جواهر الكلام - ج ٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وتشديد الميم المفتوحة والحاء المهملة أو بفتح القاف والتخفيف كواحدة القمح ، وسماها به أيضا الجعفي.

قلت : وعن القاضي وكأنها حينئذ ما حكي عن الراوندي أنه قيل إنها حبوب تشبه حب الحنطة التي تسمى بالقمح تدق تلك الحبوب كالدقيق ، لها ريح طيبة ، لكن حكى في الروض أنه « وجد بخط الشهيد رحمه‌الله نقلا عن بعض الفضلاء ان قصب الذريرة هي القمحة التي يؤتى بها من ناحية « نهاوند » وأصلها قصب نابت في أجمة بعض الرساتيق ، يحيط بها حيات ، والطريق إليها على عدة عقبات ، فإذا طال ذلك ترك حتى يجف ثم يقطع عقدا وكعابا ، ثم يعبى في الجوالقات ، فإذا أخذ على عقبة من تلك العقبات المعروفة عفن وصار ذريرة ، ويسمى قمحة ، وإن سلك به على غير تلك العقبات بقي قصابا لا يصلح إلا للوقود » انتهى.

قلت : لعل المراد بالقمحة حينئذ في كلام أولئك ذلك ، كما أنه ربما يرجع إليه أيضا ما عن الشيخ في التبيان أن الذريرة فتاة قصب الطيب ، وهو قصب يؤتى به من الهند يشابه قصب النشاب ، بل وكذا ما في السرائر « ان الذي أراه أنها نبات طيب غير الطيب المعهود ، يقال لها القمحان ، نبات يجعلونه على رأس دن الخمر ليكسبها الريح الطيبة » انتهى. لكنه بعيد ، لأن المحكي عن العين أن القمحان يقال ورس ، ويقال زعفران ، وعن تهذيب الأزهري عن أبي عبيد زبد الخمر ، ويقال طيب ، وعن المحيط الزعفران والورس ، وقيل ذريرة تعلو الخمر ، وعن المقاييس الورس أو الزعفران أو الذريرة كل ذلك يقال ، وعن الجمل الورس ويقال للزعفران والذريرة ، اللهم إلا أن يدعى أن ما ذكرناه أقرب ، وكيف كان فلعل الاجتزاء بما سمعت من المعروف عندنا الآن لا يخلو من قوة ، كما أن القول بأنها صنف شامل لجميع ذلك من فتاة قصب الطيب ومن القمحة ومن الأجزاء اليمانية وغير ذلك مما تقدم ، فليست هي كل طيب مسحوق ولا شخص خاص لا يخلو أيضا من قوة ، وبه يجمع بين تلك الكلمات المتفرقة ،

٢٢١

لكون المثبت مقدما على النافي ، فلا يسمع من أحد منهم الحصر ، فتأمل جيدا.

وكذا يستحب أن تكون الحبرة فوق اللفافة الواجبة بلا خلاف أجده فيه بين الأصحاب كما ذكروه في كيفية التكفين ، ويدل عليه‌ رواية يونس (١) « ابسط الحبرة بسطا ، ثم ابسط الإزار » إلى آخرها. بناء على أحد الاحتمالين أو أظهرهما ، نعم قوله والقميص باطنها أي باطن اللفافة الواجبة ظاهر في استحبابه أيضا كالأول ، وهو محل نظر وتأمل لما عرفت من الوجوب ، اللهم إلا أن يريد الهيئة المركبة من الحبرة واللفافة ، كما أنه قد عرفت سابقا ما يشهد للأول من عدم اشتراط استحباب أصل الحبرة بكونها الرابعة ، بل يكفي إذا كانت الثالثة الواجبة للأخبار المتقدمة ، نعم يستحب فيها أن تكون الرابعة كما مضى الكلام فيه مفصلا ، فتأمل.

ومن السنن أيضا أن يكتب على الحبرة والقميص والإزار والجريدتين كما في الهداية والمبسوط والمعتبر والقواعد وكذا الإرشاد وعن الفقيه والمراسم والمفيد مع ترك الأخير الإزار كابن زهرة فترك الحبرة ، وزيد العمامة في المبسوط والدروس وعن النهاية والوسيلة والإصباح وكذا التحرير مع إسقاط الجريدتين ، وفي السرائر كما عن المهذب والاقتصاد إطلاق الأكفان ، وعن المصباح ومختصره الأكفان ، ولعله يرجع إلى ما في الجامع ويكتب على الجريدتين والحبرة والأكفان والعمامة ، كالدروس ويكتب على الجريدتين والقميص والإزار والحبرة واللفافة والعمامة ، هذا كله بالنسبة إلى المكتوب عليه وإن اختلفت في مقدار المكتوب ، ولم أقف في شي‌ء من الأدلة على هذا التعميم سوى ما في الغنية من الإجماع على ما في المتن ، لكن قد عرفت انه ترك الحبرة وإلا فالموجود في‌ خبر أبي كهمس (٢) « ان الصادق عليه‌السلام كتب على حاشية كفن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

٢٢٢

إسماعيل » بل في‌ الخبر المنقول (١) عن الاحتجاج « أنه كتب على إزار ابنه إسماعيل » ، ومن هنا قد يتأمل في استحباب غير الثابت من الإجماع والخبر كالعمامة ونحوها ، سيما مع عدم ظهور فائدة في تكرار المكتوب على القطع الزائدة على ما عرفت ، للاكتفاء بترتب ما يتصور من الفوائد كالتبرك ونحوها بها ، فلا حاجة إلى الزائد ، اللهم إلا أن يقال ـ بعد ثبوت الجواز من الأصل السالم عن المعارض ، للقطع بعدم الإهانة بمثل ذلك ، بل هو تعظيم عند التأمل ، واحتمال ترتب النفع المقصود بالتكرير عليه سيما بعد ذكر بعض الأصحاب استحبابه وثبوته فيما عرفت من القطع الثابتة ـ : لا بأس بفعله ولا مانع منه ، وما عساه يقال ـ : إنه لم يعلم ترتب النفع على الفعل الذي لم يحرز المكلف النفع عليه وإن كان في الواقع هو كذلك ، لعدم تأثير المصادفة الاتفاقية ـ مدفوع في أمثال المقام مما كان ترتب النفع عليه انما هو من الخواص التي لا مدخلية للقصد والنية فيها ، وكذا ما يقال من احتمال تلوث ما يجب احترامه من المكتوب بالنجاسة ونحوها ، إذ هو مع أنه ينفى بأصالة عدمه يمكن القول به حتى مع العلم بالتلوث ، لانتفاء تحقق الإهانة المنافية للتعظيم التي هي منشأ الحرمة في أمثال ذلك ، مع قصد التبرك واستدفاع العذاب وجلب الرحمة والرضوان.

