جواهر الكلام - ج ٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الله فليس شي‌ء أكره إليه مما أمامه ، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه » وبقية عمر المؤمن نفيسته ، كما أشار إليه‌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحاح على ما قيل (١) « لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه ، أنه إذا مات انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا » وعن علي عليه‌السلام « بقية عمر المؤمن لا ثمن لها يدرك بها ما فات ، ويحيي بها ما مات » أو يقال : إن المحترم كناية عن الكافر لأنه الهالك حقيقة فيكون الحمد حينئذ في محله ، ويمكن أن يراد به الهالك قبل الأربعين سنة ، والأمر سهل.

و ( منها ) أن يضع الجنازة على الأرض إذا وصل إلى القبر بلا خلاف أجده فيه ، بل في الغنية الإجماع عليه ، مضافا إلى النصوص كقول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (٢) : « ينبغي أن يوضع الميت دون القبر هنيئة ، ثم وراه » ونحوه غيره (٣) وليكن دون القبر بذراعين أو ثلاثة لخبر محمد بن عجلان عن الصادق عليه‌السلام (٤) أيضا « إذا جئت بالميت إلى قبره فلا تفدحه بقبره ، ولكن ضعه دون قبره بذراعين أو ثلاثة ، ودعه حتى يتأهب للقبر ، ولا تفدحه به » وفي‌ خبره الآخر عنه عليه‌السلام (٥) أيضا « لا تفدح ميتك بالقبر ولكن ضعه أسفل منه بذراعين أو ثلاثة ، ودعه حتى يأخذ أهبه » ونحوه ، مضمر ابن عطية (٦).

و ( منها ) يستفاد استحباب أن يكون الوضع مما يلي رجليه إذ المراد بالأسفل ذلك ، مضافا إلى ما في الغنية من الإجماع عليه أيضا ، مع أنه قد يدل عليه أيضا‌ قوله عليه‌السلام في حسن الحلبي (٧) : « إذا أتيت بالميت القبر فسله من قبل رجليه » أي في القبر ، إذ‌

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ٣ ص ٢٧٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٨١

أخذه منه مقتض لوضعه فيه ، وبذلك يتضح الاستدلال حينئذ بما في عدة أخبار (١) بأن لكل شي‌ء بابا وباب القبر مما يلي الرجلين ، لكن ليس في شي‌ء من هذه الأخبار التفصيل بين الرجل والمرأة ، فقضيته تساويها مع الرجل في الوضع مما يلي الرجلين.

ولكن ذكر المصنف وغيره بل في الغنية وظاهر المنتهى وعن ظاهر التذكرة والنهاية الإجماع عليه أن المرأة توضع مما يلي القبلة مع زيارة أمام القبر في معقد إجماع الغنية ، ولعل ذلك كاف في إثبات ذلك ، مع إمكان الاستدلال عليه بخبر الأعمش المروي (٢) عن الخصال عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام قال : « والميت يسل من قبل رجليه سلا ، والمرأة تؤخذ بالعرض من قبل اللحد » ونحوه ما عن الفقه الرضوي (٣) لظهورهما في وضع المرأة من قبل اللحد ، واللحد إنما يكون في القبلة ، على أن قضية الأخذ من ذلك المكان الوضع فيه عند انتهاء الجنازة ، كل ذا مع إمكان تأييده أيضا في الرجل والمرأة بأن هذه الكيفية من الوضع فيهما أيسر في فعل ما هو الأولى بهما من إرسال الرجل سابقا برأسه والمرأة عرضا ، وأما اختيار جهة القبلة فلشرفها.

(و) ( منها ) ( أن ينقله ) أي الميت رجلا كان أو امرأة لإطلاق الدليل ، فتخصيص بعضهم هذا الحكم به دونها في غير محله في ثلاث دفعات بإدخال النقل الأول السابق على وضعه قريب القبر فيها ، أو يدعى فهم ذلك من‌ الخبر المروي (٤) عن العلل الذي هو مستند هذا الحكم « إذا أتيت بالميت القبر فلا تفدح به القبر ، فان للقبر أهوالا عظيمة ، وتعوذ من هول المطلع ، ولكن ضعه قرب شفير القبر ، واصبر عليه هنيئة ، ثم قدمه قليلا ، واصبر عليه ليأخذ أهبته ، ثم قدمه إلى شفير القبر » كالمحكي عن الفقه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤ و ٦ و ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦.

٢٨٢

الرضوي (١) ومثله عبر في المبسوط والفقيه على ما حكي عنهما بأن يراد وضعه عند شفير القبر أيضا ، ثم ينزل بعده برفع آخر ، فيتكرر النقل حينئذ ثلاثا ، وفي الثالثة النزول ، ولا يخفى بعده ، إذ الظاهر منه أن التقديم إلى شفير القبر هو نقل النزول ، فيكون الرفع حينئذ دفعتين ، نعم يتثلث الوضع بإدخال الوضع الذي على شفير القبر المتعقب له النزول فيها.

وكيف كان فلا ريب في الحكم بمضمون الخبر المتقدم ، والظاهر إرادة المصنف ذلك وإن كانت العبارة لا تخلو من قصور ، وبما سمعته من خبر العلل اندفع ما أشكل على جملة من متأخري المتأخرين من عدم الوقوف لما ذكره المصنف وغيره على دليل ، بل الموجود في صحيح عبد الله بن سنان (٢) وروايتي محمد بن عطية (٣) ومحمد بن عجلان (٤) وغيرها إنما هو وضعه دون القبر هنيئة ثم دفنه ، وعن ابن الجنيد الفتوى بمضمونها كظاهر المصنف في المعتبر ، واعتمده في المدارك ، وقد عرفت ما في الجميع ، فتأمل.

