جواهر الكلام - ج ٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

حوضي ، وهم زواري غدا في الجنة ، يا علي من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان على بناء بيت المقدس ، ومن زار قبوركم عدل له ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام ، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه ، فأبشر وبشر أوليائك ومحبيك منا السلام وقرة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعير الزانية بزناها ، أولئك شرار أمتي ، لا ينالهم شفاعتي ، ولا يردون حوضي ».

وحاصل الكلام أن استحباب ذلك فيها كاستحباب المقام عندها وزيارتها وتعاهدها كاد يكون من ضروريات المذهب إن لم يكن الدين ، فلا حاجة للاستدلال على ذلك ، نعم قد يلحق بقبور الأئمة عليهم‌السلام قبور العلماء والصلحاء وأولاد الأئمة عليهم‌السلام والشهداء ونحوهم فتستثنى أيضا من كراهة البناء ونحوه كما تقضي به السيرة المستمرة مع ما فيه من كثير من المصالح الأخروية ، لكنه لا يخلو من تأمل لإطلاق أجلاء الأصحاب من دون استثناء.

و ( منها ) دفن متين ابتداء في قبر واحد بلا خلاف أجده بين من تعرض له من ابن حمزة والفاضلين والشهيد وغيرهم عدا ابن سعيد في الجامع فنهى ، ولعله يريدها للأصل وضعف‌ المرسل عنهم عليهم‌السلام « لا يدفن في قبر واحد اثنان » عن إفادة غير الكراهة ، فلا وجه للحرمة حينئذ ، كما لا وجه للتوقف في الكراهة بعد ما عرفت ، مع إمكان تأيده زيادة على المسامحة فيه بأولويته من كراهة جمعهما في جنازة واحدة المنصوص عليها في الوسيلة والمعتبر وعن المبسوط والنهاية وغيرهما ، المدلول عليها في الجملة بمكاتبة الصفار (١) لأبي محمد عليه‌السلام وباحتمال تأذي أحدهما بالآخر ، وافتضاحه عنده.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٣٤١

هذا إذا كان ابتداء ، وأما لو أريد حفر قبر فيه ميت مع العلم ليدفن فيه ميت آخر ففي المبسوط وعن النهاية كراهيته ، كما هو قضية إطلاق العبارة والقواعد ، مع أنه صرح فيه أيضا بما يقتضي حرمة ذلك كما اختاره جماعة ، بل في الذكرى أن عليه إجماع المسلمين.

قلت : ولعله كذلك لحرمة النبش ، ولأنه صار حقا للأول خاصة ، كما عساه يومي إليه ما دل على قطع يد السارق منه ، لكونه حرزا له ، وعدم جواز تحويله منه إلى غيره ، ومن هنا حمل المصنف في المعتبر الكراهة فيه على الحرمة ، لكن قد يناقش بأن النبش أمر خارج عما نحن فيه من كراهة الدفن بعد النبش وعدمها ، وبأن دعوى أحقيته به بحيث يمنع من مثل هذا التصرف حتى لو كان مالكا للأرض ممنوع ، ولا دلالة لأخبار القطع عليه عند التأمل ، كما أن عدم جواز تحويله لو سلم لا يقضي بمنع دفن غيره معه ، ولعله لذا كان الأقوى الكراهة مطلقا من غير فرق بين المقامين على حسب ما عرفت ، ولا بين الأزج أي البيت الذي يبنى طولا وغيره ، وإن كان الأول قد لا يسمى نبشا.

هذا كله مع الاختيار ، أما مع الضرورة فلا ريب في ارتفاع الكراهة ، كما قد‌ « روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) يوم أحد يجعل اثنين وثلاثة في قبر ، وتقديم أكثرهم قرآنا ، » وفي المعتبر والتذكرة ونهاية الأحكام تقديم الأفضل ، وأنه ينبغي جعل حاجز بين كل اثنين ليشبها المنفردين ، وعن المهذب جعل الخنثى خلف الرجل وأمام المرأة ، وجعل تراب حاجزا بينهما.

قلت : لم أعثر على خبر يدل على هذا التفصيل كغيره من التفصيل المذكور عند الأصحاب ، فليس إلا مراعاة الجهات العامة كالأبوة ونحوها ، والاستئناس‌

__________________

(١) كنز العمال ج ـ ٨ ـ ص ـ ١١٩ ـ الرقم ٢٢١٤.

٣٤٢

بالأشباه والنظائر لكون الحكم استحبابا ، فلاحظ وتأمل.

و ( منها ) أن ينقل من بلد مات فيه إلى الآخر بلا خلاف أجده فيه ، بل في المعتبر والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وعن نهاية الأحكام وغيرها الإجماع عليه ، وكفى بذلك حجة عليها ، وعلى ما تضمنته ، من الجواز المقابر للحرمة مع الأصل وإطلاق الأدلة بعد الإجماع السابق على حمل أوامر التعجيل على الاستحباب ، فتبقى حينئذ لا معارض لها ، ونقل يوسف يعقوب ( على نبينا وآله وعليهما السلام ) إلى أرض الشام ، ونوح عظام آدم ( على نبينا وآله وعليهما السلام ) وموسى عظام يوسف ( على نبينا وآله وعليهما السلام ) وخبر اليماني وغيرها مما سنشير إليه في ما يأتي (١) كما قد يشهد أيضا للكراهة المروي عن‌ دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام (٢) أنه رفع إليه « أن رجلا مات بالرستاق فحملوه إلى الكوفة ، فأنهكهم عقوبة ، وقال ادفنوا الأجساد في مصارعها ، ولا تفعلوا كفعل اليهود تنقل موتاهم إلى بيت المقدس ، وقال : إنه لما كان يوم أحد أقبلت الأنصار لتحمل قتلاها إلى دورها فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناديا ينادي فنادى ادفنوا الأجساد في مصارعها » لوجوب تنزيله على ذلك بعد ما عرفت.