واحتمال القول ـ ان المدار في الإهانة وهتك الحرمة ونحوهما على الفعل الظاهر فيها عرفا في حد ذاته ولا مدخلية لقصد التبرك ونحوه في رفع ذلك ، إذ لا ريب في تحققها بوضع شي‌ء من المحترمات في الدبر ونحوه وإن قصد الاستشفاء والتبرك ، أو القول بان تجنيب هذه المحترمات النجاسة ونحوها غير منحصر في هتك الحرمة ومنافاة التعظيم وإن كان ربما كان ذلك حكمة ، بل لها أدلة أخر شاملة بظاهرها لما قصد به التبرك وعدمه ، فيكون التعارض حينئذ بينها وبين ما دل على التبرك ونحوه بها تعارض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٣.

٢٢٣

العموم من وجه ـ ضعيف بل ممنوع ، أما أولا فلتبعية الأفعال للقصود قطعا كما هو المشاهد في العرف ، وأما ثانيا فللحكم بالخصوص فيما نحن فيه من أهل العرف أنه لا شي‌ء فيه من التحقير والإهانة بل هو تعظيم وزيادة احترام ، ولعل ما ذكر من المثال انما هو لعدم التبرك بها على النحو المتعارف فيه من الأكل ونحوه ، لكون الانتفاع بها انما هو بالخاصية ، فلا حاجة إلى وضعها حينئذ في هذه الأماكن الردية ، أو لأن قبح هذه الصورة بخصوصها لا يضمحل بقصد التبرك والاستشفاء ونحوهما ، وأما ثالثا فقد تقدم في محله أنه لا دليل يعتمد عليه في وجوب تجنيب هذه الأمور المحترمة النجاسات ونحوها غير التعظيم والاحترام وحرمة التحقير والإهانة ، على أنه بعد التسليم يمكن القول بترجيح ما نحن فيه بوجوه غير خفية ، فتأمل جيدا فإن المسألة غير خاصة بنحو المقام ، بل هي فيه وفيما سيأتي من المكتوب وما يكتب به وغيرهما ، فظهر من ذلك كله أنه لا مانع من فعله حينئذ ، بل ربما قيل انه راجح ومستحب عارضا للقطع العقلي برجحانية ما يفعله العبد لاحتمال حصول رضا سيده وطلبه لذلك ، وعليه بني التسامح في أدلة السنن ، ولنا فيه بحث مذكور في محله ، نعم قد يقال بالاستحباب إن قلنا بأن فتوى الفقيه نوع من البلوغ حتى يشمله عموم « من بلغه » أو لعمومات التبرك واستدفاع البلاء بها إن كانت موجودة وإلا كان للتأمل في استحبابه مجال ، بل وفي جواز ما يقطع بتلوثه مما يجب احترامه منه بما ينافيه ، وكذا جواز ما كان فيه إساءة للأدب مما يقبحه العقل كالكتابة على ما يحاذي العورة من المئزر ، فتأمل جيدا ، هذا كله في المكتوب عليه وإن كان كثير مما تقدم منا يتأتى فيه وفي غيره مما يأتي بعده.

وأما المكتوب ف اسمه وزيد في الهداية كما عن سلار اسم أبيه ولم أقف على ما يدل عليه وانه يشهد الشهادتين أي كتبة فلان يشهد ان لا إله إلا الله ، ولا بأس‌

٢٢٤

بزيادة وحده لا شريك له كما في المبسوط ، وعن النهاية وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واقتصر ابن إدريس كما عن ابن الجنيد عليهما ، والصدوق في الهداية كما عن الفقيه والمراسم والمقنعة والغرية على الأولى ، ولعله للاقتصار على ما جاء من الأخبار بكتابة الصادق عليه‌السلام على حاشية كفن ابنه إسماعيل ، وعن كتاب الغيبة للشيخ والاحتجاج للطبرسي على إزاره إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله ، وكان ما عليه الأصحاب من ذكر الشهادة الثانية أولى ، إذ هو ـ مع كونه مشهورا فيما بينهم بل هو معقد بعض إجماعي الخلاف والغنية الآتيين وكونها خيرا محضا واشتراكها مع الأولى في كل ما يتصور من جلب النفع ودفع الضرر وغير ذلك ـ يؤيده ما رواه المجلسي في البحار نقلا عن مصباح الأنوار عن‌ عبد الله بن محمد بن عقيل (١) قال : « لما حضرت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها الوفاة دعت بماء فاغتسلت ثم دعت بطيب فتحنطت به ـ إلى أن قال ـ : فقلت هل شهد معك ذلك أحد ، قال : نعم شهد كثير بن عباس ، وكتب في أطراف كفنها كثير بن عباس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » سيما مع ضميمة ظهور علم أمير المؤمنين والحسنين عليهم‌السلام بذلك.

