جواهر الكلام - ج ٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وذلك كله يؤيد الحكم الأول ، إذ ثبوت الاستحباب لازم لعدم الوجوب ، كما أنه قد يؤيد أيضا مضافا إلى ذلك وإلى الأصل بخبر الفضل بن يونس الكاتب (١) « سأل أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن رجل من أصحابنا يموت ولم يترك ما يكفن به ، أشتري كفنه من الزكاة؟ فقال له : أعط عياله من الزكاة قدر ما يجهزونه ، فيكونون هم الذين يجزونه ، قال : فان لم يكن له ولد ولا من يقوم بأمره فأجهزه أنا من الزكاة؟ قال عليه‌السلام : كان أبي يقول إن حرمة بدن المؤمن ميتا كحرمة حيا ، فوار بدنه وعورته وكفنه وحنطه واحتسب بذلك من الزكاة وشيع جنازته ، قلت : فان اتجر عليه بعض إخوانه بكفن آخر وكان عليه دين أيكفن بواحد ويقضي دينه بالآخر؟ قال : لا ليس هذا ميراثا ، إنما هذا شي‌ء صار إليه بعد وفاته ، فليكفنوه بالذي اتجر عليه ، ويكون الآخر لهم يصلحون به شأنهم ».

وفيها مواضع الدلالة على المطلوب ، نعم هي دالة على تكفينه من الزكاة كما صرح به جماعة سواء كان بالاحتساب على أهله أو عليه وإن كان ظاهرها إيجاب الأول مع التمكن منه ، لكن الأولى حملها على الندب بالنسبة إلى ذلك ، لعدم القائل به كما اعترف به في الروض ، ولعل من هذا الخبر يستفاد ما ذكره جماعة منهم العلامة والشهيدان وجوب تكفينه من بيت المال مع وجوده ، إذ المراد ببيت المال على ما في جامع المقاصد الأموال التي تستفاد من خراج الأرضين المفتوحة عنوة ، وسهم سبيل الله من الزكاة على القول بأن المراد به كل قربة لا الجهاد وحده ، ثم قال : ولو أمكن الأخذ من سهم الفقراء والمساكين من الزكاة جاز ، لأن الميت أشد فقرا من غيره.

ثم إن الظاهر من النص المتقدم كظاهر من تعرض لذلك من الأصحاب وجوب ذلك ، نعم احتمل الندب في كشف اللثام للأصل ، وهو ضعيف كضعف التوقف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

٢٦١

من صاحب المدارك في أصل الحكم معللا له بنص الشيخ على واقفية الفضل ، إذ ذلك لا يمنع من العمل به عندنا ، مع أنه قد يقال : إن قضاء الدين من الزكاة يقضي بالأولوية في الكفن ، فتأمل.

( وكذا ما يحتاج إليه الميت من كافور وسدر وغيره ) من مؤنة ، فإنها تؤخذ من أصل المال ، وإن لم يكن له مال دفن بدونها إلا أن يكون بيت مال ، ولا يجب على أحد من المسلمين بذلها ، بل يستحب كما صرح بذلك جماعة من الأصحاب منهم العلامة والشهيد الأول والمحقق الثاني وغيرهم ، بل في الخلاف الإجماع على الكفن ومئونة الميت من أصل التركة ، وفي المدارك « أما الوجوب من أصل المال فظاهر ، لأن الوجوب متحقق ، ولا تحل له سوى التركة إجماعا » انتهى. قلت : ومنهما سيما الأخير ومما تقدم في الكفن لعدم ظهور قائل بالفرق يستفاد عدم وجوب شي‌ء من ذلك على أحد مع فقد التركة ، كما أنه بالتأمل في جميع ما ذكرنا يظهر لك أنه لا مجال لاحتمال وجوب شي‌ء من المؤن على أحد تمسكا بإطلاق الأوامر ، فتجب حينئذ من باب المقدمة ، إذ قد اتضح لك أن المراد بهذه الأوامر كلها إنما هو مجرد العمل من دون بذل شي‌ء من المال من غير فرق بين القليل كأجرة القدوم ونحوه والكثير والقريب والبعيد ، لكن ليعلم أن المراد بالمؤن التي تؤخذ من أصل المال إنما هي المؤن التي لم تحصل بسبب مخالفة الشارع كالسدر والكافور ونحوهما ، أما ما كان كذلك كما لو منع الظالم من مطلق دفن الميت أو في أرض مخصوصة مع عدم التمكن من غيرها إلا بدراهم أو امتنع من يجب عليه تغسيله إلا بأجرة ونحو ذلك فلعل الأقوى عدم أخذها من أصل المال ، للأصل مع عدم الدليل ، ويحتمل ذلك تمسكا بإطلاق المئونة في معقد الإجماع ، وهو ضعيف لانصرافها إلى غير ذلك ، أما لو كان المنع أو الامتناع السابقان عن خاص وإلا فيمكن غيرهما فلا يجب من أصل المال قطعا ، ولم أجد نصا من الأصحاب في خصوص ما نحن فيه ،

٢٦٢

نعم عد في كشف اللثام من جملة المؤن التي تخرج من أصل المال قيمة الأرض للدفن وأجرة التغسيل والدفن إن لم يوجد متبرع ، ويمكن إرادته غير ذلك خصوصا في الأول بحمل الأرض فيه على المملوكة مع عدم إمكان غيرها ، فتأمل.

