جواهر الكلام - ج ٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

أو بقاء الميت ليلا ولا بيت الموت بل ولا بالليل ، ولعله لنحو ذلك قال في المعتبر فهي ساقطة لكنه فعل حسن ، وقد يدفع الأول بعدم قدح مثله فيما نحن فيه سيما بعد الانجبار بما عرفت ، كما انه قد يدفع ما بعده بأصالة الاشتراك في الحكم ، وبأن ما تضمنه الحديث يندرج فيه المدعى ، أو يقال : ان استحباب ذلك يقتضي استحباب الإسراج عند الميت بطريق أولى ، لكن الثاني مبني على الفتوى بهذا الحكم حتى تكون الأولوية معتبرة ، ولعلنا نقول به وان لم أجد من صرح به ، إلا انه قد تقبله بعض العبارات فتأمل ، وبأن الإسراج يظهر منه كونه بالليل ، كل ذا مع التسامح في أدلة السنن وفتوى الأصحاب بذلك كما عرفت ، وربما يؤيده الاعتبار ، ويشعر به ترك إبقاء الميت وحده خوفا من عبث الشيطان ، واستحباب قراءة القرآن عنده المستلزمة غالبا ذلك فتأمل ، ومن المعلوم ان المراد بالإسراج إلى الصباح كما صرح به جماعة وفي المعتبر « وهو حسن لأن علة السراج غايتها الصباح » انتهى ، وهو جيد.

وكذا يستحب ان يكون عنده من يقرأ القرآن قبل الموت للتبرك واستدفاع الكرب والعذاب سيما يس والصافات ، ففي كشف اللثام انه‌ ( روي (١) « انه يقرأ عند النازع آية الكرسي وآيتان بعدها ثم آية السخرة : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ ) الى آخرها ، ثم ثلاث آيات من آخر البقرة : ( لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) إلى آخرها ، ثم يقرأ سورة الأحزاب » وعنه (٢) « من قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت أو قرأت عنده جاء رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة ، فسقاها إياه وهو على فراشه ، فيشرب فيموت ريان ويبعث ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء عليهم‌السلام وعنه (٣) « أيما مسلم قرأ عنده إذا نزل به ملك الموت‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٣٥.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ حديث ١ من كتاب الصلاة.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ حديث ١ من كتاب الصلاة.

٢١

سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك ، يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ، ويستغفرون له ، ويشهدون غسله ، ويتبعون جنازته ، ويصلون عليه ، ويشهدون دفنه » انتهى. وعن سليمة (١) انه رأى أبا الحسن عليه‌السلام يقول لابنه : « قم يا بني فاقرأ عند رأس أخيك « والصافات صفا » حتى تستتمها ، فقرأ ، فلما بلغ ( أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ) قضى الفتى ، فلما سجي وخرجوا أقبل عليه يعقوب بن جعفر ، فقال له : كنا نعهد الميت إذا نزل به الموت نقرأ عنده يس ، فصرت تأمرنا بالصافات ، فقال يا بني لم تقرأ عند مكروب من موت إلا عجل الله راحته » والأمر بالإتمام يتضمن القراءة بعد الموت ، قيل وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من دخل المقابر فقرأ يس خفف الله عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات » ولم أقف على دليل خاص لما هو المتعارف في بلادنا الآن وغيرها من القراءة على قبر الميت ثلاثة أيام بلياليها فصاعدا بغير فتور ، فلعل فاعله بقصد الخصوصية مشرع في الدين ، بل لم أعرف دليلا على أصل استحباب قراءة القرآن عدا يس ونحوها عند قبور الموتى ، وإن أطلق جماعة استحباب قراءة مطلق القرآن قبل الموت وبعده ، إلا أن ظاهرهم قبل الدفن ، لكن لا يبعد الفتوى به مطلقا ، لما عساه يشعر به ما ورد في يس (٢) وإنا أنزلناه (٣) ونحوهما (٤) مع ما يظهر من غير ذلك أيضا فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١ لكن رواه عن سليمان الجعفري.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب قراءة القرآن ـ حديث ٧ من كتاب الصلاة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب الدفن.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الدفن.

٢٢

وان مات غمضت عيناه للأخبار (١) والصون عن قبح المنظر ودخول الهوام ونفي الخلاف عنه في المنتهى وأطبق فوه كما نص عليه جماعة تحفظا من دخول الهوام وقبح المنظر ، وشد لحياه حذرا من الاسترخاء وانفتاح الفم ، وللأخبار (٢) واقتصر ابن إدريس كالمصنف هنا والعلامة في التحرير والإرشاد والقواعد على الإطباق ، وعن نهاية الأحكام والتذكرة على الشد ، وسلار وابنا حمزة وسعيد والعلامة في المنتهى جمعوا بينهما مع نفي الخلاف في الأخير فيحتملهما والشد لكونه المتأخر ، ولعل مراد الجميع عند التأمل واحد فتأمل.

ومدت يداه إلى جنبيه بلا خلاف أجده في استحبابه ، بل نسبه جماعة إلى الأصحاب مشعرين بدعوى الإجماع عليه ، وهو كاف في إثباته ، مع أنه أطوع للغاسل وأسهل للمدرج ، فلا يقدح حينئذ في استحبابه بعد ذلك ما في المعتبر من اني لم أعلم في ذلك نقلا عن أهل البيت عليهم‌السلام لعدم انحصار الدليل في ذلك ، وكذا تمد ساقاه إن كانتا منقبضتين ، وفي الروض نسبته إلى الأصحاب كظاهر كشف اللثام وغطي بثوب لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سجي بحبرة (٣) وتغطية الصادق عليه‌السلام إسماعيل بملحفة (٤) ونفي الخلاف في المنتهى. وفيه ستر عن الأبصار وصون عن الهوام وغيرها.

