جواهر الكلام - ج ٥

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الأصحاب في وجوب القبول عليه لو وهب له الماء ، لابتناء ذلك على المسامحة عرفا ، فلا منة ولا ضرر ، لكنه لا يخلو من تأمل ، لاختلافه باختلاف الأشخاص رفعة وضعة والأزمنة والأمكنة ، وعليه فلو تيمم والحال هذه بطل ما دام الماء المبذول قائما كما صرح به غير واحد ، وكذا في نظائره.

وأما لو بذل له الثمن ففي المبسوط والمنتهى والمدارك والحدائق وجوب القبول أيضا للمقدمة المقدورة عقلا وشرعا ، إذ لا حرمة عليه في تحمل المنة ، واستشكله في المعتبر بأنه فيه منة في العادة ، ولا تجب المنة ، واختاره في جامع المقاصد ، قال : « لأن هبة المال مما يمتن به في العادة ويحصل به للنفس غضاضة واستهانة ، وذلك من أشد أنواع الضرر على نفوس الأحرار ، ولا أثر لقلته في ذلك ، لعدم انضباط أحوال الناس ، فربما يعد القليل كثيرا ، بل مناط الحكم كون الجنس مما يمن به عادة ، كما لا نفرق بين قلة الماء وكثرته في وجوب القبول اعتبارا بالجنس » انتهى. وفيه التأمل السابق ، فلعل الأولى إناطة الحكم بذلك لا الإطلاق ، ولا اعتبار بالجنس الذي ذكره ، إذ منشأ عدم تحمل المنة انما هو الحرج الذي لا يتحمل ، فيكون كالضرر المتقدم في الثمن ، فيدور الحكم مداره وجودا وعدما من غير مدخلية للجنس ، بل وكذا الكلام في الاستيهاب والاكتساب ، فان الناس مختلفة بذلك أشد اختلاف ، وظاهرهم هنا عدم الفرق بين الهبة والبذل بمعنى الإباحة ، وهو كذلك عند التأمل.

ولو بذل له الماء أو الثمن إلى أجل يستطيع وفاءه فيه وجب عليه القبول كما صرح به جماعة ، بل قد يشعر بنسبة الخلاف فيه إلى خصوص الشافعي في المعتبر والمنتهى بعدمه بيننا ، لكن عن ابن فهد أنه حكى عن بعض مشايخه القول بالعدم ، ولعله لأن نفس شغل الذمة مع احتمال عوارض عدم الوفاء ضرر ، وهو ضعيف ، وبأدنى تأمل تعرف جريان جميع ما تقدم من الكلام في الماء وثمنه في الآلة ، ولذا قال المصنف وكذا القول في‌

١٠١

الآلة حتى الكلام بالنسبة إلى وجوب قبولها لو وهبت ، وعدمه كالثمن ، فلا حاجة إلى الإعادة والتطويل.

( السبب الثالث الخوف )

على النفس أو المال إن وصل إلى الماء من اللص أو القتل أو الجرح أو الأذية التي لا تحتمل عادة من غير خلاف أجده ، بل حكي الإجماع عليه على لسان جماعة مع اختلاف معقده ، ففي الغنية عليه من العدو ، وفي صريح المعتبر أو ظاهره عليه أو على أهله أو ماله من اللص أو السبع ، وفي المنتهى على نفسه أو ماله من السبع أو العدو أو الحريف أو التخلف عن الزفقة وما أشبهه ، ثم قال لا نعرف فيه خلافا ، وفي كشف اللثام شارحا لعبارة القواعد الخوف من تحصيله أو استعماله على النفس أو المال ولو لغيره مع الاحترام من لص أو سبع بالإجماع والنصوص ، نحو ( لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) إلى آخره وفي المدارك في شرح عبارة المصنف إلى قوله أو ضياع مال هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب على ما نقله جماعة الى غير ذلك كما لا يخفى على المتتبع.

ومن ذلك ووجوب الحفظ ونفي العسر والحرج وإرادة اليسر والنهي عن قتل النفس والإلقاء إلى التهلكة وروايتي يعقوب بن سالم (٢) وداود الرقي (٣) المتقدمين كان لا فرق في جواز التيمم بين أن يخاف لصا أو سبعا أو يخاف ضياع مال لكن أشكل الحال على صاحب الحدائق بالنسبة للخوف على المال بعد اعترافه باتفاق الأصحاب عليه ، قال : « لعدم الدليل ، لظهور الروايتين في الخوف على النفس ، ومعارضة نفي الحرج ووجوب حفظ المال بما دل على وجوب الوضوء والغسل ، بل هي أوضح فلتحكم عليها ، ولو سلم فبينها تعارض العموم من وجه ، وتحكيم تلك ليس أولى من العكس » وفيه ـ

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٣٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

١٠٢

بعد الإجماع بقسميه على خلافه سيما فيما يتضرر بتلفه ، ومنع ظهور خبر يعقوب في الخوف بالنفس ، لوجود لفظ اللص الظاهر في الخوف منه على المال ، كما يشهد له فهم الأصحاب من ذلك ، ولا ينافيه لفظ النفس قبله ، وظهور استقراء أخبار التيمم في سقوط المائية بأقل من ذلك بل وغيرها من الواجبات الأصلية فضلا عنها ، مع أن أصل مشروعية التيمم لليسر ـ أن أدلة العسر والحرج غير قابلة للتخصيص ، لظهورها أن ليس في الدين ما فيه حرج ، فليست هي من قبيل الأصل كما بين في محله ، وبعد التسليم فهي أرجح من وجوه عديدة لا تخفى.