(و) ( منها ) أن يرسله إلى القبر سابقا برأسه إن كان رجلا كما خرج إلى الدنيا بلا خلاف أجده ، بل في الغنية والخلاف وعن ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، كما عن شرح الجمل للقاضي نفي الخلاف عنه ، وأما المرأة فترسل عرضا بلا خلاف أجده فيه أيضا ، بل في صريح الغنية والخلاف وعن ظاهر التذكرة الإجماع عليه أيضا ، ويدل عليه مضافا إلى ذلك‌ مرفوع عبد الصمد بن هارون عن الصادق عليه‌السلام (٥) « إذا أدخلت الميت القبر إن كان رجلا فسله سلا ، والمرأة تؤخذ عرضا فإنه أستر » وخبر عمرو بن خالد (٦) عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم‌السلام

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

٢٨٣

قال : « يسل الرجل سلا ، وتستقبل المرأة استقبالا ، ويكون أولى الناس بالمرأة في مؤخرها » وخبر الأعمش (١) السابق على نحو المحكي عن فقه الرضا عليه‌السلام (٢) وبها مع اعتضادها بما عرفت يقيد إطلاق غيرها من الأخبار الآمرة (٣) بسل الميت من قبل رجليه ، أي لو كان في القبر ، كصحيح الحلبي (٤) وغيره من غير فرق بين الرجل والمرأة ، فتنزل حينئذ على الأول ، فلا وجه للتوقف في ذلك من هذه الجهة كما وقع لبعض متأخري المتأخرين.

ثم إنه قد استفاض في الأخبار الأمر بالسل من قبل الرجلين ، والظاهر منه إرادة أن لا ينكس برأسه في القبر ، وينبغي أن يكون ذلك برفق كما في خبر محمد بن عجلان وغيره.

و ( منها ) عند الأصحاب كما في المعتبر والمدارك أن ينزل من يتناوله حافيا ويكشف رأسه ويحل أزراره لكونه مقام اتعاظ وخشوع ، ول‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر ابن أبي يعفور (٥) : « لا ينبغي لأحد أن يدخل القبر في نعلين ولا خفين ولا عمامة ولا رداء ولا قلنسوة » وظاهره كراهة ذلك لو فعل ، كخبر الحضرمي عنه عليه‌السلام (٦) أيضا « لا تنزل في القبر وعليك العمامة ولا القلنسوة ولا رداء ولا حذاء وحلل أزرارك ، قال : قلت : فالخف قال : لا بأس بالخف وقت الضرورة والتقية ، وليجهد في ذلك جهده » ونحوه خبر علي بن يقطين (٧) وسيف بن عميرة (٨) إلا أنه لم يتعرض في الأخير لحل الأزرار ، وقال فيه : « قلت : فالخف ، قال : لا بأس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

٢٨٤

بالخف ، فان في خلع الخف شناعة » وفي‌ المروي عن العلل (١) على نحو ما تقدم ، لكن فيه أيضا « قلت : فالخف ، قال : لا أرى به بأسا ، قلت : لم يكره الحذاء؟ قال : مخافة أن يعثر برجله فيهدم » وكان الأصحاب حملوا ذلك على السابق ، فاعتبروا نزع الخف إلا مع الضرورة أو التقية ، ومن هنا جعلوا المستحب التحفي ، خلافا للمحكي عن ابن الجنيد فأطلق نفي البأس عن الخف ، والأول أولى كما أنهم فهموا من النهي في تلك الأخبار الأمر بالنزع للقلنسوة والنعل ، فلذلك ذكروا أنه مستحب ، بل لم يذكروا الكراهة.

ثم إنه لا ريب في عدم وجوب شي‌ء من ذلك ، للإجماع في الذكري ، ول‌ خبر إسماعيل بن بزيع (٢) قال : « رأيت أبا الحسن عليه‌السلام دخل القبر ولم يحل أزراره » المحمول على بيان الجواز.

( ويكره أن يتولى ذلك ) أي الإنزال في القبر الأقارب في الرجل كما في المبسوط والوسيلة والمعتبر والتذكرة والمنتهى وغيرها ، ولعله يرجع إليه من عبر عن ذلك باستحباب كون النازل أجنبيا كما في القواعد وغيرها ، ومن هنا نسب بعضهم الكراهة إلى الأصحاب ، ولو لا ذلك لأمكن المناقشة فيه ، بعدم الدليل عليه في شي‌ء مما عثرنا عليه من الأخبار ، نعم علله غير واحد منهم بأنه يورث قسوة القلب ، كما أنه استند بعضهم إلى المستفيضة (٣) جدا عن إدخال الوالد قبر ولده ودفنه ، وفي‌ بعضها (٤) أن « رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أيها الناس أنه ليس عليكم بحرام أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦ وهو عن محمد بن إسماعيل ابن بزيع.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الدفن.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

٢٨٥

تنزلوا في قبور أولادكم ، لكن لست آمن إذا حل أحدكم الكفن عن ولده أن يلعب به الشيطان ، فيدخله عند ذلك من الجزع ما يحبط أجره » وهما كما ترى يمكن منع الأول ، إلا أن يدعى استفادته من بعض الأخبار (١) وإمكان معارضته أيضا بأنه أرفق للميت وأشفق عليه ، ولا عموم في الثاني ، بل قد يظهر من بعض الأخبار هنا نفي البأس عن دفن الولد أباه كخبر العنبري (٢) « سأله الرجل يدفن ابنه؟ فقال : لا يدفن في التراب ، قال : فالابن يدفن أباه قال : نعم لا بأس » ولذا استثنى ابن سعيد الولد ، ويظهر من المنتهى الميل إليه. لكن حمله غير واحد من الأصحاب على خفة الكراهة بالنسبة إليه ، وهو حسن لو وجد المعارض ، ولم نقف عليه فيما وصل إلينا من الأخبار ، نعم روى في الذكرى‌ خبر عبد الله بن محمد بن خالد عن الصادق عليه‌السلام (٣) « الوالد لا ينزل في قبر ولده ، والولد لا ينزل في قبر والده » ولم نقف على لفظ « لا » في الأخير في كتب الأخبار ، فيكون حينئذ نصا في الفرق ، ومؤبدا للخبر السالف كخبر عبد الله بن راشد عن الصادق عليه‌السلام (٤) لما مات إسماعيل ، إلى أن قال : « إن الرجل ينزل في قبر والده ولا ينزل في قبر ولده ».