وربما استدل عليها أيضا بمنافاته للتعجيل المدلول عليه بأدلته السابقة ، وقد يخدش بعدم اقتضائه الكراهة أولا ، اللهم إلا أن يراد ما دل على النهي (٣) عن الانتظار ونحوه منها ، وبعدم اقتضائه لو سلم كراهة النقل من حيث كونه نقلا كما هو ظاهر الفتوى ثانيا إلا إلى أحد المشاهد المشرفة فلا يكره بل يستحب بلا خلاف فيه أيضا ، بل في المعتبر أنه مذهب علمائنا خاصة ، وفيه أيضا والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وعن غيرها أن عليه عمل الإمامية من زمن الأئمة عليهم‌السلام إلى الآن من غير تناكر ،

__________________

(١) في الصحيفة ٣٤٤.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١.

٣٤٣

قال في الذكرى : فكان إجماعا.

قلت : بل أقوى منه بمراتب ، وهو كاف في ثبوت الحكم المذكور ، سيما بعد اعتضاده بفحوى‌ خبر محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام (١) المروي عن مجمع البيان وقصص الأنبياء للراوندوي مسندا في الثاني إليه ، قال : « لما مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام ، فدفنه في بيت المقدس ».

و‌الحسن بن علي بن فضال (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام المروي في البحار عن العيون والخصال والعلل ، وفي كشف اللثام عنها وعن الكافي والفقيه أيضا ، لكن قال : عن الصادقين عليهما‌السلام « إن الله أوحى إلى موسى عليه‌السلام أن أخرج عظام يوسف عليه‌السلام من مصر ـ إلى أن قال ـ : فاستخرجه موسى من شاطئ النيل في صندوق مرمر ، وحمله إلى الشام » ولا ريب أن ما نحن فيه من النقل قبل الدفن أولى منه.

و‌المفضل عن الصادق عليه‌السلام (٣) المروي عن كامل الزيارة « أن نوحا عليه‌السلام نزل في الماء إلى ركبتيه بعد أن طاف بالبيت ، واستخرج تابوتا فيه عظام آدم عليه‌السلام وحملها حتى دفنها بعد أن بلعت الأرض الماء في أرض الغري » وخبر اليماني (٤) المروي عن إرشاد القلوب وفرحة الغري عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو مشهور ، وخبر علي بن سليمان (٥) قال : « كتبت إليه أسأله عن الميت يموت بعرفات يدفن بعرفات أو ينقل إلى الحرم ، فأيهما أفضل؟ فكتب يحمل إلى الحرم ويدفن فهو أفضل » ومثله‌ خبر سليمان (٦) إلا أنه قال فيه : « كتبت إلى أبي الحسن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ حديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ حديث ٣.

٣٤٤

عليه‌السلام أسأله عن الميت يموت بمنى أو عرفات ، الوهم مني » ثم ذكر مثله ، وفي‌ خبر هارون بن خارجة عن الصادق عليه‌السلام (١) « من دفن في الحرم أمن من الفزع الأكبر ، فقلت له : من بر الناس وفاجرهم قال : من بر الناس وفاجرهم » وبها أفتى في الجامع ، فقال : « لو مات في عرفة فالأفضل نقله إلى الحرم » وبما في الذكرى عن الغرية قد جاء حديث (٢) يدل على الرخصة في نقل الميت إلى بعض مشاهد آل الرسول ( صلوات الله عليهم ) إن أوصى الميت بذلك ، ويقرب منه ما عن المصباح ، وبما أرسل في المبسوط وعن النهاية من الرواية (٣) الدالة على الرخصة في نقله بعد دفنه ، بناء على العمل بها ، إذ ما نحن فيه أولى.

والاشكال في الاستدلال بهذه الأخبار ـ بأنه فعل بشريعة سابقه ، وليس حجة علينا ، بل لعل خلافها هو المطلوب ، كما يرشد إليه‌ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) لما قال له اليهودي هكذا نحن نصنع : « خالفوهم ، » وفعل خلافه‌ ـ مدفوع بعد تسليم ذلك حتى فيما ينقل عن الأنبياء أنفسهم بأن الاستدلال بها إنما هو بما يظهر من ذكر أئمتنا عليهم‌السلام لها من إرادة العمل بمضمونها ، فتأمل.

ويؤيد أيضا بما فيه من التمسك بمن له أهلية الشفاعة ، وهو حسن بين الأحياء توصلا إلى فوائد الدنيا ، فالتوصل إلى فوائد الآخرة أولى ، والقول إنه لا دليل يدل على حصول ذلك بمجرد القرب المكاني من قبره لا يصغى إليه ، إذ هو ـ مع إمكان دعوى استغنائه عن الدليل ، لأن حرمتهم أمواتا كحرمتهم إحياء ـ في خبر اليماني وغيره إشارة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب مقدمات الطواف ـ حديث ١ من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٤) كنز العمال ـ ج ـ ٨ ـ ص ـ ١١٦ ـ الرقم ٢١٨١.

٣٤٥

إليه ، وقال في البحار : « إنه قد وردت أخبار كثيرة في فضل الدفن في المشاهد المشرفة لا سيما الغري والحائر ».

قلت : والأمر بالشي‌ء ندبا أمر بمقدمته كذلك ، فيستحب النقل حينئذ ، وحكى في‌ كتاب المزار منه (١) عن إرشاد القلوب الديلمي أنه قال : « من خواص تربة الغري إسقاط عذاب القبر وترك محاسبة منكر ونكير للدفن هناك ، كما وردت به الأخبار الصحيحة عن أهل البيت عليهم‌السلام » ثم نقل رؤيا عن بعض الصلحاء تناسب ذلك ، وخبر اليماني المشهور ، قلت : وفي بالي إني سمعت من بعض مشايخي ناقلا له عن المقداد أنه قال : « قد تواترت الأخبار أن الدفن في سائر مشاهد الأئمة عليهم‌السلام مسقط لسؤال منكر ونكير » هذا كله مع قطع النظر عما فيه من ملاحظة نفس الأرض وما ورد فيها من الفضل والبركة (٢) فإن لذلك مدخلية أيضا في مسألة الدفن.

