخرى لظاهر الكفين وقيل كما عن ظاهر المفيد في الأركان وعلي بن بابويه بل عن المنتقى أنه مذهب جماعة من القدماء في الكل ضربتان ، وقيل كما في ظاهر الهداية والغنية وصريح جمل المرتضى كما عن شرح الرسالة له وغرية المفيد والقديمين والمعتبر والذكرى وظاهر المقنع والكليني في الكافي والقاضي في الكل ضربة واحدة ، والتفصيل أفضل ، والأول أشهر وأظهر بل هو المشهور نقلا وتحصيلا بين المتقدمين والمتأخرين شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل لعل ظاهر التهذيب كالمحكي عن التبيان ومجمع البيان دعواه ، كما عن الأمالي نسبته إلى دين الإمامية الذي يجب الإقرار به ، وفي الذكرى إلى عمل الأصحاب ، وعن كشف الالتباس وشرح الجعفرية إلى المتأخرين.

قلت : وهو كذلك ، بل لم يعرف مفت بغيره منهم في سائر كتبهم إلى زمن الأردبيلي والكاشاني الذين هما أول من فتحا باب المناقشة للأصحاب ، مع أن أولهما‌

٢٠٧

قال : هو أحوط وأولى ، وما نسب إلى المعتبر والذكرى من الاجتزاء بالمرة فهو وهم قطعا كما لا يخفى على من لاحظهما ، وتبعهما بعض متأخري المتأخرين كالمجلسي في بحاره ، والسيد في مداركه ، والمحدث البحراني في حدائقه ، والفاضل المعاصر في رياضه ، فاجتزوا بالمرة في الجميع ، وأعرضوا عما عليه المتأخرون ، بل لعله بين القدماء كان كذلك أيضا ، كما نسبه في حاشية المدارك إلى أغلبهم ، ويشعر به ما سمعته عن الأمالي وغيره ، ومنه مع تصريحه به في الفقيه الذي قد ذكر في أوله أنه لا يفتي فيه إلا بما يعلمه حجة بينه وبين ربه يقوى عدم إرادته غيره من ظاهر الهداية والمقنع ، سيما مع غلبه تعبيره بهما بمتون الاخبار فلاحظ ، كشيخه الكليني وان اقتصر في ذكر صفة التيمم على غير المشتمل على المرتين ، إذ لعله كان من الواضحات عنده ، وابن زهرة وان كان في أول كلامه الاجتزاء بالمرة لكنه قال بعد ذلك : « قد روى أصحابنا ان الجنب يضرب ضربتين ، إحداهما للوجه ، والأخرى لليدين ، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك » انتهى. ولعله يوجبه هنا ، كما ان المرتضى في الجمل قال بعد ذكر ما ظاهره الاجتزاء بالمرة : « وقد روي أن تيممه ان كان من جنابة أو ما أشبهها ثنى ما ذكرناه من الضربة ومسح الوجه واليدين » ولعل عمله عليها ، على انه نقل عنه في المصباح موافقة المشهور ، كالمفيد في مقنعته كذلك ، ولم يحضرني الغرية وشرح الرسالة ككلام القديمين والقاضي ، وليس النقل كالعيان ، مع أني لم أعرف من حكاه عن الأخير إلا سيد الرياض ، كما انه لم يحضرني الأركان ، ولا كلام والد الصدوق المنسوب إليهما القول بالمرتين ، مع أن المحكي من عبارة الأخير وجوب الثلاث ، كما حكاه في المعتبر عن قوم منا لنا ، لتعبيره بمضمون‌صحيح ابن مسلم (١) عن الصادق عليه‌السلام عن التيمم « فضرب بكفيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥.

٢٠٨

على الأرض ، ثم مسح بهما وجهه ، ثم ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع ، واحدة على ظهرها ، وواحدة على بطنها ، ثم ضرب بيمينه الأرض ، ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه » ‌الحديث.

