جواهر الكلام - ج ٤

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ومن ذلك تعرف إمكان الاحتياط هنا بتجديد النية من دون تعرض للجزئية وعدمها ، فتأمل جيدا. كما أنك تعرف أيضا عدم منافاة ما اخترناه لتوزيع العمل على المكلفين ، بل إجزاء الغسلة الواحدة وإن أوجبنا تجديد النية على كل واحد منهم ، لكنها من حيث الجزئية أو من دون تعرض.

ثم من المعلوم أن النية انما تعتبر من الغاسل حقيقة سواء كان متحدا أو متعددا لكونه الفاعل للتغسيل المأمور به ، فلا عبرة بنية غيرة ، فما في الذكرى من الاجتزاء بنية المقلب لكون الصاب كالآلة حينئذ ضعيف إن أراد صحة النية منه وإن لم يصدق عليه اسم الغاسل ، وكذا إن ادعى أنه الغاسل حقيقة ، لظهور ان الغسل انما هو إجراء الماء ، ولا مدخلية للمقلب فيه ، نعم لو فرض إمكان تعدد الغاسل بحيث يصدق على كل واحد منهم أنه غاسل حقيقة لم يبعد الاجتزاء بنية أحدهم ، ولا يقدح حينئذ كون أحدهم ليس من ذوي النيات المعتبرة كالمجنون ، وإن قدح ذلك فيما لو اشترك الغسل بحيث يسند إلى المجموع لا إلى كل واحد ، فتأمل.

ولو ترتب الغاسلون في فعل غسلة واحدة كما لو غسل كل واحد جزءا أو في الغسلات المتعددة كما لو غسله شخص بالسدر وآخر بالكافور اعتبرت النية من كل منهما لكن من حيث الجزئية أو مع عدم التعرض على حسب ما تقدم ، ولا يجوز الاكتفاء بنية الأول لامتناع ابتناء فعل كل مكلف على نية مكلف آخر ، واحتمال الإشكال في أصل هذا الحكم سيما إجزاء الغسل الواحد من حيث ظهور الأدلة في اتحاد المباشر وأنه لا وجه للاشتراك في العمل الواحد سيما مع القصد إلى ذلك من أول الأمر ضعيف ، لإطلاق الأدلة وظهورها في إرادة بروز غسل بدن الميت من سائر المكلفين من غير اشتراط بشي‌ء آخر ، وما عساه يترائى من الاتحاد المفهوم من الأخبار لا ظهور فيه بكونه شرطا ، بل هو من قبيل مورد الخطابات كما هو واضح ، ومع ذلك فالاحتياط لا ينبغي أن يترك ،

١٢١

فتأمل. وتقدم لنا سابقا في الأبواب المتقدمة ما له نفع تام في المقام.

ثم ان ما ذكره المصنف هنا مع ما بعده من وجوب ثلاثة أغسال مما لم أجد فيه خلافا بين الأصحاب عدا سلار كما اعترف به جماعة منهم المصنف في المعتبر ، بل في الخلاف والغنية الإجماع على خلافه ، حيث قال في الأول : « يغسل الميت ثلاث غسلات : الأولى بماء السدر ، والثانية بماء جلال الكافور ، والثالثة بماء القراح ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو إسحاق : الأولى يعتد بها ، والأخيرتان سنة ، وقال باقي أصحابه : الأخيرة هي المعتد بها لأنها بالماء القراح ، والأولى والثانية بالماء المضاف فلا يعتد بهما ، وقال أبو حنيفة : ماء الكافور لا أعرفه ، دليلنا إجماع الفرقة » انتهى. وهو صريح أو كالصريح فيما نحن فيه ، فما في كشف اللثام من أنه ليس فيه إلا التثليث من غير تصريح بالوجوب كما ترى ، وقال في الثاني : « ووجب بعد ذلك أن يغسل على هيئة غسل الجنابة ثلاث غسلات : الأولى بماء السدر ، والثانية بماء جلال الكافور ، والثالثة بماء القراح ، ولا يجوز أن يقعد بل يستحب أن يمسح بطنه مسحا رفيقا في الغسلتين الأوليين بدليل الإجماع المشار اليه » انتهى. واحتمال رجوعه إلى الأخير خاصة بعيد ، ومع ذلك فنحن في غنية عنهما بالمعتبرة المستفيضة (١) المشتملة على الأمر بذلك المؤيدة بالتأسي لما في الوسائل أنه روى العلامة في المختلف عن ابن أبي عقيل أنه قال : تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام (٢) « إن عليا عليه‌السلام غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث غسلات في قميصه » وباستمرار العمل عليه ، ولا شي‌ء من المستحب كذلك ، وبالاحتياط الواجب المراعاة هنا في وجه مع ضعف دليل الخصم ، إذ ليس هو إلا الأصل ، وهو مع تسليم جريانه هنا مقطوع بما عرفت ، والتشبيه بغسل الجنابة حتى أن في بعضها التعليل بخروج النطفة ، وهو منصرف إلى إرادة الكيفية ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١٤.