كما يشعر بذلك‌ المرسل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) « إن موسى عليه‌السلام لما حضرته الوفاة سأل ربه أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية حجر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر » وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) عند إرادة دفنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض في أشرف البقاع ، فليدفن فيها ، وقوله عليه‌السلام (٥) أيضا لما نظر إلى ظهر الكوفة : « ما أحسن منظرك ، وأطيب قعرك ، اللهم اجعله قبري » وإصرار أبي الحسن الرضا‌

__________________

(١) البحار ج ـ ٢٢ ـ ص ٣٧ من طبعة الكمباني.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ و ٦٨ و ٨٤ من كتاب المزار.

(٣) صحيح البخاري ج ـ ٢ ـ ص ٩٨ المطبوعة بمصر سنة ١٣١٣.

(٤) البحار ج ـ ٦ ـ ص ١٠٤٤ من طبعة الحروفي.

(٥) البحار ج ـ ٢٢ ـ ص ٣٧ من طبعة الكمباني.

٣٤٦

عليه‌السلام (١) على دفن يونس بن يعقوب بالبقيع ، وحكاية دفن الحسن عليه‌السلام مع جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) إلى غير ذلك ، وقد ورد (٣) في فضل الغري مع قطع النظر عن دفن أمير المؤمنين عليه‌السلام فيه ، وشراء إبراهيم له (٤) معللا ذلك بأنه يحشر منه سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم لكذا وكذا ، وكذلك اشتراه أمير المؤمنين عليه‌السلام (٥) معللا له بمثل ذلك من أنه يحشر منه سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، وغير ذلك مما هو غني عن البيان ، كما قد يشعر ما مر من خبر الزانية (٦) التي لم تقبلها الأرض حتى وضع معها شي‌ء من أرض كربلاء ، وغيره بفضل كربلاء كذلك أيضا ، فضلا عما ورد فيها من الأخبار (٧).

والحاصل أن من أيقظته أخبار الأئمة الهداة عليهم‌السلام لا يحتاج إلى خصوص أخبار في التمسك على رجاء النفع للميت ودفع الضرر عنه بالدفن قرب من له أهلية الشفاعة لذلك ، والأرض المباركة المشرفة بدفنهم بها أو بغيره ، سيما ما كان لفضلها تعلق بالدفن ونحوه كمقبرة براثا ، لما في‌ خبر أبي الحسن الحذاء عن الصادق عليه‌السلام (٨) « إن إلى جانبكم مقبرة يقال لها براثا يحشر بها عشرون ومائة ألف شهيد كشهداء بدر » قلت :

__________________

(١) البحار ـ الجزء الأول من المجلد ـ ١٥ ـ ص ٢٩٢ من طبعة الكمباني.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦ و ٨ و ١٠.

(٣) البحار ج ـ ٢٢ ـ ص ٣٥ من طبعة الكمباني.

(٤) البحار ج ـ ٢٢ ـ ص ٣٥ من طبعة الكمباني.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٦٨ ـ من كتاب المزار.

(٨) البحار ج ـ ٢٢ ـ ص ٣٦ من طبعة الكمباني.

٣٤٧

لكن كأنه يظهر من المجلسي في البحار أنه فهم منه مقبرة الغري حيث رواه عن سهل في هذا المضمار.

وكيف كان فمما ذكرنا ينقدح وجه ما ذكره الشهيد ، وتبعه عليه بعض من تأخر عنه من إلحاق نحو المقبرة التي فيها قوم صالحون بمشاهد الأئمة عليهم‌السلام في رجحان النقل إليها لتناله بركتهم ، وكذا الشيخ في المبسوط قال : « ويستحب أن يدفن الميت في أشرف البقاع ، فان كان بمكة فبمقبرتها ، وكذلك المدينة والمسجد الأقصى ومشاهد الأئمة عليهم‌السلام ، وكذا كل مقبرة تذكر بخير من شهداء وصلحاء وغيرهم » انتهى.

فظهر من ذلك كله أنه لا جهة للإشكال في أصل رجحان ذلك رجاء للنفع ودفعا للضرر ، وخبر دعائم الإسلام مع الطعن في مصنفه قد عرفت حمله على الكراهة ، بل كاد يكون إيصاء الميت بذلك عليه كاللازم ، نعم قد يستثنى من الرجحان المذكور الشهيد لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدفنهم في مصارعهم عند إرادة أصحابه نقلهم ، ومن هنا نص عليه في الذكرى بل في الدروس أنه المشهور ، إنما الإشكال في بعض أفراد النقل ، منها ما هو مستعمل في مثل زماننا من الأمكنة البعيدة جدا بحيث لا يجي‌ء الميت إلا متغيرا كمال التغيير حتى يكاد لا يستطيع أن يقرب إليه أحد ، وربما تقطعت أوصاله وجرى قيحه ونحو ذلك ، ولم أعثر على من نص على جواز حمله ، إلا أنه كان يفتي به الأستاذ المعتبر الشيخ جعفر تغمده الله برحمته ، حتى ترقى إلى أنه قال : « إنه لو توقف نقله على تقطيعه إربا إربا جاز ، ولا هتك فيه للحرمة إذا كان بعنوان النفع له ودفع الضرر عنه كما يصنع مثله في الحي ».