نعم قد يناقش في كون بعض أفراد ذهاب المال هنا عسرا وحرجا ، لكن إطلاق الإجماع المحكي وغيره كاف في إثبات الحكم فيه ، ومنه مع شمول النص السابق صرح غير واحد من الأصحاب بل نسب إليهم في لسان جماعة مشعرين بدعوى الإجماع عليه إن لم يكن محصلا بعدم الفرق بين المال القليل والكثير ، وهو الفارق بينه وبين بذل المال وإن كثر في الشراء ، مضافا إلى ما في اغتصاب المال من الغضاضة التي لا تتحمل ، بل قد يجود بعض الناس بنفسه دونها ، بخلافه في البذل بالاختيار كما أشرنا إليه سابقا ، بل صرح في جامع المقاصد وغيره أنه لا فرق بين ماله ومال غيره ، لكنه لا يخلو من تأمل فيما لا يجب حفظه عليه من أموال الغير ولم يكن في تسلط اللصوص عليهم غضاضة عليه من عياله ورفقائه المستجيرين به اللائذين بحماه ، لعدم الدليل الذي يقطع باب المقدمة.

نعم قد يتجه ذلك في النفس ، فلا يفرق بين الخوف على نفسه ونفس غيره إن كانت محترمة مع الخوف عليها من السبع وشبهه ، كما أنه لا فرق بين المال والعرض ، بل هو أولى منه وإن لم ينص عليه في الخبر ، لظهور إرادة التمثيل منه ونفي الحرج وغيرهما ، وفي إلحاق غرض غيره به مع عدم التعلق به ولو من جهة الاستجارة ونحوها إشكال ، ومن الخوف الخوف من الحبس ظلما ، وكذا المطالبة بحق عاجز عن أدائه ،

١٠٣

إما لعدم تمكنه من إثبات العجز ، أو لتغلب المطالب ، بل في جامع المقاصد أن منه لو خاف القتل قصاصا مع رجاء العفو بالتأخير إما بالدية أو مجانا ، لأن حفظ النفس مطلوب ، وفيه تأمل ، والخوف عن جبن كالخوف عن غيره كما صرح به المصنف والعلامة في بعض كتبه والشهيدان وغيرهم ، بل لعله أقوى ، إذ قد يؤدي إلى ذهاب العقل ، فالتكليف معه مشقة لا تتحمل ، خلافا للتحرير فلم يعتبره ، وتوقف فيه في المنتهى ، وهو ضعيف إلا فيما لا يبلغ حد المشقة في التكليف معه.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا من الخوف بين حصوله له في طريقه أو ما تخلف له من الأموال ونحوها بعد ذهابه اليه كما هو واضح.

وكذا أي الخوف من السبع واللص لو خشي حصول المرض الشديد باستعماله أو بالمضي اليه أو بترك شربه بلا خلاف أجده فيه ، بل هو إجماع سيما مع خوف التلف معه ، لنفي العسر والحرج والضرر وإرادة اليسر وسعة الحنيفية وسماحتها ، وأنها أوسع ما بين السماء والأرض ، والنهي عن قتل النفس والإلقاء إلى التهلكة ، والأمر بالتيمم عند خوف البرد على نفسه في صحيح البزنطي عن الرضا عليه‌السلام (١) وخبر داود بن سرحان (٢) وفحوى الأمر به من خوف الشين ، وكذا الأمر به في حال المرض عند خوف زيادته أو بطئه أو عسر علاجه أو التلف كتابا (٣) وسنة (٤) عموما وخصوصا مثل ما ورد في ذي القروح والجروح والمجدور والمكسور والمبطون من الأخبار الكثيرة (٥) وفيها الصحيح وغيره ، وإجماعا محصلا ومنقولا في الخلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٨.

(٣) سورة النساء ـ الآية ٤٦ وسورة المائدة ـ الآية ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم.

١٠٤

على المجدور والمجروح ومن أشبههما ممن به مرض مخوف ، وعلى ما لو خاف الزيادة في العلة وإن لم يخف التلف.

وفي المعتبر والتذكرة على المريض الذي يخاف التلف ، بل في أولهما أن مذهبنا التيمم عند خوف الزيادة في العلة وبطئها ، وفي الغنية عند حصول الخوف في استعماله لمرض أو شدة برد.

وفي المنتهى السبب الرابع المرض والجرح وما أشبههما ، وقد ذهب علماؤنا أجمع إلى أنه إذا خاف على نفسه من استعمال الماء فله التيمم ، وفي مجمع البرهان لا شك في وجوب التيمم عند تعذر استعماله الماء للمرض الذي يضر استعماله ضررا بينا حيث يقال عرفا إنه ضرر ، للآية والأخبار والإجماع والحرج إلى غير ذلك.

نعم قد يشكل الحال فيما لو خاف حدوث المرض اليسير ، فظاهر المتن والتحرير وصريح المعتبر والمبسوط عدم اعتباره ، بل في الأخير نفي الخلاف عنه ، ولعله لصدق الوجدان معه ، لعدم عد مثله في الضرر عرفا ، فيبقى التكليف بالمائية بحاله ، وحكي عن الخلاف والمنتهى ، بل ربما استظهر منهما الإجماع عليه ، والموجود فيهما المرض لا يخاف منه التلف ولا الزيادة فيه ، بل في الثاني لا يخاف الضرر باستعمال الماء لا يجوز معه التيمم ، لصدق الوجدان الذي لا يتضرر معه وفاقا لمن عدا مالك أو بعض أصحابه وداود ، لإطلاق ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) وهو كما ترى غير ما نحن فيه ، وعلى كل حال فقد استشكله في الذكرى وجامع المقاصد بالحرج ، وب‌قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » ‌وبأنه أشد ضررا من الشين الذي سوغوا التيمم له ، وبعدم الوثوق بيسير المرض عن أن يصير شديدا.