١٢٢

على أنه لا يصلح لمعارضة ما ذكرنا ، وما في جملة من الأخبار من الأمر بغسل واحد لمن مات جنبا فهو محمول كما هو الظاهر منه على إرادة عدم تعدد الغسل للجنابة والموت ، بل يغسل غسل الميت فقط ، وهو غسل واحد وإن كان مشتملا على أغسال متعددة ، إذ كل واحد منها كغسل عضو من البدن بناء على ما اخترناه سابقا ، ولذا قال في المختلف بعد ذكره ذلك مستندا لسلار : « وليس بدال على صورة النزاع ، لأن غسل الميت عندنا واحد إلا أنه يشتمل على ثلاثة أغسال » انتهى.

فلا ينبغي الإشكال حينئذ في ضعف ما ذهب إليه سلار كضعف ما ذهب إليه ابنا حمزة وسعيد على ما يظهر لي من عبارتهما من استحباب الخليطين ، حيث قال الأول : « وما يتعلق به الغسل فأربعة أضرب : واجب ومندوب ومحظور ومكروه ، فالواجب ستة أشياء ـ إلى أن قال ـ : وتغسيله ثلاث مرات على ترتيب غسل الجنابة وهيئته ـ ثم قال ـ : والمندوب سبعة وعشرون شيئا ـ إلى أن قال ـ : وغسله أولا بماء السدر ، وثانيا بماء جلال الكافور ، وثالثا بماء القراح » انتهى. وأصرح منه عبارة الثاني حيث قال بعد ذكره ما ذكره الأول من الأمور الأربعة الواجب والمندوب والمكروه والمحظور : « وإن من الواجب غسله ثلاثة أغسال على صفة غسل الجنابة ـ إلى أن قال ـ : ويستحب إضافة قليل سدر إلى الماء الأول ونصف مثقال من كافور إلى الثاني » انتهى. ومن هنا حكى عنهما كاشف اللثام ما ذكرناه ، لكن في المختلف والذكرى أنه يلوح من ابن حمزة الخلاف في الترتيب ، وهو وإن كان ما نقلاه لازما لما ذكرنا إلا أنه ظاهر في كونهما موجبين للخليطين ، لكنهما لم يوجبا الترتيب ، وهو عين ما سمعته من عبارتيهما.

وكيف كان فلا ريب أن الأقوى وجوب الخليطين والترتيب ، بل لم نجد خلافا في الثاني عدا ما سمعته من المحكي عن ابن حمزة ، وقد عرفت ما فيه ، ويدل عليهما ـ مضافا إلى الإجماعين السابقين المعتضدين بالتتبع لكلمات الأصحاب ، وبالاحتياط‌

١٢٣

في وجه ، والتأسي ـ الأخبار المعتبرة المستفيضة الصريحة فيهما معا ، ( منها ) صحيح ابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : « سألته عن غسل الميت فقال : اغسله بماء وسدر ، ثم اغسله على أثر ذلك غسلة أخرى بماء وكافور وذريرة إن كانت ، واغسله الثالثة بماء قراح » الحديث. و ( منها ) الحسن كالصحيح عنه عليه‌السلام (٢) أيضا قال : « إذا أردت غسل الميت فاجعل بينك وبينه ثوبا يستر عنك عورته إما قميص أو غيره ، ثم تبدأ بكفيه ورأسه ثلاث مرات بالسدر ثم سائر جسده ، وابدأ بشقه الأيمن ـ إلى أن قال ـ : فإذا فرغت من غسله بالسدر فاغسله مرة أخرى بماء وكافور وشي‌ء من حنوط ، ثم اغسله بماء بحت مرة أخرى » ونحوهما غيرهما (٣).