وقد يستدل له بالأصل أولا وبفحوى خبر اليماني وغيره مما تقدم ثانيا ، وبما أشار إليه من الرجحان القطعي العقلي ، وبأولويته من النقل بعد الدفن الآتي ، وبإطلاق‌

٣٤٨

الأصحاب استحباب النقل إلى المشاهد ، بل عن الفاضل الميسي أنه صرح بعدم الفرق بين القرب إليها والبعد مع إطلاق الأدلة في الدفن ، لحمل ما دل على التعجيل على الاستحباب.

وفيه أن الأصل مقطوع بما دل على وجوب احترام المسلم وأن حرمته ميتا كحرمته حيا ، وأن الأصل في حكمة الدفن إنما هو ستر مثل هذه الأمور منه مراعاة لحرمته ، ودعوى أن مثل ذلك بهذا العنوان لا يعد هتكا ممنوعة ، والمحكم فيه العرف ، وبه يفرق بين الحي والميت ، سيما مع عدم علمنا بوجود مصلحة في نقله تقابل هذه المفسدة المحققة وغيرها مما يعلمه الله دوننا حتى يضمحل هذا الهتك في جانبها ، إذ لا يوزن ذلك إلا علام الغيوب ومن أودعهم إسراره وحكمته ، ولم نقف على ما يدل على خصوص ذلك منهم ، بل لعل ترك السلف الماضين له من الصحابة والتابعين وغيرهم مع محافظتهم وشدة اعتناء الأئمة عليهم‌السلام ببيان ما هو أقل من ذلك كاد يشرف الفقيه على القطع بعدم مشروعيته.

وأما خبر اليماني فهو ـ مع أنه فعل غير معصوم وعدم ظهور الرضا من أمير المؤمنين عليه‌السلام به ، ولم يعلم كونه في الحال المتنازع فيه ـ لا يجوز التمسك به في إثبات مثل هذا الحكم مع عدم الجابر والعاضد له.

وأما دعوى القطع العقلي بالرجحان المذكور فهي في حيز المنع عند تزوي العقل ومعرفته بقصوره عن إدراك أحوال ذلك العالم من مصالحه ومفاسده.

وأما إطلاق الأصحاب ففيه مع انصرافه إلى غير ذلك قطعا لا إطلاق في مثل قول المصنف ونحوه : « ويكره النقل إلا إلى المشاهد » إذ هو استثناء من النقل الجائز على كراهة ، فلا شمول فيه لما لو كان النقل محرما ، إذ لا ريب في حرمة مثل هذا النقل لو كان لغير المشاهد ، فتأمل جيدا.

وتصريح الفاضل الميسي بعدم الفرق المذكور لا يستلزم ما نحن فيه ، مع أنه صرح‌

٣٤٩

الشهيد في الذكرى بتقييد استحباب النقل إلى المشاهد بالقرب وعدم خوف الهتك ، كما أنه صرح بتقييده أيضا بما لم يخش فساده ابن إدريس والمحقق الثاني وعن الشهيد الثاني واستجوده في الحدائق.

وأما الأولوية المذكورة فبعد تسليمها إنما تثمر لو قلنا بذلك ، وستعرف الكلام فيه إن شاء الله.

وأما إطلاق الأدلة فهو وإن كان كذلك لا يعارضها أوامر التعجيل بعد حملها على الاستحباب ، إلا أنه لا يكاد يخفى على الممارس لكلمات الأصحاب في مقامات وأخبار الباب ظهور الاتفاق منهم على تقييد تلك المطلقات بما إذا لم يؤد التعطيل فيه إلى ظهور رائحته وانتهاك حرمته ، بل لم يسوغوا على الظاهر الانتظار به بحيث يصل إلى بعض هذا للكفن والغسل والكافور ونحوها ، فأوجبوا دفنه بدونها ، بل وكذا الدفن في الأرض على ما صرح به بعضهم هناك ، فيلقى في الماء ، إلى غير ذلك ، فالمراد بمقابل التعجيل المحكوم بجوازه وعدم استحبابه إنما هو غير المؤدي إلى ذلك.

واحتمال القول ـ بأن المعلوم من تقييد تلك المطلقات إنما هو إذا فسد بدون النقل إلى تلك الأراضي المشرفة ، وأما فيها فلا تعسف وتهجم ـ يدفعه التأمل والتتبع لكلمات الأصحاب وأخبار الباب ، بل قد يقال قويا : إن الإطلاقات قد تشهد للمطلوب باعتبار ظهور كون المراد منها والمطلوب استمرار الدفن ودوامه في سائر الأوقات ، إذ ليست هي كالأمر بالضرب ونحوه مما يحصل الامتثال بإيجاد الطبيعة قطعا ، ومن هنا يجب دفنه لو اتفق ظهوره ، وهكذا. فحينئذ يكون المأمور به الدفن والتغطية من وقت حصول الموت إلى حد خروج الميت عن حاله وصيرورته ترابا وشبهه ، نعم أقصى ما هناك خروج أن يقطع بعدم شموله لمثل ما نحن فيه ، لا أقل من الشك ، فيبقى ما ذكرناه سالما ، فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع ، ومع ذلك كله فبين إطلاق استحباب النقل وحرمة الهتك والمثلة‌

٣٥٠

تعارض العموم من وجه ، ولا ريب في رجحانها عليها سيما بعد القطع بعدم تقديم شي‌ء من المندوبات عدا ذلك ، كالانتظار به للجرائد ونحوها عليه ، فتأمل. فظهر لك حينئذ من ذلك كله وجه الإشكال في هذا النوع من النقل ، ولا ريب أن الاحتياط يقضي بتركه ، نسأل الله تعالى أن لا يحوجنا إليه ، فإنه المنان العظيم الرحمن الرحيم.

و‌ ( منها ) النقل بعد الدفن‌ ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند تعرض المصنف له.