المسألة ( الثالثة إذا سقط من الميت شي‌ء من شعره أو جسمه وجب أن يطرح معه في كفنه ) كما هو صريح جماعة وظاهر آخرين ، بل في الذخيرة لا أعلم فيه خلافا ، وفي التذكرة « وإن سقط من الميت شي‌ء غسل وجعل معه في أكفانه بإجماع العلماء ، لأن جميع أجزاء الميت في موضع واحد أولى » انتهى. ونحوه عن النهاية ، وفهم جماعة ممن تأخر عنه الوجوب ، لكن قد يشعر تعليله بالاستحباب كما عن صريح الجامع ، وكيف كان فيدل على وجوب ذلك مضافا إلى ما عرفت‌ مرسل ابن أبي عمير في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : « لا يمس من الميت شعر ولا ظفر ، وإن سقط منه شي‌ء فاجعله في كفنه » ثم أن عبارة التذكرة السابقة تقتضي التغسيل ، ثم الطرح في الأكفان ، وبه صرح بعضهم ، وهو كذلك.

الحكم الرابع من أحكام الأموات

( مواراته ) ودفنه ( في الأرض وله‌ مقدمات ) تقدم عليه وإن كان لا ارتباط بينها وبينه ولا توقف مسنونة كلها.

( منها ) التشييع للجنازة‌ فان استحبابه إجماعي إن لم يكن ضروريا ، وبه (٢) مستفيضة إن لم تكن متواترة ، والمراد به اتباع الجنازة والخروج معها ، قال في القاموس : « شيع فلان فلانا خرج معه ليودعه ويبلغه منزله » ولا يتوهم منه أنه يعتبر فيه تبعيته حتى يدفن وإن كان ذلك أفضل ودونه إلى الصلاة عليه ، لظهور بعض الأخبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدفن.

٢٦٣

في تحقق مسماه واستحقاقه الأجر بدون ذلك ، كقول أبي جعفر عليه‌السلام (١) لما قيل له بعد أن صلى على الجنازة : ارجع يا أبا جعفر عليه‌السلام مأجورا ولا تعنى لأنك تضعف عن المشي : « إنما هو فضل وأجر فبقدر ما يمشى مع الجنازة يؤجر الذي يتبعها » لكن قال في المنتهى « إن أدنى مراتب التشييع أن يتبعها إلى المصلى فيصلي عليها ثم ينصرف ، وأوسطه إلى القبر ثم يقف حتى يدفن ، وأكمله الوقوف بعد الدفن ليستغفر له ويسأل الله له » وظاهره عدم حصوله إذا لم يتبعها إلى المصلى ، وفيه نظر ، ومن العجيب استدلاله على ما ذكر بالرواية السابقة ، وهي في خلافه أظهر ، فتأمل.

ثم إنه لا يبعد دخول ما هو متعارف في مثل زماننا من تبعية جملة من الناس للجنازة عند إرادة نقلها من بلد إلى أحد المشاهد المشرفة تحت اسم التشييع ، على أن جملة من الأخبار (٢) قد اشتملت على مطلق التبعية ، وفي‌ المرسل (٣) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « ضمنت لستة على الله الجنة ، رجل خرج في جنازة رجل مسلم فمات فله الجنة » كما أنه لا يبعد حينئذ عدم اعتبار ما يعتبر في المشيعين غيرهم من المشي ، وأن يكون خلف الجنازة أو أحد جانبيها ونحو ذلك مما تسمعه في مثلهم ، لظهور انصراف غيرهم ، فتأمل. والظاهر المنساق إلى الذهن من (٤) ان استحباب التشييع إنما هو فيما إذا كان محل الدفن محتاجا إلى النقل ، أما إذا لم يكن كذلك كما لو كان مثلا في محل تجهيزه فلا يستحب إخراجه ونقله للتشييع ، ثم إرجاعه إليه كما ينبئ عن ذلك فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام في دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١ والباب ٣ حديث ١ و ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدفن.

(٥) الإرشاد للمفيد عليه الرحمة ص ٨٩ طبعة الطهران سنة ١٣٧٧.

٢٦٤

و ( منها ) أن يمشي المشيع كما هو صريح بعضهم وظاهر آخرين ، بل ربما يظهر من الغنية الإجماع عليه كالمنتهى على ما تسمعه من عبارته ، ويؤيده ـ مضافا إلى ذلك وإلى ما عساه يظهر من بعض أخبار المقام (١) حيث اشتملت على الأمر بالمشي خلف الجنازة ونحو ذلك ، وإن لم تكن مساقة لبيان حكمه ، وإنما هي لبيان حكم الخلف والإمام والجانبين ، وكذا غيرها ، وإلى التأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من الأئمة عليهم‌السلام ـ إن ذلك عبادة وطاعة والمشي فيها أشق ، وقد ورد أن أفضل الأعمال أحمزها ، بل يقوي في النظر كراهة الركوب كما صرح به في المعتبر والمنتهى وعن غيرهما ، قال في الثاني : ويستحب المشي مع الجنائز ، ويكره الركوب ، وهو قول العلماء كافة ، وهو الحجة فيه ، مضافا إلى‌ صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « مات رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمشي ، فقال له بعض أصحابه : ألا تركب يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : إني لأكره أن أركب والملائكة يمشون » وخبر غياث عنه (٣) أيضا عن أبيه عن علي أمير المؤمنين عليهم‌السلام « إنه كره أن يركب الرجل مع الجنازة في بدية إلا من عذر ، وقال : يركب إذا رجع » ومرسل ابن أبي عمير عنه عليه‌السلام (٤) أيضا قال : « رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوما خلف جنازة ركبانا ، فقال : أما استحى هؤلاء أن يتبعوا صاحبهم ركبانا وقد أسلموه على هذا الحال » وبذلك كله يقيد إطلاق غيرها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

٢٦٥

من (١) الدالة على استحباب مطلق التبعية والتشييع لا على إرادة خروجه عن استحباب التشييع مع الركوب ، إذ الظاهر أن المشي مستحب في مستحب ، ومن خبر غياث يستفاد زوال الكراهة مع العذر كالحاجة إلى الركوب كما عن بعضهم التصريح به ، بل عن التذكرة ونهاية الأحكام الإجماع عليه ، كما أنه يستفاد منه ومن الأصل أيضا زوالها مع الرجوع ، فتأمل جيدا.