فما عساه يستند للخصم ـ من‌ خبر معاوية بن عمار (٤) قال : « أمرني أبو عبد الله عليه‌السلام أن أعصر بطنه ثم أوضأه بالأشنان ، ثم أغسل رأسه بالسدر ولحيته ، ثم أفيض على جسده منه ، ثم أدلك به جسده ، ثم أفيض عليه ثلاثا ، ثم أغسله بالماء القراح ، ثم أفيض عليه الماء بالكافور وبالماء القراح ، وأطرح فيه سبع ورقات سدر » وصحيح يعقوب بن يقطين (٥) عن العبد الصالح عليه‌السلام أنه قال : « يبدأ بمرافقه فيغسل بالحرض ، ثم يغسل وجهه ورأسه بالسدر ، ثم يفاض عليه الماء ثلاث مرات ، ولا يغسل إلا في قميص يدخل رجل يده ، ويصب عليه من فوقه ، ويجعل في الماء شي‌ء من سدر وشي‌ء من كافور » وخبر الفضل بن عبد الملك عن الصادق عليه‌السلام (٦) قال : « سألته عن الميت ، فقال : أقعده واغمز بطنه غمزا رفيقا ، ثم طهره من غمز البطن ، ثم تضجعه ، ثم تغسله تبدأ بميامنه وتغسله بالماء والحرض ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٩.

١٢٤

ثم بماء وكافور ، ثم تغسله بماء القراح ، واجعله في أكفانه » ـ في غير محله ، إذ لا بد من طرحها أو حملها على ما لا ينافي ما ذكرنا بعدم إرادة الغسل بماء القراح في الأول الغسل المطلوب ، بل المراد غسله عن رغوة السدر ونحوها ، وإمكان تنزيل الثاني على المختار ، إذ هو مجمل لا ينافي الحمل عليه كالثالث ، إذ هو مع اشتماله على غرائب كما اعترف به بعضهم محتمل لإرادة السدر مع الحرض ، لمكان غيره من الأخبار ، أو غير ذلك ، لقصورها عن مقاومة ما ذكرنا من وجوه غير خفية ، كالاستدلال أيضا بالأصل والتشبيه بغسل الجنابة ، فلا إشكال حينئذ في ضعف القول بعدم الترتيب أو عدم وجوب الخليط أصلا.

وكذا ما عساه يظهر من المنقول عن الشيخ في المبسوط والنهاية من عدم إيجاب السدر لما عدا الرأس من البدن ، حيث لم يصرح بالغسل بالسدر في الغسل الأول إلا في غسل الرأس لظهور الأدلة بل صريحها في خلافه كما عرفت ، ومن العجيب ما عن التذكرة ونهاية الأحكام من أنه لو أخل بالترتيب فقدم الكافور أو القراح ففي الاجزاء وعدمه وجهان ، من حصول الإنقاء ، ومن مخالفة الأمر ، إذ ذلك لا يجامع شرطية الترتيب ، واحتمال القول بوجوبه تعبدا لا شرطا ضعيف جدا مخالف لظاهر الأدلة أو صريحها ، فالمتعين حينئذ الوجه الثاني من غير فرق بين العمد وعدمه ، فتأمل.

وأقل ما يلقى في الماء من السدر ما يقع عليه الاسم أي اسم السدر كما هو ظاهر العبارة ، وأظهر منها بل كادت تكون صريحة عبارة القواعد ، حيث قال : ويطرح فيه من السدر ما يقع عليه اسمه ، كالمحكي عن المبسوط والنهاية والاقتصاد والمنتهى ونهاية الأحكام من التعبير بشي‌ء من السدر ، وكذا السرائر ، وفي الجامع قليل سدر ، بل في المدارك أنه المشهور ، قلت : ولعله لتحقيق اسم السدر المأمور بالغسل به في الأخبار إذ لا مقدر له ، ولما في‌ صحيح ابن يقطين (١) « ويجعل في الماء شي‌ء من سدر وشي‌ء من كافور ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٧.

١٢٥

وقيل مقدار سبع ورقات ولم نعرف قائله ولا من نسب إليه ذلك ، نعم قد صرح به في خبر معاوية بن عمار المتقدم سابقا ، مع أن ظاهره طرح ذلك في الماء القراح ، كخبر عبد الله بن عبيد (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الميت ، قال : يطرح عليه خرقة ، ثم يغسل فرجه ويتوضأ وضوء الصلاة ، ثم يغسل رأسه بالسدر والأشنان ، ثم بماء الكافور ، ثم بماء القراح يطرح فيه سبع ورقات صحاح » وهما ـ بعد الغض عن السند ، وخروج ظاهرهما عما نحن فيه ، مع اشتمال الأولى على غرائب ، ومعارضتهما بإطلاق غيرهما من الروايات ومعقد الإجماعات ـ لا بد من تنزيلهما على عدم إرادة الخصوصية ، لاتفاق الأصحاب ظاهرا على عدم الالتزام بمقدار خاص لذلك ، نعم وقع في المقنعة الأمر بأخذ رطل من السدر المسحوق ، وفي المهذب رطل ونصف ، ولا ريب في ضعفهما إن أراد الوجوب ، مع أنه لا ظهور في عبارتيهما به. وكيف ولم نعثر على ما يقضي باستحبابه فضلا عن وجوبه ، بل ظاهر الأدلة خلافه كما أنها ظاهرة أيضا في خلاف ما تقدم من ظاهر العبارة وصريح غيرها من الاجتزاء بمسمى السدر وإن قل جدا ، وذلك لاشتمالها على الغسل بماء السدر وبالسدر وبماء وسدر ، ولا ريب في عدم صدق الأول بذلك كالثاني ، بل هو أولى لوجوب الحمل على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة ، واحتمال كون الباء فيه للاستعانة مع أنه خلاف المنساق لا يقتضي أيضا الاجتزاء بمسمى السدر ، لعدم تحقق الاستعانة بمثله ، وكذا الثالث لعدم صدق الغسل به بطرح مسماه.