و ( منها ) أن يستند إلى القبر أو يمشى عليه أو يجلس عند علمائنا أجمع وأكثر أهل العلم كما في التذكرة ، وقول العلماء كما في المعتبر ، وفي المدارك نسب ما في المتن إلى الأصحاب من دون علم خلاف فيه ، بل حكى عن الخلاف الإجماع عليه ، قلت : وكفى بذلك حجة لمثله ، مضافا إلى ما فيها من الاستهانة بالميت مع اتحاد حرمتيه كما لعله يومي إليه ما ذكر من استحباب نزع النعال عند زيارة القبور ، وإلى ما عساه يشعر به أو يشمله‌ قول الصادق عليه‌السلام (١) فيما تقدم : « كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر فهو ثقل على الميت » وقول الكاظم عليه‌السلام (٢) : « لا يصلح البناء على القبر ولا الجلوس عليه » وإلى ما احتج عليه في الخلاف بما‌ روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) أنه قال : « لأن يجلس أحدكم على جمر فتحترق ثيابه وتصل النار إلى بدنه أحب إلى من أن يجلس على قبر » وفي المنتهى بعد أن نسب إلى الشيخ كراهة الجلوس على القبر قال : وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) أنه قال : « لأن أمشي على جمرة أو سيف أو خصف ونعلي برجلي أحب إلى من أن أمشي على قبر مسلم » وفي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) كنز العمال ج ـ ٨ ـ ص ٩٩ الرقم ١٨٧١.

(٤) كنز العمال ج ـ ٨ ـ ص ٩٨ ـ الرقم ١٨٦٩.

٣٥١

كشف اللثام (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلى من أن أطأ على قبر مسلم ».

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في كراهة الأمور الثلاثة المتقدمة بعد ما عرفت ، فما يظهر من بعض متأخري المتأخرين ـ من الاقتصار على كراهية الجلوس عليه خاصة عملا بقول الكاظم عليه‌السلام ولا دليل سواه ، سيما بعد‌ قول الكاظم عليه‌السلام أيضا (٢) : « إذا دخلت المقابر فطأ القبور فمن كان مؤمنا استراح ، ومن كان منافقا وجد ألمه » ـ ضعيف جدا بعد ما عرفت ، ومن هنا حمل هذه الرواية في الذكرى على القاصد لزيارتهم بحيث لا يتوصل إلى قبر إلا بالمشي على آخر ، وهو جيد ، ولعله يلحق به سائر أنواع الضرورة ولو توقف مستحب عليه ، كما بلينا به في عصرنا هذا بالنسبة إلى زيارة قبر سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنه لا يتوصل إليه إلا بوطء القبور.

و‌ ( منها ) تزيين النعش بوضع الثوب الأحمر أو الأصفر عليه‌ كما أشار إليه العلامة الطباطبائي في منظومته ، لما في‌ الدعائم عن علي عليه‌السلام (٣) « انه نظر إلى نعش ربطت عليه حلتان : أحمر أصفر تزين بهما ، فأمر بها فنزعت ، وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول أول عدل الآخرة القبور ، لا يعرف فيها غني من فقير » وحينئذ فما يفعله الناس في هذا الزمان من وضع البرد الفاخرة عليه في غير محله ، والله العالم.

__________________

(١) كنز العمال ج ـ ٨ ـ ص ٩٨ الرقم ١٨٦٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٧٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦.

٣٥٢

الفصل ( الخامس )

من الفصول الخمسة ( في اللواحق )

وهي مسائل أربع : ( الأولى ) لا يجوز نبش القبور من غير خلاف فيه كما اعترف به بعضهم ، بل هو مجمع عليه بيننا كما في التذكرة وموضع من الذكرى وجامع المقاصد ومجمع البرهان وعن كشف الالتباس ، بل وبين المسلمين كما في المعتبر وعن نهاية الأحكام وموضع آخر من الذكرى إلا في مواضع ، ولعله يرجع إليه ما في السرائر في المسألة الآتية ، وهي نقل الميت بعد دفنه أنه بدعة في شريعة الإسلام ، وهو الحجة ، مضافا إلى ما سمعته سابقا من الكلام في قوله : « من جدد » بالجيم والخاء المعجمة ، وإلى ما عساه يستفاد من التأمل في الأخبار المستفيضة (١) الدالة على قطع يد النباش المذكورة في الحدود سيما بعد الانجبار بما عرفت ، وإلى ما فيه من المثلة بالميت وهتك الحرمة ، واتفاق الاطلاع على بعض ما صنع به في القبر ، وإلى ما عرفته سابقا من شمول أوامر الدفن لسائر الأوقات التي منها آن النبش ، بل الظاهر كون المراد منها بعد تحقق الدفن إنما هو إبقاؤه مدفونا ، كما أنه قبله وجوده وبروزه ، فتأمل جيدا فإنه دقيق جدا.

نعم قد‌ يستثنى من ذلك مواضع‌ ، ( منها ) ما لو يلي الميت وصار رميما كما نص عليه جماعة ، وإلا لزم تعطيل كثير من الأراضي ، بل لعله اتفاقي كما صرح به في جامع المقاصد ، ويقرب منه ما في كشف اللثام من القطع به ، قلت : ولعله كذلك لأنه لا يدخل تحت مسمى نبش القبر ، ثم انه يختلف ذلك باختلاف الأراضي والأهوية ، ومع الشك فالظاهر الرجوع فيه إلى أهل الخبرة وإن كان في الاكتفاء به أيضا إن لم يحصل العلم والقطع به نظر وتأمل ، وأولى منه في الاشكال ما لو حصل الظن باندراسه من دون إخبارهم ، وإن صرح بعض الأصحاب أن له النبش ، حينئذ ، فإن وجد فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب حد السرقة من كتاب الحدود.