ولعله منه ومن غيره مما تقدم يظهر أنه ان ذكر الأئمة عليهم‌السلام مع ذلك وعددهم إلى آخرهم كان حسنا كما عليه الأصحاب ، أما بذكر أسمائهم فحسب تبركا أو بإضافة الإقرار بكونهم أئمة على نحو الشهادتين ، بل لعله أولى ، وفي الخلاف والغنية الإجماع عليه ، قال في الأول : « الكتابة بالشهادتين والإقرار بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام ووضع التربة في حال الدفن انفراد محض لا يوافقنا أحد من الفقهاء ، دليلنا إجماع الفرقة وعملهم عليه » وقال في الثاني : « ويستحب أن يكتب على الجريدتين وعلى القميص والإزار ما يستحب أن يلقنه الميت من الإقرار بالشهادتين‌

__________________

(١) ذكر صدرها في المستدرك في الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الكفن ـ حديث ٥ وذيلها في الباب ـ ٢٣ ـ حديث ١.

٢٢٥

وبالأئمة وبالبعث والعقاب والثواب ـ إلى أن قال ـ : كل ذلك بدليل الإجماع » انتهى. وكفى بذلك دليلا لمثله مضافا إلى ما سمعته سابقا خصوصا ما تقدم منا في المكتوب عليه ، فلا يقدح حينئذ ما ذكره جماعة من متأخري المتأخرين من عدم الوقوف له على نص ، وأنه شي‌ء ذكره الأصحاب.

على أنه قد يستأنس له بما حكاه في البحار نقلا عن فلاح السائل إلى أن قال : « وكان جدي ورام بن أبي فارس قدس الله جل جلاله روحه وهو ممن يقتدى بفعله قد أوصى أن يجعل في فمه بعد وفاته فص عقيق ، عليه أسماء أئمته (ع) ، فنقشت أنا فصا عقيقا عليه الله ربي ومحمد نبيي وعلي وسميت الأئمة عليهم‌السلام أئمتي ووسيلتي ، وأوصيت أن يجعل في فمي بعد الموت ليكون جواب الملكين عند المسائلة في القبر سهلا إن شاء الله » ورأيت في كتاب ربيع الأنوار للزمخشري في باب اللباس والحلي عن بعض أنه كتب على فص شهادة أن لا إله إلا الله وأوصى أن يجعل في فمه عند موته إلى آخره. وبما حكاه الأستاذ الأعظم عن كشف الغمة « أن بعض الأمراء السامانية كتب الحديث الذي رواه الرضا عليه‌السلام (١) لأهل نيشابور بسنده عن آبائه عليهم‌السلام إلى الرب تعالى بالذهب ، وأمر بأن يدفن معه ، فلما مات رئي في المنام فقال : غفر الله لي بتلفظي بلا إله إلا الله ، وتصديقى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واني كتبت هذا الحديث تعظيما واحتراما » انتهى. (٢)

وبما نقله غير واحد عن غيبة الشيخ عن أبي الحسن القمي أنه « دخل على أبي جعفر‌

__________________

(١) البحار ـ ج ١٢ من طبعة الكمباني باب ورود الرضا عليه‌السلام نيشابور.

(٢) قلت : ولعله لذا سمى بسلسلة الذهب ، وانى كثيرا ما اكتبه في كأس وأمحوه بماء وأضع عليه شيئا من تربة الحسين عليه‌السلام فأرى تأثيره سريعا والحمد لله ، ولي فيه رؤيا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام تصدق ذلك ، لكنها مشروطة بالصدقة بخمسة قروش ، ونسأل الله التوفيق ( منه رحمه‌الله ).

٢٢٦

محمد بن عثمان العمري رحمه‌الله وهو من النواب الأربعة وصفراء الصاحب عليه‌السلام فوجده وبين يديه ساجة ونقاش ينقش عليها آيات من القرآن وأسماء الأئمة عليهم‌السلام على حواشيها ، فقلت : يا سيدي ما هذه الساجة؟ فقال : لقبري تكون فيه وأوضع عليها ، أو قال : أسند إليها وفرغت منه وأنا كل يوم أنزل إليه وأقرأ فيه أجزاء من القرآن » قلت : ومنه يستفاد ما هو مشهور في زماننا حتى صار ذلك فيه من الأمور التي لا يعتريها شوب الاشكال ، وعليه أعاظم علماء العصر من استحباب كتابة القرآن على الكفن.

ويؤيده مضافا إلى ما سمعته سابقا ، وما يظهر من فحاوي الأدلة من مشروعية الاستعاذة والتبرك وطلاب الرحمة والمغفرة بما هو مظنتها ، وليس شي‌ء أعظم من القرآن سيما بعد شهرة ورود الأمر بأخذ ما شئت منه لما شئت ـ ما رواه في‌ الوسائل عن عيون الأخبار وكتاب إكمال الدين عن الحسن بن عبد الله الصيرفي (١) عن أبيه في حديث « أن موسى بن جعفر عليهما‌السلام كفن بكفن فيه حبرة استعملت له تبلغ ألفين وخمسمائة دينار ، كان عليها القرآن كله » انتهى. قلت : وظاهره أن الحبرة استعملت للكاظم عليه‌السلام لكن الذي رأيته في البحار نقلا عن العيون مسندا إلى‌ الحسن بن عبد الله عن أبيه (٢) قال : « توفي موسى بن جعفر عليهما‌السلام في يدي سندي بن شاهك ، فحمل على نعش ونودي عليه هذا إمام الرافضة ، فسمع سليمان بن أبي جعفر الصياح ونزل عن قصره وحضر جنازته وغسله وحنطه بحنوط فأخر ، وكفنه بكفن فيه حبرة استعملت له بألفين وخمسمائة دينار عليها القرآن كله » الخبر. وهو ظاهر في كون الحبرة مستعملة لسليمان ، ومن هنا قال في البحار : « الاستدلال بهذا الخبر على استحباب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) البحار ـ ج ١١ من طبعة الكمباني باب أحوال الكاظم عليه‌السلام في الحبس الى شهادته.

٢٢٧

كتابة القرآن بعيد ، إذ ليس من فعل المعصوم ولا تقرير منه فيه ، إلا أن يقال ورد في حضور الرضا عليه‌السلام ، فيتضمن تقريره ولا يخفى ما فيه » انتهى.