و ( منها ) على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب كما في المدارك والبحار وعن غيرهما أن يكون مشي المشيع وراء الجنازة أو إلى أحد جانبيها فإنه أفضل من الإمام ، وفي المعتبر والتذكرة نسبته إلى فقهائنا ، بل في جامع المقاصد أنه يستحب أن يكون مشي المشيع خلف الجنازة أو إلى أحد جانبيها لا أمامها بإجماع علمائنا ، وظاهره أنه لا فضل في الإمام ولعله يرجع إليه سابقه وإن جي‌ء فيه بصيغة التفضيل الظاهرة في وجوده فيه أيضا ، لكنه صرح في المعتبر بأنه مباح ، فيكون قرينة على صرف ذلك ، وكيف كان فلا إشكال في رجحان المشي خلف الجنازة أو إلى أحد الجانبين على الإمام ، ويدل عليه ـ مضافا إلى ما سمعت وإلى أنه أنسب بمعنى التشييع والاتباع الواردين في كثير من الأخبار ـ قول الصادق عليه‌السلام في موثق إسحاق بن عمار (٢) : « المشي خلف الجنازة أفضل من المشي بين يديها » وزاد في التهذيب‌ « ولا بأس أن يمشي بين يديها » وخبر جابر عن الباقر عليه‌السلام (٣) قال : « مشى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف جنازة ، فقيل يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لك تمشي خلفها؟ فقال : إن الملائكة رأيتهم يمشون أمامها ، ونحن نتبع لهم » ولا دلالة فيهما على أفضليته على المشي الى أحد الجانبين ، فلا ينافي حينئذ ما دل عليه مما تقدم ، ومن‌ قول الباقر عليه‌السلام في خبر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الدفن.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

٢٦٦

سدير (١) : « من أحب أن يمشي مشي الكرام الكاتبين فليمش جنبي السرير » وكذا لا ينافيه أيضا‌ خبر السكوني (٢) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : « سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : اتبعوا الجنازة ولا تتبعكم ، خالفوا أهل الكتاب » وعن المقنع (٣) أنه « روي اتبعوا الجنازة ولا تتبعكم ، فإنه من عمل المجوس » إذ الأمر بالاتباع بعد تسليم عدم شموله للمشي إلى أحد الجانبين لا ينافي ثبوته بأمر آخر ، سيما مع ظهور كون المقصود هنا إنما هو النهي عن اتباع الجنازة لهم.

ومن هنا يظهر أنه لا يستفاد من اقتصار الشيخ في الخلاف كما عن الصدوق في المقنع على ذكر أفضلية المشي خلفها من دون تعرض لغيره مستدلا عليه بإجماع الفرقة وأخبارهم خلاف ما ذكرنا ، مع احتمال إرادة ما يعم المشي إلى الجانبين كما عساه تشعر به المقابلة له بالإمام ، فظهر من ذلك كله أنه لا كلام في رجحان المشي خلفها أو إلى أحد الجانبين على غيرهما ، وانه ربما يستفاد من ملاحظة ما تقدم رجحان الأول على الثاني سيما بعد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ، لكن قد يستفاد من المحكي عن الفقه الرضوي (٤) العكس ، والأمر سهل.

إنما الكلام بعد أن عرفت مرجوحية المشي أمام الجنازة بالنسبة إليهما فهل ذلك على سبيل الكراهة كما صرح به بعضهم ، وحكي عن ظاهر آخرين ، بل في الذكرى نسبه إلى كثير من الأصحاب ، بل قد يظهر من الروض دعوى الإجماع عليه ، حيث قال : « ويكره تقدمها عندنا » كالمنتهى حيث قال : « ويكره المشي أمام الجنائز للماشي والراكب معا ، بل المستحب أن يمشى خلفها أو من أحد جانبيها ، وهو مذهب علمائنا أجمع » ثم نقل خلاف العامة في ذلك ، قلت : ويشهد له مع ذلك النهي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٦٧

المتقدم عن التبعية مع التعليل بأنه من عمل المجوس وأهل الكتاب ، والضعف منجبر بما عرفت ، على أن أمر الكراهة أسهل من ذلك ، وكذا ما عن‌ الفقه الرضوي (١) « إذا حضرت جنازة فامش خلفها ولا تمش أمامها ، وإنما يؤجر من تبعها لا من تبعته » خلافا لصريح المعتبر والذكرى وعن ظاهر النهاية والمبسوط ، فلا كراهة مطلقا وإن كان الأولان أفضل منه ، ولعله لخبر محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام (٢) بعد أن سأله « عن المشي مع الجنازة ، فقال : بين يديها وعن يمينها وعن شمالها وخلفها » ويقرب منه خبره الآخر (٣) عن الباقر عليه‌السلام ولما يشعر به التفضيل في الموثق السابق (٤) مع نصه بأنه لا بأس في المشي بين يديها ، ولما في‌ خبر الحسين بن عثمان (٥) « إن الصادق عليه‌السلام تقدم سرير ابنه إسماعيل بلا حذاء ولا رداء » وللأخبار (٦) الكثيرة المشتملة على الأمر بالمشي أمام جنازة المؤمن ، وفي بعضها (٧) التعليل بأن الرحمة تستقبله دون غيره ، فإن اللعنة وملائكة العذاب يستقبلونه ، ومن هنا استوجه بعضهم هذا التفصيل ، واختاره كاشف اللثام بعدم الكراهة بالنسبة إلى جنازة المؤمن ، بخلاف غيره استنادا لهذه الأخبار الفارقة ، بل عن العماني المنع من تقديم جنازة المعادي لذي القربى لمكان هذه الأخبار المفصلة ، كما عن ابن الجنيد التفصيل بين صاحب الجنازة وغيره ، فيقدم الأول دون غيره ، ولعله لخبر تقدم الصادق عليه‌السلام سرير ابنه إسماعيل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الدفن.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٧.