٣٥٣

شيئا طمه ، وذلك لاستصحاب عدم الاندراس وحرمة النبش ، فالأقوى العدم ، وينبغي استثناء قبور الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم‌السلام من ذلك ، كما أنه ينبغي استثناؤه أيضا من كثير من الصور التي تسمعها ، لمنافاته للتعظيم وما فيه من الهتك بالنسبة إلى أمثالهم مع عدم معلومية اندراس أجسادهم عليهم‌السلام ، بل لا يبعد إلحاق قبور العلماء والصلحاء والشهداء ، وكل ما كان في نبشه ذلك ولو بالأخرة كأولاد الأنبياء ونحوهم ، سيما ما اتخذ منها مزارا وملاذا وحف بأنواع التعظيم والتبجيل.

و ( منها ) أن يدفن في أرض مغصوبة ولو للاشتراك فيها كما صرح به جماعة من الأصحاب منهم الفاضلان والشهيد ، بل لا أعرف فيه خلافا ، بل قد يظهر من كشف اللثام وغيره أنه مقطوع به ، فللمالك حينئذ نبشه وقلعه إن لم يرض ببقائه ، كما أنه لا يجب عليه قبول القيمة لو بذلت له ، نعم قد يقال بالوجوب حينئذ مع تعذر الدفن في غيرها بناء على وجوب ذلك عليه ابتداء ، وإلا لم يجب أيضا كما هو قضية الأصل ، وتوقف التجارة على التراضي ، ولعله لا يخلو من قوة ، ولا فرق فيما ذكرنا بين زيادة هتك حرمة الميت من تقطيع ونحوه وعدمه ، ولا بين قلة الضرر على المالك وكثرته ، ولا بين الوراث والأرحام وغيرهم ، ولو لا ظهور اتفاق من تعرض لذلك عليه إن لم يكن اتفاقا مطلقا لأمكن المناقشة في إطلاق هذا الحكم من حيث عدم ذكر دليل له سوى أنه مراعاة حرمة الحي ، وحقه الذي هو مبني على الضيق. وفيه أنه معارض بحرمة الميت التي هي كحرمته ، وفعل الغاصب إنما يسقط حرمة نفسه لا حرمة غيره التي يجب مراعاتها عليه وعلى المالك ، فالمتجه حينئذ بعد مراعاة الميزان في الحرمتين وفرض التساوي فيهما الجمع بين الحقين ببذل القيمة ولو من تركة الميت أو من ثلثه أو بيت المال ، ولا تتعين على الغاصب.

وكيف كان فلا ريب أن الأولى بل الأفضل كما صرح به غير واحد قبول‌

٣٥٤

القيمة من المالك ، سيما إذا كان وارثا أو رحما ، وفي إلحاق ملك المنفعة دون العين بمالكها في الحكم المذكور وجه قوي إن لم يكن متعينا وإن كانت ملكا للغاصب ، كما يقوى إلحاق من كان ابتداء وضعه بحق شرعي دون الاستدامة بالغاصب العادي ، كمن استأجر أرضا مدة يدفن فيها ميتا ثم انقضت المدة وإن كان غير عاد في وضعه ، ويحتمل العدم ، فيساوي كل ما ليس بعاد وغاصب كالمشتبه والغافل ونحوهما ، فيجمع بين الحقين بالإلزام بالقيمة ، فتأمل.

و ( منها ) لو كفن بثوب مغصوب من غير خلاف أجده فيه ، بل قد يظهر من كشف اللثام كونه مقطوعا به أيضا إلا من العلامة في المنتهى ، حيث فرق بينه وبين السابق بتعذر تقويم الأرض إلى بلى الميت بخلافه هنا ، وفيه أنه ممكن بتقويمها مدة يقطع فيها ببلاء الميت ، وكذا الفرق بإشراف الثوب على الهلاك بالتكفين بخلاف الأرض لأن الفرض قيامه ، نعم قال في الذكرى وتبعه عليه غيره : « ربما احتمل أنه إن أدى إلى هتك الميت بظهور ما ينفر منه لم ينبش ، وإلا نبش ، لما دل (١) على تساوي حرمتيه » قلت : ومثله يأتي في سابقه أيضا ، وهو مما يؤيد ما قدمناه آنفا.

و ( منها ) لو وقع في القبر ماله قيمة فإنه يجوز نبشه لأخذه بلا خلاف أجده فيه أيضا ، وبه صرح في المعتبر والتذكرة والذكرى وجامع المقاصد وغيرها من غير فرق فيه بين القليل والكثير ، ولا بين ما إذا بذل قيمته أو لا كما نص عليهما بعضهم ، وفي‌ الذكرى أنه روي (٢) « أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم طلبه ، ففتح موضعا منه فأخذه ، وكان يقول : أنا آخركم عهدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلت : ولا يخفى عليك أولوية جريان ما سبق من الإشكال في المقام سيما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) المهذب ج ـ ١ ـ ص ١٣٨.

٣٥٥

بعض أفراده ، وأما الرواية فلا ريب أنها عامية كما قطع بذلك في الحدائق ، مع ما فيها أولا من ظهور كون الطرح عمدا ، وينبغي القطع بعدم جوازه في مثله ، لكونه المضيع لما له ، وثانيا أنه لا يجري الحكم المذكور في مثل قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام وإن أطلق الأصحاب ، وأيضا قال في الحدائق : « وقد‌ ورد في بعض الأخبار (١) التي لا يحضرني الآن موضعها عن علي عليه‌السلام تكذيبه في دعواه ذلك » قلت : وهو الصواب ، فإن المغيرة وأمثاله من المنافقين في السقيفة يومئذ ، وأين هم من حضور دفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟.

و ( منها ) ما ذكره في الذكرى وتبعه عليه غيره من أنه يجوز النبش عليه أيضا للشهادة على عينه ، ليضمن المال المتلف ، أو لقسمة ميراثه واعتداد زوجته ، لأنه موضع ضرورة ، وهو ـ مع أنه إنما يتم لو علم أن النبش محصل لذلك وكان متوقفا عليه ، وإلا فبدونه يحرم قطعا ـ قد يناقش فيه بإطلاق الإجماع المحكي على حرمة النبش سيما ما في المعتبر ، حيث حكاه على ما عدا أربع صور ، وليست هذه منها.