قلت : لكنها في غنية عن إقامة الدليل بالخصوص عليه بعد ثبوت الجواز بأصالته وعدم حصول التحقير والإهانة له بذلك بعد كتابته بقصد التبرك واستدفاع الشر واستجلاب الخير مع احتمال أو ظن ترتب ذلك جميعه عليه ، ولا استبعاد فيه من حيث عدم ورود نص بالخصوص به مع ما نراه من زيادة اهتمام أئمتنا عليهم‌السلام بذكر ما له أدنى نفع في أمثال هذا المقام ، وذلك إما لاكتفائهم عليهم‌السلام بهذه التلويحات اعتمادا على حسن أنظار علماء شيعتهم ، أو لأنه لم يصل إلينا من أخبارهم إلا القليل ، أو لغير ذلك.

فما عساه يظهر من الشهيد في الذكرى من التوقف في نحوه لا يخلو من نظر ، وكذا المحقق الثاني في جامع المقاصد ، بل قد يظهر من الثاني الميل إلى منعه ، حيث قال بعد ذكر الشهادتين وأسماء الأئمة عليهم‌السلام : « ولم يذكر الأصحاب استحباب كتبة شي‌ء غير ما ذكروا ، ولم ينقل شي‌ء يعتد به يدل على الزيادة ، وإعراض الأصحاب عن التعرض للزيادة يشعر بعدم تجويزه ، مع أن هذا الباب لا مجال للرأي فيه ، فيمكن المنع » انتهى. وفيه ما عرفت ، بل لعل تعدي الأصحاب من مضمون خبر أبي كهمس إلى ما ذكروه مع اعترافهم بعدم ورود شي‌ء فيه مشعر بجواز مثل ذلك من أنواع الخير في دفع مثل هذا الضرر وجلب مثل هذا النفع العظيم ، لكن الإنصاف يقضي بأنه ينبغي أن يتجنب في مثل ذلك مظان وصول النجاسة ونحوها اليه ، ولعل كتابته في شي‌ء يستصحب مع الميت بحيث لا يصل شي‌ء من قذاراته إليه أولى ، ولعلي أوصي بفعل ذلك لي في قبر إن شاء الله ، ومن الله أسأل التوفيق.

هذا كله مع أنه نقل في البحار وغيره‌ عن جنة الأمان للكفعمي (١) عن السجاد‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الكفن ـ حديث ١.

٢٢٨

زين العابدين عن أبيه عن جده عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « نزل جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض غزواته وعليه جوشن ثقيل ، آلمه ثقله ، فقال : يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربك يقرؤك السلام ويقول لك اخلع هذا الجوشن واقرأ هذا الدعاء ، فهو أمان لك ولأمتك ـ وساق إلى أن قال ـ : ومن كتبه على كفنه أستحيي الله أن يعذبه بالنار ـ وساق الحديث إلى أن قال ـ : قال الحسين عليه‌السلام : أوصاني أبي عليه‌السلام بحفظ هذا الدعاء وتعظيمه ، وأن أكتبه على كفنه ، وأن أعلمه أهلي وأحثهم ، ثم ذكر الجوشن الكبير ».

قال في البحار : « رواه في البلد الأمين أيضا بهذا السند ، وزاد فيه « ومن كتبه في جام بكافور أو مسك ثم غسله ورشه على كفن أنزل الله تعالى في قبره ألف نور ، وآمنه من هول منكر ونكير ، ورفع عنه عذاب القبر ، ويدخل كل يوم سبعون ألف ملك إلى قبره يبشرونه بالجنة ، ويوسع عليه قبره مد بصره » ثم قال ـ : ومن الغرائب أن السيد ابن طاوس قدس الله روحه بعد ما أورد الجوشن الصغير المفتتح بقوله : إلهي كم من عدو انتضى على سيف عداوته في كتاب مهج الدعوات قال : خير دعاء الجوشن وفضله وما لقارئه وحامله من الثواب بحذف الاسناد عن مولانا وسيدنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده عن أبيه الحسين بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين وذكر نحوا مما رواه الكفعمي في فضل الجوشن الكبير وساق الحديث إلى أن قال : قال جبرئيل عليه‌السلام : يا نبي الله لو كتب انسان هذا الدعاء في جام بكافور ومسك وغسله ورش ذلك على كفن ميت أنزل الله تعالى على قبره مائة ألف نور ، ويدفع الله عنه هول منكر ونكير ، ويأمن من عذاب القبر ، ويبعث الله إليه في قبره سبعين ألف ملك مع كل ملك طبق من النور ينثرونه عليه ويحملونه إلى الجنة ، ويقولون له إن الله تبارك وتعالى أمرنا بهذا ونؤنسك إلى يوم القيامة ، ويوسع الله عليه في قبره‌

٢٢٩

مد بصره ، ويفتح له بابا إلى الجنة ، ويوسدونه مثل العروس في حجلتها من حرمة هذا الدعاء وعظمته ، ويقول الله تعالى انني أستحيي من عبد يكون هذا الدعاء على كفنه ، وساقه إلى قوله قال الحسين بن علي عليهما‌السلام : أوصاني أبي أمير المؤمنين عليه‌السلام وصية عظيمة بهذا الدعاء ، وقال يا بني اكتب هذا الدعاء على كفني ، وقال الحسين عليه‌السلام فعلت كما أمرني أبي‌ ـ ثم قال بعد ذلك ـ : أقول : ظهر لي من بعض القرائن أن هذا ليس من السيد قدس روحه ، وليس هذا إلا شرح الجوشن الكبير ، وكان كتب الشيخ أبو طالب بن رجب هذا الشرح من كتب جده السعيد تقي الدين الحسن بن داود لمناسبة لفظه واشتراكهما في هذا اللقب في حاشية ، فأدخله النساخ في المتن » انتهى.