وكذا يستحب أن يعجل تجهيزه إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا كالنصوص (٥) بل هي ظاهرة في الوجوب إلا أنها حملت على الاستحباب لما عرفت من الإجماع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١ و ٢ والباب ـ ٢٩ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١ و ٢ والباب ـ ٢٩ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار.

٢٣

مع الطعن في أسانيدها ، فلا إشكال حينئذ في الاستحباب إلا أن يكون حاله مشتبهة في الموت وعدمه ، ف لا يستحب التعجيل قطعا ، بل يحرم للأصل المقرر بوجوه ، والاحتياط في أمر النفوس ، والإجماع والنصوص (١) حتى يستبرئ بعلامات الموت المفيدة له من الريح ، كما في‌ خبر ابن أبي حمزة (٢) قال : « أصاب الناس بمكة سنة من السنين صواعق كثيرة ، مات من ذلك خلق كثير ، فدخلت على أبي إبراهيم عليه‌السلام ، فقال مبتدءا من غير أن أسأله : ينبغي للغريق والمصعوق أن يتربص به ثلاثا لا يدفن إلا أن يجي‌ء منه ريح تدل على موته ، قلت : جعلت فداك كأنك تخبرني أنه قد دفن ناس كثير أحياء ، فقال : نعم يا علي قد دفن ناس كثيرا أحياء ما ماتوا إلا في قبورهم » ولعله المراد بالتغيير الموجود في غيره ، كقول الصادق عليه‌السلام في الموثق (٣) : « الغريق يحبس حتى يتغير ويعلم أنه قد مات ، ثم يغسل ويكفن ، قال : وسئل عن المصعوق ، فقال : إذا صعق حبس يومين ، ثم يغسل ويكفن » وك‌ قول أبي الحسن عليه‌السلام في الحسن (٤) كالصحيح في المصعوق والغريق : « ينتظر به ثلاثة أيام إلا أن يتغير قبل ذلك » وقول الصادق عليه‌السلام (٥) في الصحيح : « خمس ينتظر بهم إلا أن يتغيروا : الغريق والمصعوق والمبطون والمهدوم والمدخن » إلى غير ذلك مما علق فيه الدفن على التغير.

ويحتمل شموله لما ذكره بعض الأصحاب من علامات الموت كاسترخاء رجليه وانفصال كفيه وميل أنفه وامتداد جلدة وجهة وانخساف صدغيه ، وزاد آخر وتقلص أنثييه إلى فوق مع تدلي الجلدة ، وعن أبي علي أن علامته زوال النور من بياض العين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب الاحتضار.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٨ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٢.

٢٤

وسوادها وذهاب النفس وزوال النبض ، وعن جالينوس الاستبراء بنبض عروق بين الأنثيين ، أو عروق يلي الحالب والذكر بعد القمر الشديد ، أو عرق في باطن الألية أو تحت اللسان أو في بطن المنخر ، قلت : ولم نجد شيئا مما ذكره بل وما ذكره البعض من الأصحاب في شي‌ء من الأخبار ، واحتمال شمول لفظ التغيير الموجود فيها لجميع ذلك كما ترى ، سيما بعد ظهور إرادة الريح منه ، لكن يسهل الخطب أن المدار على العلم الذي تطمئن النفس به ، فلا يتفاوت الحال في سائر ذلك ، فاحتمال إناطة الحكم بهذه العلامات وإن لم تفده في غاية الضعف حتى لو سلم شمول لفظ التغيير فيها لها بقرينة الشهرة المدعاة ، لظهور الأخبار المتقدمة في كون المدار على العلم كما صرح به في الموثق المتقدم ، وان تعليق الحكم على التغيير انما هو لإفادته ذلك غالبا ، فما في الرياض من أنه لا يبعد المصير إلى تلك الامارات مطلقا للشهرة القرينة على الفرد الغير المتبادر لا يخلو من نظر ، إذ هو مع مخالفته للأصل بل الأصول وشدة الاحتياط في أمر النفوس لم نتحقق ما ادعاه من الشهرة ، بل في المعتبر « ويجب التربص مع الاشتباه حتى تظهر علامات الموت ، وحده العلم ، وهو إجماع » انتهى. والمحكي عن التذكرة « أنه لا يجوز التعجيل مع الاشتباه حتى تظهر علامات الموت ، ويتحقق العلم به بالإجماع » انتهى. مع أنه هو الذي ذكر في التذكرة جملة من العلامات المذكورة.

ومن ذلك كله يظهر لك الحال أيضا في الفرد الثاني من فردي التربص المذكور في المتن بقوله أو يصبر عليه ثلاثة أيام كما هو مفاد الأخبار السابقة وغيرها ، لكن ظاهره كغيره من الأصحاب ممن عبر بنحو ذلك بل كاد يكون صريح بعضهم أن الثلاثة أقصى مدة التربص ، وهو مبني إما على الملازمة بين مضيها والموت ، أو أنها تحديد شرعي ، فلا يقدح احتمال الحياة حينئذ ، وفي استفادة كل منهما من الأخبار نظر ظاهر ، لمكان انصرافها لما هو الغالب من تحقق الموت بمضيها ، فالأولى حملها‌

٢٥

على حصول العلم بذلك ، كما يشعر به اختلافها في تعليق ذلك ، إذ منها ما هو على العلم ، وآخر على الثلاثة ، وثالث على التغيير ، ورابع على اليومين ونحو ذلك ، ويؤيده الإجماعان السابقان ، والأصول السالمة ، فالأولى جعل المدار على العلم ، وبه يسقط التعرض حينئذ لأحوال الكسور في تلك الأيام وجبرها بالموافق والمخالف ، فتأمل جيدا. وعن العلامة في نهاية الأحكام « أنه شاهد واحدا في لسانه دفعة فسأله عن سببها فقال : مرضت مرضا شديدا واشتبه الموت ، فغسلت ودفنت في ابرخ ، ولنا عادة إذا مات شخص فتح عنه باب الابرخ بعد ثلاثة أيام أو ليلتين ، إما زوجته أو أمه أو أخته أو ابنته فتنوح عنده ساعة ، ثم تطبق عليه ، هكذا يومين أو ثلاثة ، ففتح علي فعطست فجاءت أمي بأصحابي وأخذوني من الابرخ ، وذلك منذ سبعة عشر سنة » قلت : ومنه يعرف أن الانتظار لا ينبغي أن يختص بالخمسة التي تضمنتها الأخبار ، كما انا لم نجد قائلا بذلك.