لكنه قد يقال : إنه لا صراحة فيه كالصحيح أيضا بالتثليث ، بل هما ضربتان ، وان فرق في آلتهما بالنسبة لليدين ، ولذا نسب اليه القول بالمرتين في جملة من الكتب ، ويؤيده غلبة اتحاد كلامه مع فقه الرضا عليه‌السلام ، والموجود فيه المرتان ، ولعله يجيز هذا التفريق كالشيخ في الاستبصار ، حيث حمل الصحيح على ذلك ، وقال : إنه لا ينافي القول بالضربتين ، وكذا الحر في وسائله ، وهو لا يخلو من قوة في خصوص ضربة اليدين ما لم تفت الموالاة ، وان كان المنساق من الأدلة الضرب بهما دفعة ، وفي المعتبر بعد ذكره الصحيح أيضا « انا لا نمنعه جوازا » انتهى. وليس ذا محل البحث فيه.

نعم قد يقال : إنه ليس من ذوي الضربتين مطلقا وان نسب اليه ذلك ، لما تقدم عن الأمالي من نسبة المشهور إلى الإمامية ، مع ان والده عنده بتلك المكانة ، ولظهور تعبيره بمضمون الصحيح السابق في كونه مستنده ، وذيله قد استدل به الشيخ في تهذيبه واستبصاره على القول بالتفصيل ، كما عن غيره أيضا ذلك ، وكأنه لما فيه بعد ما تقدم بلا فصل « ثم » قال : هذا التيمم على ما كان فيه الغسل ، وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين ، وألقي ما كان عليه مسح الرأس والقدمين ، فلا يؤمم بالصعيد ، ولا ينافيه اشتماله على مسح الذراعين ، فقد يكون والد الصدوق رحمه‌الله نظر إلى ما نظر اليه الشيخ في هذا الصحيح ، فيكون من المفصلين أيضا.

لكن لا يخفى عدم وضوح المراد بما بعد لفظ الغسل بناء على ما فهم الشيخ من الصحيح إلا بتكلف سمج ، إلا أنه لعله لا يقدح في الاستدلال بما قبله ، ولو لا اعتراض الواو بل والإشارة لأمكن بل لتعين أن يكون بفتح الغين من الغسل على معنى أن التيمم‌

٢٠٩

على المغسول من الوضوء دون الممسوح ، فلا يصلح دليلا للتفصيل حينئذ ، ولعل بعض النسخ بدون الواو على ما قيل ، بل فيما حضرني من نسخة الوافي ذلك إلا أن الذي وقفت عليه من نسخة التهذيب والاستبصار والوسائل بالواو.

وكيف كان فحجة المشهور ـ بعد قاعدة الشغل فيما هو بدل الغسل ، وظواهر الإجماعات السابقة المؤيدة بتلك الشهرة العظيمة المستقيمة المستمرة في برهة الزمان الطويل ، مع غلبة اختلاف أقوال أهله في الكتاب الواحد فضلا عن الكتب المتعددة خصوصا العلامة ، ولذا قد يظن معها انقراض الخلاف ، كما انه يستبعد معها خفاء مثل هذا الحكم عليهم مع كثرة الاحتياج إلى التيمم ، سيما مع قرب العهد من مثل الصدوق رحمه‌الله ونحوه حتى نسبه إلى دين الإمامية ، ووقوعه في مثل النهاية وغيرها كما قيل مما هي متون أخبار ، وفتوى من لا يعمل إلا بالقطعيات به كابن إدريس وغيره حتى قال في السرائر انه الأظهر في الروايات والعمل ، وبه أفتي ونسب القول بالمرة إلى الرواية ، وشدة بعده عن مذهب العامة المأمور بخلافها ، لان الرشد فيه ، إذ لم يحك عن أحد منهم القول به دون غيره من الضربة في الجميع ، ففي التذكرة أنه قال به الأوزاعي وأحمد وإسحاق وداود بن جرير الطبري والشافعي في القديم ، وفي المنتهى انه نقله الجمهور عن علي (ع) وعمار وابن عباس وعطاء والشعبي ومكحول والأوزاعي ومالك وإسحاق وأحمد وفي البحار عن الطيبي في شرح المشكاة أنه مذهب علي عليه‌السلام وابن عباس وعمار وجمع من التابعين ، ودون الضربتين في الجميع فعن كثير من فقهائهم بل أكثرهم ، وأما القول بالتفصيل فلم نعرف أحدا قال به منهم ، ولعل ذلك هو السر في عدم صراحة الاخبار وكثرتها به ، إلى غير ذلك من المؤيدات الكثيرة ـ انه وجه الجمع بين ما دل على المرة من الأصل في وجه ، وإطلاق الآية (١).