ثم روى في‌ البحار أيضا عن البلد الأمين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) قال : « من جعل هذا الدعاء في كفنه شهد له عند الله أنه وفى بعهده ، ويكفي منكرا ونكيرا ، وتحفة الملائكة عن يمينه وشماله ويبشرونه بالولدان والحور ، ويجعل في أعلى عليين ، ويبنى له بيت في الجنة » إلى آخر ما سيأتي ، وهو هذا الدعاء « بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنك حميد مجيد ودود شكور كريم وفي ملي » إلى آخر ما سيأتي في كتاب الدعاء ، انتهى.

قلت ومن ذلك كله يظهر لك قوة ما تقدم لنا سابقا من جواز كتابة القرآن ونحوه من الأدعية والأذكار مما يرجى به دفع الضرر وجلب النفع ، وانه لا وجه لاستبعاد ذلك من حيث هتك الحرمة ونحوها سيما إذا لم يفعل ذلك ونحوه مما لم يقم عليه دليل معتبر بعنوان الاستحباب الخصوصي ، بل لرجاء ترتب النفع عليه ، فلا يتصور فيه تشريع حينئذ.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الكفن ـ حديث ٢.

٢٣٠

ومما ذكرنا يظهر لك وجه ما ذكره غير واحد من الأصحاب بل نسب إليهم في جامع المقاصد وكشف اللثام من استحباب أن يكون ذلك أي الكتابة بتربة الحسين عليه‌السلام جمعا بين الوظيفتين الكتابة والتربة ، ورجاء لترتب المقصود ، وفي المحكي عن‌ الاحتجاج وغيبة الشيخ فيما كتب محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري (١) إلى القائم عليه‌السلام « سأل عن طين القبر يوضع مع الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام يوضع مع الميت في قبره ، ويخلط بحنوطه إن شاء الله تعالى » وسأل روي لنا عن الصادق عليه‌السلام (٢) « أنه كتب على إزار إسماعيل ابنه إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله ، وهل يجوز أن يكتب مثل ذلك بطين القبر أو غيره؟ فأجاب عليه‌السلام يجوز ذلك » ولا صراحة فيه باستحباب طين القبر مقدما على طين غيره ، بل ظاهره موافقة المحكي في الذكرى عن المفيد في الرسالة من التخيير بين التربة وغيرها من الطين ، وما عن ابن الجنيد من إطلاقه الطين والماء ، ولعله قضية عدم تعيين ما يكتب به من ابن بابويه.

بل وكذا لا دلالة فيه على ما ذكره المصنف وغيره ، بل نسبه في المختلف وكشف اللثام إلى المشهور من أنه إن لم توجد أي التربة فبالإصبع ولعله لذا حكي عن الاقتصاد والمصباح ومختصره والمراسم التخيير بين الكتابة بما سبق وبينه ، بل في المقنعة الأمر بالكتابة بالإصبع ، ثم قال : ولو كتب بالتربة الحسينية ففيه فضل كثير ، وفي الذكرى وجامع المقاصد والروض وكشف اللثام حاكيا له في الأخير عن أبي علي وغرية المفيد الأمر بالتربة الحسينية أولا ، فان لم توجد فبالطين والماء ، ومع عدمه فبالإصبع ، بل في الأخير أنه لو قيل بالكتابة المؤثرة قبل ذلك ولو بالماء كان حسنا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٣.

٢٣١

قلت : ولعل الوجه فيما ذكروه ان الظاهر من الكتابة المؤثرة ، لأنها حقيقة في ذلك ، ومن هنا حكي عن المفيد في الرسالة ، ونص عليه في السرائر والمنتهى والمختلف وغيرها أنه تبل التربة بالماء ويكتب ، ولعله عليه يحمل المحكي من إطلاق الأكثر الكتابة ، بل لو لا ما يشعر ما في جامع المقاصد والروض من نسبة الكتابة بالإصبع إلى الأصحاب بالإجماع عليه لأمكن منعه ، فلا ريب حينئذ في تقديم تلك الكتابة عليه حينئذ حتى ما سمعته من كشف اللثام من تقديمها ولو بالماء ، كما أنه لا ريب في رجحان التربة الحسينية على غيرها ، اللهم إلا أن يقال : إن ما كان غير مؤثر أولى في المقام من المؤثر جمعا بين التبرك والمحافظة على المكتوب من التلويث سيما المؤثر تأثيرا مميزا كالمكتوب في القرطاس كما هو المتعارف في زماننا هذا ، وهو لا يخلو من قرب عند التأمل في مثل كتابة القرآن ونحوه سيما الكتابة على مظان التلويث.

ومن ذلك كله ظهر لك أن المراد بالكتابة بالإصبع من غير تأثير كما نص عليه في كشف اللثام وغيره ، ولم أعرف نصا بالخصوص لما هو متعارف الآن في عصرنا من كتابة الجريدتين بسكين ونحوها ، بل ربما يشكل الاجتزاء به من حيث ظهور كلام الأصحاب في الحصر بتلك المراتب الثلاثة ، اللهم إلا أن يقال : الظاهر مرادهم بذلك استحبابا في استحباب ، وإلا فالمدار على تحقق الكتابة بأي وجه يكون ، نعم يكره بالسواد أو مطلق الصبغ على ما سيأتي ، ومنه يعرف حينئذ القطع بالاجتزاء بكتابة الإصبع ابتداء أي مع التمكن من غيره.

ثم انه قد عرفت سابقا استحباب الحبرة ، فإن فقدت الحبرة استحب أن يجعل بدلها لفافة أخرى كما نص عليه كثير من الأصحاب قدمائهم ومتأخريهم ، بل ربما ظهر من بعضهم دعوى الإجماع عليه ، ولعل ذلك كاف فيه ، وإلا فلم أعثر‌

٢٣٢

على ما يدل عليه في شي‌ء من الأدلة ، نعم ربما يستفاد من‌ خبر زرارة (١) « فما زاد فهو سنة إلى أن يبلغ خمسة » إلى آخره. وغيره من المطلقات استحباب مطلق اللفافة من غير اشتراط لذلك بفقد الحبرة كما ذكرناه عند البحث عليها ، وهو ظاهر السرائر ، ولعل الأصحاب لم يريدوا التقييد ، بل المراد أنه مع وجود الحبرة لا ينبغي أن يعدل إلى غيرها لما فيه من الجمع بين المندوبين اللفافة وكونها حبرة ، وقد تقدم سابقا ما له نفع تام في المقام ، فلاحظ وتأمل.