وربما يؤيد أيضا بالنسبة إلى دخول بعض الأرحام بما هو المشهور من دفن أمير المؤمنين عليه‌السلام والعباس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي رواية أخرى (٥) أنه أدخل معه الفضل بن العباس ، وب‌ خبر علي بن عبد الله (٦) قال : « سمعت أبا الحسن موسى عليه‌السلام قال ـ في حديث ـ : لما قبض إبراهيم بن رسول الله ( صلى الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الدفن.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

٢٨٦

عليه وآله ) قال : يا علي عليه‌السلام انزل فألحد إبراهيم في لحده » الحديث. اللهم إلا أن يقال : إنه عليه‌السلام مأمون من الجزع ، هذا ، مع إطلاق بعضهم كالمبسوط والمنتهى وغيرهما استحباب نزول الولي القبر أو من يأمره ، بل نص بعضهم في خصوص ذلك على الرجل ، بل قد يظهر من المنتهى دعوى الإجماع عليه ، قال فيه : « ويستحب أن ينزل إلى القبر الولي أو من يأمره الولي إن كان رجلا ، وإن كان امرأة لا ينزل إلى قبرها إلا زوجها أو ذو رحم لها ، وهو وفاق العلماء » انتهى ، هذا ، مع نصهم هنا على الكراهة ، وهو كالمتدافع ، ونحوه عن التذكرة وفي‌ خبر محمد بن عجلان (١) « فإذا وضعته في لحده فليكن أولى الناس به مما يلي رأسه » الخبر ، ونحوه خبر محمد ابن عطية (٢) وفي‌ خبر ابن عجلان الآخر عن الصادق عليه‌السلام (٣) أيضا « فإذا أدخلته إلى قبره فليكن أولى الناس به عند رأسه ، وليحسر عن خده وليلصق خده بالأرض ، وليذكر اسم الله » إلى آخره ، إلى غير ذلك مما يدل على دخول الأرحام قبور أرحامهم ، ولعله لذا مال إلى القول بعدم الكراهة في البحار ، لكن قد يقال : إن ذلك كله إنما يدل على نزول القبر ودخوله لا إنزال الميت ، والكلام فيه ، ومن ثم كان الوقوف مع الأصحاب لعله الأقرب إلى الصواب.

وربما يستأنس له بعد ظهور اتفاقهم عليه هنا كما تظهر دعواه من بعضهم ، وبعد ما سمعته من أخبار الولد مع التعليل في بعضها بما قد يدعى جريانه في غيره بفحوى ما‌ ورد من النهي (٤) عن إهالة التراب على الولد وذي الرحم معللا بأن ذلك يورث القسوة في القلب ، قال فيه : « ومن قسى قلبه بعد عن الله تعالى » ولعله لذا علل الكراهة بذلك في المبسوط والمعتبر والمنتهى والتذكرة وعن النهايتين.

وكيف كان فلا ريب أنه ينبغي استثناء المرأة من هذا الحكم ، ولذا قال المصنف :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٨٧

إلا في المرأة فيتولى ذلك فيها الزوج أو الأرحام ، بل فيما سمعته من المنتهى الإجماع عليه ، كالتذكرة على أولوية الأرحام ، ويؤيده مع أنها عورة‌ قول علي عليه‌السلام في خبر السكوني (١) : « مضت السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن المرأة لا يدخل قبرها إلا من كان يراها في حال حياتها » وقول الصادق عليه‌السلام في خبر إسحاق ابن عمار (٢) : « الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها » وفي‌ خبر زيد بن علي (٣) عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يكون أولى الناس بالمرأة في مؤخرها » وقد يشعر اختصاص ذلك في خصوص المؤخر كعبارة المفيد المحكية عنه « وينزلها القبر اثنان يجعل أحدهما يديه تحت كتفيها ، والآخر يديه تحت حقويها ، وينبغي أن يكون الذي يتناولها من قبل وركيها زوجها أو بعض ذوي أرحامها كابنها أو أخيها أو أبيها إن لم يكن لها زوج » انتهى. وربما يحمل الخبر على فرض عدم تعدد الرحم ، وعبارة المفيد على ما يقرب من ذلك أو على إرادة بيان أهمية ذلك ، أو تفاوت الأرحام بالنسبة إليه ، فتأمل.

ثم إن الظاهر ترتب الأولياء هنا الأقرب فالأقرب ، لأنها ولاية ، كما أن الظاهر تقديم الزوج عليهم ، للخبر المتقدم ، نعم الجميع أولى من النساء هنا وإن كان أرحاما ، خلافا لأحمد فجعل النساء أولى ، وهو ضعيف لاحتياج الدفن إلى مباشرة ما تضعف النساء عنه غالبا ، وإلى ما يمنعن منه من جهة حضور الرجال غالبا ككشف الوجه والساعد ، نعم إن لم يكن زوج ولا رحم من الرجال فالنساء ، فان تعذرن فالأجانب الصلحاء ، وإن كانوا شيوخا فهم أولى ، قاله الفاضل في التذكرة وتبعه عليه غيره.