ثم انه قد يستثنى من استحباب التعجيل تعطيله لبعض المصالح الأخروية الراجعة إليه ، سيما إذا بودر في الشروع بمقدمات ذلك لاحتمال دخوله حينئذ تحت التعجيل ، إذ هو بالنسبة إلى كل شي‌ء بحسبه ، فلا ينافيه حينئذ نقل الميت من المكان البعيد إلى مرقد مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أو غيره من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام أو تعطيله مثلا لأشرف ليلة على إشكال في جميع ذلك سيما في الأخير ونحوه ، وسيما بعد ظهور رائحته ونحوها مما يحصل بها هتك حرمته ، لعدم إشارة في شي‌ء من النصوص الواردة عن العالمين بأحوال ذلك العالم إلى شي‌ء من ذلك ، بل أطلقوا الأمر بالتعجيل ، وحثوا عليه حتى‌ ورد (١) أن « كرامة الميت تعجيله » وفي‌ خبر جابر (٢) عن أبي جعفر‌

__________________

(١) الفقيه ـ ج ١ ـ ص ٨٥ ـ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١.

٢٦

عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر الناس لا ألقين رجلا مات له ميت ليلا فانتظر به الصبح ، ولا رجلا مات له ميت نهارا فانتظر به الليل ، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ولا غروبها ، عجلوا بهم إلى مضاجعهم رحمكم الله » بل في‌ خبره الآخر (١) قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « إذا حضرت الصلاة على الجنازة في وقت مكتوبة فبأيهما أبدأ؟ فقال : عجل الميت إلى قبره إلا أن تخاف أن يفوت وقت الفريضة » وفي‌ خبر السكوني (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاثة ما أدري أيهم أعظم جرما : الذي يمشي مع الجنازة بغير رداء ، والذي يقول قفوا ، والذي يقول استغفروا له غفر الله لكم » إلى غير ذلك من الأخبار المفيدة زيادة الحث على التعجيل وكراهة التعطيل ونحو ذلك ، ولعله لأن المصلحة التي في التعجيل لا تقاومها مصلحة أخرى ، والأقوى في النظر ملاحظة الميزان للفقيه بالنسبة إلى ذلك ، إذ التعارض فيها بعد فرض عدم دخولها تحت مسمى التعجيل تعارض العموم من وجه ، فتأمل جيدا.

ويكره أن يطرح على بطنه حديد في المشهور كما في المختلف والروضة ، بل في الخلاف الإجماع على كراهة وضع الحديد على بطن الميت مثل السيف ، وكفى بذلك حجة لمثلها ، مضافا إلى ما في التهذيب أنه سمعناه من الشيوخ مذاكرة ، وإلى مخالفته للمنقول في الخلاف عن الشافعي من الاستحباب ، بل في المقنعة نسبة طرح الحديد عليه إلى العامة ، فما عساه يشعر به نسبة المصنف له إلى القيل في المعتبر من التوقف فيه ، بل هو صرح بذلك معللا له بعدم ثبوت نقل به عن أهل البيت عليهم‌السلام ليس في محله بعد ما عرفت من الإجماع المعتضد بالشهرة المحصلة والمنقولة ، بل لعلها إجماع ، إذ لم يعرف فيه خلاف سوى ما يحكى عن ابن الجنيد من أنه قال : يضع على بطنه شيئا يمنع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٢.

٢٧

من ربوها ، وهو ـ مع احتمال خروجه عما نحن فيه ومنافاته لما تقدم ، بل في المختلف لم أقف على موافق له من أصحابنا ، وفي جامع المقاصد وإجماع الأصحاب على خلافه ، ونحوه ما في الروض ـ غير قادح في الإجماع ، وكذا ما يحكى عن صاحب الفاخر من أنه يجعل الحديد على بطنه.

وهل يلحق بالحديد غيره في الكراهة كما صرح به بعض الأصحاب أو لا؟ وجهان ينشئان من الاقتصار فيما خالف الأصل على المتيقن مع عدم بلوغ التسامح في الكراهة عندنا إلى الاكتفاء بمثل ذلك من فتوى فقيه ونحوها ، ومن ظهور المساواة وإلغاء الخصوصية.

ثم انه هل تختص الكراهة بما بعد الموت كما هو ظاهر المصنف للأصل واختصاص معقد إجماع الخلاف والشهرة في المختلف ، بل لعله الظاهر من فحاوي كلمات الأصحاب ، ويؤيده مع ذلك أن المتجه قبل الموت الحرمة ، لما فيه من الأذية للميت والإعانة على خروج نفسه ، اللهم إلا أن يراد بكراهة وضع الحديد حينئذ عليه انما هو من حيث الحديد ، وإلا فلا إشكال في الحرمة فيه وفي غيره مع الثقل المؤذي المعين على خروج نفسه ، كما هو واضح ، ويشعر به ما دل (١) على النهي عن مسه وهو في هذا الحال خوفا من زيادة ضعفه والإعانة عليه ، فتأمل.

