جواهر الكلام - ج ٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

قلت : وقد يستدل عليه ـ مضافا إلى ما ذكرنا ، وإلى استصحاب جريان أحكام المسلم عليه ، وإلى ما يظهر من المشهور في باب الصلاة على الميت من الصلاة عليه وإن دعي عليه فيها ، حتى قال في المنتهى : « وتجب الصلاة على الميت البالغ من المسلمين بلا خلاف » الى أن استدل عليه أيضا بما رواه‌ الشيخ عن طلحة بن زيد (١) عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال : « صل على من مات من أهل القبلة ، وحسابه على الله تعالى » ثم قال : « المسلم ها هنا كل مظهر للشهادتين ما لم يعتقد خلاف ما علم بالضرورة من الدين » انتهى. إذ لا قائل بالفرق سيما مع اشتراط الصلاة بالغسل ، بل لعل الصلاة أولى بالمنع ، فحينئذ يصح الاستدلال بكل ما يصلح لذلك من العمومات وغيرها ، وإلى ما عساه يشعر به فحوى أخبار الباب وكلام الأصحاب من إيجاب تغسيل الميت في بلاد الإسلام بل أبعاضه وان لم يعرف مذهبه ولا أصل يلحقه بالامامي ـ بإطلاق الأدلة أو عمومها كقوله عليه‌السلام (٢) : « غسل الميت واجب » وفي‌ مضمر أبي خالد (٣) « أغسل كل الموتى الغريق وأكيل السبع وكل شي‌ء إلا ما قتل بين الصفين » ونحو ذلك (٤) من الإطلاقات في الزوج والزوجة والمحارم ، ونحو‌ قوله عليه‌السلام (٥) : « بغسله الولي أو من يأمره بذلك » وغيرها مع انجبار ما في بعضها من الضعف في السند أو الدلالة بما تقدم ، كما انه لا ينافيها نحو‌ قوله عليه‌السلام (٦) : « أيما مؤمن غسل مؤمنا » ‌

__________________

(١) الاستبصار ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الصلاة على الأموات ـ حديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب غسل الميت.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب غسل الميت.

٨١

إذ أقصاه بعد اعتبار المفهوم وكون لفظ المؤمن لا يشمل المخالف عدم حصول ذلك الموظف من الثواب على تغسيل غير المؤمن ، وهو مسلم لك ، بل ستعرف انه مكروه على ما ذكر جماعة من الأصحاب.

والأصل في الخلاف في المقام المفيد في المقنعة ، حيث قال : « ولا يجوز لأحد من أهل الايمان أن يغسل مخالفا للحق في الولاية ، ولا يصلي عليه إلا أن تدعوه ضرورة الى ذلك من جهة التقية » انتهى وربما ظهر من الشيخ في التهذيب موافقته عليه ، حيث استدل عليه بأنه كافر ، ولا يجوز تغسيل الكافر بإجماع الأمة كالمحكي عن المراسم والمهذب من ان المخالف لا يغسل ، ولعله الظاهر من السرائر أيضا ، واختاره جماعة من متأخري المتأخرين ، وجعل في الحدائق منشأ القولين هو الحكم بإسلامه وكفره ، فلا إشكال في وجوب الغسل بناء على الأول وان لم يدل عليه دليل بالخصوص تمسكا بالعمومات ، كما انه لا إشكال في عدمه بناء على الثاني ، ومن هنا أنكر على الذخيرة والمدارك حيث ظهر منهما التوقف في الوجوب ، بل حكما بعدمه مع البناء على الأول ، حتى قال : إنه إحداث قول ثالث ولا وجه له.

قلت : لعل وجهه هو إلحاق أحكامه بعد الموت بأحكامه في الآخرة ، إذ لا إشكال في كونه كالكافر بالنسبة إليها وان حكم بإسلامه وأجري عليه جميع أحكام الإسلام من الطهارة واحترام ما له ونفسه وغير ذلك في الدنيا ، ولا تلازم بينهما ، أو ان وجهه الشك في عمومات تشمل كل مسلم ، فالأصل البراءة ، بل قد يظهر من ملاحظة جملة منها إرادة المؤمن لا أقل من عدم انصراف الإطلاق إليه ، سيما بعد ما ظهر من بعض الأخبار (١) ان التغسيل احترام للميت وتكرمة له ، ولا يصلح له إلا المؤمن.

ومن ذلك كله ظهر لك ما يمكن الاستدلال به الثاني ، ولا ريب في ضعفه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

٨٢

في جنب ما تقدم ، إذ هو إما البناء على كفر المخالف ، وهو معلوم الفساد ، للأخبار (١) المعتبرة المنجبرة بعمل الأصحاب وبالسيرة القاطعة الدالة على تحقق الإسلام بالشهادتين ، وانه الذي عليه جماعة الناس ، وبه تحقن الدماء وتنكح النساء وتحل المواريث وغير ذلك ، وإما دعوى إلحاقه بالكافر في هذا الحال وان كان مسلما قبله ، وهو أضعف من سابقه لخلوه عن الدليل ، بل قد عرفت قيامه على خلافه ، وإما إنكار دليل يدل على وجوب تغسيل كل مسلم وقد عرفت وجوده من العمومات وغيرها ، وإما ما عساه يظهر من بعض الأخبار (٢) ان ذلك كرامة له واحترام ، ولا احترام للمخالف ، وفيه ـ مع أن الموجود في كثير من الأخبار (٣) المعتبرة تعليله بخروج النطفة التي خلق منها منه عند الموت ، ولأجله كان كغسل الجنابة ، وفي آخر (٤) تعليله بلقياه لأهل الآخرة من الملائكة وغيرها ، فينبغي أن يكون طاهرا ـ انه لا مانع من جريانه أيضا بالنسبة للمخالف باعتبار إظهاره الشهادتين ، فالإكرام في الحقيقة لهما ، كما أنهما من أجلهما روعيت أمور كثيرة ، هذا.