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩.

٢١٠

كبعض‌المعتبرة (١) المسؤول فيها عن التيمم ، فقال : « تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك » ‌ومن التيممات البيانية (٢) بعد السؤال عنه أيضا كذلك من الأئمة عليهم‌السلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار بنقلهم عنه.

خصوصا ما في‌الصحيح (٣) منها في وصف أبي جعفر عليه‌السلام تيمم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار ، قال : « فقال له : أفلا صنعت كذا ، ثم أهوى بيديه الأرض فوضعهما على الصعيد ثم مسح جبينه بأصابعه وكفيه ، إحداهما بالأخرى ، ثم لم يعد ذلك » ،فان في التتمة إشعارا بكون الملحوظ بيانه اتحاد الضرب وتعدده ، سيما مع ظهور كونها من الامام عليه‌السلام ، لان نقله ذلك للراوي في مقام البيان ظاهر في إرادة بيان عدم الإلزام بذلك ردا على من قال بالتكرير من أكثر العامة.

وما في‌الموثق منها (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام أيضا عن التيمم « فضرب بيده الأرض ، ثم رفعها فنفضها ثم مسح بها جبهته وكفيه مرة واحدة » ‌كخبر آخر أيضا (٥) إذ حمل المرة فيه على المسح دون الضرب بعيد ، لعدم كونه محل توهم أو مناقشة من عامة أو خاصة ، فنقله خصوصا من مثل زرارة خال عن الفائدة ، بخلاف حمله على ذلك ، لما فيه من نزاع كثير من العامة به وقولهم بالتعدد ، ومنه احتاج الرواة سؤال أئمتهم عليهم‌السلام عنه ، إلى غير ذلك مما دل عليها كالمروي مرسلا (٦) في فقه الرضا عليه‌السلام ونحوه.

وبين ما دل على المرتين كصحيح الكندي (٧) عن الرضا عليه‌السلام « التيمم ضربة للوجه ، وضربة للكفين » ‌و‌ليث المرادي (٨) عن الصادق عليه‌السلام في التيمم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٦.

(٦) المستدرك ـ الباب ٩ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

٢١١

قال : « تضرب بكفيك على الأرض مرتين ، ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك » ‌و‌ابن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن التيمم ، فقال : مرتين مرتين للوجه واليدين » ‌وغير ذلك ، بحمل الاولى على بدل الوضوء ، والثانية على بدل الغسل.

وشاهده ـ بعد الشهرة العظيمة التي منها مجردة يضعف الظن بشمول أدلة المرة لما كان بدل الغسل وبالعكس ، بل هو أولى لندرة القول به جدا ، فكيف بعد اعتضادها بظاهر الإجماعات السابقة التي بعضها كالصريح بل صريح ، وبما عرفته سابقا مفصلا ، وبظاهر صحيح ابن مسلم السابق المشتمل على التثليث ظاهرا بناء على ما فهم الشيخ منه ، بل وبما رواه في المنتهى عنه أيضا في‌الصحيح (٢) عن الصادق عليه‌السلام « ان التيمم للوضوء مرة واحدة ، ومن الجنابة مرتان » ‌وان طعن فيه جماعة ممن تأخر عنه بأنه لا وجود له في كتب الحديث ، وبأنه توهمه من فذلكة ذكرها الشيخ في تهذيبه ، فظن انها رواية ، إذ جلالة قدره وحسن تثبته سيما في كتابه هذا يدفع ذلك عنه ، ولعله اطلع عليه فيما لا يطلع عليه غيره كما هو مظنته ومن أهله ، بل وبما سمعته أيضا من المرسل في جمل المرتضى والغنية سيما بعد نسبة الثاني له إلى رواية أصحابنا ، وتقدم ما في السرائر أنه الأظهر في الروايات ، كما عن الصيمري في شرح الشرائع نسبة التفصيل إلى روايات ، وكذا يفهم من المصنف في المعتبر تعدد الرواية به ، بل هذه المراسيل من مثل هؤلاء بعد الانجبار والتأييد بما مر في أعلى مراتب الحجية لا مؤيدات ، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي مضت الإشارة إلى بعضها ـ ما رواه الشيخ في‌الصحيح عن زرارة (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت له : كيف التيمم؟ قال : هو ضرب واحد للوضوء ، والغسل من الجنابة تضرب بيديك مرتين ثم تنفضهما نفضة للوجه ، ومرة لليدين » ‌الحديث.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٤.