ويكره أن يحضره جنب أو حائض وإن كان أحدهما للأخبار (٢) المعتضدة بفتوى المشهور معللة ذلك بتأذي الملائكة بحضورهما ، وهو ـ مع قصور الأخبار عن إفادة الحرمة ـ مشعر بالكراهة كما هو المشهور بين الأصحاب ، بل لعله لا خلاف فيه ، لاحتمال ما في الهداية وعن المقنع (٣) من التعبير عن ذلك بعدم الجواز اشتداد الكراهة ، كالمضمر المروي عن الخصال.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الاحتضار.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٤.

٢٨

ثم ان ظاهر الأخبار (١) اختصاص الكراهة بوقت الاحتضار ، فتزول حينئذ بالموت ، ويومي اليه زيادة على ذلك ما في‌ خبر يونس (٢) عن الصادق عليه‌السلام بعد النهي عن حضورهما عند التلقين « ولا بأس أن يليا غسله » لكن في‌ خبر الجعفي (٣) أنه « لا يجوز إدخالهما الميت قبره » كالمحكي عن‌ الفقه الرضوي (٤) أنه « لا بأس أن يليا غسله ، ويصليا عليه ، ولا ينزلا قبره » ولم أجد من أفتى بهما في الكراهة فضلا عن غيرهما ، والظاهر عدم الفرق بين الحائض المنقطع دمها وعدمه قبل الطهارة كما في الكثير من أحكام الحائض ، نعم قد يقال : بارتفاع الكراهة فيها في هذا الحال ، والجنب بالتيمم بدل الغسل مع فرض وجود المسوغ له من العجز عن الماء مثلا ونحوه ، وربما احتمل العدم لعدم خروجهما عن وصف اسم الحائض والجنب بذلك ، وهو ضعيف ، نعم لا يشرع التيمم لمكان تضيق وقت هذه الغاية بحيث لو اغتسلت مثلا لم تدركه حيا.

وكان على المصنف ذكر كراهة إبقاء الميت وحده لخبر أبي خديجة (٥) عن الصادق عليه‌السلام « لا تدعن ميتك وحده فان الشيطان يعبث في جوفه » كما أنه كان عليه أن يزيد في عدد المستحب إعلام إخوانه المؤمنين ليشيعوه ، لقول الصادق عليه‌السلام (٦) : « ينبغي لأولياء الميت أن يؤذنوا إخوان الميت بموته ، فيشهدون جنازته ، ويصلون عليه. ويستغفرون له ، فيكتب لهم الأجر وللميت الاستغفار ، ويكتسب هو الأجر فيهم وفيما كتب له من الاستغفار » وهو يعم النداء ، فما عن الخلاف من أني‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الاحتضار.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٢.

(٣) الخصال ـ ج ٢ ـ ص ١٤٢ ـ المطبوعة بسنة ١٣٠٢.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٢ لكن رواه في الوسائل مرسلا عن الصدوق رحمه‌الله.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ١.

٢٩

لا أعرف به نصا ليس في محله إلا إذا أراد الخصوصية ، وفي الرياض وكالمنقول عن الجعفي من كراهة المضي إلا أن يرسل فإنه مع عدم الدليل عليه ينافي ما يترتب على الحضور من الثواب الجزيل على السنن الموظفة في التشييع والتربيع والصلاة والتعزية وما فيه من الاتعاظ والتذكر لأمور الآخرة وتنبيه القلب القاسي وانزجار النفس الامارة ، وفي‌ الخبر (١) « عن رجل يدعى إلى وليمة وإلى جنازة فأيهما أفضل؟ وأيهما يجيب؟ قال : يجيب الجنازة ، فإنها تذكر الآخرة ، وليدع الوليمة فإنها تذكر الدنيا » قلت : الموجود فيما حضرني من نسخة الذكرى من النقل عن الجعفي أنه يكره النعي إلا أن يرسل صاحب المصيبة إلى من يختص به ، وهو غير ما أورد عليه في الرياض من المضي ، فتأمل جيدا.

( الثاني في الغسل‌ )

( وهو فرض ) عدا ما تسمع مما يستثنى إجماعا وسنة ، بل لعله من ضروريات المذهب بل الدين على كل مكلف عالم بالحال متمكن كسائر التكاليف مماثل عدا ما ستعرف ، وإن كان لا يصح إلا من المؤمن والكتابي ، وقد يلحق به غيرهما كما ستسمع تفصيل ذلك كله ، لكنه على الكفاية بمعنى سقوطه بقيام البعض ، والعقاب للجميع مع الإخلال بلا خلاف بين أهل العلم كما في المنتهى وكذا تكفينه ودفنه والصلاة عليه بإجماع العلماء كما في التذكرة ، وهو مذهب أهل العلم كافة كما في المعتبر ، وبلا خلاف كما في الغنية إلى غير ذلك من نفي الخلاف عن ذلك وأمثاله من أحكام الميت ، وحكاية الإجماع في كلمات الأصحاب ، بل لعل الثاني متواتر فيها ، وهو الحجة ، مضافا إلى الأمر بذلك كله في المستفيض من الأخبار (٢) بل المتواتر من غير تعيين للمباشر ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل الميت والباب ـ ١ ـ من أبواب التكفين والباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الجنائز والباب ـ ١ ـ من أبواب الدفن.

٣٠

فالأصل مع العلم بعدم إرادة تكراره من كل مكلف ولا مشاركة الجميع فيه مما يثبت ذلك وينقحه ، مع أن المستفاد من ملاحظة أخبار الباب بحيث يشرف الفقيه على القطع واليقين أن المراد إبراز هذه الأمور إلى الوجود الخارجي لا من مباشر بعينه.