فمن هنا كان الأولى إناطة الحكم بصدق ماء السدر ونحوه كما عبر بذلك في الخلاف والغنية ، بل قد عرفت فيما تقدم من عبارتيهما أنه معقد الإجماع ، والجمل والعقود والمعتبر والنافع والإرشاد وعن المصباح ومختصره والفقيه والهداية والمقنع والوسيلة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

١٢٦

والإصباح والكافي والتبصرة ، ولعله الظاهر من التحرير ، حيث قال : « وأقل ما يلقى في الماء من السدر ما يحصل به الاسم » ويحتمل تنزيل عبارة المصنف عليه ، وهو الذي صرح به جماعة من متأخري المتأخرين ، وهو الأقوى لما عرفت ، مع تأييده بالأصل في وجه وعدم معارض سوى الصحيح المتقدم ، وهو مع أنه في غاية الإجمال كما لا يخفى على من لاحظه لا يأبى التنزيل على المختار ، فتأمل. إذ هو من باب المطلق الواجب حمله على المقيد ، هذا.

لكن صرح جماعة منهم الحلبي في الإشارة والعلامة في القواعد والشهيد الثاني في روضته وغيرهم بل قيل الظاهر أنه المشهور بأنه متى خرج عن الإطلاق بسبب المزج والخلط لم يجز ، للشك في الامتثال معه ، وعدم صلاحية المضاف للطهورية ، ول‌ قوله عليه‌السلام (١) : « يغسل الميت بماء وسدر » ومع الخروج لم يصدق ذلك ، وللتشبيه بغسل الجنابة. قلت : ومع ذلك كله فللنظر فيه مجال ، ومنه كان الظاهر من الشهيد في الذكرى التوقف كما عن البهائي ، لعدم الدليل على هذا الاشتراط ، بل لعل ظاهر الأدلة خلافه ، كالأمر بالغسل بماء السدر ، إذ هو إن لم يرد منه خصوصية المضاف فلا إشكال في شموله له ، ودعوى إرادة خصوص ما لم يخرج عن الإطلاق منه لا شاهد لها لو سلم تناول ماء السدر حقيقة لمثله ، وكذا الكلام فيما اشتمل منها على الغسل بالسدر ، إذ بعد عدم إرادة الحقيقة فأقرب المجازات إليه ماؤه ، ولا ينافي ذلك ما اشتمل منها على الأمر بغسله بماء وسدر ، إذ لا إشعار فيه باشتراط بقاء المائية على الإطلاق فضلا عن الظهور ، لوضوح صدق ذلك على الخارج عن الإطلاق وإن كان في صدقه على وجه الحقيقة منع ، لعدم تحقق المائية حينئذ ، لكن لا بأس بإرادته منه بقرينة الأخبار السابقة ، وجعله قرينة على إرجاعها إليه ليس بأولى من العكس ، بل لعله أولى لكثرتها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٦.

١٢٧

واعتضادها بظاهر عبارات من عرفت من الأصحاب ، واحتمال إرادتهم غير الخارج عن الإطلاق خاصة لا شاهد له ، ولذا لم نعثر على من صرح بإرادة ذلك ممن عبر بما تقدم في الكتب السالفة ، نعم قد وقع ذلك ممن اجتزأ بالمسمى ، لكن لما كان من المقطوع به عدم إرادة الالتزام بخصوص الخارج عن الإطلاق في النص والفتوى وجب حمل ماء السدر فيهما على ما يشملهما ، بل قد يقال ببقائه على حقيقته وثبوت غيره بإجماع ونحوه ، فلا تجوز حينئذ ، هذا إن لم نقل بصدق ماء السدر على الخارج وغيره حقيقة.