٢١٢

والمناقشة فيه ـ باحتمال أو ظهور عطفية الغسل على الوضوء ، لا الاستيناف بأن يكون جملة خبرية ، فيوافق ما في‌الموثق (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن التيمم من الوضوء والجنابة ومن الحيض للنساء سواء ، فقال : نعم » ‌وبظهوره في تعاقب الضربتين ثم المسح بهما على الوجه واليدين على التعاقب مع تخلل النفضة ـ يدفعها بعد مخالفة الظاهر من لفظ الضرب خصوصا في باب التيمم ، وعدم ملائمة أول الجواب للسؤال حينئذ ، وإجمال إرادة السائل من التسوية الأعضاء أو المسح أو غيرهما المورث إجمالا في الجواب ، لعدم استقلاله هنا ، مع احتمال إرادته اجتماع الوضوء والجنابة ، فيكون القسم الأول من السؤال في الجنابة خاصة ، لسقوط الوضوء كما عساه يشعر به عدم عود لفظ « من » في الجنابة ، والإتيان بها في لفظ الحيض ، وموافقته‌للصحيح (٢) حينئذ « سألته عن تيمم الحائض والجنب سواء إذا لم يجدا ماء قال : نعم » ‌مع ضعف المناقشة الأخيرة من وجوه الانجبار بما سمعت ، لا أقل من أن يكون مرجحا لأحد الاحتمالين على الآخر ، على أنهما لا يتأتيان في متنه‌المروي في المعتبر ، قال : « هو ضربة واحدة للوضوء ، وللغسل من الجنابة تضرب بيديك ثم تنفضهما مرة للوجه ، ومرة لليدين ».

وكذا المناقشة في أصل هذا الجمع أولا بعدم قبول أخبار المرة له ، لما في جملة منها نقل وقوع البيان لعمار وقد كان جنبا ، سيما مع ما في بعضها « ثم لم يعد ذلك » كما أن في بعض أخبار المرة التصريح بالوحدة المؤيد بما دل على التساوي كما سمعت ، وثانيا بإمكان حمل أخبار المرتين على الندب أو على التخيير ، وأولى منهما التقية ، لأنه مذهب أكثر العامة كما قيل ، بل فيما اشتمل منها على مسح الذراعين إشعار به ، كاجمال الوجه واليدين في آخر ، ونحو ذلك ، إذ بعد الأعضاء عن إمكان دفعها بما عرفت قد يقال :إنه لا دلالة فيما اشتمل منها على قصة عمار على الاتحاد ، حتى فيما نقل من فعل النبي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٧.

٢١٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيانا له ، لظهور سياق الجميع بكون المراد كيفيته لا من حيث اتحاد الضرب وتعدده ، بل بيان الممسوح ونحوه ردا على من قال من العامة أنه غير الجبهة أو غير الكفين كما يشعر به ما في‌بعضها (١) « مسح وجهه وكفيه ولم يمسح الذراعين بشي‌ء » ‌و‌في آخرين (٢) « فمسح فوق الكف قليلا » ‌و‌في آخر (٣) « ثم مسح بجبينيه وكفيه » ‌إلى غير ذلك مما يدل على كون الملحوظ للراوي الكف أو الجبين لا تعدد الضرب واتحاده ، ويشعر به أيضا الاستدلال من الأئمة عليهم‌السلام بآية السرقة تارة ، وبإفادة الباء التبعيض أخرى ، وبالاستناد إلى قصة عمار معلمين ذلك شيعتهم وخواصهم.