وربما استظهر من التعليل بالحرج ونحوه لفظية النزاع ، إذ مبنى الأول عدم الحرج والمشقة فيه بخلاف الثاني ، فيكون الجميع متفقين على مانعية ما فيه الحرج دون غيره ،

١٠٥

وفيه أن البحث في أن مطلق المرض ولو يسيرا حرج أو لا ، وسهولته بالإضافة إلى الفرد الأخير من المرض لا ينافي دعوى عسره في نفسه ، إذ لا ريب في اختلاف أنواع المرض شدة وضعفا.

وكيف كان فالأقوى الأول لمنع الحرج فيه ، إذ المراد به المشقة التي لا تحتمل عادة ، وهو الذي يسقط عنده التكليف بالصوم والصلاة من قيام أو من جلوس وغير ذلك ، لا مجرد المرض الذي لا يعتد به في العادة ، فتأمل. وفي‌موثقة زرارة (١) قال : « سألت الصادق عليه‌السلام ما حد المرض الذي يفطر به الرجل ويدع الصلاة من قيام ، فقال : بل الإنسان على نفسه بصيرة ، هو أعلم بما يطيقه » ‌والمرض اليسير عند الخوف من سرايته إلى الشديد شديد.

ولا فرق فيما ذكرنا بين الصحيح الذي يخشى حدوث المرض اليسير باستعمال الماء أو طلبه ونحوهما وبين المريض كذلك ، إلا أن يحصل بانضمامه إلى ما فيه من المرض مشقة عظيمة ، ولا في المرض اليسير بين أن يكون من جنس ما فيه من المرض وعدمه إلا أن يحصل أيضا بالانضمام إلى الأول مشقة عظيمة ، ولعله لذا أطلقوا الأمر بالتيمم حتى حكي الإجماع عليه عند الخوف من زيادة المرض من غير تفصيل.

ولعل مجرد التألم الذي لا يتحمل عادة لمرض أو شدة برد ونحوهما مسوغ للتيمم وإن لم يخش التلف ولا الزيادة ولا غيرهما ، وفاقا للمحكي عن الأكثر ، بل عن ظاهر الغنية الإجماع عليه ، للحرج وإطلاق ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) (٢) وترك الاستفصال في أخبار الجروح والقروح (٣) وغير ذلك ، وفحوى التيمم للشين ، واحتمال اندراجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب القيام ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٢) سورة النساء ـ الآية ٤٦ وسورة المائدة ـ الآية ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم.

١٠٦

فيمن يخاف على نفسه البرد ، فيدل عليه حينئذ صحيح البزنطي (١) عن الرضا عليه‌السلام وخبر ابن سرحان (٢).

وخلافا للقواعد والذكرى وعن غيرهما ، مع احتمال إرادة التألم الذي يتحمل عادة ، فلا خلاف حينئذ ، مع أنه لا مستند له سوى الأصل المخصص بما مر ، وخروجه عن المنصوص ، وهو ممنوع في مثل المريض بل وغيره ، وأفضلية أحمز الأعمال والمراد أشقها في نفسه لا المرض ونحوه ، و‌الصحيح عن الصادق عليه‌السلام (٣) أنه « سئل عن رجل كان في أرض باردة فتخوف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل ، كيف يصنع؟ قال : يغتسل وإن أصابه ما أصابه ، قال : وذكر عليه‌السلام أنه كان وجعا شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد وكانت ليلة شديدة الريح باردة ، فدعوت الغلمة ، فقلت لهم : احملوني فاغسلوني ، فقالوا : إنا نخاف عليك ، فقلت :ليس بد ، فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا علي الماء فغسلوني ».

و‌صحيح ابن مسلم أيضا (٤) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء ، وعسى أن يكون الماء جامدا ، فقال :يغتسل على ما كان ، حدثه رجل أنه فعل ذلك فمرض شهرا من البرد ، فقال : اغتسل على ما كان ، فإنه لا بد من الغسل ، وذكر أبو عبد الله عليه‌السلام أنه اضطر اليه وهو مريض ، فأتوه به مسخنا فاغتسل ، وقال : لا بد من الغسل ».

وهما فيما يقوله الخصم مؤلان ، ولا حجة فيه لعدم الانحصار في ذلك ، وإلا فظاهرهما حتى لو خاف على نفسه التلف ، ومن هنا حملهما الشيخ على من أجنب نفسه مختارا ، وهو مبني على تكليف من كان كذلك بالغسل على كل حال ، كما هو خيرته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٤.

١٠٧

في الخلاف مدعيا عليه إجماع الفرقة ، والمفيد في مقنعته ، والصدوق في هدايته ، للأصل وإدخاله الضرر على نفسه ، والصحيحين السابقين ، وإجماع الفرقة المحكي في الخلاف ، و‌مرفوعة علي بن أحمد (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن مجدور أصابته جنابة ، قال : إن كان أجنب هو فليغتسل ، وإن كان احتلم فليتيمم » ‌و‌مرفوعة إبراهيم ابن هاشم (٢) قال : « قال إن أجنب نفسه فعليه أن يغتسل على ما كان ، وان كان احتلم تيمم ».