ولكن قد يتخيل في بادى النظر أن ذلك كله مناف لما في كلام الأصحاب وأخبار الباب (١) من ذكر الولي ، كقول المصنف هنا : إن أولى الناس به أي بالغسل أولاهم بميراثه وكذا في الصلاة في الكتاب والنافع وأحق الناس بالصلاة على الميت أولاهم بميراثه ، بل في القواعد واللمعة هنا وعن النهاية والمبسوط والمهذب والوسيلة والمعتبر أن أولى الناس بالميت في أحكامه كلها أولاهم بميراثه ، وفي جامع المقاصد الظاهر أنه إجماعي ، ولعله كذلك وإن تركه بعضهم في بعض المقامات كالجامع في التلقين الأخير ، والسرائر في الغسل ، كما أنه لم يذكر في المقنع والمقنعة على ما قيل إلا أولوية الولي في الصلاة ، وعن المراسم وجمل السيد والإصباح فيها وفي نزول القبر ، وجمل الشيخ والنافع والتلخيص والتبصرة فيها وفي التلقين الأخير ، والاقتصاد والمصباح ومختصره ونهاية الأحكام في الثلاثة ، والهداية في الغسل ونزول القبر ، والإرشاد في الغسل والصلاة والتلقين الأخير ، لعدم ظهور الخلاف في المتروك ، على أنه يكفي في الاشكال المتقدم ثبوت الولاية ولو في الجملة ، نعم يرتفع ذلك من أصله على ما حكاه في كشف اللثام عن ظاهر الكافي من أنه لا أولوية ، لكنه لا ريب في شذوذه سيما بعد ملاحظة كلام الأصحاب في صلاة الميت وأن الأولى بها هو الأولى بالميراث ، بل في الخلاف وعن ظاهر المنتهى الإجماع على أن أولى الناس بالصلاة على الميت أولاهم به أو من قدمه الولي ، كما في المعتبر والتذكرة الإجماع على عدم جواز تقدم الجامع لشرائط التقدم بغير إذن الولي ، وفي كشف اللثام نسبته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢ والباب ٢٦ منها.

٣١

إلى المشهور ، الى غير ذلك من كلماتهم المتفرقة التي يحصل للفقيه القطع من ملاحظتها بالأولوية المتقدمة.

وأما أخبار الباب زيادة على الكتاب العزيز ( فمنها ) ما في‌ خبر غياث بن إبراهيم الزرامي (١) المروي في التهذيب عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أنه قال : « يغسل الميت أولى الناس به » ورواه في‌ الفقيه مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) أيضا لكن بزيادة ( أو من يأمره الولي بذلك ) وما عساه يناقش فيه من حيث السند ـ إذ كانت مرسلة في الفقيه ومجهولة السند في التهذيب لأنه رواها عن علي بن الحسين عن محمد بن أحمد بن علي عن عبد الله بن الصلت عن عبد الله بن المغيرة عن غياث بن إبراهيم الزرامي إلى آخره ـ قد يدفع بأن المراد بعلي بن الحسين هو ابن بابويه القمي الثقة الجليل كما عساه يومي إليه ما في الاستبصار في باب الرجل يموت وهو جنب أخبرني الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن محمد بن أحمد بن علي عن عبد الله بن الصلت عن عبد الله بن المغيرة ، وفي باب أنه يموت في السفر مثله ، إلا أنه عوض ابن المغيرة بابن أبي عمير ، وكذا غيرهما كما لا يخفى على المتتبع ، وأما محمد بن أحمد بن علي فلعل الظاهر أن المراد به هو ابن الصلت ، فيكون راويا عن عم أبيه عبد الله كما نقل تحقيق ذلك عن غير واحد من الأعلام ، بل قيل أنه وقع التصريح به في غير موضع من التهذيبين ، بل عن الكافي في مولد علي بن الحسين محمد بن أحمد عن عمه عبد الله بن الصلت ، وعن إكمال الصدوق أن والده يروي عن محمد بن أحمد بن علي بن الصلت ، وكان يصف علمه وحلمه وزهده وفضله وعبادته ، ومن ثم حكي عن المجلسي في رجاله أنه هو الواقع في أسانيد الشيخ بعد علي بن الحسين ، فما توهمه بعضهم من مجهوليته فهو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

٣٢

ناش من قصور الممارسة ، فلم يبق في السند من يتوقف فيه سوى غياث راويه ، فإنه يوصف الزرامي غير معلوم الحال ، بل غير مذكور في كتب الرجال ، لكنه غير ضائر بعد ما عرفت من الشهرة المتقدمة بل الإجماع ورواية الثقة الجليل ابن المغيرة عنه ، ولعل المراد به غياث بن إبراهيم الموثق ، لأنه صاحب الكتاب المتكرر في الأخبار الراوي عنه ابن المغيرة كما قيل ، ووصفه بالزرامي إما سهو من الناسخ أو لاتصافه به وإن لم يذكر في الرجال.

و ( منها ) قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر السكوني (١) : « إذا حضر سلطان من سلطان الله جنازة فهو أحق بالصلاة عليها إن قدمه ولي الميت ، وإلا فهو غاصب » وقول الصادق عليه‌السلام في مرسل البزنطي (٢) وابن أبي عمير (٣) : « يصلي على الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب » وقوله عليه‌السلام أيضا في خبر إسحاق بن عمار (٤) : « الزوج أحق بامرأته حتى يضعها في قبرها » وخبر أبي بصير (٥) « سأله عن المرأة تموت من أحق أن يصلي عليها؟ قال : الزوج ، قلت : الزوج أحق من الأب والولد؟ قال : نعم » إلى غير ذلك من الأخبار المتضمنة لذكر الأولوية والأحقية في التلقين وإدخال القبر ونحوهما المنجبرة بما سمعت من الشهرة والإجماع المحكي وغيرهما المعتضدة بظاهر قوله تعالى (٦) ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ).