ومنه ينقدح جواب آخر عما دل على الأمر بغسله بماء وسدر ، بأن يقال : إن المتجه حينئذ التخيير بين ذلك وبين ماء السدر ، إذ هو من قبيل الأمر بمقيدين مع اتحاد المكلف به ، ويمكن أن يجاب عنه أيضا بأن المراد تناول ماء وسدر وإن لم يشترط ذلك حين التغسيل ، ومما يرشد إلى ما ذكرنا أيضا ما في الذكرى بعد أن حكى عن العلامة اشتراط عدم إخراج السدر والكافور الماء عن الإطلاق قال : « والمفيد قدر السدر برطل ، وابن البراج برطل ونصف ، واتفق الأصحاب على ترغيته ، وهما يوهمان الإضافة ويكون المطهر هو القراح ، والغرض بالأولين التنظيف وحفظ البدن من الهوام بالكافور لأن رائحته تطردها » انتهى.

قلت ومنه ينقدح الاستدلال‌ بالمرسل (١) الدال على غسل رأسه بالرغوة ، حيث قال فيه : « واعمد إلى السدر فصيره في طشت ، وصب عليه الماء واضربه بيدك حتى ترتفع رغوته ، واعزل الرغوة في شي‌ء ، وصب الآخر في الإجانة التي فيه الماء ، ثم اغسل يديه ثلاث مرات كما يغسل الإنسان من الجنابة إلى نصف الذراع ، ثم اغسل فرجه ونقه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣.

١٢٨

ثم اغسل رأسه بالرغوة ، وبالغ في ذلك واجتهد أن لا يدخل الماء منخريه ومسامعه ، ثم أضجعه على جانبه الأيسر وصب الماء من نصف رأسه إلى قدميه ثلاث مرات ، وادلك بدنه دلكا رفيقا وكذلك ظهره » الحديث لظهوره بالغسل الواجب للرأس في الرغوة كما يشعر به الاقتصار على غسل الجانبين خاصة بعد ذلك وإن قال : من نصف رأسه ، ولا ريب في خروجها عن الإطلاق ، وظن في الرياض أن الاستدلال به انما هو بالتغسيل بما يبقى من الماء بعد الإرغاء ، فأجاب عنه بعدم استلزام الإرغاء إضافة الماء الذي تحت الرغوة ، وخصوصا مع صبه في الماء المطلق الذي في الإجانة الأخرى كما في الخبر ، وليس فيه مع ذلك إيماء إلى غسله بالرغوة ، بل مصرح بغسله بما تحتها مع الماء المطلق الذي في الإجانة الأخرى ، وان الرغوة إنما يغسل بها الرأس خاصة ، وفي الخبر حينئذ إشعار بذلك ، بل دلالة لما ذكرناه لا لما ذكره ، انتهى.

قلت : ولا يخفى عليك ما فيه بعد تسليم غسل الرأس بالرغوة التي هي خارجة عن الإطلاق ، إذ بضميمة عدم القول بالفصل يتم المطلوب ، نعم لو أنكر إرادة الغسل الواجب للرأس بذلك لاتجه حينئذ ما ذكره ، لكنه مع ان ظاهر كلامه تسليمه قد صرح عند ذكر المصنف استحباب غسل الرأس بالرغوة مقدما على الغسل بأنه لا دلالة في المرسل كغيره من الأخبار عليه ، بل هو ظاهر في أنه أول الغسل ، ومع ذلك كله فقد يناقش فيما ذكره أيضا بغلبة خروج ما تحت الرغوة عن الإطلاق ، وعدم استلزام رده إلى الإجانة التي فيها الماء صيرورته مطلقا لاحتمال قلة الماء.

وكيف كان فقد ظهر لك من ذلك كله قوة القول بالاجتزاء به وإن خرج عن الإطلاق كما اختاره بعض متأخري المتأخرين ، كما أنه ظهر لك الجواب عما ذكر مستندا للأول من الشك في الامتثال ، إذ على تقدير اعتبار مثل ذلك في المقام قد يمنع الشك بعد ملاحظة ما ذكرنا ، وكذا الثاني بما سمعته من الذكرى من الطهارة بماء القراح خاصة ،

١٢٩

وبمنع توقف الطهورية في المقام على الإطلاق بعد ظهور الأدلة فيه ، وكذا الثالث لما عرفته مفصلا ، ومثله الرابع لانصراف التشبيه إلى إرادة الكيفية ، كما هو الظاهر منه ، إلا أنه مع ذلك كله فالأحوط الأول إن لم يكن أولى وأقوى ، بناء على تنزيل كلمات الأصحاب وأخبار الباب على عدم وجوب الخارج عن الإطلاق ، وإن كان لا بد من صدق ماء السدر عليه ، ولعله لا تنافي عند التأمل فتأمل جيدا.