ومن السنن أيضا أن يخاط الكفن بخيوط منه بلا خلاف أجده بين الأصحاب بل نسبه في الذكرى وجامع المقاصد إلى الشيخ وإليهم مشعرين بدعوى الإجماع عليه ، ولعله الحجة مع ما فيه من التجنب عما لم يبلغ مبلغه في حله وطهره ، وإلا فلم نقف على ما يدل عليه في شي‌ء من الأدلة. ونحوه قوله بعده لا تبل بالريق وإن كان لا خلاف في كراهته أيضا عندهم ، وحكاه في المعتبر عن الشيخ في المبسوط والنهاية ، ثم قال : « ورأيت الأصحاب يجتنبونه ولا بأس بمتابعتهم ، لازالة الاحتمال ووقوفا على الأولى وهو موضع الوفاق » انتهى. وهو جيد مع أنه أيضا قد يندرج في فضلات ما لا يؤكل لحمه ، والظاهر أنه لا بأس ببلها بغيره للأصل كما صرح به غير واحد ، بل لعله يشعر به الاقتصار على الريق فيها في كلامهم.

(و)من السنن أن يجعل معه جريدتان من سعف النخل إجماعا من الفرقة المحققة محصلا ومنقولا مستفيضا بل متواترا كالنصوص (٢) خلافا لغيرهم من أهل الباطل ، والحمد لله على عدم توفيقهم لذلك سيما بعد ما ورد أنها تنفع المؤمن والكافر والمحسن والمسي‌ء ، وانها يتجافى عن الميت العذاب والحساب بسببها ما دامت رطبة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب التكفين.

٢٣٣

قال الباقر عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) بعد أن سأله عن علة وضع الجريدة مع الميت : « يتجافى عنه العذاب والحساب ما دام العود رطبا ، انما العذاب والحساب كله في يوم واحد في ساعة واحدة قدر ما يدخل القبر ويرجع القوم ، وانما جعلت السعفتان لذلك فلا يصيبه عذاب ولا حساب بعد جفوفهما إن شاء الله » ومنها يظهر المناقشة فيما ذكره جماعة من متأخري المتأخرين من استحباب وضع القطن على الجريدتين ناسبين له إلى الأصحاب ، وعللوه بالمحافظة على بقاء الرطوبة ، اللهم إلا أن يقال باستحبابه تعبدا لا لما ذكروه من العلة ، وهو حسن إن ثبتت النسبة إلى الأصحاب ، كما أنه يستفاد منه أيضا كصريح غيره من الأخبار ومعقد إجماعي الانتصار والخلاف وغيرهما اعتبار كونهما رطبتين أي خضراوين مضافا إلى‌ قول أبي الحسن الأول عليه‌السلام في خبر محمد بن علي بن عيسى (٢) بعد أن سأله عن السعفة اليابسة إذا قطعها بيده ، هل يجوز للميت أن توضع معه في حفرته؟ : « لا يجوز اليابس » بل عن العين والمحيط وتهذيب اللغة اعتبار الرطوبة في مفهوم الجريدة ، ولعله لمعلوميته أو لذا تركه المصنف وإن كان الأول بعيدا منافيا للإطلاق العرفي ، نعم قد يقال : إن خرط الخوص معتبر في مفهوم الجريدة وإلا سميت بالسعفة كما نص عليه في الروض ، مع أن الذي سمعته في الصحيح المتقدم ظاهر في الاجتزاء بالسعفة أيضا ، وإن كان الأحوط إن لم يكن أقوى الاقتصار على المخروطة.

ثم ان ظاهر الصحيح المتقدم كغيره من الأخبار (٣) عدم مشروعية الجريدة لمن يؤمن عليه من عذاب القبر ، فلا تشرع للصبي والمجنون وغيرهما ، لكن نص بعض المتأخرين على استحباب ذلك لكل ميت صبي وغيره ناسبا له إلى إطلاق الأخبار (٤)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين.

٢٣٤

والأصحاب ، بل في الذكرى قال الأصحاب : « ويوضع مع جميع أموات المسلمين حتى الصغار لإطلاق الأمر » انتهى. وربما يؤيده‌ ما رواه (١) في المقنعة وغيرها من « أن الأصل في مشروعية الجريدة وصية آدم عليه‌السلام ولده بفعل ذلك له ، ثم فعلته الأنبياء عليهم‌السلام بعده ، ثم اندرس في الجاهلية ، فأحياه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ( » قال في المقنعة : « ووصى (ص) أهل بيته عليهم‌السلام باستعماله وصار سنة إلى أن تقوم الساعة » انتهى. إذ لا ريب في تنزيه الأنبياء عن عذاب القبر ، فربما يحمل حينئذ ما سمعت على إرادة بيان الحكمة ، وهو حسن ، فتأمل.

ثم ان الأحوط في تحصيل هذا المستحب وترتب هذه الثمرات العظيمة وضع جريدتين ، ومن العجيب ما يحكى عن العماني من أن المستحب جريدة واحدة ، فإنه كاد يكون مخالفا للمتواتر من الأخبار فضلا عن الإجماع بقسميه ، بل قد يستشكل في مشروعية واحدة فقط من حيث ظهور التثنية في كلام الأصحاب وكثير من الأخبار سيما ما ورد (٢) من شق النبي عليه‌السلام الجريدة ، إذ كأنه محافظة على التعدد في مدخلية هيئة الاثنينية في ذلك ، وما عساه يقال ـ : إنه لا ظهور في التثنية في ذلك ، بل هي دالة على كل من الفردين على نحو دلالة العام على أفراده لا مدخلية لأحدهما في ثبوت الحكم للآخر ، فيمكن القول حينئذ باستحباب الواحدة حتى لو قلنا إن التعدد من حيث كونه تعددا له وظيفة خاصة غير ما على الفردين ـ يدفعه بعد التسليم ظهورها في خصوص المقام فيما ذكرنا كما لا يخفى على من أعطى النظر حقه في التأمل في الأخبار.