بقي شي‌ء وهو أنه قال في كشف اللثام بعد تمام الكلام : « ثم إنه هل يتعين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

٢٨٨

الزوج أو الرحم؟ ظاهر العبارة والتذكرة والنهاية وصريح المعتبر والذكرى الاستحباب ، للأصل وضعف الخبر ، وظاهر جمل العلم والعمل والنهاية والمبسوط والمنتهى الوجوب » انتهى. قلت : لا ينبغي الإشكال في جواز تولي النساء لذلك ، ولا ينافيه الخبر ، نعم قد يشكل الحال بالنسبة للأجانب ، ولا ريب أن الأحوط تركه وإن كان في تحريمه نظر وتأمل بل منع ، فتأمل جيدا.

و ( منها ) انه يستحب أن يدعو بالمأثور عند إنزاله القبر باتفاق العلماء كما في المعتبر ، قال الصادق عليه‌السلام في خبر سماعة (١) : « إذا وضعت الميت على القبر قل اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، نزل بك وأنت خير منزول به ، فان سللته من قبل الرجلين ودليته قل بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللهم إلى رحمتك لا إلى عذابك ، اللهم افسح له في قبره ، ولقنه في حجته ، وثبته بالقول الثابت ، وقنا وإياه عذاب القبر » الخبر وعن النهاية والمقنعة والمبسوط والمصباح ومختصره والتذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام أنه‌ « يقول إذا تناوله : « بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ، هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، اللهم زدنا إيمانا وتسليما » وفي‌ حسن الحلبي (٢) عن الصادق عليه‌السلام « كان علي بن الحسين عليهما‌السلام إذا أدخل الميت القبر قال : اللهم جاف الأرض عن جنبيه ، وصاعد عمله ، ولقه منك رضوانا » والظاهر أنه بناء « أدخل » للمجهول ، ويحتمل خروج هذا الخبر عما نحن فيه بناء على كون هذا الدعاء بعد وضعه لا حين إنزاله ، كظاهر كثير من أخبار المقام ، للتعليق فيها على الوضع ونحوه فلاحظ وتأمل حتى لا يشتبه عليك دلالتها على المطلوب‌ وفي الدفن فروض وسنن ، فالفروض أولا الدفن إجماعا منا بل من المسلمين إن لم يكن ضروريا كما حكاه جماعة منهم الفاضلان ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٨٩

وتأسيا بالنبي وعترته ( صلوات الله عليهم ) والمسلمين بعده ، وسنة (١) بل وكتابا كقوله تعالى (٢) ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً ) على أظهر الوجهين فيها بأن يكون « أحياء » منصوبا بسابقه ، والكفت الضم ، وقوله تعالى أيضا (٣) ( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ ) إلى غير ذلك ، بل هو غني عن الاستدلال ، وهو لغة وعرفا وشرعا مواراته في الأرض بأن يحفر له حفيرة فيدفن فيها ، لكن نص جماعة على كون الحفيرة تحرسه من السباع وتكتم رائحته عن الناس ، بل في المدارك أنه « قد قطع الأصحاب وغيرهم بأن الواجب وضعه في حفيرة تستر عن الإنس ريحه وعن السباع بدنه بحيث يعسر نبشها غالبا » انتهى. قلت ولعله لتوقف فائدة الدفن على ذلك إن لم يدّع توقف مسماه كما أشار إليه‌ الرضا عليه‌السلام على ما عن علل ابن شاذان (٤) « أنه يدفن لئلا يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغير ريحه ، ولا يتأذى به الأحياء وبريحه وبما يدخل عليه من الآفة والدنس والفساد ، وليكون مستورا عن الأولياء والأعداء ، فلا يشمت عدوه ولا يحزن صديقه ».

وكأنه أشار إلى ذلك في الذكرى وتبعه عليه غيره حيث قال : والوصفان في الغالب متلازمان ، ولو قدر وجود أحدهما وجب مراعاة الآخر للإجماع على وجوب الدفن ، ولا يتم فائدته إلا بهما ، هذا كله مع إمكان دعوى توقف اليقين بالبراءة من التكليف بالدفن شرعا أو لغة وعرفا عليه ، سيما مع كون المعهود والمتعارف في القبور ذلك ، لكن مع ذا كله فللنظر والتأمل فيه مجال ، كالتأمل في دعوى ثبوت الإجماع عليه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الدفن.

(٢) سورة المرسلات ـ الآية ـ ٢٥.

(٣) سورة طه ـ الآية ـ ٥٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٩٠

لخلو كثير من كلمات الأصحاب عن التعرض لذلك ، ومن هنا لم أعثر على من ادعاه قبل سيد المدارك ، ومن العجيب ما في الرياض حيث حكى معقد إجماعي الفاضلين على الوصفين المذكورين ، وهما ليسا كذلك كما لا يخفى على من لاحظهما ، وكذا التأمل في دعوى توقف مسمى الدفن عليه شرعا ، لعدم ثبوت حقيقة شرعية فيه ، بل ولا مجاز شرعي ، وأضعف منه دعوى العرفي ، ومنه يظهر لك أنه لا وجه للتمسك بتوقف البراءة اليقينية عليه ، فيبقى أصالة البراءة حينئذ سالما عن المعارض.

وأما دعوى توقف فائدة الدفن عليه فمع أنه غير مطرد فيما لو دفن في مكان يؤمن عليه من السباع وظهور الرائحة لعدم الناس مثلا أو غير ذلك ولا تنحصر فوائده فيهما لا محصل لها بحيث ترجع إلى أحد الأدلة المعتبرة ، فلذا كان الاجتزاء بمسمى الدفن مع الأمن من ذينك الأمرين من غير الحفيرة لا يخلو من قوة ، إلا أن الأحوط الأول.