ومن هنا يظهر لك وجه الاختلاف في نقل قصة عمار حتى فيما نقله زرارة منها عن الباقر عليه‌السلام وكأنه لاختلاف المقامات التي يحتاج التمسك بها فيه ، فمرة للجبين مثلا ، وأخرى للكفين ، وهكذا.

ومما يؤيد ذلك كله أنه قد يقطع المتأمل أن هذه الاخبار ليس مما أريد بها ذكر بيان تمام التيمم ، وكيف مع أنه ترك فيها أكثر واجباته من الابتداء بالأعلى والترتيب بين اليدين وغيرهما ، فيعلم أن صدور ذلك من الرواة أو الأئمة عليهم‌السلام فيما اتفق تعلق خصوص المقام ببيانه ، كما هو واضح ونافع.

ومن ذلك كله يظهر أن المراد بقوله عليه‌السلام : « لم يعد ذلك » التجاوز لا الإعادة ، بل ولو سلم فظاهره بالنسبة للمسح كما ورد نظيره بالنسبة للغسل في الوضوء ، إذ قد يتعلق أغراض ببيان ذلك.

وكذا ما ذكره الخصم من أخبار الوحدة فإنها صريحة أو كالصريحة في إرادة المسح لا الضرب ، ولو سلم فلا ظهور فيها في بدل الغسل ، كما أنه يظهر لك إمكان القدح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢ و ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٦.

٢١٤

لو لا الانجبار بالشهرة ونحوها في دلالة سائر التيممات البيانية على اتحاد الضربة ، سيما بعد إجمال مراد السائل عن التيمم الذي قد وقع الجواب في بيانه ، أو ظهور كون المراد ما يشترك به الوضوء والغسل من ماهية التيمم ، واحتمال عدم تعلق غرض الراوي بغير ما ذكره وإن بين له غيره ، إلى غير ذلك.

ومنه ينقدح أن المتجه على حسب ما يقتضيه تعارض الأدلة من إرجاع الضعيف إلى القوي التصرف فيما دل على المرة لا التكرار ، لقوة دلالة الثانية من وجوه بالنسبة للأولى ، فحمل الخصم لها على الندب وإبقاء تلك على إطلاقها في غير محله ، على أن ذلك غير ملائم للسؤال فيها عن كيفية التيمم ، بل لم يعرف القول بالاستحباب لأحد من الأصحاب سوى ما حكي عن المرتضى ، واستحسنه بعض من تأخر عنه ، فلعل القول به خرق للإجماع المركب ، كالحمل على التخيير إن لم يكن بين الأقل والأكثر بل بين الواجب وتركه ، وأما حملها على التقية فإنه وان استجوده المجلسي في بحاره ، وتبعه بعض من تأخر عنه لمشهورية القول بالتكرار فيما بينهم ، لكن ـ مع أنه يأباه ما في بعضها من ذكر النفض المنكر عندهم ، كآخر الكفين ، والمعروف عندهم الذراعان ، وان نقل عن ابن حنبل القول بالكفين ، وهو معاصر الرضا عليه‌السلام إلا أنه يرى الضربة الواحدة لا الضربتين ـ لا موجب له ، بل ربما يقال بعدم جوازه ، لما عرفت من مشهورية القول بالمرة عندهم أيضا حتى نقلوه عن علي عليه‌السلام وعمار وابن عباس وغيرهم ، فلا تقية فيه منهم ، نعم لم ينقل عن أحد منهم القول بالتفصيل ، فلا بأس بالتقية من جهته ، ولعله لذا لم يكثر التصريح في الاخبار به.