لكن المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا عدم الفرق بين متعمد الجنابة وغيره ، بل هو مندرج في إطلاق الإجماعات السابقة على التيمم عند خوف التلف ، ونحوه من ابن زهرة والمصنف والعلامة وغيرهم ، بل ظاهر المنتهى الإجماع عليه بالخصوص ، حيث قال : لو أجنب مختارا وخشي البرد تيمم عندنا وهو الحجة ، مضافا الى إطلاق ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) ونفي العسر والحرج والضرر ، وإرادة اليسر ورفع الضرر المظنون ، والنهي عن الإلقاء في التهلكة وقتل النفس ، وترك الاستفصال في أخبار الجروح والقروح وخوف البرد ، مع ظهور بعضها في تعمد الجنابة ، واستقراء موارد سقوط المائية بأقل من ذلك ، بل غيرها من التكاليف كالصلاة والحج والصوم وغيرها وبأهمية حفظ النفوس والأبدان عند الشارع من حفظ الأديان ، وعمومية بدلية التراب وطهوريته واتحاد ربهما وكفايته عشر سنين ، مع أن المتجه على مذهب الخصم حرمةالجنابة والحال هذه ، وفي المعتبر الإجماع على الإباحة ، للأصل والعمومات كالإذن في إتيان الحرث متى شاء ، والحرج الشديد في بعض الأحوال لو منع من الجماع ، ويومي اليه ـ زيادة على ما في الصحيح السابق في أدلة الخصم من إصابة الصادق عليه‌السلام ذلك ، لما قيل من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٢.

١٠٨

أنه منزه عن الاحتلام ، كما دلت عليه الأخبار (١) ـ ما في‌خبر السكوني (٢) « ان أبا ذر أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هلكت جامعت على غير ماء ، قال : فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمحمل فاستترت به وبماء فاغتسلت أنا وهي ، ثم قال : يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين » ‌و‌خبر إسحاق بن عمار (٣) « عن الرجل مع أهله في السفر فلا يجد الماء يأتي أهله ، فقال : ما أحب أن يفعل ذلك الا أن يكون شبقا ، أو يخاف على نفسه قال : يطلب بذلك اللذة ، قال : هو حلال ، قال : فإنه روي عن الصادق عليه‌السلام أن أبا ذر سأل عن هذا فقال ائت أهلك تؤجر ، فقال :يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أؤجر ، قال : كما أنك إذا أتيت الحرام أزرت فكذلك إذا أتيت الحلال أجرت ألا ترى أنه إذا خاف على نفسه فأتى الحلال أجر » ‌وإذا جاز الجماع لم يوجب العقوبة بمثل ذلك.

نعم قد يستشكل في جوازه بعد الوقت قبل فعل الصلاة وكان يتمكن من الوضوء خاصة ، بل في المنتهى تحريمه كما عن النهاية احتماله ، مع إمكان القول بمنعه فيه بعد تسليم اقتضاء القاعدة التحريم أيضا ، تمسكا بإطلاق الأدلة السابقة من الإجماع وغيره بل في جملة من‌الأخبار (٤) ، وقد تقدم بعضها « عن الرجل يجنب وليس معه إلا قدر ما يكفيه للوضوء ، فقال : يتيمم ».

كل ذا مع ضعف أدلة الخصم بانقطاع الأصل وعدم اقتضاء تعمده سقوط احترامه سيما مع إباحته له ، ومنع الإجماع لمصير الأكثر بعده الى خلافه ، بل هو‌

__________________

(١) أصول الكافي باب ( مواليد الأئمة عليهم‌السلام من كتاب الحجة ـ الحديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب التيمم.

١٠٩

في المبسوط كما عن غيره من كتبه أنه يتيمم ويصلي إذا خشي البرد ثم يعيد بعد ذلك ، بل لا يبعد دعوى انعقاد الإجماع بعده على خلافه كما لا يخفى على الخبير الممارس ، ومخالفة إخباره للكتاب والسنة النبوية والعقل ، وموافقتها للمحكي عن أصحاب الرأي وأحمد في إحدى الروايتين ، فالمتجه طرحها والاعراض عنها ، للأمر بذلك من أئمتنا عليهم‌السلام في هذا الحال ، مع عدم ظهور الصحيحين سيما الثاني في تعمد الجنابة ، إلا ما فيه من اصابة الصادق عليه‌السلام ذلك ، لعدم وقوع الاحتلام منه ، لكنه معارض يبعد وقوع الجنابة منه في تلك ، فلعلها جنابة سابقه على المرض ، فيكون لا قائل بظاهرهما حينئذ ، واحتمالهما المشقة التي تتحمل عادة لا التلف ونحوه ، بل في المعتبر أنه يمكن العمل بهما على جهة الاستحباب ، لكنه كما ترى لا ينطبق على ظاهر ما سمعته من الأدلة ، لاقتضائها التحريم ، وكذا ما في كشف اللثام بعد ذكره أخبار الخصم بأسرها ، والكل يحتمل وجوب تحمل المشقة اللاحقة بالاستعمال من البرد خاصة ، واستحبابه لا مع خوف المرض أو التلف ، مع عدم تصور الاستحباب في الطهارة لوجوبها بمجرد إمكانها مضافا الى ما عرفت من مساواة المشقة الشديدة الخوف ، فالمتجه حينئذ الطعن بالصحيحين بما عرفت ، وبالمرفوعتين بعدم قابليتهما لإثبات مثل هذا الحكم سيما مع المعارضة بما تقدم.

ثم المدار في ثبوت الضرر هنا وغيره مما كان كذلك على علمه أو ظنه المستفاد من معرفة أو تجربة أو إخبار عارف وان كان صبيا أو فاسقا بل وذميا مع عدم تهمة في الدين ، ولعل ما في المنتهى من عدم قبوله إذا كان كذلك للتهمة وعدم الظن فلا خلاف لظهور كلامه أو صريحه في الاكتفاء بالظن كغيره من الأصحاب من غير خلاف أجده فيه ، لوجوب دفع الضرر المظنون ، وللتعليق على الخوف المتحقق به في السنة ومعاقد الإجماعات ، بل قد يقال بتحققه مع الشك فضلا عن الظن ، بل مع الوهم القريب الذي لا يستبعده العقلاء ، ولعله لا يخلو من قوة ، وان كان ظاهر العلامة ومن‌