نعم لا يجتزى بما لا يصدق معه مسمى الدفن وإن حصل الفرضان السابقان ، فلا يجزئ البناء عليه ولا وضعه في تابوت من صخر أو غيره مغطى أو مكشوف ولا غير ذلك ، لكن مع القدرة على المواراة في الأرض كما صرح به غير واحد من الأصحاب ، بل في المدارك أن ظاهرهم تعين الحفيرة مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، وعلله أيضا بأنه مخالف لما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحفر ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفن ودفن كذلك ، وهو عمل الصحابة والتابعين ، أما لو دفن بالتابوت في الأرض جاز لكنه مكروه إجماعا كما عن الشيخ ، نعم لو تعذر الحفر لصلابة الأرض أو كثرة الثلج ونحو ذلك أجزأ ، بل وجب مواراته بنحو ذلك مراعيا للوصفين بحسب الإمكان بناء على اعتبارهما ، واحتمال الإشكال في وجوبه بعد فرض عدم صدق مسمى الدفن عليه لعدم الدليل على الانتقال منه بعد تعذره اليه مدفوع ـ بعد إمكان دعوى الإجماع عليه ـ بما يظهر للمتأمل في الأدلة وفي حكمة الدفن ومراعاة حرمة المؤمن ، وفيما ورد (١) من التغسيل والإلقاء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

٢٩١

في البحر ، ونحو ذلك مما يشرف الفقيه على القطع بالوجوب ، وهل يعتبر الأقرب فالأقرب إلى مسمى الدفن؟ وجهان.

كل ذا أن لم يمكن نقله إلى ما يمكن حفره ، أما إذا أمكن وجب للمقدمة ، ولذا قال في الذكرى وتبعه عليه غيره : « إنه لو أمكن نقله إلى أرض يمكن حفرها وجب » قلت : ونحوه الانتظار به إلى وقت الإمكان ، إلا أنه لم أقف على نص هنا من أخبار الباب وكلام الأصحاب على تحديد عدم الإمكان ، فهل هو مخافة تغيره وظهور رائحته أو حصول العسر والمشقة ونحوهما بنقله ، أو غير ذلك؟ وكذا الكلام بالنسبة إلى فقد سائر الواجبات من الكافور والغسل والكفن ونحوها ، عدا ما في كشف اللثام حيث قال : « ولو تعذر الحفر وأمكن النقل إلى ما يمكن حفره قبل أن يحدث بالميت شي‌ء وجب » انتهى ، وربما يشهد له التتبع لكلمات الأصحاب ، بل ربما يظهر منها كون ذلك من المسلمات ، أي تقديم الدفن على سائر الواجبات عند خوف الفساد وهتك الحرمة ، وربما يظهر لك قوة ذلك فيما يأتي إن شاء الله عند الكلام في نقل الموتى إلى المشاهد المشرفة ، ولكن مع ذلك قد يقال : إن الذي يقتضيه النظر مراعاة هذه التكاليف وعدم سقوطها إلا بما يسقط غيرها من الضرر والعسر والحرج ونحوها ، فتأمل جيدا ، والظاهر تقديم البناء والتابوت ونحوهما على التثقيل والإلقاء في البحر مع إمكانه ، ويحتمل عدمه لما ستعرفه ، فتأمل.

( وراكب ) سفن البحر أو الأنهار العظيمة ونحوها إذا مات يفعل به ما يفعل بغيره من التغسيل والتكفين والتحنيط والصلاة عليه ونحو ذلك ويلقى فيه إجماعا محصلا ومنقولا وسنة مستفيضة (١) وفيها الصحيح وغيره ، لكن يخير بين إلقائه إما مثقلا بحجر أو حديد ونحوهما مما يمنع ظهوره على وجه الماء أو مستورا في وعاء ثقيل يرسب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الدفن.

٢٩٢

في الماء كالخابية ونحوها لا صندوقا وشبهه مما يظهر على وجه الماء على المشهور بين الأصحاب على ما حكاه بعض ، بل نسبه آخر إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، ولعله كذلك ، وإن اقتصر في المقنعة والمبسوط والوسيلة والسرائر كما عن الفقيه والنهاية على الأول ، وفي الخلاف ومال إليه في المدارك وكذا كشف اللثام والرياض على الثاني ، لكن يبعد من الأولين إرادة التخصيص بذلك ، مع ما في الثاني من‌ الرواية الصحيحة (١) بل لا صحيح في المقام سواها ، قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل مات وهو في السفينة في البحر كيف يصنع به؟ قال : يوضع في خابية ويوكى رأسها وتطرح في الماء » سيما بعد اعتضادها بما في الخلاف من نسبة ذلك إلى إجماع الفرقة وأخبارهم ، وباحتمال أولويتها من التثقيل ، لما فيها من صيانة الميت عن الحيوانات وهتك حرمته وغير ذلك ، وبما عرفته من المشهور من جعلها أحد فردي المخير فيه ، كما أنه يبعد على مثل الشيخ في الخلاف عدم الاكتفاء بالتثقيل ، مع فتواه به مقتصرا عليه في غيره كغيره ممن عرفت من الأصحاب منضمين إلى غيرهم أيضا ممن جعله أحد فردي المخير ، بل لا أعرف أحدا ممن تقدمه اقتصر عليه ، ولا هو في غير هذا الكتاب ، فلعل نقله الإجماع أقوى إمارة على إرادة أحد الفردين ، وكذا نسبته إلى الأخبار ، إذ لم نعثر على غير تلك الرواية مشتملا على الخابية ، بل الموجود فيها التثقيل ، كخبر وهب بن وهب عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا مات الميت في البحر غسل وكفن وحنط ، ثم يصلى عليه ، ثم يوثق في رجله حجر ويرمى به في الماء ».