وقد وقع في كشف اللثام تفصيل لا نعرف له موافقا عليه ، بل ولا وجها معتبرا يركن اليه ، فحكم بحرمة لتغسيل للمخالف مع قصد الإكرام له لنحلته أو لإسلامه ، وحمل كلام من صرح بالحرمة من الأصحاب على ذلك ، قال : « وحينئذ لا استثناء للتقية أو غيرها ، ومن التقية هنا حضور أحد من أهل نحلته لئلا يشيع عندهم أنا لا نغسل موتاهم ، فيدعو ذلك الى تعسر تغسيل موتانا أو تعذره ، ويمكن تنزيل الوجوب الذي‌

__________________

(١) أصول الكافي باب ( ان الايمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الايمان ) من كتاب الايمان والكفر.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣.

٨٣

قال به المصنف على ذلك ، وحكم بالجواز مع إرادة تغسيله كتغسيل الجمادات لا بقصد الإكرام والاحترام ـ قال ـ : وعسى أن يكون ذلك مكروها لتشبيهه بالمؤمن ، وكذا إن أريد إكرامه لرحم أو صداقة أو محبة ، وان أريد إكرامه لإقراره بالشهادتين احتمل الجواز ، أما إذا أريد إكرامه لكونه أهلا له لخصوص نحلته أو لأنها لا تخرجها عن الإسلام والناجين حقيقة فهو حرام ـ وقال بعد ان حكى عن الشرائع الجواز ، وعن المبسوط والنهاية والجامع الكراهة ـ : لا خلاف بين القول بالجواز والحرمة إذا نزلت الحرمة على ما ذكرناه ، ولا ينافيه استثناء التقية ، لجواز أن يكون الدلالة على المراد » انتهى.

وفي كلامه مواضع للنظر لا تخفى ، وكأن الذي دعاه الى ذلك تعبير بعض الأصحاب كالمصنف رحمه‌الله بالجواز وآخر بالكراهة ، وثالث بالحرمة ، ورابع بالوجوب ، فأراد الجمع بين الجميع بعد ان ثبت عنده ان سبب منع التغسيل للمخالف انما هو من جهة عدم استحقاقه للإكرام والاحترام ، والفرض ان وجوب غسل الميت لذلك ، ولعله يرتكب مثل هذا التفصيل في الكافر أيضا ، ويحتمل أنه يفرق بينهما ، ومن المعلوم أن من عبر بالجواز كالمصنف لم يرد ذلك ، بل الظاهر إرادة إثبات أصل الجواز في مقابلة القول بالمنع ، وإلا فمتى جاز وجب لعدم معقولية غيره ، ويشعر بذلك تعبيره به عن المؤمن والمسلم ، حيث قال : كل مظهر للشهادتين يجوز تغسيله ، ومن المعلوم وجوبه بالنسبة للأول ، فلا ينبغي الإشكال في ذلك من هذه الجهة على ما وقع من بعض متأخري المتأخرين حتى بالغ في الإنكار ، كما أنه لا ينبغي الإشكال فيه من جهة التعبير بالكراهة أيضا على ما ستعرف ، ثم لم نعلم أنه ما يريد بالجواز في الصورة التي جوزها فيه هل هو بمعنى الإباحة الخاصة أو المندوب في مقابلة الحرمة؟ كالكراهة التي ذكرها بمعنى أقلية الثواب أو المصطلحة ، وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في خروج ما ذكره عن أخبار الباب وكلام الأصحاب ، ولعله عند التأمل يرجع الى إنكار التغسيل‌

٨٤

وان الذي ذكر جوازه ليس من التغسيل المعروف الذي هو عبادة.

نعم بقي شي‌ء وهو انه قد صرح جماعة من الأصحاب منهم المصنف فيما يأتي بعد القول بالوجوب بأن ذلك مكروه ، فان اضطر غسله غسل أهل الخلاف ، وصرح بعضهم بأنه ان لم يعرفه غسله كتغسيل أهل الحق ، وقد يشكل ذلك بالتنافي بين الكراهة والوجوب أولا ، وبعدم الاجتزاء بغسل أهل الخلاف بعد أن قام الدليل على وجوب التغسيل المنصرف الى التغسيل الحقيقي ثانيا ، وبعدم الدليل على الانتقال الى غسل أهل الحق بعد فرض وجوب الأول عند تعذره ، بل قضيته السقوط حينئذ ثالثا.

وقد يدفع الأول بما تكرر غير مرة من بيان المكروه في العبادة ، وخصوصا في المقام ، لظهور كون المراد كراهة تولي مباشرة المخالف مع وجود غيره نظير ما قلناه في استحباب مباشرة الولي بخصوصه للميت ، إذ لا فرق بين الكراهة وبين المستحب في منافاة الواجب ، والثاني بما دل (١) من الأمر بإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم ، والثالث بوجوب أصل التغسيل ، لكن قد يناقش في الثاني بعدم شمول ما دل على ذلك لمثل المقام ، لكون التغسيل خطابا للغسل لا الميت ، فلا يبعد القول بوجوب تغسيل أهل الحق مع عدم التقية ، وإلا فمعها يغسل أهل الحق كتغسيلهم فضلا عنهم للأمر بالتقية لا لدليل الإلزام ، ويؤيد ذلك انه لا يعقل الأمر بالعبادة الفاسدة لغير التقية ، مضافا الى أن قضية ما ذكرناه من الأدلة مساواتهم لأهل الحق في ذلك ، وقد يحمل قولهم : فان اضطر غسله كغسل أهل الخلاف على إرادة التقية ، إذ هي أغلب أفراد الاضطرار.

ثم انه لا إشكال في تبعية ولد المسلم للمسلم ، كما أنه لا إشكال فيه بالنسبة للكافر ، نعم قد يشكل في ولد الزنا من كل منهما ، ولا يبعد عدم جريان حكم الإسلام عليهما وان قلنا بطهارتهما ، لكن قد يقال بوجوب تغسيلهما لا للحكم بإسلامهما بل لعدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ـ حديث ٥ و ٦.