١١٠

تأخر عنه التعليق على الظن ، وكذا الكلام في السابق من خوف اللص والسبع ونحوهما ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فمتى تضرر لم يجز استعمال الماء ، فان استعمل لم يجز ، لانتقال فرضه فلا أمر بالوضوء مثلا بل هو منهي عنه فيفسد ، وما في بعض‌أخبار الجروح والقروح (١) « انه لا بأس عليه بأن تيمم » ‌مما يشعر بالرخصة لا الوجوب لا يراد منه ظاهره قطعا ، كما يوضحه مضافا الى العقل الأخبار الأخر (٢) وكذا كل ما كان كذلك من أسباب التيمم مما يفيد تحريم العمل نفسه لا ما كان منها ليس فيه تحريم للعمل نفسه ، كالخوف من اللص ونحوه ، فإنه لو خالف وغرر بنفسه فوجد الماء عاد فرض الماء وان فعل حراما في ذلك ، لتحقق صدق الوجدان حينئذ عليه ، وكذا لو اشترى الماء بما فيه ضرر عليه ، لعدم فساد المعاملة بذلك ، أو تحمل منته في طلبه أو طلب ثمنه ، أو ارتكب التكسب بما فيه مهانة عليه ، سيما مع عدم حرمة بعض ذلك عليه وان رخص معها في التيمم ، ولا ينافيه أنها طهارة اضطرارية ، ومع عدم ممنوعية حصول الماء عقلا أو شرعا كتحمل المنة ونحوها لا اضطرار ، إذ مع إمكان إرادة غلبة اضطراريتها قد يقال ان ذلك بعد إسقاط وجوب تحمل المنة أو الضرر المالي مثلا مما يتوقف عليهما صدق اسم الوجدان للعسر والحرج ونحوهما لا ينافي صدق اسم الاضطرار وان جاز له شرعا تحمله من حيث عدم منافاة الإباحة الحرج والألم الحالي مع أمن العاقبة.

ثم بناء على سواغ التيمم له لو خالف وتطهر ففي الإجزاء نظر ، ينشأ من حرمة إيلامه نفسه وعدمها ، ولعل الأقوى عدم الحرمة ، فيجزي حينئذ وإن كان لا وجوب للطهارة ، لكن يكفي رجحانها في حد ذاتها ان قلنا بعدم منافاة الندب للحرج ، وبعدم ظهور الأدلة في عدم مشروعية الطهارة لمثله.

وهل ضيق الوقت عن استعمال الماء الذي تقدم أنه مسوغ للتيمم مفسد للوضوء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم.

١١١

أو الغسل مع المخالفة مع قطع النظر عن الضدية ، لعدم الأمر بهما حينئذ وانتقال الفرض الى التيمم ، أو أن الفساد فيهما مبني على حرمة الضد؟ وجهان ، أقواهما الثاني ، لأن سقوط خصوص الأمر بهما لهذه الصلاة لا يقتضي سقوط غيره من الأوامر الدالة على رجحانهما في حد ذاتهما أو لغير هذه الصلاة مما كان في وقته مثلا الا من جهة الضدية ، فالحكم حينئذ مبني عليها ، ولعل مثله واجد الماء الذي وجب عليه صرفه في غير الطهارة مما لا بدل له كإزالة النجاسة. اللهم الا أن يقال : إنه بعد أمر الشارع بصرفه في غيرها كان بمنزلة من لا ماء عنده ، فلا خطاب بالطهارة حينئذ.

ومن هنا قال الوحيد الطباطبائي في منظومته بعد ذكره أسباب التيمم مؤخرا ما نحن فيه عنها :

فالفرض في هذا ونحوه البدل

والأصل لا يجزى إذا الفرض انتقل

لكن يعود إن تكلف السبب

وارتفع العذر بما قد ارتكب

وضابط البطلان تحريم العمل

لا النهي عما يقتضيه إذ حصل

انتهى. لكن يحتاج إلى التأمل التام في هذا الضابط بالنسبة إلى انطباقه على ما ذكرنا ، فتأمل.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا من التيمم عند خوف الضرر بين الضرر على مجموع بدنه أو بعضه كما هو قضية ما سمعته من الأدلة السابقة خصوصا أخبار الجروح والقروح ، نعم ربما تخيل المنافاة بينها وبين ما دل سابقا (١) على حكم الجبيرة وغسل ما حول الجرح أو القرح أو وضع خرقة والمسح عليها ، وقد تقدم البحث ووجه الجمع فيه سابقا ، لكن الكلام هنا في مثل الرمد ، وينبغي القطع بانتقاله مع تضرره بوضع الماء على وجهه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الوضوء.

١١٢

بل وكذا لو لم يكن كذلك بل كان الضرر بقربه إلى ظاهر أجفان عينيه ، لأصالة الانتقال إلى التيمم بتعذر بعض أعضاء طهارته ، وعدم شمول أدلة الجبيرة ولواحقها له.