نعم ربما يظهر من‌ قول الصادق عليه‌السلام في الحسن كالصحيح (٣) : « ان‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٥.

٢٣٥

رجلا من الأنصار مات فشهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : خضروه ما أقل المخضرين يوم القيامة ، فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : وأي شي‌ء التخضير؟ قال : تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع فتوضع ، وأشار بيده إلى عند ترقوته تلف مع ثيابه » الاجتزاء بالواحدة ، ومن هنا قال في الوسائل : « إن هذا محمول على جواز الاقتصار على الواحدة ، ويأتي مثله كثيرا » انتهى. لكنه حكي عن الصدوق أنه قال بعد ذكره الحديث : « جاء هذا الخبر هكذا ، والذي يجب استعماله أن يجعل للميت جريدتان من النخل خضراوتان » قلت : وهو كالصريح فيما ذكرنا ، وظني أن المراد بالخبر انما هو أصل بيان التخضير من غير نظر إلى الاتحاد أو التعدد ، كما أن الظاهر من كثير من تلك الأخبار التي أشار إليها في الوسائل منها‌ الحسن كالصحيح (١) « قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : لأي شي‌ء توضع مع الميت الجريدة؟ » والموثق عنه (ع) أيضا (٢) « يستحب أن يدخل معه في قبره جريدة » وغيرها (٣) إرادة الجنس لا الواحدة ، فلا منافاة ، وبه تشعر بعض الأخبار أيضا (٤) حيث نص فيها على الجريدتين ، ثم يقول بعد ذلك : وأما الجريدة إما اعتمادا على ما سبق له أو على معروفية الأمر بين الشيعة حتى امتازوا به عن مخالفيهم ، فتأمل جيدا.

ثم ان ظاهر إطلاق المصنف كإطلاق كثير من الأخبار الاجتزاء بالجريدة سواء كانت ذراعا أو عظمه أو شبرا أو أربع أصابع ، وبه صرح في الذكرى ، وتبعه بعض متأخري المتأخرين معللا له بثبوت أصل المشروعية مع عدم قاطع على قدر معين ، قلت : لكن المشهور كما في الذكرى وجامع المقاصد وغيرهما تقدير كل واحدة منهما بعظم الذراع ، إلا أنه اعترف بعضهم بعدم الوقوف له على مستند ، وربما يحتج له بعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

٢٣٦

احتمال كفاية الشهرة في مثله سيما مع وجوده في رسالة علي بن بابويه ونهاية الشيخ كما نقل عنهما بأنه معقد إجماع الانتصار وعن الغنية ، وإن كان ما حضرني من نسختها يصعب اندراجه في معقد إجماعه ، وبما في الفقه الرضوي (١) من نسبته إلى الرواية وب‌ قول الصادق عليه‌السلام في المرسل عن يحيى بن عبادة (٢) : « تؤخذ جريدة رطبة قدر ذراع » الحديث. وب‌ خبر إبراهيم عن رجاله عن يونس عنهم عليهم‌السلام (٣) « وتجعل له يعني الميت قطعتين من جريد النخل رطبا قدر ذراع » الحديث. بناء على أن المراد بالذراع فيهما عظمه إن قلنا أنه المعنى الحقيقي له كما في كشف اللثام ، وإلا كان ما ذكرناه سابقا قرينة على إرادته ولو مجازا ، سيما مع قربه لما في‌ الحسن كالصحيح عن جميل بن دراج (٤) قال : « قال : إن الجريدة قدر شبر توضع » إلى آخره. إذ عظم الذراع شبر تقريبا كما يعرف بالاختبار.

ويؤيده أيضا عدم التقدير بالذراع من أحد من الأصحاب فيما أعلم ، نعم قال الصدوق : « طول كل واحدة قدر عظم الذراع ، وإن كانت قدر ذراع فلا بأس أو شبر فلا بأس » مع ظهوره في استحباب الأول وان الآخرين رخصة ، ولعلنا نوافقه عليه إذ لا نريد بالتقدير المذكور شرطية مشروعية استحباب الجريدة به بحيث ينتفي الاستحباب بالزيادة والنقصان ، لما فيه من تقييد المطلقات الكثيرة من النصوص ومعقد الإجماعات بما لا ينهض لذلك ، سيما مع عدم صراحة كلمات المشهور بذلك ، وما في أصل تحكيم المقيد على المطلق في المستحبات فضلا عن خصوص المقام ، بل ربما ادعي استفادة استحباب المطلق مما ورد مقيدا وإن لم يرد مطلق ، فالأولى إرادة كونه المستحب في المستحب ، ولعله على‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الكفن ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٢.

٢٣٧

ذلك تجتمع كلمات الأصحاب سوى ما ينقل عن العماني من التقدير بأربع أصابع ، وهو مع أنه لا دليل عليه عدا ما يقال من إمكان فهمه من‌ قول الباقر عليه‌السلام في خبر يحيى ابن عبادة (١) : « توضع من أصل اليدين إلى الترقوة » محتمل لإرادته كونه مما يجتزى به من حيث تحقق المطلق فيه ، ونص عليه لخفائه في الجملة ، ولعل ما ذكرناه مما سمعته أولى من تنزيل ذلك على تفاوت مراتب الاستحباب ، فالأول عظم الذراع ، ثم الشبر ، ثم الأربع أصابع.