٨٥

الحكم بكفرهما ، فتشملهما حينئذ العمومات الدالة على تغسيل كل ميت ، سيما مع ما دل (١) على أن كل مولود يولد على الفطرة ، وفي الخلاف الإجماع على أن ولد الزنا يغسل ويصلى عليه ، واحتمال التفصيل بين ولد الزنا من المسلم وبينه من الكافر فيلحق الأول بأبيه لغة دون الثاني ضعيف ، بل لعل العكس أولى منه ، لنفي ولد الزنا من المسلم شرعا. وعدم ثبوت ذلك في حق الكفار ، والمجنون البالغ من الكفار والمسلمين بعد وصف الإسلام والكفر ملحق بهما على الظاهر ، وكذا لو بلغا مجنونين على إشكال لثبوت التبعية في حق الطفل دون غيره ، فقد يقال حينئذ بعدم الحكم عليهما بشي‌ء منهما ، فيجري عليهما ما تقدم من وجوب التغسيل ، إلا أنه كما ترى بالنسبة إلى ولد الكافر ، والمسبي يتبع السابي ، فيحكم بإسلامه حينئذ ، لكن قد استشكل فيه بعضهم من عدم قيام دليل التبعية في غير الطهارة ، ويأتي تحقيق القول فيه ان شاء الله كما أنه يأتي تحقيق القول في لقيط دار الإسلام بل ودار الكفر مع إمكان التولد من مسلم ، وان حكم فيه بعضهم هنا بجريان حكم الإسلام عليهما ، لكنه لا يخلو من نظر بالنسبة للأخير ، والذي ينبغي تحقيقه في المقام هو ما أشرنا إليه سابقا من أن المدار في وجوب التغسيل على الإسلام وما في حكمه أو على عدم ثبوت الكفر ، ولعل الأقوى الثاني قضاء للعمومات وان ظهر من كلام الأصحاب الأول ، فتأمل جيدا.

( والشهيد ) والمراد به هنا هو الذي قتل بين يدي الإمام عليه‌السلام كما في المقنعة والقواعد والتحرير وعن المراسم أو نائبه كما في الوسيلة والسرائر والجامع والمنتهى وعن المبسوط والنهاية ، ولعل الثاني مراد الأولين ، ولذا قال في مجمع البرهان : المشهور أن المراد بالشهيد هنا من قتل في المعركة بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أصول الكافي ـ باب فطرة الخلق على التوحيد ـ حديث ٤ من كتاب الايمان والكفر.

٨٦

أو الإمام عليه‌السلام أو النائب الخاص وغيره ، وأنه مذهب الأكثر ، بل في الذخيرة ان الأصحاب اشترطوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام وألحق به النائب الخاص ، كما أن الظاهر إرادة الجميع بالإمام عليه‌السلام ما يعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في جهاد بحق ولو بدونهما ، كما لو دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الإسلام كما في ظاهر الغنية أو صريحها وكذا إشارة السبق وصريح المعتبر والذكرى والدروس والمدارك والذخيرة والحدائق وظاهر الروضة والروض وعن ظاهر الخلاف ومحتمل التذكرة ونهاية الأحكام ، بل في ظاهر الأول أو صريحه الإجماع عليه ، ولعله الأقوى‌ للحسن كالصحيح (١) عن أبان بن تغلب قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الذي يقتل في سبيل الله يدفن في ثيابه ولا يغسل إلا ان يدركه المسلمون وبه رمق ثم يموت بعد ، فإنه يغسل ويكفن ويحنط ، ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفن حمزة في ثيابه ولم يغسله ولكنه صلى عليه » ونحوه في ذلك‌ خبره الآخر (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذي يقتل في سبيل الله أيغسل ويكفن ويحنط؟ قال : يدفن كما هو في ثيابه إلا أن يكون به رمق » الى آخره ومضمر أبي خالد (٣) قال : « اغسل الموتى الغريق وأكيل السبع وكل شي‌ء إلا ما قتل بين الصفين ، وإن كان به رمق غسل وإلا فلا ».

ولا ينافي ذلك تعليق الحكم على الشهيد في غيرها من الأخبار (٤) بدعوى اعتبار الامام عليه‌السلام أو نائبه في مسماه ، لا أقل من الشك سيما بعد الاعتضاد بفتوى من عرفت من الأصحاب ، فيبقى حينئذ عموم ما دل على تغسيل كل ميت محكما مع إمكان دعوى انصراف تلك الأخبار الى المقتول بين يدي الإمام (ع) أو نائبه ، لمنع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٥.

٨٧

اعتبار ذلك فيه شرعا وغيره ولعل الخصم انما ينازع في الحكم مع تسليم دخوله في الشهيد حقيقة ، كما هو ظاهر عبارة المصنف رحمه‌الله من كون الوصف مخصصا ، فحينئذ يكون ما علق فيه الحكم على الشهيد شاهدا للمختار لا عليه ، ومن هنا قد استدل في الذكرى بعموم لفظ الشهيد ، وما في كشف اللثام من انه قد يمنع ممنوع ، قال في القاموس : « الشهيد القتيل في سبيل الله تعالى لأن ملائكة الرحمن تشهده ، أو لأن الله تعالى وملائكته شهود له بالجنة ، أو لأنه ممن يستشهد به يوم القيامة على الأمم الخالية ، أو لسقوطه على الشهادة أي الأرض ، أو لأنه حي عند ربه حاضر ، أو لأنه يشهد ملكوت الله وملكه » انتهى. وفي المغرب « قال النضر : الشهيد الحي ، كأنه تأول قوله تعالى (١) ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ ) كأن أرواحهم احتضرت دار السلام ، وأرواح غيرهم لا تشهدها الى يوم القيمة ، وقال أبو بكر : سموا شهداء لأن الله تعالى وملائكته شهود له بالجنة ، وقال غيره سموا شهداء لأنهم ممن يستشهد به يوم القيامة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأمم الخالية » انتهى ، هذا.