ويقرب منه‌ مرسل أبان عن الصادق عليه‌السلام (٣) إلى أن قال : « ويثقل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

٢٩٣

ويرمى به في البحر » ونحوهما الرضوي (١) ولا يقدح ما في سندهما بعد الانجبار بما عرفت ، مع إمكان تأييده أيضا بخبر سليمان بن خالد عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « ما دعاكم إلى الموضع الذي وضعتم زيد ـ إلى أن قال ـ : كم إلى الفرات من الموضع الذي وضعتموه فيه ، فقلت : قذفة حجر ، فقال : سبحان الله أفلا كنتم أوقرتموه حديدا وقذفتموه في الفرات؟ وكان أفضل » ونحوه خبره الآخر (٣) وهما وإن كانا ليسا مما نحن فيه من الموت في السفينة ونحوها ، وإنما هو عند الخوف عليه من النبش لو دفن في الأرض ، لكن لا مدخلية لذلك في نفس كيفية الدفن في البحر ، فلا بأس في الاستدلال بهما على ذلك ، كما لا بأس في العمل بمضمونهما كما نص عليه في كشف اللثام حاكيا له عن المنتهى ، لكن ظاهرهما الوجوب كما يقتضيه اللوم في الخبرين وغيره ، إلا أن قوله عليه‌السلام في أولهما : « وكان أفضل » كالصريح في عدمه ، والأول أحوط.

وكيف كان فقد ظهر لك من ذلك كله أن القول بالتخيير بين الأمرين هو الأقوى إن لم يكن مجمعا عليه جمعا بين الأدلة ، واحتمال حمل أخبار التثقيل على صورة تعذر الخابية أو تعسرها كما هو الأغلب وإن كان لا يخلو من وجه ، لكن لا التفات إليه بعد ما عرفت ، كاحتمال حملها على التثقيل بالخابية بدعوى الإطلاق والتقييد لما فيها من صريح المنافاة لذلك ، مضافا إلى ما فيه من الحمل على الأفراد النادرة ، إذ قل ما توجد خابية في السفينة غير مضطر إلى بقائها بحيث تضم بدن الميت من غير هتك لحرمته بقطع أو كسر بعض أعضائه ، فلا ريب حينئذ بما ذكرنا من التخيير ، بل قد يقوى في النظر عدم الانحصار بهما ، فيجتزى بكل ما يفيد الميت رسوبا في الماء ، حتى لو فرض عدم احتياجه إلى ذلك لم يجب ، نعم ينبغي أن يراعى ما لا هتك فيه لحرمته.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

٢٩٤

وهل يجب الاستقبال به حال الرمي لأنه دفن أو كالدفن كما عن ابن الجنيد واختاره جماعة ، أو لا يجب للأصل مع خلو أدلة المقام بل إطلاقها ، وعدم تناول ما دل على وجوبه لمثله ، واختاره في الحدائق وغيرها ، ولعله الأقوى وإن كان الأحوط الأول ، ولا يخفى أن الكلام في الوعاء وآله التثقيل بالنسبة إلى خروجهما من أصل التركة أو الثلث كالكلام في غيرهما من مؤن التجهيز ، لظهور كونهما منه.

ثم من المعلوم أن ذلك كله إنما هو مع تعذر الوصول إلى البر أو تعسره بلا خلاف أجده ، ولا حكاه أحد عن أحد سوى ما في المدارك من أن ظاهر المفيد في المقنعة والمصنف في المعتبر جواز ذلك ابتداء وإن لم يتعذر البر ، وفيه أنه لا ظهور فيهما بذلك سيما الأول ، فإنه قيد الحكم المذكور بما إذا لم يوجد أرض يدفن فيها ، وكيف يتوهم منهما ذلك مع أن الدفن كاد يكون من ضروريات ديننا ، بل دين اليهود والنصارى وأكثر الكفار ، ولعله لذا ترك التقييد به في أكثر الأخبار ، فلا وجه للإشكال فيه من جهة ترك الاستفصال فيها ، وذلك لأنه من المعلوم من السائل أن سؤاله إنما هو لمكان تعذر الأرض عليه ، أتراه يسأل عن الميت لو مات في سطح أو غرفة كيف يصنع به ، هذا. مع أن‌ الصادق عليه‌السلام قيده في مرفوع سهل بن زياد (١) حيث قال : « إذا مات الرجل في السفينة ولم يقدر على الشط قال : يكفن ويحنط في ثوب ويصلى عليه ويلقى في الماء » وبه مع انجباره بفتوى الأصحاب يقيد غيره فلا ينبغي الإشكال فيه حينئذ.

نعم قد يشكل الحال بالنسبة إلى وجوب الصبر مع رجاء التمكن من الأرض في زمان قصير أو قبل فساد الميت ، من إطلاق الأدلة ، وعدم العلم بتعذر الدفن ، ولعله من هنا تردد فيه في جامع المقاصد ، لكن ظاهر الذكرى وغيرها عدم التربص به ، ولعل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

٢٩٥

الأقوى الوجوب ، أما لو علم بالتمكن وجب قطعا.