فاتضح لك بحمد الله ضعف القول بالمرة مطلقا جدا ، بل لعل إطلاق القول بالمرتين أقوى منه من جهة الأدلة وان كان نادرا بالنظر للقائلين ، ومن هنا كان التفصيل هو الأظهر ، لكن الاحتياط في التعدد فيما هو بدل الوضوء لأجله لا ينبغي تركه ،

٢١٥

وأحوط منه الإتيان بتيممين ، أحدهما بالوحدة ، وآخر بالتعدد مراعاة للموالاة ، بل وكذا فيما هو بدل الجنابة أيضا.

كما أنه اتضح لك حينئذ سقوط ما في كتب جماعة من متأخري المتأخرين من الركون للقول بالمرة مطلقا ، خصوصا ما في رياض الفاضل المعاصر ، فإنه لم يأل جهدا في تزييف القول بالتفصيل حتى ذكر فيه انه كتب رسالة مستقلة في ذلك ، وليتنا عثرنا عليها فرأينا ما ذكر فيها ، ونسأل الله أن يوفقنا لكتابة رسالة في مقابلتها تحتوي على ما طوينا ذكره هنا مما يفيد قوة التفصيل ، وان كان فيما سمعته الكفاية إن شاء الله.

ثم انه لا فرق في كيفية التيمم بين أسباب الغسل من الجنابة والحيض والنفاس وغيرها قولا واحدا ، سواء قلنا بالمرة أو التكرار ، للتساوي في المبدل عنه ، وللصحيح السابق ، نعم قد يفرق بينها بوجوب تيمم واحد بدل الوضوء والغسل كالماء لحدث الجنابة بلا خلاف أجده فيه للبدلية ، وظاهر الآية ، وصحيح زرارة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام السابق في أدلة التفصيل وغيره ، ولا يجب التعرض للاستباحة من الحدث الأصغر حينئذ كالغسل ، لكن حكى في جامع المقاصد عن ظاهر الشيخ وجوبه ، ولعله لضعف البدل ، وهو ضعيف جدا كضعف ما حكاه عن ظاهره أيضا من إيجاب التعيين في الأحداث الصغر لو اجتمعت ، بخلاف غير الجنابة فتيممين ، أحدهما للغسل ، والآخر للوضوء بناء على إيجابه ذلك وعدم الاجتزاء بالغسل عنه ، كما صرح به جماعة منهم الفاضل في جملة من كتبه ، والمحقق الثاني في جامعه ، والفاضل الأصبهاني في كشف لثامه ، بل قد يشعر الأخير بعدم خلاف فيه لوجوب المبدلين ، وعدم إغناء أحدهما عن الآخر ، فالبدل أولى لضعفه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٤.

٢١٦

وما في المقنعة من التسوية بين تيمم الجنابة والحيض والنفاس‌كالصحيح (١) الذي استدل به الشيخ له في تهذيبه « سألته عن تيمم الجنب والحائض سواء إذا لم يجدا ماء فقال : نعم » ‌منزل على إرادة الكيفية لا الكمية ، مثل ما دل (٢) على مساواة غسلها لغسله ، لكن في الذكرى وتبعه في المدارك ان ظاهر الأصحاب المساواة فيهما حتى انه نسب في الأولى تعدد التيمم في نحو الحائض إلى تخريج بعض الأصحاب ذلك على وجوبه في المبدل ، إلا أنه قال : لا بأس به ، وفي الثانية أن الأظهر الاكتفاء بالتيمم الواحد بناء على ما اخترناه من اتحاد الكيفية ، وعدم اعتبار نية البدلية ، فيكون جاريا مجرى أسباب الوضوء والغسل المختلفة ، وفيه ـ مع أنا لم نتحقق ما نسباه إلى ظاهر الأصحاب إن لم يكن قد تحققنا خلافه ، والتسوية السابقة قد عرفت ما فيها ـ انه لا تلازم بين القول باتحاد الكيفية وعدم اشتراط نية البدلية وبين ما نحن فيه بعد فرض التعدد في المبدل ، وأصالة عدم التداخل في البدل.

نعم أقصى القول بالاتحاد صلاحية التداخل بالدليل لا انه يكون دليلا ، ومعه يتجه القول وإن لم نقل بالاتحاد لكن يكون حينئذ من الاسقاط لا التداخل ، كما ان التداخل أيضا يرجع عند التأمل إلى ذلك على ما ذكرناه سابقا في باب الوضوء.