مع انه لا ريب في ثبوت الاستعمال للفظ الشهيد فيما نحن فيه ، والأصل فيه هنا الحقيقة بدعوى الوضع للكلي الشامل له وللمقتول بين يدي الإمام عليه‌السلام إذ هو خير من المجاز ، ويؤيد ذلك أيضا الصدق العرفي حقيقة ، وهو كاشف عن غيره حتى لو كان المعنى شرعيا من غير فرق بين القول بوضعه له شرعا أولا ، إذ العرف المتشرعي ضابط للمراد الشرعي مجازا كان أو حقيقة ، فتأمل جيدا. نعم قد يشعر‌ قوله عليه‌السلام في مضمر أبي خالد : « إلا ما قتل بين الصفين » باعتبار تقابل العسكرين في جريان خصوص هذا الحكم على الشهيد ، فلا يشمل من قتل من المسلمين بدون ذلك‌

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الآية ١٦٣.

٨٨

كالمقتول اتفاقا (١) أو كان عينا من عيونهم أو نحو ذلك ، إلا أن غيره من الأخبار مما اشتملت على التعبير بالقتل في سبيل الله شاملة له ، ولعله الأقوى ، لإطلاق جميع الأصحاب بالنسبة الى ذلك ، فيمكن حينئذ تنزيل قوله : « ما بين الصفين » على ما لا ينافيه وان كان هو أخص منه ، فتأمل.

ويشترط مضافا الى ما ذكرنا من معنى الشهيد أن يكون قد مات في المعركة كما صرح به جماعة من الأصحاب ، بل نسبه غير واحد إليهم مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، بل في مجمع البرهان كان دليله الإجماع ، وفي التذكرة « الشهيد إذا مات في المعركة لا يغسل ولا يكفن ، ذهب إليه علماؤنا أجمع » ونحوه في ذلك المعتبر والغنية والخلاف بل صرح في الأخير بأنه إذا خرج من المعركة ثم مات بعد ساعة أو ساعتين قبل تقضي الحرب حكمه حكم الشهيد ، واستحسنه في المنتهى ، وقضية هذا الإطلاق عدم الفرق في ذلك بين أن يدركه المسلمون وبه رمق الحياة أولا.

ويؤيده ـ بعد ما عرفت من إطلاق معقد الإجماع وإطلاق الشهيد والقتيل في سبيل الله وما قتل بين الصفين وأصالة البراءة ونحوها ، مضافا إلى غلبة عدم الموت بأول الجراحة بل غالبا يبقى آنا ما معها ، على أنه لو اعتبر ذلك لوجب تغسيل جميع القتلى من باب المقدمة ، إذ لا ظهور يستند إليه في ذلك ، مع ما في ذلك من العسر والحرج سيما إذا أدرك وحياته غير مستقرة مع عدم انقضاء الحرب ـ الخبر المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) انه قال يوم أحد : « من ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع؟ فقال رجل : أنا أنظر لك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر فوجده جريحا وبه رمق ، فقال له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات ،

__________________

(١) أي مع عدم عسكر للمسلمين ( منه رحمه‌الله ).

(٢) سيرة ابن هشام على هامش الروض الأنف ج ـ ٢ ـ ص ١٤١.

٨٩

فقال : أنا في الأموات ، فأبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عني السلام ، قال : ثم لم أبرح إلى أن مات » ولم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتغسيل أحد منهم ، وكذا‌ خبر عمرو بن خالد (١) عن زيد عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد فواروه في ثيابه ، وإن بقي أياما حتى تتغير جراحته غسل » بعد تنزيله على إرادة البقاء في المعركة. لكنه بعيد بل غير متجه ، فلعل الأولى حمله على التقية كما عن الشيخ وغيره ، سيما بعد ضعف سنده.

وخالف في ذلك بعضهم كالمفيد في ظاهر المقنعة والشهيدين في ظاهر الذكرى والروض ، وحكي عن مهذب ابن البراج ، وتبعهم جماعة من متأخري المتأخرين ، فاكتفوا في وجوب التغسيل بمجرد إدراكه حيا ، لما تقدم من خبري أبان بن تغلب ومضمر أبي خالد ، وخبر أبي مريم عن الصادق عليه‌السلام (٢) « الشهيد إذا كان به رمق غسل وكفن وحنط وصلي عليه ، وإن لم يكن به رمق كفن في أثوابه » ولعل الأقوى في النظر الأول لما عرفت ، مع تنزيل ما في هذه الأخبار على إرادة الإدراك بعد انقضاء الحرب ، إذ هو المتعارف في تفقد القتلى ، لا يقال : إن ذلك أيضا مشمول للإطلاق الأول ، إذ يصدق عليه أنه مات في المعركة ، لأنا نقول : قد صرح جماعة أنه يخرج بتقييد الأصحاب الموت فيها ما إذا نقل عنها وبه رمق أو انقضى الحرب وبه رمق ، وإلا فمتى كان كذلك وجب تغسيله ، ويشهد له عدم صدق القتل بين الصفين مع الأول ، والثاني ما في الخلاف من إجماع الفرقة ، على أنه إذا مات بعد تقضي الحرب يجب غسله حتى لو كان غير مستقل الحياة ، كما يشعر به أيضا ما في الأخبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

٩٠

السابقة من الاكتفاء برمق الحياة ، لكنه لا يخلو من تأمل.