ثم ان الظاهر اعتبار كون السدر مما يصح مزجه مع الماء ، ولذا قال في جامع المقاصد : « ويعتبر كونه مطحونا ، لأن المراد به التنظيف ، ولا يتحقق بدون طحنه ، نعم لو مرس الورق الأخضر بالماء حتى استهلك أجزاؤه كفى ذلك » انتهى وهو جيد.

(و) إذا فرغ من ماء السدر غسله بعده بماء الكافور على الصفة السابقة وفيه جميع ما مر في ماء السدر من اعتبار اسم الكافور أو اسم مائه والبقاء على الإطلاق والترتيب وغير ذلك ، لكن قدر المفيد وابن سعيد كما عن سلار الكافور بنصف مثقال ، إلا أنه لم يعلم منهم إرادة الوجوب ، كيف وابن سعيد لا يوجب الخليط على ما عرفت كما عن سلار من انه لا يجب إلا غسل واحد بالقراح ، وفي‌ خبر عمار عن الصادق عليه‌السلام (١) « نصف حبة » وفي‌ خبر مغيرة مؤذن بني عدي (٢) عنه عليه‌السلام « ان أمير المؤمنين عليه‌السلام غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسدر ، ثم بثلاثة مثاقيل من الكافور » وفي‌ خبر يونس عنهم عليهم‌السلام (٣) « وألق فيه حبات كافور » إلا أنها لا تصريح في شي‌ء منها بالوجوب.

فالأقوى اعتبار الصدق المتقدم في السدر ، وقضية إطلاق الأخبار وكثير من الأصحاب سيما المتأخرين بل معقد الإجماعات السابقة الاكتفاء بمصداق الكافور من غير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣.

١٣٠

فرق بين جلاله وغيره ، لكنه يظهر من بعض قدماء الأصحاب وجوب كونه من الأول ، بل ربما حكي عن أكثر القدماء ، والمراد به كما قيل الخام الذي لم يطبخ ، وأرسل عن أبي علي ولد الشيخ « أن الكافور صمغ يقع من شجر ، وكلما كان جلالا وهو الكبار من قطعه لا حاجة له إلى النار ، ويقال له الخام ، وما يقع من صغاره في التراب فيؤخذ فيطرح في قدر ويغلى فذلك لا يجزى عن الحنوط » انتهى. قيل : ولعل منشأ ذلك ما يقال : إن مطبوخه يطبخ بلبن الخنزير ليشتد بياضه به أو بالطبخ ، وربما يحصل العلم العادي بالنجاسة من حيث أن الطابخ من الكفار ، قلت : لكن ظاهر الأخبار إجزاء المطبوخ ، ووجهه عدم حصول اليقين بالنجاسة ، والأصل الطهارة ، ولذا ما فصل المتأخرون ، نعم قد يقال باستحباب الخام للخروج عن شبهة الخلاف وعن شبهة النجاسة.

وإذا فرغ من تغسيله بماء الكافور فليغسله بماء القراح أخيرا إجماعا محصلا ومنقولا وسنة مستفيضة (١) أو متواترة ، والمراد بالقراح الماء الذي لا يخالطه ثفل من سويق وغيره ، والخالص كالقريح على ما في القاموس ، وعن الصحاح أنه الذي لا يشوبه شي‌ء ، وربما ظن من ذلك أنه لا يجزي التغسيل بماء السيل ونحوه مما مازجه شي‌ء من الطين ونحوه وإن كان بحيث لا ينافي إطلاقية الماء ، ولعله الظاهر من السرائر ، حيث قال : « القراح الخالص من إضافة شي‌ء إليه » كالذكرى « القراح الخالص البحت » اللهم إلا أن يريدا مجرد تفسير اللفظ لا اعتبار ذلك فيه.

وكيف كان فلا ريب في ضعفه ، إذ ـ مع منافاته لتعليق الحكم على الماء في بعض الأخبار ، وغلبة عدم خلو الماء من ذلك سيما الفرات في بعض الأحيان ، ومعلومية بقاء مطهرية مثل هذا الماء من الأحداث والنجاسات مع بعد احتمال الشرطية في خصوص المقام تعبدا وان اختص بجملة من الأحكام كذلك ـ لا دليل عليه سوى وقوع هذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

١٣١

القيد في المعتبر من الأخبار (١) ومعقد الإجماع ، وفيه أن مقابلته بماء السدر والكافور تشعر بإرادة كونه ليس بماء سدر وكافور ، بل هو المنساق للفهم منها ، فمن هنا لم يصح تحكيمها على ما دل على الاجتزاء بمطلق الماء ، نعم لا إشكال في ظهورها بما ذكرنا ، فلا يجتزى بالغسل به في الثالثة مع صدق ماء السدر عليه وإن لم يخرج عن الاطلاقية ، فما في الروضة من أن المراد بالماء القراح المطلق الخالص من الخليط بمعنى كونه غير معتبر فيه لا أن سلبه عنه معتبر ، وانما المعتبر كونه ماء مطلقا ليس في محله ، بل هو عجيب مخالف لظاهر الأدلة أو صريحها.