٢٦٨

وفي الكل نظر إذ مع احتمال خبر ابن مسلم التقية ـ أو إرادة بيان مطلق الجواز لاحتمال السؤال عنه ، كنفي البأس في الموثق ، وكذا تقدم الصادق عليه‌السلام سرير إسماعيل ، مع أنه قضية في واقعة ، وإلا فلا إشكال في رجحانية الخلف أو أحد الجانبين عليه حتى كان يعرفه العامة منا ، فنسبوه إلى أهل البيت عليهم‌السلام على ما قيل ، وعن بعض شراح مسلم أنه قال : « كون المشي وراء الجنازة أفضل من أمامها قول علي بن أبي طالب عليه‌السلام ومذهب الأوزاعي وأبي حنيفة ، وقال جمهور الصحابة والتابعين ومالك والشافعي وجماهير العلماء : المشي قدامها أفضل ، وقال الثوري وطائفة هما سواء » انتهى ـ قاصر عن مقاومة ما تقدم سيما بعد مشهورية الحكم بذلك بين الأصحاب ، والاستدلال بأخبار التفصيل بين المؤمن وغيره ليس بأولى من الاستدلال بها على العكس من حيث صراحتها في النهي عن تقدم جنازة غير المؤمن ، إذ لا تفصيل في كلام الخصم ، بل لعل ذلك أولى من حيث معارضتها بالنسبة للمؤمن بما عرفته سابقا سيما النهي عن التبعية المشتمل على التعليل بمخالفة أهل الكتاب الذي هو كالصريح في عدم الفرق في ذلك بينهما ، فلا بد حينئذ من حملها على شدة الكراهة بالنسبة لغير المؤمن دونه ، للقطع بعدم إرادة ظاهرها من عدم المرجوحية في المشي أمام جنازة المؤمن.

وبذلك كله يظهر لك ما في كلام كشف اللثام كابن الجنيد من الفرق بين صاحب الجنازة وغيره ، محتجا بما سمعته من فعل الصادق عليه‌السلام ، ولا ريب في ضعفه كما عرفت ، وكذا ما سمعته من العماني من القول بالمنع فيه لأخبار التفصيل ، إذ هي مع ضعفها وإعراض الأصحاب عنها بالنسبة إلى ذلك معارضة بغيرها مما دل على الجواز كما سمعت ، هذا.

ويمكن القول بأن المراد بالكراهة عند الأصحاب هنا كراهة العبادة بمعنى أقلية الثواب ، وعليه يرتفع الخلاف حينئذ بين القولين الأولين ، وهو قريب جدا ، فتأمل جيدا.

٢٦٩

ثم إنه يستحب للمشيع التفكر في مآله والاتعاظ بالموت والتخشع ، كما أنه يكره له الضحك واللعب واللهو ، لخبر عجلان أبي صالح (١) قال : « قال لي الصادق عليه‌السلام : يا أبا صالح إذا أنت حملت جنازة فاذكر كأنك المحمول ، وكأنك سألت الرجوع إلى الدنيا ففعل ، فانظر ماذا تستأنف ، قال : ثم قال : عجيب لقوم حبس أولهم عن آخرهم ، ثم نودي فيهم بالرحيل وهم يلعبون » وروي (٢) « ان عليا عليه‌السلام شيع جنازة فسمع رجلا يضحك ، فقال : كأن الموت فيها على غيرنا كتب » وحكى المصنف رحمه‌الله في المعتبر عن علي بن بابويه في رسالته أنه قال : « إياك أن تقول : ارفقوا به أو ترحموا عليه أو تضرب يدك على فخذك فيحبط أجرك » وبعينه حكاه في الحدائق عن الفقه الرضوي (٣) ولعله هو المستند له ، وفي‌ خبر السكوني عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام (٤) قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاثة ما أدري أيهم أعظم جرما : الذي يمشي مع الجنازة بغير رداء ، والذي يقول قفوا ، والذي يقول استغفروا له غفر الله لكم » وعن‌ الخصال بسنده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الصادق عليه‌السلام (٥) أيضا « ثلاثة لا أدري أيهم أعظم جرما الذي يمشي خلف جنازة في مصيبة بغير رداء ، والذي يضرب يده على فخذه عند المصيبة ، والذي يقول ارفقوا به وترحموا عليه يرحمكم الله تعالى » ولعل ما في خبر السكوني من قوله عليه‌السلام : « قفوا » مصحف « ارفقوا » أو لأنه مناف للتعجيل ، أو لأن المراد قفوا به لإنشاد المراثي وذكر أحوال الميت كما هو الشائع على ما قيل ، فينافي التعزي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٦٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٣.

٢٧٠

والتصبر ، وكان الوجه في كراهة قول : « ترحموا » ونحوه ما فيه من الاشعار بذنب الميت وتحقيره ، وكيف كان فلا ريب أن الاحتياط في ترك ذلك كله تفصيا من الوقوع في المكروه ، وإن كان الوجه في بعضها لا يخلو من غموض.