وما في الحدائق من أن الأقرب إن كان لا يتضرر بغسل ما عدا العين فالواجب الوضوء أو الغسل أو غسل ما حول العين ولو بنحو الدهن ، لأصالة المائية مع عدم ثبوت المخرج ، وإلحاقا لها بحكم القروح والجروح ، بل لعل الجواب في بعض أخبارها متناول لذلك ، وان كان السؤال مشتملا على خصوص الجرح والقرح فان العبرة بعمومه ، ولا ريب في ضعفه ان أراد ترك غسل الجفن ونحوه من الظاهر ، لمنع الأصل عليه وحرمة القياس ، نعم له وجه لو كان الضرر بمباشرة باطن العين خاصة وكان يتمكن من غسل الظاهر بحيث يأمن من دخوله الماء الى الباطن ، بل ينبغي القطع حينئذ بعدم سقوط المائية كما هو واضح ، إلا أن ذلك نادر جدا في الرمد ، ولذا كان المعمول عليه في زماننا عند من عاصرناه من المشايخ ومقلدتهم التيمم عند حصول الرمد ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فمتى خشي المرض أو الشين باستعماله الماء جاز له التيمم كما تقدم الكلام في الأول مفصلا ، وأما الثاني فلا أعرف فيه خلافا بين الأصحاب ، بل ظاهر المعتبر كنسبته في المنتهى إلى علمائنا وجامع المقاصد إلى إطباقهم والمدارك وغيره الى قطع الأصحاب الإجماع عليه ، وظاهر إطلاق كثير منهم كما عن بعضهم التصريح به عدم الفرق بين شديدة وضعيفة ، وهو مشكل جدا سيما بعد تقييد المرض بالشديد على المختار ، إذ لم نعثر له على دليل سوى عمومات العسر والحرج ، واحتمال دخوله في المرض أو في إطلاق ما دل على التيمم عند خوف البرد ، ومن المعلوم عدم العسر في ضعيفة ، بل لا يكاد ينفك عنه غالب الناس في أوقات البرد ، وعدم صدق اسم المرض عليه ، بل قد يشك ذلك بالنسبة إلى شديدة فضلا عنه ، وظهور أدلة خوف البرد في غيره ، ولعله‌

١١٣

لذا قيده في موضع من المنتهى بالفاحش ، واختاره جماعة ممن تأخر عنه منهم المحقق الثاني في جامعه والشهيد الثاني في روضه والفاضل الهندي في كشفه ، واليه يرجع ما عن جماعة أخرى من التقييد بما لا يتحمل عادة ، بل في الكفاية أنه نقل بعضهم الاتفاق على أن الشين إذا لم يغير الخلقة ويشوهها لم يجز التيمم.

فالأقوى الاقتصار على الشديد منه الذي يعسر تحمله عادة من غير فرق فيه حينئذ بين خوف حصوله أو زيادته أو بطء برئه كالمرض ، بل لعله داخل فيه حينئذ ، وكذا التألم منه خاصة وإن أمن العاقية بناء على ما تقدم سابقا في المرض ، والمراد بالشين على ما صرح به جماعة من الأصحاب ما يعلو البشرة من الخشونة المشوهة للخلقة من استعمال الماء في البرد ، وقد يصل إلى تشقق الجلد وخروج الدم ، ويختلف شدة وضعفا باختلاف البلدان والأبدان ، والمدار في تحقق الخوف على نحو ما تقدم في المرض.

وكذا يتيمم لو كان معه ماء للشرب وخاف العطش على نفسه ان استعمله في الحال أو المآل إجماعا محصلا ومنقولا عن علمائنا ، بل وعن كل من يحفظ عنه العلم مستفيضا وسنة (١) بالخصوص كذلك فضلا عن عمومها وعمومات الكتاب ، وعلى رفيقه المسلم المحترم الدم ، سيما إذا كان ممن تجب نفقته عليه بلا خلاف أجده فيه أيضا ، لأهمية حفظ النفس في نظر الشارع بدليل تقديمه على غيره من الواجبات كقطع الصلاة لانقاذها وغيره مما لا بدل له ، فضلا عما له بدل مساو له في الطهورية ، بل وعلى رفيقه المضر به تلفه أو ضعفه وان لم يكن محترما كالحربي وغيره ، وكذا الحيوان إذا كان كذلك وإن كان كلبا ، لفحوى ما تقدم سابقا من الانتقال الى التيمم عند خوف الضرر عليه باستعماله أو طلبه ان لم نقل باندراج ذلك كله أو بعضه في قول الصادق عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب التيمم.

١١٤

في‌خبر ابن سنان (١) أو صحيحه : « إن خاف عطشا فلا يهرق منه قطرة وليتيمم بالصعيد ، فان الصعيد أحب الي » ‌و‌موثقة سماعة (٢) بعد أن سأله عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته ، قال : « يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء ، فان الله جعلهما طهورا الماء والصعيد ».

بل ربما ظهر من إطلاق كثير من الأصحاب تقديم حال الرفيق المحترم النفس ولو ذميا أو معاهدا وان لم يضر تلفه فيه ، ولعله لاحترام النفس وانه من ذوي الاكباد الحارة ، وسهولة أمر التيمم ، بل قضية إطلاق بعضهم الرفيق تناوله لغير محترم النفس كالحربي والمرتد ونحوهما ، لكنه لا دليل عليه ، بل هو على خلافه متحقق ، ولذا صرح في الذكرى وغيرها بعدم مزاحمة كل من كان كذلك كالحربي والمرتد والزاني المحصن وغيرهم ، بل قد يسري الإشكال في سابقه أيضا ، إذ أقصى اقتضاء محقونية دمه حرمة قتله لا إيجاب حفظه من المهلكات ، اللهم إلا أن يقال : ان للرفقة حقا تبذل النفوس دونها خصوصا على أهل المروات ، بل قد يدعى حصول المشقة عليهم لو كلفوا بذلك ، فلعله لذا أطلق الرفيق.

كما أنه أطلق غير واحد من الأصحاب دابته المحترمة من غير تقييد بضرر تلفها ، واستشكله جماعة من متأخري المتأخرين بعدم تسويغ مطلق ذهاب المال للتيمم ، بل هو مقيد بالضرر ، ولذا وجب صرف المال الكثير في شرائه ، لكن قد يقال مع أنه قد يندرج في إتلاف المال وضياعه الذي لم يفرق فيه بين القليل والكثير : انها نفوس محترمة وذوات أكباد حارة مع حرمة إيذائها بمثل ذلك ، بل هي واجبة النفقة عليه التي منها السقي ، بل في غير واحد من‌الاخبار (٣) المعتبرة « أن للدابة على صاحبها حقوقا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الدواب في السفر وغيره ـ من كتاب الحج.