ووجه التنافي بين ذلك كله وبين ما قلناه من الوجوب الكفائي واضح ، إذ لا معنى لإناطة الواجب برأي بعض المكلفين ، والفرض أنه مطلق لا مشروط ، وهو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ١.

(٦) سورة الأنفال ـ الآية ـ ٧٦.

٣٣

الذي أشار إليه الشهيد في الروض على ما حكي عنه تبعا للمحقق الثاني في جامع المقاصد ، حيث قال فيه : « واعلم أن ظاهر الأصحاب أن إذن الولي إنما يتوقف عليها الجماعة لا أصل الصلاة لوجوبها على الكفاية ، فلا يناط برأي أحد من المكلفين ، فلو صلوا فرادى بغير إذن أجزأ » انتهى. وهو وان ذكر ذلك في خصوص الصلاة لكنه لا يخفى عليك جريانه في غيرها من أحكام الميت التي ادعي فيها الوجوب الكفائي من التغسيل ونحوه ، فقضية ذلك منهما عدم اعتبار الاذن في صحة ما وجب كفاية من أحكام الميت لما تقدم من التنافي.

ومن العجيب أن الشهيد بعد ما سمعته منه في الروض قال في المسالك في المقام : « لا منافاة بين الأولوية ووجوبه على الكفاية ، وكذا توقف فعل غير الولي على إذنه لا ينافي أصل الوجوب » انتهى. ولم يذكر وجه عدم المنافاة ، ولعله الذي أشار إليه في المدارك بعد حكاية كلام جده في الروض ، قال : « وقد يقال : إنه لا منافاة بين الوجوب كفائيا وبين إناطته برأي بعض المكلفين على معنى أنه إن قام به سقط الفرض عن غيره ، وكذا إن أذن لغيره وقام به ذلك الغير ، وإلا سقط اعتباره ، وانعقدت الصلاة جماعة وفرادى بغير إذنه » انتهى. وربما ظهر من الرياض متابعته في ذلك أيضا كما عن الذخيرة ، وناقش فيه بعضهم بأن البحث ليس في سقوط الفعل عن الغير إذا قام به الولي أو نصب من قام به الولي ، ولا في سقوط اعتباره إذا امتنع عن الاذن والمباشرة ، إنما البحث في أن مقتضى الوجوب الكفائي تعلق خطابه بجملة المكلفين على حد واحد ، وانه متى قام به بعضهم سقط عن الباقي ، ومقتضى إناطة الأمر به اختصاصه ومن قدمه بذلك ، وانه متى أقيم بدون إذنه لم يكن مجزئا ، فالمنافاة بحالها حينئذ ، وكيف يتصور الوجوب المطلق على مكلف مع اشتراط صحة الفعل المكلف به بما ليس من قبله ، كالاذن من شخص آخر ونحو ذلك ، نعم هو واجب مشروط فتأمل.

٣٤

ولعله لذا وشبهه بالغ المحدث البحراني في حدائقه وأخوه في إحيائه في إنكار الوجوب الكفائي على سائر المكلفين ، بل هو مختص بالولي ، نعم لو امتنع الولي مع عدم التمكن من إجباره أو لم يكن ولي انتقل الحكم حينئذ إلى المسلمين بالأدلة العامة زاعما أن ذلك هو الظاهر من الأخبار المتقدمة التي تعرض فيها لذكر الولي ، مضافا الى ما عساه يشعر به زيادة على ذلك ما في‌ رواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) « يا معاشر الناس لا ألفين رجلا مات له ميت ليلا فانتظر به الصبح ، ولا مات له ميت نهارا فانتظر به الليل » وما‌ في صحيحته عنه عليه‌السلام (٢) أيضا « في المرأة تؤم النساء قال : لا إلا على الميت إذا لم يكن أحد أولى منها » وما في‌ صحيحته الأخرى عن الصادق عليه‌السلام (٣) أنه « سئل عن القبر كم يدخله؟ قال : ذلك إلى الولي إن شاء أدخل وترا وان شاء أدخل شفعا » إلى غير ذلك مما ظاهره توجيه الخطاب بذلك كله من الواجب والمستحب إلى الولي. ثم ان الأول منهما بالغ في إنكار ذلك غاية المبالغة ، حتى قال : إنه وإن اشتهر بينهم إلا أنه لا أعرف له دليلا يعتمد عليه ولا حديثا يرجع اليه ، كما أن الثاني تعجب من الأصحاب كيف جمعوا بين القول بذلك وبين القول بالأولوية المذكورة سيما في الغسل والصلاة مع تدافعهما.

لكنك خبير أن ذلك منهما في محل من الشذوذ بحيث لا يلتفت إليه بعد ما سمعت من الإجماع محصله ومنقوله على ذلك ، مضافا إلى ما يظهر من ملاحظة الأخبار أن مراد الشارع إبراز ذلك في الوجود الخارجي لأمن مباشر بعينه ، حتى من أخبار الولاية أيضا ، لتضمنها الاكتفاء بمن أمره الولي بذلك المشعر بعدم إرادة وقوعه من خصوص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ١ لكن رواه عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١ لكن رواه عن زرارة.

٣٥

الولي ، ويزيده وضوحا حيث يفقد الولي شرط جواز المباشرة ، كما لو كان الميت امرأة والولي رجلا لا يباشرها أو بالعكس ، فان ولايته حينئذ ليست إلا إذنا محضة ، على أن المتجه حينئذ بناء على ذلك سقوط جميع تلك الأحكام مع امتناع الولي أو عدم وجوده ، إذ لا دليل على انتقال الحكم حينئذ إلى غيره ، فيبقى الأصل سالما.