وكيف كان فالشهيد بعد وجود ما عرفت فيه لا يغسل ولا يكفن ويصلى عليه إجماعا في الجميع محصلا ومنقولا مستفيضا إن لم يكن متواترا كالأخبار (١) نعم يعتبر في الثاني عدم تجريده من الثياب ، أما لو جرد فالظاهر وجوب تكفينه كما صرح به جماعة من الأصحاب ، ويدل عليه ما في‌ خبر أبان بن تغلب (٢) « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفن حمزة وحنطه لأنه كان قد جرد » كما يشعر به أيضا ما في غيره من الأمر (٣) بدفن الشهيد بثيابه.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا من حكم الشهيد بين الحر والعبد ، ولا بين المقتول بحديد أو غيره ، ولا بين المقتول بسلاحه أو غيره ، ولا بين المقتول خطأ أو عمدا بلا خلاف يعرف ، لإطلاق الأدلة أو عمومها ، بل وكذا لو داسته خيول المسلمين أو رمته فرسه في نهر أو بئر بسبب جهاد الكفار ، لصدق كونه قتيلا في سبيل الله وغيره ، بل صرح جماعة من الأصحاب بعدم الفرق بين البالغ وغيره ، وبين الرجل والمرأة ، بل قد يظهر من كشف اللثام في آخر الباب دعوى الإجماع على ذلك بالنسبة إلى الصبي والمجنون للإطلاق والصدق ، ولما‌ روي (٤) أنه « قد كان في شهداء بدر وأحد حارثة بن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٨ و ٩ و ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٥ و ٧ و ٩.

(٤) في الاستيعاب على الإصابة ج ١ ص ٢٨٣ حارثة بن النعمان بن نقع شهد البدر والأحد والخندق والمشاهد كلها وفي الإصابة ج ـ ١ ـ ص ٢٩٨ أدرك حارثة خلافة معاوية ومات بعد أن ذهب بصره.

وأما عمير بن أبى وقاص ففي الإصابة ج ـ ٣ ـ ص ٣٦ ترجمة عمير بن أبي وقاص قسم الأول « عرض جيش بدر على رسول الله (ص) فاستصغر عمير فرده فبكى فأجازه وقال أخوه أسعد : كنت أعقد حمائل سيفه من صغره فقتل وهو ست عشرة سنة قتله عمرو ابن عبدود العامري الذي قتله علي عليه‌السلام يوم الخندق ».

٩١

النعمان وعمرو بن أبي وقاص أخو سعد ، وهما صغيران ولم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتغسيل أحد منهم » وما روي أيضا (١) من استشهاد الرضيع ولد الحسين عليه‌السلام في وقعة كربلاء ولم ينقل عن أحد تغسيلهم.

ومع ذلك كله فللنظر في كل من لم يكن مخاطبا بالجهاد مجال للشك في تناول الأدلة ، اللهم إلا أن يكون المسلمون مخاطبين بمحاربة العدو بأطفالهم ونسائهم ومجانينهم كما إذا عظم أمر الكافرين ، فيصدق حينئذ القتل في سبيل الله ونحوه ، ولا دلالة في‌ خبر طلحة بن زيد عن جعفر عليه‌السلام (٢) عن أبيه عن علي بن الحسين عليهم‌السلام قال : « سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن امرأة أسرها العدو فأصابوها حتى ماتت أهي بمنزلة الشهداء؟ قال : نعم إلا أن تكون أعانت على نفسها » لظهور أن المراد بمنزلتهم في الثواب ونحوه لا في هذا الحكم ، ونحوها غيرها من المقتولين ظلما والمدافعين عن أنفسهم أو مالهم أو عرضهم أو الميتين بالبطن أو الطاعون أو النفاس ممن أطلق عليهم الشهداء ، فإنه يجب تغسيلهم إجماعا على ما نقله غير واحد من الأصحاب ، ولعموم ما دل على وجوب تغسيل الميت مع ظهور أدلة الشهيد في غير هؤلاء.

ولا فرق أيضا على المشهور فيما ذكرنا من الشهيد بين كونه جنبا وغيره للإطلاق المتقدم ، خلافا للمنقول عن ابن الجنيد والمرتضى فأوجبا غسله ، وهو ضعيف كمستندهما مما‌ روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) أنه قال لما قتل حنظلة ابن الراهب : « ما شأن حنظلة فإني رأيت ملائكة تغسله ، فقالوا له : إنه جامع فسمع الصيحة فخرج إلى القتال » ومن أنه غسل واجب لغير الموت فلا يسقط بالموت ، إذ في الأول أنه لا دلالة‌

__________________

(١) الإرشاد للمفيد عليه الرحمة ص ٢٢٤ المطبوعة بطهران سنة ١٣٧٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٦.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣.

٩٢

فيه إن لم يكن دالا على العكس ، لأنه لو وجب لم يسقط عنا بفعل الملائكة ، مع عدم الدلالة في فعلهم على الوجوب علينا ، وفي الثاني بعد تسليم أن غسل الجنابة مما يجب لنفسه أنه كسائر التكاليف التي تسقط بالموت عمن كلف بها ، ولا تنتقل إلى غيره ، على أن الكلام في غسل الميت ، وأيضا فهو اجتهاد في مقابلة النص.

كما أنه لا فرق أيضا في الشهيد بين قتيل المشركين وقتيل أهل البغي ، ونسبه في المنتهى والتذكرة إلى فتوى علمائنا ، ويدل عليه مضافا إلى ذلك وإلى تناول أخبار الشهيد له خصوص‌ خبر عمار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام (١) « إن عليا عليه‌السلام لم يغسل عمار بن ياسر ولا هاشم بن عتبة ، وهو المرقال ، ودفنهما في ثيابهما » ولا ينافي ذلك ما في ذيله من عدم الصلاة عليهما لوجوب حمله بالنسبة إليه خاصة على التقية كما عن الشيخ ، أو أنه وهم من الراوي.

ثم انه لا إشكال عند الأصحاب على الظاهر في إجراء أحكام الشهيد على كل من وجد فيه أثر القتل من المسلمين ، أما من لم يوجد فيه ذلك فعن الشيخ وتبعه الفاضلان أنه كذلك عملا بالظاهر لعدم انحصار القتل بما ظهر أثره ، وعن ابن الجنيد عدمه ، ولعله لأصالة وجوب تغسيل الأموات مع الشك في تحقق الشرط هنا ، وهو لا يخلو من قوة ، فتأمل.