ومن الفرض أن يضجعه على جانبه الأيمن مستقبل القبلة كما نص عليه جماعة من الأصحاب ، بل لا أعرف فيه خلافا محققا بين المتقدمين والمتأخرين عدا ابن حمزة في وسيلته ، حيث عده من المستحبات ، وإن احتمل ذلك بعض عباراتهم أيضا ، كما أنه لعله الظاهر من حصر الشيخ في جمله الواجب في واحد ، وهو دفنه ، ومال إليه بعض متأخري المتأخرين ، وربما ظهر من ابن سعيد في الجامع الوفاق في الثاني ، والنزاع في الأول حيث قال : الواجب دفنه مستقبل القبلة ، والسنة أن تكون رجلاه شرقيا ورأسه غربيا على جانبه الأيمن » انتهى.

وكيف كان فلا ريب أن الأقوى الأول ، للإجماع المحكي في ظاهر الغنية بل صريحها المعتضد بنفي الخلاف فيه عن شرح الجمل للقاضي ، وبما في المعتبر والذكرى وجامع المقاصد وغيرها من أن عليه عمل الصحابة والتابعين كالتذكرة ، إلا أنه أبدل الصحابة بالأصحاب وبالتأسي بالنبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار عليهم‌السلام وبالصحيح (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدنية وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة وأنه حضره الموت ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون يصلون إلى بيت المقدس ، فأوصى البراء إذا دفن أن يجعل وجهه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القبلة ، فجرت به السنة » الحديث. وظاهر السنة فيه الطريقة اللازمة لا الاستحباب ، والمروي عن دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام (٢) أنه « شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة رجل من بني عبد المطلب ، فلما أنزلوه قبره قال : أضجعوه في لحده على جنبه الأيمن مستقبل القبلة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٩٦

و لا تكبوه لوجهه ، ولا تلقوه لظهره » وما رواه‌ العلاء بن سيابة (١) في حديث القتيل الذي أتي برأسه « إذا أنت صرت إلى القبر تناولته مع الجسد ، وأدخلته اللحد ، ووجهته للقبلة » وبما أرسله‌ الصدوق في هدايته عن الصادق عليه‌السلام (٢) أنه قال : « إذا وضعت الميت في لحده فضعه على يمينه مستقبل القبلة » إلى آخره. وبفحوى ما تسمعه في كيفية دفن الذمية الحامل من المسلم ، وبالرضوي (٣) « ضعه في لحده على يمينه مستقبل القبلة » وبأنه أولى من حال الاحتضار الذي قد مر وجوبه ، وباشتداد حاجته في هذا الحال إلى كل ما يرجى فيه صلاح ونفع له أشد من غيره من الأحوال.

هذا كله والمسألة بعده لا تخلو من شوب الاشكال ، خصوصا بالنسبة إلى وجوب الحكم الأول ، كما أنه يشكل بعد القول بالوجوب تعدية ذلك إلى الأجزاء المفرقة غير الرأس بحيث يراعى فيها حال الاتصال ، وإن كان قد يقال : إنه قضية عدم ترك الميسور بالمعسور ، نعم قد يقوى وجوب الاستقبال بالرأس كما عساه يشعر به خبر ابن سيابة ، وإنه الجزء المهم في الاستقبال ، وكذا الجسد المبان منه الرأس ، بل لو لم يبق إلا الصدر فإنه يجب الاستقبال بالجميع ، كما هو واضح ، وكذا يجب جمع الأجزاء مع التمكن بحيث يلتم منه شخص مستقبل منه ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فقد استثنى المصنف من الحكم المذكور ـ فقال إلا أن يكون امرأة غير مسلمة ذمية كانت أو لا حاملا من مسلم ولو بزناء ونحوه ، سبق إسلامه على الحمل أو تأخر ، كأن أسلم عليها وهي حامل ، فيستدبر بها القبلة حينئذ ـ استثناء انقطاع لعدم دخول المستثنى في المستثنى منه ، إذ لا يجب الاستقبال في حال الدفن لغير أهل القبلة ، نعم لا بأس باستثناء ذلك حقيقة من حرمة دفن غير المسلمين في مقابر المسلمين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٩٧

المجمع عليها في التذكرة والذكرى وجامع المقاصد والروض وعن نهاية الأحكام لئلا يتأذى المسلمون بعذابهم ، بل قال الشهيد : إنه لو دفن نبش إن كان في الوقف ، ولا يبالي بالمثلة ، فإنه لا حرمة له ، ولو كان في غيره أمكن صرفا للأذى عن المسلمين ، ولأنه كالمدفون في الأرض المغصوبة بخلاف الذمية الحامل من مسلم ، فإنها تدفن في مقابرهم احتراما لولدها بلا خلاف أجده ، بل عن الخلاف الإجماع ، وفي التذكرة قاله علماؤنا.

قلت : وهو الحجة ، مضافا إلى الحكم بإسلام الولد بمعنى جريان أحكام المسلمين عليه ، فلا يجوز حينئذ دفنه في مقابر الكفار ، ولا وجه لشق بطن أنه وإخراجه لما فيه من هتك حرمة الميت وإن كان ذميا لغرض ضعيف ، بل لعله هتك لحرمة الولد ، فلم يبق حينئذ إلا دفنها في مقابر المسلمين ، هذا.

وربما استدل عليه أيضا بخبر يونس (١) قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل تكون له الجارية اليهودية أو النصرانية ، وحملت منه ثم ماتت والولد في بطنها ومات الولد ، أيدفن معها على النصرانية أو يخرج منها ويدفن على فطرة الإسلام؟ فكتب يدفن معها » واعترضه في المعتبر بضعف السند والدلالة ، إذ لا إشعار فيها بكون الدفن في مقبرة المسلمين ، وقد يدفع بالانجبار بما عرفت ، وبما في جامع المقاصد من أن الأصل في الدفن الحقيقة شرعا ، وفيه أنه لو سلم الحقيقة الشرعية لم يكن للمحل مدخلية في ذلك وإن قلنا بعدم جواز دفن المسلم في مقابر أهل الذمة.