١١٥

منها أن يبدأ بعلفها إذا نزل » ‌فتحترم لذلك لا من جهة المالية ، وفي‌الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « ما من دابة إلا وهي تسأل الله كل صباح اللهم ارزقني مليكا صالحا يشبعني من العلف ، ويرويني من الماء ، ولا يكلفني فوق طاقتي » ‌وفي آخر عن‌أبي الحسن عليه‌السلام (٢) « من مروة الرجل أن يكون دوابه سمانا ، قال :و سمعته يقول ثلاث من المروة ـ وعد منها ـ فراهة الدابة » ‌الى غير ذلك (٣) من الاخبار المذكورة في كتاب المطاعم والمشارب والتجملات من كتاب الوافي مما يفيد شدة الرأفة بالدواب في أنفسها ، ولعله لذا صرح في المسالك بعدم الفرق بين دابته ودابة غيره ، وإن كان له الرجوع حينئذ بالثمن ، ويومي اليه كلام الأصحاب في باب النفقات ، وفي المنتهى عن النهاية أن فيه إشكالا ، نعم قد يتجه وجوب ذبحه مع عدم التضرر وإمكان الانتفاع بلحمه وجلده ، كما أنه يتجه عدم مزاحمة الحيوانات التي ليست بمحترمة ويجب قتلها كالكلب العقور ونحوه ، بل في الذكرى وان لم يجب قتلها كالحية والهرة الضارية.

وحاصل البحث أنه متى عارض الطهارة المائية واجب آخر أرجح منها قدم عليها كحفظ النفس ونحوه ، بل لعل منه كل واجب لا بدل له كإزالة النجاسة عن البدن والساتر الذي ليس له غيره ، إذ هو وان كان ظاهرا من تعارض الواجبين إلا أن مشروعية البدل لأحدهما تشعر برجحان غير ذي البدل عليه في نظر الشارع ، وان الاهتمام بشأنه أكثر ، كما قيل أو يقال : « ان في ذلك جمعا في العمل بهما ، فهو أولى من غيره.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الدواب في السفر وغيره ـ الحديث ٦ من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الدواب في السفر وغيره ـ الحديث ١ من كتاب الحج.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ وغيره من أبواب أحكام الدواب في السفر وغيره من كتاب الحج.

١١٦

كل ذا مضافا الى الإجماع على تقديم الإزالة على الطهارة في حاشية للإرشاد أظن أنها لولد المحقق الثاني ، كما عن التذكرة الإجماع أيضا على تقديمها على الوضوء صريحا والغسل ظاهرا ، والمعتبر نفي الخلاف بين أهل العلم فيه أيضا كذلك.

وقد يشهد له مع ذلك أيضا ما في‌خبر أبي عبيدة (١) « سئل الصادق عليه‌السلام عن المرأة ترى الطهر في السفر وليس معها ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة ، قال :إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم تتيمم وتصلي » ‌الحديث لتقديمه إزالة النجاسة فيه على الوضوء لوجوبه عليها لولاها ، وكيف كان فان خالف ففي الاجزاء ما سمعته سابقا ، وقد تنظر فيه هنا في القواعد واختاره في الموجز الحاوي كما عن النهاية ، ولعله لعدم اقتضاء الأمر النهي عن الضد ، أو عدم اقتضاء النهي المستفاد منه الفساد ، وفي جامع المقاصد وعن البيان ومجمع البرهان أن الأقوى عدم الاجزاء ، ولعله لوجوب صرف الماء في إزالة النجاسة ، فهو غير واجد للماء ، فلا خطاب بالوضوء ولو ندبا ، ولأنه مكلف بالتيمم حينئذ ، وهو لا يخلو من قوة ، هذا إن لم يجوز وجود المزيل تجويزا عاديا في الوقت ، وإلا اتجه القول بالاجزاء كما اعترف به بعضهم ، وكذا لو تعارض خطاب الطهارة مع ارتكاب محرم ، كما لو كان عنده ماءان طاهر ونجس ، وكان محتاجا الى شرب الماء ، فإنه ينتقل الى التيمم ، ولا يشرب النجس ، لتقديم مراعاة الحرمة عليه ، ومثله لو خشي العطش بعد ذلك استبقى الطاهر وتيمم ، كما صرح به المصنف وغيره واستجوده في المدارك إن ثبت حرمة شرب الماء النجس مطلقا ، وظاهره يعطي التأمل في الحرمة أو إطلاقها ، وهو في غير محله بعد الإجماع محصلا ومنقولا عليها ان لم تكن ضرورية ، والاخبار (٢) التي كادت تكون متواترة الواردة في اجتناب أو اني المشركين ، وإهراق السمن والزيت والمرق الواقع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الحيض ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ و ٤٤ و ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرمة.

١١٧

فيها فأرة أو قذر ، نعم قد يتأمل في وجوب مراعاة ذلك وتقديمه على الطهارة المضيقة مع ارتفاع حرمة شرب النجس لو اضطر اليه فيما يأتي من الزمان وقد لا يحتاجه ، فتأمل.