( وكذلك ) يسقط ( وجوب تغسيل من وجب عليه القتل ) قودا أو حدا بعد موته كما في القواعد والجامع والإرشاد من غير فرق بين كون الحد رجما أو غيره كما صرح به في الذكرى وجامع المقاصد والروض وغيرها ، بل في الروض نسبته إلى الأصحاب كالحدائق إلى ظاهرهم ، وكالمحكي من عبارة مجمع البرهان ، قال بعد ذكره عبارة الإرشاد : وكان دليله الإجماع ، وقد عرفت أنها مطلقة ، لكن مع ذلك كله لا يخلو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٤.

٩٣

من تأمل بل منع وفاقا لصريح المنتهى وكشف اللثام والحدائق وعن نهاية الأحكام وظاهر غيرهم ، فاقتصروا على المقتول قودا وخصوص المرجوم من أنواع الحد وقوفا فيما خالف الأصل على محل النص الذي هو مستند الحكم ، وتعليل الأول في الذكرى بالمشاركة بالسبب مما لا محصل له بحيث ينطبق على مذهبنا من حرمة القياس ، وعلى كل حال ف يؤمر من وجب عليه ذلك بالاغتسال قبل قتله ثم لا يغسل بعد ذلك والأصل في هذا الحكم ما رواه الكليني بسند ضعيف جدا عن‌ مسمع كردين (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « المرجوم والمرجومة يغسلان ويحنطان ويلبسان قبل ذلك ثم يرجمان ويصلى عليهما ، والمقتص منه بمنزلة ذلك يغسل ويحنط ويلبس الكفن ثم يقاد ويصلى عليه » ورواه الصدوق مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام والشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب وبإسناد ثان فيه إرسال وغيره ، لكن في التهذيب يغتسلان من الافتعال بخلاف ما في الكافي ، فإنه فيه يغسل بالتشديد مع البناء للمجهول.

وكيف كان فلا إشكال فيما تضمنه من الحكم بالغسل قبل الموت وإن ضعف السند لانجباره بفتوى الأصحاب به من غير خلاف يعرف كما اعترف به في المعتبر ، حيث قال : إن الخمسة وأتباعهم أفتوا بذلك ، ولم أعرف لأصحابنا فيه خلافا ولا طعنا بالإرسال مع العمل ، ونحوه ما في الذكرى والحدائق ، وفي مجمع البرهان كان دليله الإجماع ، وقال في الخلاف : « المرجوم والمرجومة يؤمران بالاغتسال ثم يقام عليهما الحد ، ولا يغسلان بعد ذلك ، ويصلي عليهما الامام عليه‌السلام وغيره وكذلك حكم المقتول قودا » ثم نقل مذهب الشافعي من تغسيلهما بعد الموت ، والزهري من عدم الصلاة على المرجوم ، ومالك لا يصلي عليهما الامام عليه‌السلام ويصلي غيره ، وقال : « دليلنا إجماع الفرقة ، فإنهم لا يختلفون فيه » انتهى. ولا إشعار في اقتصار المفيد كما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

٩٤

عن سلار على المقتول قودا بالخلاف في المرجوم ، ولئن سلم فهو لجوج بما ندم.

ثم ان ظاهر النص أو صريحه كالفتوى بل صرح به جماعة أن هذا الغسل انما هو غسل ميت قدم ، فيعتبر فيه حينئذ ما يعتبر فيه من الأغسال الثلاثة مع مزج الخليطين في الاثنين منها ونحو ذلك من غير خلاف أجده فيه سوى العلامة في القواعد ، وتبعه بعض من تأخر عنه حيث استشكل في وجوب الثلاثة ، وعلله بعضهم بأصالة البراءة ، وبأن المعهود الوحدة ، في غسل الأحياء ، وبإطلاق الأمر بالاغتسال في النص والفتوى فيتحقق مع الوحدة ، وضعف الجميع واضح ، وكذا لا إشكال في الاجتزاء به عن الغسل بعد الموت ، وأنه به ترتفع النجاسة الحاصلة بسبب الموت في غيره ، وكذا سائر ما يترتب على غسل الميت من عدم وجوب الاغتسال بالمس ونحوه ، ولا وجه لاستبعاد ذلك من حيث تقديم الغسل على سبب النجاسة بعد فرض ثبوت ذلك من النص والفتوى ، إذ الأحكام الشرعية موكولة إلى صاحبها ، وربما أيده بعضهم بما نحن في غنية عنه من‌ خبر محمد بن قيس الثقة عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) « ان رجلا أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال اني زنيت فطهرني ـ إلى أن ذكر أنه عليه‌السلام رجمه ـ فلما مات أخرجه فصلى عليه ودفنه ، فقالوا : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام لم لا تغسله؟ قال : قد اغتسل بما هو منه طاهر إلى يوم القيامة » فلا حاجة للمناقشة فيه بعدم ظهوره فيما نحن فيه من تقدم التغسيل ، مع إمكان تكلف دفعها ، فتأمل.

والظاهر أنه لا يقدح الحدث الأصغر بعده للامتثال ، بل ولا في أثنائه كما صرح به بعضهم ، وإن احتمل في الذكرى مساواته حينئذ لغسل الجنابة ، لما دل (٢) على تشبيهه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب حد الزنا ـ حديث ٤ من كتاب الحدود والتعزيرات وهو مرفوعة أحمد بن محمد بن خالد.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت.