ثم إن ظاهر المصنف والعلامة كما عن المفيد عدم اعتبار موت الولد بعد ولوج الروح ، خلافا للمحكي عن ظاهر الشيخ وابن إدريس ، ولعل الأقوى الأول وإن كان ربما يظهر من مورد الرواية الثاني ، إلا أن الاحترام في كل منهما متحقق كما لو سقط ، نعم قد يظهر من فحوى جملة من عبائر الأصحاب عدم الإكتفاء بمطلق الحمل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

٢٩٨

ولو قبل تماميته ، وهو كذلك على الظاهر وإن كان إطلاق العبارة وغيرها يتناوله ، ولعله للاحترام كما في أم الولد مع عدم الإجماع على حرمة الدفن في هذا الحال.

وهل الحمل من زناء المسلم كذلك كما يقتضيه إطلاق العبارة وغيرها ، وتغليب جانب الإسلام للولادة على الفطرة ، أولا كما يشعر به دليلهم ، إذ لا تبعية في مثله فلا احترام ، واختصاص الخبر بجارية المسلم؟ الأقوى الثاني ، بل لعله المتبادر من إطلاق المصنف والعلامة وغيرهما كمعقد إجماع الخلاف والتذكرة ، فلا يتحقق حينئذ خلاف ، نعم الأقوى إلحاق وطء الشبهة بالحلال ، وكذا ظاهر المصنف ومعقد إجماع الخلاف حيث عبر بالمشركة عدم الفرق بين الذمية وغيرها ، وإن كان مورد الخبر الأولى ، كجملة من عبارات الأصحاب ، بل المحكي عن ظاهر الأكثر اقتصارا على المتيقن ، ولعل الأول أقوى تمسكا بعموم العلة المؤمى إليها ، وبمعقد إجماع الخلاف ، واحتمال الفرق بين الكتابية وغيرها فيشق بطن الثانية دون الأولى ضعيف جدا.

هذا كله بالنسبة إلى أصل دفنها في مقابر المسلمين ، وأما كيفيته فقد ذكر المصنف وغيره أنه يستدبر بها القبلة ليكون الجنين وجهه إليها بلا خلاف نعرفه فيه ، بل هو بعض معقد إجماع الخلاف ، وفي المنتهى قاله علماؤنا ، وفي التذكرة « يستدبرها القبلة على جانبها الأيسر ليكون وجه الجنين إلى القبلة على جانبه الأيمن ، وهو وفاق » انتهى. وظاهرهم الوجوب إلا أنه أطلق كثير منهم الاستدبار من غير تقييد بكونه على الجانب الأيسر ، ولعل التقييد به أولى مراعاة للكيفية السابقة التي مر الاستدلال على وجوبها ، واحتمال سقوطها في خصوص المقام للأصل مع عدم ظهور تناول الأدلة ضعيف ، إذ الأم في الحقيقة كالغلاف والتابوت ، بل لو لا احترامها به لشققنا بطنها ونزعناه منها لتغسيله ونحوه ، فيقتصر حينئذ على سقوط ما ينافي الاحترام دون غيره ، فتأمل.

وأما السنن‌ فمنها أن يحفر القبر قدر قامة أو إلى الترقوة عند علمائنا أجمع‌

٢٩٩

كما في التذكرة وجامع المقاصد ، وقطع به الأصحاب في كشف اللثام ، ومذهبهم في المدارك ، ولعله يرجع إليه ما في الخلاف أيضا من الإجماع من الفرقة والعمل منهم على استحباب حفر القبر قدر قامة ، وأقله إلى الترقوة ، قلت : ويؤيد دعوى الإجماع في المقام هو أنا لم نعثر على مخالف محقق من الأعلام ، وما في الغنية من الاقتصار على ذكر استحباب أن يكون عمق القبر قدر قامة إلى أن ادعى الإجماع من دون ذكر للفرد الآخر ليس خلافا عند التأمل ، كما أن الاقتصار فيما ورد (١) من الأخبار على الترقوة لا ينافي ما سمعت من معاقد الإجماعات على التخيير كخبر ابن أبي عمير (٢) عن بعض أصحابه عن الصادق عليه‌السلام قال : « حد القبر إلى الترقوة ، وقال بعضهم : إلى الثدي ، وقال بعضهم : قامة الرجل حتى يمد الثوب على رأس من في القبر ، وأما اللحد فبقدر ما يمكن فيه الجلوس ، قال : ولما حضر علي بن الحسين عليهما‌السلام الوفاة قال : احفروا لي حتى تبلغوا الرشيح » قيل والظاهر أن ذلك من محكي ابن أبي عمير لأن الإمام عليه‌السلام لا يحكي قول أحد ، قلت : فيحتمل حينئذ إرادته بالبعض أحد الأئمة عليهم‌السلام أو بعض أصحابه عنهم عليهم‌السلام ، بل لعله الظاهر إذ احتمال إرادته بعض العامة ضعيف ، مع أنه قد يشهد له أيضا ما رواه‌ الكليني عن سهل ابن زياد (٣) قال : « روى أصحابنا أن حد القبر » وذكر نحوه ، وهو كالصريح فيما قلناه ، ويحتمل أن يكون ذلك من محكي الصادق عليه‌السلام كما عساه يؤيده ما عن الصدوق أنه رواه عن الصادق عليه‌السلام مرسلا إلى قوله فيه الجلوس ، ولا ضير في حكاية الإمام عليه‌السلام أقوال بعض العامة.

وكيف كان فالعمدة في الاستدلال ما عرفته من الإجماعات السابقة ، ولا ينافيها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

٣٠٠