ودعوى كونها كأسباب الوضوء حينئذ ممنوعة ، كدعوى كونها كأسباب الغسل المختلفة ، وان قلنا بالتداخل فيها بالدليل هناك لا لاتحاد الكيفية.

واحتمال شمول دليل التداخل لما نحن فيه أيضا يدفعه انه ظاهر في اجتماع أسباب متعددة لمسبب متحد في الكيفية أصلا لا بدلا ، إذ هو لا يزيد على المبدل عنه ، فقوله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الحيض.

٢١٧

عليه‌السلام (١) : « إذا اجتمعت عليك لله حقوق أجزأك عنها غسل واحد » ‌يراد به حقوق يوجب كل واحد منها غسلا لا وضوء وغسلا مثلا ، فبدل الغسل حينئذ إنما يقوم مقامه فيما أجزأ عنه من الأغسال.

ومن هنا يتجه القول بالتداخل حينئذ في التيممات مع تعدد الأسباب على حسب ما ذكرناه في الأغسال ، بل قد يجزئ عن الوضوء حيث يجتمع الجنابة مع الحيض مثلا على حسب الغسل ، كما انه يجزئ التيمم بدل الجنابة عن غيره لو كان معه وان لم ينوه إن قلنا به في الغسل ، خلافا للمحكي عن ظاهر الشيخ ، فاعتبر التعرض لتعيين الحدث هنا ، وهو ضعيف ، بخلاف العكس فلا يجزئ إلا مع النية بناء على المختار هناك من اعتباره في الغسل ، وإلا فبناء على عدم الاعتبار فيه يتجه هنا أيضا ذلك. لكنه احتمل في جامع المقاصد عدم الاجزاء وإن قلنا به في الغسل ، قال : لان التيمم طهارة ضعيفة مع انتفاء النص على ذلك وعدم تصريح الأصحاب ، فيتعين الوقوف مع اليقين ، وهو ضعيف كاحتمال أصل عدم جواز التداخل في التيمم للأصل ، وكون التيمم مبيحا لا رافعا ، والشك في تناول البدلية لمثل ذلك ، لوضوح منع الجميع بظهور تناول البدلية له ، وعدم الفرق بين الإباحة والرفع هنا ، ولذا ثبت التداخل في أغسال المستحاضة ونحوها مما هو مبيح لا رافع ، فالأقوى حينئذ جريان التداخل في التيمم لكن على حسب ما تقدم في الغسل من اعتبار النية وغيرها مما يعرف من ملاحظة ذلك المقام ، فلاحظ وتأمل ، كل ذا للبدلية.

وكيف كان ف ان قطعت كفاه بحيث لم يبق منهما من محل الفرض شي‌ء سقط مسحهما قطعا وإجماعا واقتصر على مسح الجبهة ولا يسقط التيمم عنه بذلك بلا خلاف ، بل لعله إجماعي ان لم يكن ضروريا ، لقاعدة الميسور والبدلية وعدم سقوط‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ الحديث ١.

٢١٨

الصلاة بحال والاستصحاب ، إذ لم يثبت اشتراط الاجتماع في هذا الحال ، بل الثابت عدمه ، وإلا لسقطت الطهارة مائية أو ترابية مدى العمر بذهاب بعض أجزاء الكف مثلا من إصبع أو بعضه بقرح أو جرح ، والضرورة على خلافه.

فما عن المبسوط إذا كان مقطوع اليدين من الذراعين سقط عنه فرض التيمم ، ويستحب أن يمسح ما بقي مما ربما تخيل منه الخلاف لما ذكرنا حتى استدل له بقاعدة انتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه لا يريده قطعا ، بل مراده كما صرح به في الخلاف سقوط فرض التيمم عن اليدين خاصة ، كما يومي اليه ما نقل عنه من تعليل ذلك بأن ما أمر الله بمسحه قد عدم ، فوجب أن يسقط فرضه ، بل لعله يومي اليه ما ذكره من الاستحباب أيضا ، لظهوره في أن له تيمما صحيحا ، وانه يستحب له مسح ما بقي من الذراع ، وحمله على إرادة الجبهة ـ فيكون المعنى أنه يستحب له مسح الجبهة وانه يصلي به حينئذ ـ بعيد بل ممتنع عند التأمل.