وكيف كان فلعل مثل هذا التشكيك ملحق بالتشكيك بالضروري أو ما يقرب منه ، فلا يحتاج إلى الإطالة ، بل لعل التشكيك في وجوب هذه الأولوية أولى كما عساه يظهر من الأردبيلي في المقام ، حيث أنكر الدليل عليها بمعنى عدم جواز الاشتغال إلا بالاذن ، ومن المحكي عن الغنية في الصلاة على الميت ، حيث قال : والمستحب أن يقوم للصلاة أولى الناس بالميت أو من يقدمه مستدلا عليه بالإجماع ، وفي كشف اللثام « أنه قوي للأصل وضعف الخبر سندا ودلالة ، ومنع الإجماع على أزيد من الأولوية » انتهى. بل يشعر به أيضا ما سمعته من التعليل المتقدم في جامع المقاصد والروض ، وفي المنتهى ويستحب أن يتولى تغسيله أولى الناس به إلى أن قال : ويؤيده ما رواه‌ ابن بابويه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) قال : ( يغسل الميت ) إلى آخره. وكأنه حمل الأمر فيه على الاستحباب ، لكن قال بعد ذلك بأوراق : مسألة ويغسل الميت أولى الناس به روى الشيخ عن غياث بن إبراهيم الزرامي عن جعفر عن أبيه عن علي عليه‌السلام قال : يغسل الميت أولى الناس به ، انتهى. وظاهره هنا الوجوب إلا أنه يمكن حمله على الاستحباب جمعا بين كلاميه كما أنه قد يحمل كلامه الأول على إرادة استحباب تولي خصوص الولي للتغسيل ، فلا ينافي الوجوب حينئذ ، بل ينبغي القطع بإرادته ذلك كما لا يخفى على من لاحظ كلامه فيه.

وكيف كان فقد يؤيد القول بالاستحباب ـ مضافا إلى ما عرفت من الإشكال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

٣٦

على تقدير الوجوب وإجماع الغنية المتقدم في الصلاة مع أولوية ما نحن فيه منها عند التأمل ، وإلى الأصل والعمومات والإطلاقات ، بل كاد بعضها يكون كالصريح بعدم اعتبار الأولوية مع عدم نهوض دليل يعتد به على الوجوب لا من الآية ولا الرواية ـ أن اعتبار إذن الولي في غاية الصعوبة ، سيما مع التعدد وعدم حضور الجميع أو البعض وإمكان الانتظار وعدمه ، فلا يعلم حينئذ سقوطها أو انتقالها إلى حاكم الشرع ، وإلا فعدول المسلمين ، وسيرة المسلمين على خلاف ذلك كله ، إذ لم نسمع يوما من الأيام التعرض لشي‌ء من ذلك ، كما أنا لم نر أحدا توقف في تغسيل ميت لاولي له على استئذان حاكم الشرع أو عدول المسلمين ، ولا أحدا عطل ميتا لانتظار قدوم وليه فيغسله أو يستأذن منه ، ولا أحدا أعاد غسل ميت مثلا لخلل في ذلك ، وخلو النصوص عن التعرض لتفصيل شي‌ء ، من هذه الأحكام وغيرها مع كثرتها وصعوبة معرفة الحكم فيها ـ أكبر شاهد على عدم الوجوب ، بل قد يشعر لفظ الأولى فيها بالاستحباب ككثير من كلمات الأصحاب ، كاشعار لفظ الأولى والأحق في الصلاة أيضا.

ويزيده إشعارا مشاركته لما ورد (١) في المكتوبة من تقديم الأقرأ والأفقه والأسن ، والعدول إلى لفظ الغاصب هنا فيما تقدم عن لفظ البطلان أو عدم الصحة أو نحو ذلك ، هذا. مع أن القول بالوجوب مستلزم أحكاما كثيرة مخالفة للأصل ليس في شي‌ء من الأخبار تعرض لشي‌ء منها ، إلى غير ذلك من المؤيدات الكثيرة ، فتأمل جيدا. والمقصود من هذا كله أن ارتكاب التشكيك في وجوب الأولوية أهون من ارتكابه في الوجوب الكفائي ، وإن كان الأقوى خلافهما معا ، والمتجه القول بالوجوب الكفائي مع وجوب مراعاة الأولوية المذكورة ، فلا يجوز غسله ولا دفنه ولا تكفينه ولا غير ذلك من سائر أحكامه الواجبة بدون إذنه ، سيما مع نهي الولي وإرادة فعله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب صلاة الجماعة.

٣٧

بنفسه أو من أراده لظاهر النصوص (١) والفتاوى والإجماعات السابقة في بعضها من غير فرق بين الصلاة وغيرها من الغسل وغيره ، وان كان ربما يشعر ترك بعضهم ذكر الولي في الأول مع إطلاقه الوجوبية الكفائية بعدمه.

وكيف كان فقد يشهد للمختار مضافا الى ما سمعت ما عساه يظهر للفقيه إذا طمح نظره في الكتاب والسنة وفي أحوال السلف والخلف من سائر المسلمين ، بل غيرهم من المليين في جميع الأعصار والأمصار من القطع واليقين بأن الإنسان ليس كغيره من أفراد الحيوان مما لم يجعل الله لأغلب أنواع الرحم فيه مدخلية ، بل جعل له أولياء من أرحامه هم أولى به من غيره فيما كان من نحو ذلك ، بل لعله هو مقتضى نظام النوع الإنساني والمركوز في طبائعهم ، حتى لو أراد غير الولي فعل شي‌ء من ذلك قهرا على الولي توجه اليه اللوم والذم من سائر هذا النوع من غير نكير في ذلك ، كما أنه لو أراد الولي فعل ذلك قهرا على غيره لم يكن في نفس أحد من هذا النوع عليه شي‌ء من ذلك الاعتراض والإنكار ، بل كان فعله هو المتلقى بالقبول عند ذوي البصائر والعقول ، وكأن ما ذكرنا من جميع ذلك مركوز في طبيعة النوع الإنساني ، والشرع أقره على ما هو عليه ، لموافقته في أغلب الأحوال للحكم والمصالح المترتبة عليه لكون الولي ادعى من غيره لمصالح المولى عليه في دنياه وآخرته ، لما بينهما من المشاركة في الرحم الذي جعله الله مثارا لذلك ، فيطلب له أحسن ما يصلحه من التغسيل والكفن ومكان الدفن والصلاة ونحو ذلك. كما أنه هو أشد الناس توجعا عليه فيما يصيبه من النوائب في الدنيا والآخرة ولأن ذلك أقطع للقيل والقال وإثارة النزاع عند تزاحم الإرادة والاختيار في هذه الأفعال ، إما رغبة فيما أعد الله لذلك من الثواب والدرجات أو غيره مما يختلف باختلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب غسل الميت والباب ٢٣ من أبواب صلاة الجنائز والباب ٢٦ من أبواب الدفن.