و ( منها ) ما ذكره الشيخ في المبسوط ، وهو ما لو دفن في أرض ثم بيعت فإنه يجوز للمشتري حينئذ قلعه ، ولعل وجهه أنه لم تسبق منه إذن ، فكانت كالمغصوبة بالنسبة إليه ، وفيه منع واضح ، إذ لا ينتقل للمشتري إلا السلطنة التي كانت للبائع دون غيرها ، إذ هو فرعه ، ولم يكن ذلك جائزا له وإن كان بعنوان العارية ، للزومها في مثل المقام إلى أن يبلى الميت ، لمكان ابتنائها في نحوه عليه ، فالمشتري تابع له حينئذ. نعم إنما يتم ما ذكره لو فرض غصبية الأرض فباعها المالك الأصلي ، إذ يكون حينئذ كالصورة الثانية. وما يقال : إن حرمة النبش منشأها الإجماع المفقود في المقام ، فالأصل الجواز في غاية الضعف ، إذ بعد التسليم فخروج الشيخ لا يقدح في المحصل‌

__________________

(١) كنز العمال ج ـ ٤ ـ ص ٥٦ الرقم ١١٢٨ و ١١٢٩.

٣٥٦

منه فضلا عن المنقول ، ومن هنا أنكره عليه من تأخر عنه كالفاضلين والشهيد والمحقق الثاني ، وهو كذلك.

و ( منها ) ما لو دفن بغير غسل ، فيجوز نبشه حينئذ كما في المنتهى محافظة على الواجب الذي يمكن تداركه ، ولا دليل على سقوطه بذلك ، فاستصحابه محكم ، كما أنه لا دليل على حرمة النبش في مثل المقام ، فأصالة البراءة فيه محكمة ، على أنه قد يقال : إنه لا احترام لمثل هذا الدفن ، لكونه منهيا عنه من حيث تأخر الأمر به عن الغسل أو ما يقوم مقامه ، فلا اعتبار به ، لانصراف حرمة النبش إلى الإقبار الشرعي ، والظاهر إرادته ما إذا لم يخش فساد الميت بقرينة نصه على عدم النبش مع التقطيع في القبر ، ونسبته ما اختاره أولا للشافعي ، والمنقول عنه التقييد الذي ذكرناه ، ولذا قال في المدارك : « والذي يظهر لي قوة ما ذهب إليه الشافعي من وجوب النبش لاستدراك الغسل إذا لم يخش فساد الميت ، لتوقف الواجب عليه ، والمثلة مع عدم خوف الفساد لم يثبت كونها مسقطة لذلك » انتهى

وخالف في ذلك الشيخ في الخلاف ، وتبعه المصنف في المعتبر والعلامة في التذكرة وإن احتمل الأول فيها أيضا والذكرى وجامع المقاصد وغيرها ، لأنه مثلة فيسقط الغسل معها ، ولإطلاق الفتاوى بحرمة النبش من دون استثناء ذلك ، بل لعله بعض معاقد الإجماعات المحكية كذلك ، وفي الخلاف أنه يدل عليه عموم كل خبر يتضمن النهي عن نبش القبور ، ولعله وقف على ما لم نقف عليه ، كما هو مظنة ذلك.

وقد يقوى في النظر التفصيل بين كون الإخلال بالغسل لعذر شرعي كعدم الماء مثلا ونحوه وبين عدمه بل كان عصيانا ونحوه ، فالأول لا ينبش بخلاف الثاني تحكيما لما دل على كل منهما فيهما مع عدم انصراف شي‌ء منهما إلى مفروض الآخر ، فلا تشمل أدلة الغسل للمدفون بعد تعذره ، ولا أدلة النبش للمدفون مع التمكن منه ، بل لعله ليس دفنا ، كل ذا مع عدم انهتاك الحرمة من جهة أخرى كالفساد الطاري ونحوه ، وإلا وجب‌

٣٥٧

مراعاتها ، فتأمل جيدا. وقد يلحق بالأول مختل الغسل بما يفسده ولم يعلم به حتى دفن فلا ينبش ، كما أنه يلحق بالثاني معلوم الفساد قبله فينبش.

وليس ترك الكفن والصلاة كترك الغسل ، ولذا صرح في المنتهى هنا بعدم النبش لهما ، بل لا أجد فيه خلافا إلا من البيان والمدارك في خصوص التكفين ، فجعلاه كالغسل في النبش له ، وكأنه لاتحاد طريق المسألتين وعدم الفرق في البين ، لكن ذكر غير واحد من الأصحاب الفرق بإمكان تدارك الصلاة من غير نبش ، لأن لها وجه مشروعية من فوق القبر ، وبإغناء القبر عن ستر الكفن ، وهو لا يخلو من قوة بالنسبة للصلاة ، ومن وجه في الكفن ، إلا أن الأقوى منه مساواة الكفن للغسل ، فيجري فيه ما تقدم.

وأما الاستقبال في القبر ففي البيان أنه ينبش له ، وفيه تأمل ، وقد تبنى المسألة فيما نحن فيه ونظائره على تعارض الواجب والمحرم ، فيفزع إلى الترجيح بالمرجحات الخارجية ومع عدمها فالأحوط ترجيح جانب الحرمة ، وإن كان الأقوى التخيير حينئذ ، ومبنى الحكم في كثير من المسائل السابقة أن النبش محرم إلا ما علم خروجه ، أو جائز إلا ما علم حرمته ، كما أن مبناه في جملة منها أيضا على تقديم مراعاة حق الحي على حرمة الميت وعدمه ، فتأمل جيدا.