نعم يستثنى من كراهة وضع الرداء صاحب المصيبة ، لقول الصادق عليه‌السلام في مرسل ابن أبي عمير (١) : « ينبغي لصاحب المصيبة أن يضع رداءه حتى يعلم الناس أنه صاحب المصيبة » وفي‌ خبر أبي بصير (٢) : « ينبغي لصاحب المصيبة ان لا يلبس رداء ، وإن يكون في قميص حتى يعرف » وفي‌ خبر حسين (٣) « لما مات إسماعيل بن أبي عبد الله خرج أبو عبد الله عليه‌السلام فتقدم السرير بلا رداء ولا حذاء » والمراد بوضعه عدم نزعه إن كان ملبوسا ، وعدم لبسه إن كان منزوعا ، بل يقتضي التعليل المذكور استحباب تغيير هيئة اللباس سيما في البلاد التي لا يعتاد فيها لبس الرداء.

بل قد يستفاد من‌ مرسل الفقيه (٤) وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رداءه في جنازة سعد بن معاذ ، فسئل عن ذلك ، فقال : « إني رأيت الملائكة قد وضعت أرديتها فوضعت ردائي » استحباب نزعه لغيره في جنازة الأعاظم من الأولياء والعلماء ، وعن ابن الجنيد التمييز بطرح بعض الزي بإرسال طرف العمامة ، وأخذ مئزر من فوقها على الأب والأخ ، ولا يجوز على غيرهما ، وفيه أنه لا دليل على الخصوصية ، ولعله لذا منعه ابن إدريس ، كما أن ما عن ابن حمزة من المنع هنا مع تجويزه الامتياز واضح الضعف ، ضرورة أولويتهما بذلك من غيرهما ، وكذا ما عن أبي الصلاح من أنه يتخلى ويحل أزراره في جنازة أبيه وجده خاصة ، لما سمعته من إطلاق النصوص (٥) التي منها أيضا يستفاد استحباب الحفاء لصاحب المصيبة ولا بأس به والله العالم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الاحتضار.

٢٧١

وكذا يكره للمشيع الجلوس حتى يوضع الميت في لحده كما صرح به بعضهم ، للصحيح عن الصادق عليه‌السلام (١) « ينبغي لمن شيع جنازة أن لا يجلس حتى يوضع في لحده ، فإذا وضع في لحده فلا بأس » خلافا للمحكي عن الشيخ في الخلاف ، فلا كراهة للأصل ، وهو مقطوع بما عرفت ، وخبر عبادة بن الصامت (٢) « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان في جنازة لم يجلس حتى توضع في اللحد ، فاعترض بعض اليهود وقال إنا نفعل ذلك ، فجلس وقال : خالفوهم » ودلالته على المطلوب أولى من العكس ، لأن « كان » تدل على الدوام ، والجلوس لمجرد إظهار المخالفة ، ورده في الذكرى أيضا بأن الفعل لا عموم له ، فجاز وقوع الجلوس تلك المرة ، والقول أقوى من الفعل عند التعارض ، فتأمل.

وكذا يكره اتباع النساء الجنائز ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « ارجعن مأزورات غير مأجورات » ولقول أم عطية نهانا عن اتباع الجنائز ، ولأنه تبرج ومناف للستر والتخدير ، لكن قد يستثنى من ذلك العجائز ، لخبر أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام (٤) أنه قال : « لا ينبغي للمرأة الشابة أن تخرج إلى الجنازة تصلي عليها إلا أن تكون امرأة دخلت في السن » كما أنه يحتمل تقييد الكراهة بما إذا لم تكن الميت امرأة ، لما‌ روي (٥) أن « زينب بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما توفت خرجت فاطمة عليها‌السلام في نسائها وصلّت على أختها » أو يقال : إن أمر الصلاة غير التشييع ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

(٢) كنز العمال ـ ج ٨ ص ـ ١١٦ ـ الرقم ٢١٨١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ١.

٢٧٢

وكذا يكره الإسراع بالجنازة ، وعن الشيخ الإجماع عليه ، وهو المناسب لاستحباب الرفق بالميت وعن الجعفي ان السعي بها أفضل ، وعن ابن الجنيد يمشي بها خببا قيل والسعي العدو والخبب ضرب منه ، وهما موافقان للمحكي عن العامة ، وربما يشهد لهما ما عن الصدوق روايته‌ عن الصادق عليه‌السلام (١) « إن الميت إذا كان من أهل الجنة نادى عجلوني ، وإن كان من أهل النار نادى ردوني ».

(و) من المقدمات المسنونة ( إن تربع الجنازة ) بكسر الجيم السرير ، ويفتحها الميت على ما حكي ، وفي الذكرى « الجنازة بالكسر الميت على السرير ، والخالي عن الميت سرير لا غير » انتهى ، ولا خلاف أجده بين أصحابنا في استحباب التربيع بمعنييه ، بل لعله عندنا مجمع عليه كما ادعاه بعضهم ، ( الأول ) حمل السرير بأربعة رجال ، لأنه أدخل في توقير الميت ، وأسهل من الحمل بين العمودين ، سيما بالنسبة للمؤخر ، ويحتمله‌ قول الباقر عليه‌السلام في خبر جابر (٢) : « السنة أن يحمل السرير من جوانبه الأربع ، وما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوع » ووافقنا عليه من العامة النخعي والحسن البصري والثوري وأبو حنيفة وأحمد على ما حكي عنهم ، خلافا للمنقول عن الشافعي ، فجعل حمل الجنازة بين العمودين أولى من حملها من الجوانب الأربع ، ولا ريب في ضعفه عندنا و ( الثاني ) حمل الواحد كلا من جوانبه الأربع ، وكأن استحبابه اتفاقي كما حكاه بعضهم ، والأخبار به (٣) متظافرة ، وفي بعضها (٤) أن « من ربع خرج من الذنوب » وفي آخر (٥) « محيت عنه أربعون كبيرة » إلى غير ذلك.