٩٥

به وانه بمنزلته ، بل في بعضها (١) تعليل أصل غسل الميت بخروج النطفة منه ، لكنه ضعيف لعدم تناول ذلك كله لمثله ، بل ولا للاجتزاء به عن الوضوء مع تقدم الحدث الأصغر عليه على إشكال فيه ، وكذا لا يقدح الحدث الأكبر بعده وفي أثنائه ولو كان جنابة ، وإن أوجبنا الاغتسال له إذا تحقق وجوب غايته أو مطلقا بناء على النفسية أو الغيرية ، ولا يدخل فيه شي‌ء من الأغسال مع تقدم أسبابها على ما في جامع المقاصد والروض ، لكن في الذكرى ( فيه نظر من فحوى الأخبار السابقة ، كما‌ في خبر زرارة عن الباقر عليه‌السلام (٢) « في الميت جنبا يغسل غسلا واحدا يجزي للجنابة ولغسل الميت ، لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة » انتهى. وربما يؤيده غيره من الأخبار الدالة على الاجتزاء (٣) بغسل واحد للحائض والنفساء إذا ماتت ، فكذا ما كان بمنزلته.

وما يقال ـ : إن الجنابة والحيض والنفاس ونحوها لا توجب غسلا بعد الموت حتى تدخل في غسل الميت حتى لو قلنا بوجوبها لنفسها ، لسقوط سائر التكاليف بالموت فلا بد من صرف ما ينافي ذلك من الأخبار السابقة عن ظاهره ، فلا يصح الاستدلال بها على المطلوب ـ قد يدفع بأن سقوط التكليف بالغسل لمكان الموت لا ينافي بقاء أثر حدث الجنابة مثلا ووصفه بحيث لا يرتفع إلا بالغسل كما هو ظاهر الصحيح المتقدم المشتمل على التعليل بأنهما حرمتان قد اجتمعتا في حرمة واحدة ، ومثله في ذلك الحسن كالصحيح عن الباقر عليه‌السلام (٤) أيضا ، وربما يشعر به خبر تغسيل الملائكة عمر بن حنظلة لمكان جنابته ، كما انه يقتضيه جميع ما دل على تحقق وصف الجنابة والحيض ونحوهما بمجرد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

٩٦

حصول أسبابها ، نعم لا دليل على وجوب الغسل على الغير لرفعها إن لم تدخل تحت غسل الميت ، مع إمكان التأمل فيه أيضا من حيث ما ورد من تعليل غسل الميت بأنه لأجل أن يلقى الله تعالى وملائكته طاهرا ، فإذا كان الأمر كما ذكرنا من أن غسل الميت يرفع آثار تلك الأحداث صح أن يقال ذلك أيضا في المقام حينئذ لأنه بمنزلته بل هو أولى ، هذا. مع إمكان تأييده في خصوص ما نحن فيه من المرجوم والمرجومة بشمول ما دل على التداخل هناك من‌ قوله عليه‌السلام (١) : « إذا كان عليك الله حقوق أجزأك عنها غسل واحد » لمثله.

وما يقال : من أن التداخل لا يتصور في المقام من حيث اختلاف كيفية غسل الميت مع غسل الجنابة قد يدفع بأنه لا مانع من أن يدخل تمام رافع الجنابة مثلا في بعض غسل الميت لو سلمنا أن غسل الميت مركب من الأغسال الثلاثة بحيث يكون كل واحد جزءا. وكذا ما يقال : إن غسل الميت ليس من الأغسال الرافعة لحدث أو مبيحة لصلاة فلا يتصور دخول ما كان كذلك فيه ، لأنا نقول : لا دليل على اشتراط التداخل بذلك ، بل قد يظهر منه خلافه ، نعم قد يستشكل في شمول خبر الحقوق لمثل هذا الفرد سيما مع عدم العموم اللغوي فيها ، كما أنه قد يستشكل في صحته لو قدم على غسل الميت من حيث نجاسة بدن الميت ، ويستشكل أيضا في كون هذا التداخل بالنسبة إلى غسل الميت قهريا أولا ، بل يتبع نية المكلف كما هو المختار فيما تقدم من تداخل الأغسال من ظاهر الأخبار (٢) ومن أصالة عدم التداخل فيقتصر على المتيقن ، وقد يؤيد الثاني أنه وجه الجمع بين ما دل (٣) من الأخبار على الاجتزاء بغسل واحد للجنب والحائض ونحوهما وبين ما دل على التعدد ، كخبر العيص (٤) قال : « قلت لأبي عبد الله (ع)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٧.

٩٧

الرجل يموت وهو جنب ، قال : يغسل من الجنابة ثم يغسل بعد غسل الميت » ونحوه في الدلالة على ذلك خبراه الآخران (١) وقال الشيخ بعد ذكر هذه الأخبار : هذه الروايات الثلاثة لا تنافي ما قدمنا من الأخبار ، لأن أول ما فيها أن الأصل فيها واحد ، وهو عيص بن القاسم ، ولا يجوز أن يعارض بواحد جماعة كثيرة ، ولو صح لاحتمل أن تكون محمولة على ضرب من الاستحباب دون الفرض والإيجاب ، ثم ذكر غير ذلك ، فتأمل. لكن مع ذلك كله فالأحوط في خصوص المقام تعدد الأغسال للجنابة أو للحيض أو نحوهما قبل أن يقتل وإن كان في ثبوت مثل ذلك بالنسبة إلى الميت نظر بل منع ، حتى أن المصنف في المعتبر نفى التعدد وجوبا واستحبابا في الجنب والحائض إذا ماتا مدعيا أنه مذهب أهل العلم ، وتحرير المسألة محتاج إلى إطناب تام لا يسعه المقام.

لكن بقي شي‌ء وهو أنه بناء على المختار من عدم وجوب رفع الأحداث لنفسها ولما تكن غاية تجب لها فهل يجب على المكلف رفع الجنابة بناء على عدم التداخل أولا؟ لعل الثاني أقوى للأصل مع عدم وضوح دليل معتبر على وجوب الطهارة من ذلك بالنسبة للموت ، فتأمل جيدا.