( الطرف الثاني فيما يجوز التيمم به )

وهو كل ما يقع عليه اسم الأرض ترابا أو حجرا أو حصى أو رخاما أو مدرا دون ما لا يقع اسمها عليه ، وإن خرج منها كالنبات ونحوه فإنه لا يجوز التيمم به ، للأصل والسنة (١) والإجماع المحكي في كشف اللثام ، وقاله علماؤنا في موضع من المنتهى ، وفي آخر زيادة أجمع ، وعدم الجواز بغير الأرض اختيارا مما لا نزاع فيه عندنا في مجمع البرهان ، وفي السرائر أن الإجماع منعقد على أن التيمم لا يكون إلا بالأرض أو ما يطلق عليه اسمها ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة فجوزه بالكحل ونحوه ، ومالك فجوزه بالثلج ، قلت : لكن ستسمع فيما يأتي أنه حكي عن مصباح السيد والإصباح والمراسم والبيان والموجز الحاوي وظاهر الكاتب التيمم بالثلج عند الاضطرار ، كما هو ظاهر القواعد ، وفي التحرير على رأي ، اللهم إلا أن يريدوا بالتيمم به مسح أعضاء الوضوء مجازا ، فلا خلاف حينئذ ، أو أنه لا يقدح خلافهم فيه ، أو يراد بعدم الجواز في حال الاختيار أو غير ذلك.

وأما الغبار والوحل فقد يدعى دخولهما في الأرض كما صرحت به الاخبار في الثاني (٢) ومقطوع به في الأول بالنسبة إلى غبار الأرض ، فدعوى الإجماع عن بعضهم على خروج الثاني عن الأرض ليس في محله ، كدعوى خروج الأول عنها ، وعدم جواز التيمم بهما اختيارا ممن اكتفى في التيمم بمسماها كالمصنف لدليل خاص.

وكيف كان فما في المتن هو المشهور تحصيلا ونقلا في الكفاية والحدائق وعن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التيمم.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب التيمم.

١١٨

غيرهما ، بل عن ظاهر التذكرة الإجماع عليه في الحجر الصلد كالرخام وإن لم يكن عليه غبار ، كما عن الخلاف أيضا ذلك في التراب وما كان من جنسه من الأحجار ، لكن الإنصاف أنه لا ظهور في عبارتهما يعتد به كما لا يخفى على من لاحظ وتأمل ، نعم في كنز العرفان وعن مجمع البيان نسبة التيمم بما يشمل الحجر إلى أصحابنا ، كما عن الأردبيلي أن الحجر ينبغي أن يكون لا نزاع فيه.

قلت : ولعله كما ذكر ، إذ جواز التيمم به اختيارا خيرة المبسوط والخلاف والمعتبر والتذكرة والتحرير والمنتهى والإرشاد والمختلف والذكرى والدروس واللمعة والموجز الحاوي وجامع المقاصد والروض والروضة والمدارك وغيرها ، وهو المنقول عن ابن الجنيد والحسن بن عيسى ومصباح السيد وجمل الشيخ ومصباحه ومختصر المصباح والمهذب البارع والتنقيح وكشف الالتباس وإرشاد الجعفرية وشرحها الآخر والمقاصد العلية ومجمع البرهان وآيات الأردبيلي ورسالة صاحب المعالم والذخيرة والمفاتيح وظاهر الرسالة الفخرية أو صريحها ، وقواه في الكفاية بشرط وجود غبار عليه محافظة على العلوق.

ومرجع الجميع كما يظهر من ملاحظة كتبهم الاستدلالية إلى ما اختاره المصنف من الاكتفاء في المتيمم به صدق اسم الأرض لا خصوص التراب منها ، خلافا لظاهر الغنية أو صريحها ، والمحكي عن السيد في شرح الرسالة والكاتب والتقي ، فلا يجوز بغير التراب وإن كان أرضا ، بل ظاهرهم عدم الفرق في ذلك بين التمكن من التراب وعدمه ، فيكون فاقد الطهورين حينئذ ، لكن في المختلف والروض والروضة الإجماع على بطلان ذلك ، أي عدم جواز التيمم بالحجر مطلقا ، فلعل ذلك يكون قرينة على إرادتهم الاختيار ، فيوافق حينئذ ما في المقنعة والوسيلة والسرائر والجامع وعن المراسم من اشتراط فقد التراب في التيمم بالحجر ، بل في حاشية المدارك للأستاذ الأعظم‌

١١٩

ما يظهر منه دعوى اتفاق الأصحاب على ذلك إلا من شذ منهم ، بل في الجامع اشتراطه بفقد الغبار أيضا.

لكن قد يشكل الجميع بظهور أن منشأ الاختلاف في التيمم بالحجر ونحوه الاختلاف في معنى الصعيد ، فلا يجتزى به مطلقا ، بناء على أن الصعيد هو التراب خاصة كما في الصحاح والمقنعة وعن الجمل والمفصل والمقاييس والديوان وشمس العلوم ونظام الغريب والزينة لأبي حاتم ، بل ربما استظهر من القاموس والكنز ، كما أنه حكي عن الأصمعي وكذا عن أبي عبيدة لكن بزيادة وصفه بالخالص الذي لا يخالطه سبخ ورمل ، وبني الأعرابي وعباس والفارس ، بل عن المرتضى رحمه‌الله نقله عن أهل اللغة.

ويؤيده‌قول الصادق عليه‌السلام (١) في الطين : « إنه الصعيد » ‌و‌في آخر (٢) « انه صعيد طيب وماء طهور » ‌وما في‌صحيحة زرارة (٣) « ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد » ‌وظهور قوله تعالى (٤) ( مِنْهُ ) في إرادة المسح ببعض الصعيد الذي يعلق باليد ، سيما بعد تفسيره بذلك في‌الصحيح عن الباقر عليه‌السلام (٥) قال فيه : « ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) ـ إلى آخره ـ فلما أن وضع الوضوء عمن لم يجد الماء أثبت عوض الغسل مسحا ، لأنه قال ( بِوُجُوهِكُمْ ) ثم وصل بها ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) أي من ذلك التيمم ، لأنه علم أن ذلك أجمع لا يجري على الوجه ، لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٥ وهو قول أحدهما (ع).

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ٨.

(٤) سورة المائدة ـ الآية ٩.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب التيمم ـ الحديث ١.

١٢٠