نعم قد يقع الإشكال في اعتبار خلوه من الخليط رأسا وإن لم يصدق معه ماء السدر أو الكافور كما عساه يشعر به العدول عن الإطلاق والماء المطلق إلى قيد البحث أو القراح في الفتاوى وأكثر الأخبار (٢) والأمر في خبر يونس (٣) بغسل الآنية قبل صب القراح فيها ، مضافا إلى وجوب الاحتياط في وجه أو ان المعتبر عدم صدق ماء السدر ، فلا يقدح الخليط حينئذ مع عدم تحقق صدق ذلك كما هو قضية الأصل بناء على الأقوى من جريانه في مثله ، وإطلاق الماء في خبر سليمان بن خالد (٤) والأمر بطرح سبع ورقات سدر في الخبرين المتقدمين (٥) وتطهير المطلق للأحداث والأخباث ، ولعل الأول هو الأقوى في غير ما لا ينافي الخلوص عرفا كما لو كان قليلا جدا ، ولعله منه ما طرح فيه بعض الورقات الصحاح من غير مزج ، فيحمل عليه حينئذ الخبران المتقدمان مع ما عرفته سابقا فيهما ، ويسقط الاستدلال بهما للثاني كالأصل والإطلاق ، لوجوب الخروج عنهما بالمقيد ، ودعوى انصرافه إلى إرادة عدم صدق اسمي ماء السدر والكافور‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٨ والباب ٦ ـ حديث ٢.

١٣٢

تقييد وتحوز لا شاهد عليه ، كحمل الأمر في مرسل يونس بغسل الآنية على الاستحباب بمجرد اشتماله على ذكر كثير من المستحبات ، ولا استبعاد في اشتراط ذلك بالنسبة إلى غسل الأموات كما اعتبر فيه غيره من ماء السدر ونحوه ، ومنه يظهر الجواب عن الأخير ، ثم انه ينبغي القطع بما ذكرناه بناء على الاجتزاء بالغسلتين الأولتين بمسمى السدر والكافور ، لظهور الأدلة في تضاد ما يجتزى به في الغسلة الثالثة وسابقتيها بحيث لا يجتمعان في فرد ، فلو لم يقدح مطلق الخليط في ذلك لجاز اجتماعهما في مثل الماء الممزوج معه مسمى السدر والكافور ، فتأمل جيدا.

ثم انه يجب أن تكون كيفية الغسل به كما يغسل من الجنابة ، فيبدأ بالرأس ثم الجانب الأيمن ثم الأيسر كالغسل بالماءين السابقين من غير خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل عليه الإجماع في الانتصار والخلاف والمعتبر والذكرى وغيرها ، وفي التذكرة نسبته إلى علمائنا ، كما أنه في الأولين والثالث ان كل موجب للترتيب في غسل الجنابة موجب له في غسل الأموات ، ويدل عليه ـ مضافا إلى ذلك وإلى الأمر به في النصوص المستفيضة (١) وبها يحكم على غيرها من المطلقات ، ولا ينافيه اشتمالها على كثير من المستحبات سيما بعد اعتضادها بما عرفت ، كما أنه لا ينافيه الأمر في مرسل يونس وغيره بإفاضة الماء على الجانب الأيمن من القرن إلى القدم ، وكذا الأيسر بعد غسل الرأس وان نقل عن الصدوق والشيخ في الفقيه والمبسوط وجوب ذلك ، إلا أنه مع عدم منافاته للترتيب إذ هو أمر زائد ضعيف جدا ، لمعارضته بما هو أقوى منه ، نعم قد يحكم بالاستحباب من جهة ذلك ، فتأمل ـ الأخبار المستفيضة (٢) المشبهة له بغسل الجنابة ، بل في بعضها (٣) التعليل بأنه جنب بخروج النطفة منه عند الموت.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