ثم ان ظاهر النص والفتوى الاجتزاء بهذا الغسل عنه بعد الموت إذا قتل بذلك ، أما إذا مات حتف أنفه وجب تغسيله قطعا اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن ، وكذا إذا قتل بغير السبب الذي اغتسل لأن يقتل به ، نعم قد يستشكل في وجوب التجديد لو عدل عن قتله بذلك السبب إلى آخر سيما فيما لو كان موافقا للأول ، كما لو كان القصاص مثلا عليه بسبب قتل شخصين فأراد ولي أحدهما القصاص منه فاغتسل لذلك ، ثم أنه عفي عنه مثلا فأراده الآخر ، وإن استظهره جماعة منهم الشهيدان والمحقق الثاني ، بل لعل الأقوى عدمه وإن كان الأحوط الأول سيما مع اختلاف السبب كالقود‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٥ و ٦.

٩٨

والرجم ، فتأمل. وكذا يظهر من فتاوى أكثر الأصحاب بل عن سلار وابن إدريس التصريح به وجوب الأمر بالغسل قبل القتل ، وربما ظهر من بعض المتأخرين خلافه فخير بينه وبين الغسل بعده ، لكونه قائما مقامه فهو أولى بالاجتزاء به ، وفيه أن ظاهر النص والفتوى بل معقد الإجماع السابق أن تقدم هذا الغسل عزيمة لا رخصة ، نعم قد يستشكل في أصل وجوب الأمر للأصل مع عدم انتهاض الدليل ، وهو غير وجوب الغسل ، لكن قد يدفع ذلك ـ بعد ظهور اتفاق عبارات الأصحاب عليه بل هو معقد إجماع الخلاف ـ بأنه هو الذي يتصور بدليته عن غسل الميت المخاطب به غير الميت ، فيكون الأمر حينئذ من المكلف قائما مقام تغسيله له بعد موته ، وربما يؤيده أيضا ما سمعته من رواية الكافي يغسل بالبناء للمجهول بعد القطع بعدم إرادة مباشرة الغير تغسيله ، فيحمل على أقرب المجازات إليه حينئذ ، ولا ينافيها قوله يغتسل في غيرها ، بل قد يدعى بناء على ما ذكرنا اشتراط صحة هذا الغسل بتحقق الأمر ، فلو اغتسل من دون أمر به لم يكن مجزئا ، فليس الأمر حينئذ هنا للتعليم حتى يختص بصورة الجاهل كما ظن ، لكن هل يعتبر في الآمر أن يكون الامام (ع) أو نائبه كما عساه يظهر من المحقق الثاني وتبعه في الروض أولا يعتبر؟ كما لعله الأقوى للأصل من غير معارض.

نعم قد يقال باعتبار الأمر ممن يجوز له التغسيل بعد الموت ، فلا يأمر الامرأة أجنبي كالعكس ، لما عرفت من بدليته عن الغسل ، فيعتبر فيه ذلك ممن هو مخاطب به ، لكن الأقوى عدمه تبعا لإطلاق الأصحاب ، فتأمل.

ولو ترك الأمر لغفلة أو غيرها احتمل وجوب التغسيل بعد ذلك للعمومات ، وعدمه لظهور الأدلة في انحصار مشروعية غسل مثل ذلك قبل القتل كما عساه صريح السرائر ، ولعل الأقوى الأول سيما إذا ترك الغسل مع الأمر ، ونحوه في ذلك ما لو أمر فلم يمتثل لنسيان أو غيره ، لظهور أن القائم مقام الغسل انما هو الأمر مع وقوع‌

٩٩

الغسل لا أحدهما ، وليعلم أن المصنف وإن اقتصر على ذكر الغسل كالشيخ في الخلاف وكما عن المبسوط في ترك التكفين وعن الجامع ترك التحنيط لكن الظاهر منهم إرادة الاختصار ، لما عرفت من اشتمال الرواية (١) التي هي مستند المقام على الثلاثة ، وكذا كثير من عبارات الأصحاب. نعم لا إشكال عند الأصحاب على الظاهر في تأخر الصلاة عليه بعد الموت كما هو نص الخبر السابق (٢) بالنسبة للمرجوم والمرجومة ، لكنه لا صراحة فيه في المقتص منه ، بل قد يشعر بخلافه ، إلا أنه يجب تنزيله على الأول بقرينة‌ قوله عليه‌السلام فيه : « والمقتص منه بمنزلة ذلك » أي المرجوم والمرجومة ، ولم أجد أحدا من الأصحاب تعرض لغسل ما يخرج منه من الدم على الكفن ، ولا لكيفية تكفينه إذا أريد القصاص منه ، ولعله يترك موضع القصاص ظاهرا ، والأمر في ذا سهل.

( وإذا وجد بعض الميت فان كان فيه الصدر أو الصدر وحده غسل وكفن وصلي عليه ودفن ) بلا خلاف محقق أجده في شي‌ء من ذلك بين المتقدمين والمتأخرين ، وإن ترك ذكر الدفن في المبسوط والنهاية والمراسم على ما حكي ، إذ لعله لوضوحه كما هو الظاهر وكذا ترك ما عدا الصلاة في جملة من الكتب لظهور أولوية وجوب ما عداها ، وكذا ما في السرائر والنافع من الاقتصار على ما فيه الصدر ، والوسيلة والغنية وعن المبسوط والنهاية من التعبير بموضع الصدر ، وعن الخلاف إذا وجد قطعة من ميت فيه عظم وجب غسله ، وإن كان صدره وما فيه القلب وجب الصلاة عليه ، وفي الجامع إن قطع نصفين فعل بما فيه القلب كذلك يعني الغسل والكفن والصلاة ، ولم يذكر غير ذلك ، لإمكان اتحاد الجميع عند التأمل كما هو واضح ، نعم قد يظهر من المعتبر حيث اقتصر في الصلاة على ما فيه القلب أو الصدر واليدان ولعظام الميت جميعها الخلاف في ذلك بالنسبة للصلاة على الصدر وحده ، لكنه ضعيف.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

١٠٠