ومن العجيب ما في الروضة من نسبة ذلك إلى الشهرة حيث قال : « والمشهور ان قدر كل واحدة طول عظم ذراع الميت ، ثم قدر شبر ، ثم أربع أصابع » انتهى. والتتبع أعدل شاهد ، مع أنا لم نعرف غيره ذكر التقييد بالميت ، ثم أنه قد يشعر ترك المصنف كغيره من الأصحاب استحباب الشق بعدمه كما نص عليه بعض المتأخرين ، بل لعله ينافي ما ذكر من استبقاء الرطوبة ، لكن الموجود في‌ الخبر المروي (٢) في المقنعة وغيرها عن آدم عليه‌السلام أنه قال : « فإذا مت فخذوا جريدا وشقوه نصفين وضعوهما معي » إلى آخره. وفي‌ المرسل (٣) « مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قبر يعذب صاحبه فدعى بجريدة فشقها نصفين فجعل واحدة عند رأسه والأخرى عند رجليه » الحديث.

وكيف كان فان لم يوجد النخل فلا يسقط أصل الاستحباب ، بل يعوض من غيره بلا خلاف أجده في ذلك ، بل ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه ، فما عساه يظهر من المصنف رحمه‌الله في النافع والمعتبر من التوقف فيه استضعافا لما تسمعه من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٤.

٢٣٨

الأخبار في غير محله ، بل يحتمل كلامه وجها آخر ، وهو التخيير بين الأشجار حينئذ فلاحظ وتأمل ، كما أنه لا ينبغي الإشكال في تقديم الجريدة مع وجودها على غيرها من الأشجار بلا خلاف أجده فيه سوى ما يظهر من الشيخ في الخلاف من التخيير بينه وبين غيره ، حيث قال : « يستحب أن يوضع مع الميت جريدتان خضروان من النخل أو غيرها من الأشجار ، ـ ثم قال ـ : دليلنا إجماع الفرقة » قلت : ولعل دعواه الإجماع يرشد إلى إرادته ثبوت أصل الاستحباب في مقابلة العامة ، وإلا كان التتبع لكلمات الأصحاب يشهد بخلافه ، إذ لم أعرف له موافقا بالنسبة إلى ذلك وإن حكاه في المختلف عن السرائر ، لكن الموجود فيما حضرني من نسختها ظاهر في خلاف ذلك ، وكيف كان فلا ريب في ضعفه لمخالفته النصوص والفتاوى من غير دليل.

نعم هل يخير بين سائر الأشجار إذا لم يوجد النخل كما في السرائر وإشارة السبق وعن ابن البراج ، ولعله لمكاتبة علي بن بلال المروية (١) في الفقيه في الحسن أبا الحسن الثالث عليه‌السلام « الرجل يموت في بلاد ليس فيها نخل فهل يجوز مكان الجريدة شي‌ء من الشجر غير النخل؟ فإنه روي عن آبائك عليهم‌السلام أنه يتجافى عنه العذاب ما دامت الجريدتان رطبتين وانها تنفع المؤمن والكافر ، فأجاب عليه‌السلام يجوز من شجر آخر رطب » ورواها الكليني عن علي بن بلال أيضا لكن بجهالة المكتوب اليه ، قال : « كتب إليه يسأله عن الجريدة إذا لم تجد يجعل بدلها غيرها في موضع لا يمكن النخل ، فكتب يجوز إذا أعوزت الجريدة والجريدة أفضل ، وبه جاءت الرواية » أو انه إن لم يوجد النخل فمن السدر وإلا فمن الخلاف كما في المبسوط والوسيلة والمنتهى والإرشاد والقواعد وغيرها وعن النهاية والإصباح ، بل في المدارك أنه المشهور ، بل ربما يظهر من المحكي من معقد إجماع المفاتيح لما رواه‌ سهل (٢) عن غير واحد من أصحابنا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٣.

٢٣٩

قالوا : « قلنا له جعلنا فداك إن لم نقدر على الجريدة فقال : عود السدر قيل : فان لم نقدر على عود السدر فقال عود الخلاف » وفي المقنعة والجامع وعن المراسم عكس ذلك ولم نعرف له شاهدا ، وإلا فمن شجر رطب كما في الكتب السابقة وغيرها بل في جامع المقاصد والروض نسبته إلى الأصحاب مشعرين بدعوى الإجماع ، وهو كذلك.

نعم قال الشهيد في الدروس والبيان وتبعه جماعة ممن تأخر عنه بتقديم عود الرمان عليه مؤخرا عن سابقيه لما في الكافي أنه‌ روى علي بن إبراهيم (١) قال : « يجعل بدلها ـ أي الجريدة ـ عود الرمان » وفيه أن الجمع بينها وبين الرواية السابقة يقتضي التخيير بين عود السدر وعود الرمان لا تأخيره عنه وعن الخلاف ، اللهم إلا أن يكون قد لاحظ عدم مقاومتها لرواية السدر ، فرجحت عليها كما أنها رجحت على مطلق الشجر فقدمت عليه ، وكذا لو لا ظهور اتفاق الأصحاب على الانتقال للشجر الرطب عند تعذر الاثنين أو الثلاثة لأمكن المناقشة بأن قضية الإطلاق والتقييد سقوط المستحب عند تعذرهما أو تعذرها لا الانتقال إلى مطلق الشجر الرطب ، فكأنهم نظروا إلى إطلاق الترتيب أي ترتيب الانتقال من النخل إلى غيره ، فقيدوه بالسدر فالخلاف ، واجتزوا بمطلق الشجر عند تعذرهما دون إطلاق المرتب الذي هو نفس الشجر ، والظاهر الثاني دون الأول ، فلاحظ نظائره وتأمل.

ثم ان ظاهر النص والفتوى تقييد مشروعية الخلاف بتعذر السدر ، والشجر الرطب بالخلاف ، لكن ظاهر الذكرى وغيرها أو صريحها ان ذلك أفضل ، وإلا فيجزي كل منهما مع التمكن من الآخر ، بل يظهر منه في الدروس والبيان ذلك بالنسبة للسدر والنخل فضلا عن غيره ، وربما يشهد له مع إطلاق التخضير في بعض الأخبار ما في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب التكفين ـ حديث ٤.

٢٤٠