ولعل الأول يستفاد منه أيضا ، والظاهر حصول فضل التربيع بمجرد حصوله‌

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ١٢٣ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الدفن.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٦.

٢٧٣

كيف ما اتفق الابتداء كما يقتضيه‌ قول الباقر عليه‌السلام في أحد الاحتمالين : « السنة أن يحمل السرير من جوانبه الأربع ، وما كان بعد ذلك من حمل فهو تطوع » وكتابة الحسين ابن سعيد إلى الرضا عليه‌السلام في الصحيح (١) « يسأله عن سرير الميت إله جانب يبدأ به في الحمل من الجوانب الأربعة أو ما خف على الرجل يحمل من أي الجوانب شاء؟ فكتب من أيها شاء » ولا منافاة فيه لما تسمعه من استحباب البدأة بما يأتي ، وعلى تقديره فهو معارض بما هو أقوى منه من وجوه ، فما عن ابن الجنيد من العمل به في ذلك كما عساه يلوح من المدارك أيضا ليس في محله.

(و) لكن الأفضل فيه أن ( يبدأ بمقدمها الأيمن ) أي الجنازة التي هي عبارة عن الميت ، فيضعه على عاتقه الأيمن ويخرج باقي بدنه ، ثم يدور من ورائها إلى الجانب الأيسر بعد أن يحمل مؤخرها الأيمن كالمقدم ، فيضع مؤخرها الأيسر على عاتقه الأيسر ، ثم ينتقل منه إلى المقدم واضعا له على العاتق الأيسر ، أو يراد بالجنازة السرير على أن يكون الأيمن منه هو الذي يلي يمين الميت ، فيوافق الهيئة السابقة ، وهو المشهور بين الأصحاب على ما حكاه في كشف اللثام ، قلت : ولعله كذلك وإن وقع في كثير من عبارات الأصحاب وصف مقدم السرير الذي يبتدأ به بالأيمن ، وهو موهم لما كان يلي يسار الميت ، ويساره لما كان يلي يمين الميت ، ومن هنا وقع الاضطراب في كثير من كلماتهم حتى جعلوا المسألة خلافية ، فذكروا أن الشيخ في المبسوط والنهاية وباقي الأصحاب على الابتداء بيمين السرير المقدم ، ثم بمؤخره ، ثم بمؤخر الأيسر ، ثم بمقدمة كذلك ، خلافا له في الخلاف ، فجعل البدأة بيسار السرير ، وهو الذي يلي يمين الميت ، ثم بمؤخره ، وهكذا إلى المقدم ، مع نقله الإجماع من الفرقة وعملهم عليه فيه ، واختاره جماعة من متأخري المتأخرين مرجحين له بعد ظهوره من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٧٤

الأخبار بالموافقة فيه بين يمين الميت والحامل ، فينطبق حينئذ على ما دل على استحباب البدأة باليمين.

وظني أن ما نقلوه عن الشيخ في المبسوط والنهاية وكذا باقي الأصحاب راجع إلى ما قاله في الخلاف ، على أن يكون المراد بمقدم السرير الأيمن هو الذي يلي يمين الميت كما فسره به في كشف اللثام ، إذ كما يمكن أن يقال : إن يمين السرير هو الذي يلي يسار الميت بأن يعتبر السرير رجلا ماشيا خلف السرير ، أو دابة مقدمها ما يلي رأس الميت ، فيكون الميت حينئذ كالمستلقى على ظهرها ، يمكن أن يقال : إن يمين السرير ويساره بحسب ما جاور من جانبي الميت ، سيما فيما كان مستعملا في ذلك الزمان من العمودين ، بل يمكن أن يعتبر شخصا مستلقيا على قفاه كالميت ، وبذلك تنطبق عبارات الأصحاب ، فقد يطلق يسار الجنازة ويراد به ما يلي يمين الميت كما في عبارة الخلاف بالاعتبار الأول ، وقد يطلق على هذا بخصوصه أنه يمين السرير بالاعتبار الثاني كما في عبارة المبسوط وغيره من عبارات الأصحاب ، بل كاد يكون صريح عبارة المنتهى وغيره ، فلاحظ ، وللمتأمل في كلماتهم أمارات على ذلك ، ( منها ) نقله في الخلاف الإجماع على ذلك ، وهو بنفسه قد ذكر في المبسوط وعن النهاية الابتداء بيمنى السرير كعبارات كثير من الأصحاب ، و ( منها ) أنه لو أريد بيمنى السرير الذي يلي يسار الميت لم يتيسر وضعه على العاتق الأيمن للحامل إلا بمشقة والمشي بالقهقرى ، سيما في مثل التوابيت المستعملة في زماننا ، ولعلها كانت قديمة. و ( منها ) أن الذي ذكرناه كاد يكون صريح‌ خبر الفضل بن يونس (١) قال : « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن تربيع الجنازة ، قال : إذا كنت في موضع تقية فابدأ باليد اليمنى ، ثم بالرجل اليمنى ، ثم ارجع من مكانك إلى ميامن الميت ، لا تمر خلف رجليه البتة حتى تستقبل الجنازة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

٢٧٥

فتأخذ يده اليسرى ، ثم رجله اليسرى ، ثم ارجع من مكانك خلف الجنازة البتة حتى تستقبلها تفعل كما فعلت أولا ، فان لم تكن تتقي فيه فان تربيع الجنازة التي جرت به السنة أن تبدأ باليد اليمنى ، ثم بالرجل اليمنى ، ثم بالرجل اليسرى ، ثم باليد اليسرى حتى تدور حولها ».