٣٨

القصد والنيات ، وقد يكون المتوفى ممن يكسب المتولي لمثل ذلك من أفعاله شرفا يبقى في الأعقاب على ما يشعر به طلب الأنصار من أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) دخول قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنه قد يكون ممن له عداوة مع من أراد مباشرة هذه الأفعال منه بحيث يصل إلى الحرب بين أولياء الميت وبينهم حذرا من التشفي وغيره.

والحاصل لا يخفى ما في القول بعدم وجوب مراعاة هذه الأولوية في جميع ذلك من المفاسد العظام ، كما أنه لا يخفى ما في المراعاة لها من المصالح التي يكفي بعضها في الإلزام على ما هو الموافق للكتاب ، كقوله تعالى (٢) ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) وقوله تعالى (٣) ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ) والنصوص من أهل البيت عليهم‌السلام ، نعم لما كانت هذه الولاية تابعة لما عرفت من العلقة الرحمية ونحوها وكان ذلك مختلفا باختلافه شدة وضعفا كشف الشارع عن بعضها وجعله أولى من غيره ، كما سيظهر لك إن شاء الله في الصلاة على الميت مفصلا ، وأما ما تقدم سابقا مما عساه ينافي ذلك كالإشكال المتقدم في وجوبه في هذه الأحكام مع إناطته برأي بعض المكلفين فمدفوع بأنه لا منافاة بين وجوبه على سائر المكلفين بمعنى حصول العقاب على الجميع مع إذن الولي أو امتناعه أو فقده وبين إناطة اختصاص خصوص المباشر لذلك برأي الولي ، وليس هذا في الحقيقة إناطة للوجوب برأي البعض عند التأمل حتى تتحقق المنافاة كما يستوضح ذلك في تكليف السيد لجملة عبيده بإيجاد شي‌ء في الخارج ، وإناطة خصوص المتولي منهم له في بعض الأحوال برأي واحد منهم كما يقرب من ذلك التأمير في الغزوات والحروب ونحوهما.

ويرشد اليه هنا ظاهر خبر غياث من الوجوب على من يأمره الولي بالفعل ، إذ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٢) سورة الأنفال ـ الآية ـ ٧٦.

(٣) سورة النساء ـ الآية ـ ٣٧.

٣٩

المراد منه كون الولي أحق بالفعل على وجه لا يزاحمه غيره ولا يقدم عليه إلا مع إذنه المقتضي سقوط حقه بالنسبة إلى المأذون أو امتناعه أو فقده ، وذلك كله غير مناف للوجوب المشترك بين الولي وغيره وان قلنا بتوقف صحة الفعل على الاذن مع فرض وجوده وعدم العلم بامتناعه عن الفعل أو الاذن ، ضرورة عدم المنافاة بين الوجوب المطلق وبين شرط الصحة للفعل المقدور للمكلف الذي هو عدم المزاحمة له وعدم الفعل مع عدم العلم بحاله مع وجوده ، وحينئذ فهو واجب كفائي على الناس كافة وجوبا مطلقا لا مشروطا ، وتتوقف صحته على مراعاة الولي على الوجه المزبور ، وحينئذ فلا حاجة للجواب عنه بما في بعض حواشي الإرشاد من أن الوجوب على غير الوارث انما هو مع عدم ظن قيام الوارث وتوجيهه إلى الفعل ، ولا إلى القول بأن المراد بكفائيته ولو بالنسبة إلى الوارث لمكان سقوطه بفعل بعضهم ، واتفاق اتحاده في بعض الأوقات فيكون عينيا لا ينافيه كما في كل واجب كفائي ، ولا إلى القول بأن المراد بوجوبه انما هو وجوب مشروط لا مطلق بل هي كلها واضحة الفساد.

نعم يحتمل قويا القول بوجوب مراعاة تلك الأولوية تعبدا من غير أن يكون لها مدخل في صحة الأفعال كما عساه يشعر به لفظ الغاصب وغيره ، إلا أني لم أعرف قائلا به ، وإن أمكن حمل بعض كلمات الأصحاب عليه ، فتأمل. كما أنه يحتمل أيضا قصر اعتبار الولي على منعه لا على إذنه ، وهو ضعيف ، وكالإجماع المدعى في الغنية بالنسبة للاستحباب في الصلاة ، فلا يلتفت اليه بعد معارضته بالإجماعين المتقدمين المؤيدين بالتتبع لكلمات الأصحاب ، وبالأخبار المتقدمة ، ودعوى ضعفها سندا غير قادح بعد تسليمه للانجبار بذلك ، وكذا الدلالة ، على أنه لا ينبغي الإشكال في ظهورها ، وهو حجة كالصريح ، وكدعوى أن لفظ الأولى والأحق مشعر بذلك ، إذ هو في حيز المنع ، وكأن ذلك اشتباه بما يأتي نحو ذلك بالنسبة للأفعال ، كما إذا قيل مثلا‌

٤٠