ولو كفن في حرير ودفن فالأقوى أنه كالمدفون عريانا ، فقد يتأتى حينئذ بناء على النبش فيه هناك جوازه أو وجوبه هنا ، لكن الذي صرح به الشهيد والمحقق الثاني وغيرهم حرمة النبش له ، وفي كشف اللثام أن فيه وجهين ، من كونه كالمغصوب وكذي القيمة الواقع في القبر فإنه غير مشروع ، ومن أن الحق فيه لله ، وحقوق الآدميين أضيق. قلت : قد يفرق بينه وبين المغصوب بكونه هو المتلف له حقيقة هنا بخلافه هناك ، كما أنه قد يقال بالنسبة للوجه الثاني أن معه حق آدمي أيضا لعدم ذهاب ماليته‌

٣٥٨

وخروجه عن المملوكية بذلك ، وكيف كان فالمتجه ما عرفت ، فتأمل.

ولو ابتلع ما له قيمة كجوهرة ونحوها ومات ثم دفن فجواز النبش عليه موقوف على جواز شق جوفه ، والذي صرح به الشيخ في الخلاف العدم ، لأن حرمته ميتا كحرمته حيا ، ولا يجوز شقها في الحي لذلك فكذا الميت ، ولا فرق فيه بين كون المال له فانتقل إلى الورثة بموته وبين كونه لغيره ، وفي المحكي من عبارة التذكرة الفرق بينهما ، فاستوجه الشق وفاقا للشافعي في الثاني ، لما فيه من دفع الضرر عن المالك بردّ ماله إليه ، وعن الميت بإبراء ذمته ، وعن الورثة بحفظ التركة لهم ، وظاهره التوقف في الأول من كونه مالا له واستهلكه في حياته فلم يثبت للورثة فيه حق ، ومن أنها صارت ملكهم بموته فهي كالمغصوبة ، قلت : ولعل التوقف في السابق أيضا ، كما هو ظاهر المعتبر وغيره ، لما سمعت من التذكرة ومما تقدم من الخلاف ، واحتمال القول بأنه أسقط حرمته بابتلاعه كاحتمال تقديم حق الآدمي الحي عليه كما مر نظيره لا يفيد النفس اطمئنانا تعذر به عند بارئها ، سيما بعد المعارضة باحتمال مثلها ، كعدم الضرر على المالك ببذل القيمة أو المثل ، مع ما فيه من الجمع بين الحقين ومراعاة الحرمتين ، بل لعل حفظ حرمة المؤمن أهم في نظر الشارع من حرمة المال ، فتأمل.

ثم إنه إذا لم ينبش تؤخذ القيمة من تركته كما صرح به في الذكرى لأنه كما لو أتلفه في حياته ، إلا أن الفرق بينهما أنه لو اتفق خروجه إما بأن يبلى وتنتفي المثلة بنبش قبره فنبش ووجد أو بغير ذلك يرجع ما أخذه ، لرجوع ماله إليه وعدم زوال ملكه عنه ، ويأتي تحقيقه في الغصب إن شاء الله.

ولو وجد بعض أجزاء الميت بعد دفنه لم ينبش ، بل دفنت في جانبه كما في المعتبر والذكرى ، أو نبش من القبر ودفن كما في الأول خاصة ، لما في النبش من المثلة التي ليست في تفرق الأجزاء ، نعم قال في الذكرى : « إنه لو أمكن إيصاله بفتح‌

٣٥٩

موضع من القبر بحيث لا يؤدي إلى ظهور الميت أمكن الجواز ، لأن فيه جمعا بين أجزائه وعدم هتكه » انتهى. قلت : ولعله من ذلك ومما تقدم من المعتبر كفحاوي كلمات الأصحاب وتعليلاتهم ينقدح أن المراد بالنبش المحرم إنما هو ما يؤدي إلى ظهور الميت وبروزه لا ما إذا لم يكن كذلك ، فعلى هذا لو كان الميت في لحد مطبوق عليه جاز نبش تمام القبر ، وكذا لو كان في أسفل القبر وأردنا دفن ميت آخر دونه وهكذا لم يكن بذلك بأس ، فتأمل جيدا.

وكذا لا يجوز نقل الموتى بعد دفنهم إلى غير المشاهد المشرفة إجماعا كما في المسالك والرياض ، ولعله كذلك من حيث النظر إلى تحريم النبش ، وإلى ما هنا من التتبع ، فلم نعثر على مخالف عدا ما عساه يظهر من الوسيلة ، حيث قال : « يكره تحويله من قبر إلى آخر » وهو مع إمكان تنزيله على غير محل البحث لا يقدح في ذلك ، ولا أحد حكي عنه سوى ابن الجنيد ، حيث أنه أطلق نفي البأس عن التحويل لصلاح يراد بالميت ، ويجري فيه ما تقدم أيضا وغيره.

بل وإلى المشاهد المشرفة على المشهور كما في الروض والحدائق وعن المسالك والكفاية ، بل لعلها محصلة ، إذ هو خيرة السرائر والنافع والتذكرة والقواعد والمنتهى والمختلف والذكرى والبيان وكشف اللثام وعن الغرية ونهاية الأحكام والإصباح وظاهر المسالك ، بل في السرائر أنه بدعة في شريعة الإسلام.

خلافا لظاهر الروض والمدارك والمحكي عن أبي العباس في الموجز ، والمحقق الثاني في الجعفرية ، والشهيد الثاني في الروض ، وفي جامع المقاصد أن الجواز لا يخلو من قوة كما عن فوائد الشرائع وحاشية الإرشاد وشرح الجعفرية ، إلا أنه قيد فيه كالروض قوة الجواز بأن لا يبلغ الميت حالة يلزم من نقله هتكه ومثلته بأن يصير متقطعا ونحوه ، وفي المبسوط وعن النهاية ومختصر المصباح ورود رخصة بالجواز سمعناها مذاكرة‌

٣٦٠