إذ لا ريب أن المراد باليد والرجل فيه إنما هو بالنسبة إلى الميت ، وهو بعينه ما ذكرناه ، وغيره من الأخبار وإن لم يكن بهذه الصراحة إلا أنه يمكن إرجاعه إليه بخلاف العكس ، كقول الصادق عليه‌السلام في خبر العلاء بن سيابة (١) « تبدأ في حمل السرير من الجانب الأيمن ، ثم تمر عليه من خلفه إلى الجانب الآخر ، ثم تمر حتى ترجع إلى المقدم كذلك دوران الرحى عليه » إذ يمكن حمل الأيمن فيه على أيمن الميت أو السرير بالاعتبار الذي ذكرناه.

وك‌ قول أبي الحسن موسى عليه‌السلام في خبر علي بن يقطين (٢) : « السنة في حمل الجنازة أن تستقبل جانب السرير بشقك الأيمن فتلزم الأيسر بكفك الأيمن ، ثم تمر عليه إلى الجانب الآخر ، وتدور من خلفه إلى الجانب الثالث من السرير ثم تمر عليه إلى الجانب الرابع مما يلي يسارك » وهو كالصريح فيما قلنا ، ويراد بالأيسر فيه من السرير بالاعتبار المعروف ، ولا حاجة إلى ما تكلفه في كشف اللثام في رفع المنافاة بينها وبين كلام المشهور مع ما فيه من النظر ، فتأمل جيدا.

وك‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن أبي يعفور المروي في السرائر نقلا من جامع البزنطي (٣) : « السنة أن تستقبل الجنازة من جانبها الأيمن ، وهو مما يلي يسارك ، ثم تصير إلى مؤخره ، وتدور عليه حتى ترجع إلى مقدمه » إذ كما يحتمل أن يكون مما يلي يسارك لو كنت ماشيا في جانب السرير الذي يليه يحتمل أن يكون المراد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

٢٧٦

لو كنت ماشيا خلفه ، وإن حمل على حالة الاستقبال فهو وإن كان يمين الميت يحاذي يمينه حينئذ ، لكن إذا جاوزه مائلا إلى يمين الميت ليأخذ السرير يلي يمين الميت حينئذ يساره ، وهذا وإن كان لا يخلو من بعد في الجملة لكن لا بأس به بعد ما عرفت.

وكما في‌ الفقه الرضوي (١) « إذا أردت أن تربعها فابدأ بالشق الأيمن فخذه بيمينك ، ثم تدور إلى المؤخر فتأخذه بيمينك ، ثم تدور إلى المؤخر الثاني فتأخذه بيسارك ثم تدور إلى المقدم الأيسر فتأخذه بيسارك ، ثم تدور كدور كفي الرحى » وكأنه يريد كدور الكفين الآخذتين بخشبة الرحى.

لا يقال : إن ما ذكرته من كيفية التربيع لا ينطبق على المعروف في النص والفتوى من تشبيهه بدوران الرحى ، بخلاف ما لو كانت البدأة بيمين السرير المعروف ، لأنا نقول : أما أولا فالظاهر تحققه بما قلناه ، بل لعله أولى من غيره ، وإن كانا معا يستعملان كما هو المشاهد في دور الرحى ، وأما ثانيا فالظاهر أن المراد بالتشبيه المذكور إنما هو الرد على العامة كما كشف ذلك مفصلا خبر الفضل بن يونس المتقدم سابقا ، فتأمل هذا.

وربما يشهد لما ذكرناه مضافا إلى ما سمعت ما حكاه الشهيد في الذكرى عن الراوندي انه حكى كلام النهاية والخلاف وقال : معناهما لا يتغير ، وما في المنتهى حيث لم يتعرض فيه لخلاف ، بل قال : « المستحب عندنا أن يبدأ الحامل بمقدم السرير ، ثم يمر معه ويدور من خلفه إلى الجانب الأيسر فيأخذ رجله اليسرى ، ويمر معه إلى أن يرجع إلى المقدم كذلك دور الرحى ، وحاصل ما ذكرناه أن يبدأ فيضع قائمة السرير التي تلي اليد اليمنى للميت فيضعها على كتفه الأيسر ، ثم ينتقل فيضع القائمة التي تلي رجله اليمنى على كتفه الأيسر ، ثم ينتقل فيضع القائمة التي تلي رجله اليسرى على كتفه‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٧٧

الأيمن ، ثم ينتقل فيضع القائمة التي تلي يده اليسرى على كتفه الأيمن ، وهكذا » انتهى. ولقد أحسن فيما ذكره لكن كان عليه أن يقول كتفه الأيمن بدل الأيسر وبالعكس ، وإلا فلا يكاد يتم إلا مع جعل الجنازة بين عمودين ودخول الحامل بينهما ، أو يمشى بالميت على رجليه ، ونحو ذلك.

وليعلم أنه ليس المقصود مما ذكرناه تنزيل سائر كلمات الأصحاب على ما اخترناه بل المراد إمكان تنزيل كثير من كلماتهم ، وإلا فكلام بعض المتأخرين لا يمكن تنزيله على ما ذكرنا ككلام الشهيد في روضته ، حيث قال : « وأفضله أن يبدأ في الحمل بجانب السرير الأيمن ، وهو الذي يلي يسار الميت فيحمله بكتفه الأيمن ، ثم ينتقل إلى مؤخره الأيمن فيحمله بالأيمن كذلك ، ثم ينتقل إلى مؤخره الأيسر فيحمله بالكتف الأيسر ، ثم ينتقل إلى مقدمة الأيسر فيحمله بالكتف الأيسر كذلك » انتهى.