نعم يتجه عليه المطالبة بدليل ما ذكره من الاستحباب لو كان محل القطع فوق الزند ، ولعله لما تقدم في الوضوء من الأمر ان قطعت يده من المرفق بغسل ما بقي من عضده ، إذ الذراع هنا كالعضد هناك ، كما أنه يحتمل إرادته نفس مفصل الكف أي العظم المتصل بمبتدإ الكف الذي هو منتهى الذراع ، ولعله الذي يسمى بالرسغ ، وفيه أن المتجه حينئذ وجوبه بناء على كونه كالمرفق الأصلي ، لدخول مبتدأ الغاية في المغيا وان لم نقل به فيها ، ولما عرفت هناك من الوجوب الأصالي في المرفق عندنا لا المقدمي حتى يسقط ولو سلم كونه منه هنا ، ولذا صرح جماعة بعدم وجوب مسحه ، بل لم أعرف من صرح بوجوبه وان احتمل ، لعدم الدليل ، بخلافه هناك ، مع حرمة القياس فلا دليل حينئذ على استحبابه ، اللهم إلا أن يكتفى في ثبوته لمكان التسامح فيه بالاحتياط ، لاحتمال وجوبه الأصالي ، وفحوى خبر العضد (١) ونحو ذلك ، فتأمل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

٢١٩

انما البحث في كيفية تيممه ، فهل بتمعيك جبهته بالتراب ، أو بضرب ذراعيه ثم المسح بهما مقدما على غيره من أعضائه ، لقربها إلى محل الضرب ، سيما مع بقاء المفصل وقلنا بأنه منه أصالة ، أو مخيرا بينه وبين غيره منها ، أو يجزئ كل من التمعيك أو الضرب السابق ، أو يتعين عليه التولية؟ وجوه واحتمالات قد ذكرت مفرقة في الذكرى وجامع المقاصد وكشف اللثام ، بل قد يظهر من الأول اختيار آخرها مع احتماله الأول ، والأخيرين الأول ، كإطلاق بعضهم إجزاءه مع العذر ، مع احتمال أولهما الثاني ، وثانيهما الأخير ، كما أنه قد يظهر من إطلاق المصنف اختيار الوجه الثالث ، لا طلاقه المسح ، لكنه ظاهر في نفي الرابع من حيث تبادر المباشرة منه ، ولا تعيين في النصوص لشي‌ء منها حتى قاعدة الميسور ، لكن لعل ما عدا الأخير أقرب إليها منه ، والثاني أقرب من غيره ، والاحتياط لا يترك.

نعم لو قطع أحد الكفين أو بعضهما ضرب بالباقية أو الباقي منهما ومسح الجبهة وعلى ما بقي من اليدين بذلك ، إلا أنه يأتي البحث السابق أيضا في كيفية مسح ظهر الكف الباقية على تقدير قطع تمام الثانية ، بل في الروضة سقوط مسح اليد هنا ، لكنه غريب ، بل الظاهر جريان ما تقدم في الجبهة فيه ، بل وفيما هو مثل الأقطع أيضا كمربوط اليدين ، وان كان بعض الوجوه السابقة لا تجري فيه ، إلا أنه يزيد باحتمال كونه فاقد الطهورين بخلاف الأقطع ، فإنك قد عرفت ضعف هذا الاحتمال فيه.

وقد مر سابقا ما له نفع تام في المقام ، كما قد مر عند البحث على الجبهة واليدين أنه يجب استيعاب مواضع المسح في التيمم منها بلا خلاف ، بل في المنتهى وعن غيره الإجماع عليه ظاهرا ، لانه المتبادر من النصوص (١) والفتاوى ومعاقد الإجماعات فلو أبقي منها شيئا عمدا أو نسيانا لم يصح لعدم صدق الامتثال إلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم.

٢٢٠