وقد عرفت صعوبة ما ذكره في كثير من الجنائز بل تعذره في بعضها ، نعم يمكن أن يقال بالتخيير بين الابتداء بيمين الميت أو يمين السرير ، لكن لا على الحمل بالكتف الأيمن على الثاني مراعاة لصحيحة ابن أبي يعفور السابقة ، سيما مع اعتضادها بظاهر بعض الأخبار السابقة أن حمل فيها اليمنى من السرير على المعنى المتعارف ، وهو الذي يلي يسار الميت ، وكذا ظاهر عبارات كثير من الأصحاب ، وبالشهرة المحكية على ذلك في المدارك ، فتقاوم حينئذ الرواية الأخرى المعتضدة بما عرفته ، فينبغي التخيير حينئذ ، والاحتياط غير خفي ، فتأمل جيدا ، والله أعلم بحقائق أحكامه.

(و) ( منها ) أن يعلم بالبناء للمجهول ( المؤمنون بموت المؤمن ) بلا خلاف أجده في استحباب ذلك ، سوى ما عن الجعفي من أنه يكره النعي إلا أن يرسل صاحب المصيبة إلى من يختص به ، ولعله غير ما نحن فيه ، وإلا كان محجوجا بالإجماع عن الخلاف عليه ، مضافا إلى النصوص كقول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن سنان‌

٢٧٨

أو حسنه (١) : « ينبغي لأولياء الميت منكم أن يؤذنوا إخوان الميت فيشهدون جنازته ، ويصلون عليه ، ويستغفرون له ، ليكتب لهم الأجر ، ويكتب للميت الاستغفار ، ويكتسب هو الأجر فيهم وفيما اكتسب لميتهم من الاستغفار » وفي‌ خبر ذريح (٢) « عن الجنازة يؤذن بها الناس ، قال : نعم » وفي‌ مرسل القاسم بن محمد (٣) « إن الجنازة يؤذن بها الناس » وظاهر الأخيرين استحباب ذلك حتى لغير الولي ولا ينافيه الأول.

ويؤيده ترتب الفوائد العظيمة على هذا الاعلام الحاصلة بسبب التشييع والحمل والتربيع والصلاة والاستغفار والترحم ، وربما يصيبه ألم فيسترجع ، فيدخل تحت عموم الآية (٤) والتذكر لأمور الآخرة والاتعاظ وتنبيه القلب القاسي ، وكذا ما يحصل للميت من الفوائد أيضا من كثرة المصلين والمستغفرين ، مع ما فيه من إكرام الميت وإدخال السرور على الحي ونحو ذلك ، فلا ريب في رجحان هذا الاعلام لمكان سببيته لهذه الأمور العظام ، والظاهر أنه لا بأس في النداء لذلك ، بل يشمله الأمر بالايذان فيما سمعت من الأخبار ، وما في الخلاف أنه لم يعرف فيه نصا إن أراد بالخصوص فمسلم ، لكنه غير قادح ، وإن أراد بالعموم فممنوع ، على أنه لا يتوقف على شي‌ء من ذلك بعد ما عرفت ، كما ظهر لك استحباب الإجابة والإسراع بعد أن يؤذن ، مع استفاضة الأخبار (٥) بذلك ، وأنه يقدمه على الوليمة إذا دعي إليهما لما فيه من تذكر الآخرة بخلافها فتذكر الدنيا.

و ( منها ) إن يقول المشاهد للجنازة الحمد لله الذي لم يجعلني من السواد المخترم لخبر أبي حمزة (٦) قال : « كان علي بن الحسين عليهما‌السلام إذا رأى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صلاة الجنائز ـ حديث ٤.

(٤) سورة البقرة الآية ١٥١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الاحتضار.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ١.

٢٧٩

جنازة قد أقبلت قال : الحمد لله » إلى آخره ، ونحوه مرفوعة أبي الحسن النهدي (١) عن الباقر عليه‌السلام.

ويستحب أن يقول أيضا ما في‌ خبر عنبسة بن مصعب عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من استقبل جنازة أو رآها فقال : الله أكبر هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، اللهم زدنا ايمانا وتسليما ، الحمد لله الذي تعزز بالقدرة ، وقهر العباد بالموت لم يبق ملك في السماء إلا بكى رحمة لصوته » وكذا يستحب أن يقول عند حملها : ما في‌ خبر عمار عن الصادق عليه‌السلام (٣) قال : « سألته عن الجنازة إذا حملت كيف يقول الذي يحملها؟ قال : يقول بسم الله وبالله ، وصلى الله على محمد وآل محمد ، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات » والمراد بالسواد الشخص ، قيل ويطلق على عامة الناس ، وعن بعضهم زيادة القرية أيضا ، والمحترم الهالك ، أو المستأصل ، والمراد هنا الجنس ، أي لم يجعلني من هذا القبيل ، ولا ينافي هذا حب لقاء الله تعالى لأنه غير مقيد بوقت ، فيحمل على حال الاحتضار ومعاينته ما يحب ، كما رويناه عن الصادق عليه‌السلام (٤) ، وعن العامة روايته (٥) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنه من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فقيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنا لنكره الموت ، فقال : ليس ذلك ، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شي‌ء أحب إليه مما أمامه ، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدفن ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الاحتضار ـ حديث ٢.

(٥) كنز العمال ـ ح ٨ ص ٨٠ الرقم ١٤٩٥.

٢٨٠