١٣٣

ومنه انقدح لجماعة من المتأخرين منهم العلامة في القواعد والشهيد في الذكرى والمحقق الثاني في ظاهر جامع المقاصد والفاضل المعاصر في الرياض سقوط الترتيب عند تغسيله ارتماسا كالجنب ، وهو لا يخلو من نظر ، للأصل والتأسي والاحتياط وظاهر الفتاوى ومعقد الإجماعات والأخبار المفصلة (١) لكيفياتها ، واحتمال التشبيه بغسل الجنابة في الترتيب بل ظهوره ، سيما بعد معروفية الترتيب في غسل الجنابة في تلك الأزمان ، ولعله لذا استشكل فيه في التذكرة ، بل في كشف اللثام الأقوى العدم ، وهو الأظهر ، لكن ينبغي أن يعلم أنه بناء على الاجتزاء به فالمراد الاجتزاء عن الترتيب في كل غسلة لا في نفس الأغسال ، فيجب حينئذ الارتماس بماء السدر ثم بماء الكافور ثم بالقراح ، ويعتبر حينئذ كثرة الماء المرتمس فيه لتنجس القليل بالملاقاة ، وخروج الوارد منه لا يستلزم العكس ، نعم قد يقال : بعدم اشتراط ذلك في الأولين بناء على عدم اشتراط الإطلاق فيهما ، كما أنه ينبغي أن يعلم أيضا انا وإن قلنا : إن الأظهر عدم الاجتزاء بالارتماس ، لكن المراد عدم الاجتزاء به عن الترتيب لا عدم جواز الترتيب ارتماسا ، فيجوز حينئذ غسل الرأس ارتماسا ، وكذا الجانب الأيمن وكذا الأيسر فتأمل.

وفي وجوب ( وضوء الميت تردد ) من‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر عبد الله بن عبيد (٢) بعد أن سأله عن غسل الميت : « تطرح خرقة ، ثم يغسل فرجه ويوضأ وضوء الصلاة » الحديث. وقوله عليه‌السلام أيضا في خبر حريز (٣) « الميت يبدأ بفرجه ، ثم يوضأ وضوء الصلاة » الحديث. وقوله عليه‌السلام أيضا في‌ المرسل عن أبي خثيمة (٤) « ان أبي أمرني أن أغسله إذا توفي ، وقال لي اكتب يا بني ، ثم قال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٤.

١٣٤

إنهم يأمرونك بخلاف ما تصنع ، فقل لهم : هذا كتاب أبي ، ولست أعدو قوله ، ثم قال : تبدأ فتغسل يديه ، ثم توضأه وضوء الصلاة ، ثم تأخذ ماءا وسدرا » الحديث. وعموم‌ قوله عليه‌السلام (١) : « في كل غسل وضوء إلا غسل الجنابة ».

ومن الأصل السالم عن معارضة الاحتياط هنا ، لظهور إرادة القائل الوجوب الشرعي لا الشرطي ، وعلى تقديره فقد عرفت أن الأقوى التمسك به سيما فيما شك في شرطيته ، وخلو أكثر الأخبار المعتبرة عنه مع أنها في مقام البيان ، ولم تخل عن جملة من المستحبات فضلا عن الواجبات ، والتشبيه بغسل الجنابة في المستفيضة ، وترك‌ الرضا عليه‌السلام جواب ابن يقطين في الصحيح (٢) حيث سأله « عن غسل الميت أفيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال : يبدأ بمرافقه ، فيغسل بالحرض ، ثم يغسل وجهه ورأسه بالسدر » الحديث. ووجوب الوضوء لغيره ، وغير ذلك ، كل ذا مضافا إلى قصور تلك الأدلة عن إفادة الوجوب سندا ودلالة مع إعراض المشهور نقلا وتحصيلا عنها ، بل عن بعض الفضلاء إنكار قائل صريح بالوجوب ، وكأنه لعدم صراحة عبارة من نسب اليه ذلك فيه ، كالمقنعة والمهذب كما اعترف به في المختلف وكشف اللثام ، نعم حكاه في الأخير عن صريح النزهة وظاهر الاستبصار والكافي ، وأرسله عن المحقق الطوسي ، وكيف كان فلا ريب في ضعفه بعد ما عرفت من مستنده وما فيه ، بل في السرائر نسبة الرواية الدالة عليه إلى الشذوذ ، وفي المبسوط أن عمل الطائفة على ترك ذلك كالخلاف أيضا ، بل قد يظهر من الأخير عدم المشروعية فضلا عن الوجوب ، هذا مع موافقة تلك الأخبار إلى عامة العامة ، وعمومية البلوى بالحكم مع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٧ وهو خبر ابن يقطين عن العبد الصالح عليه‌السلام.

١٣٥

كثرة وقوع الموت ، فمن المستبعد بل من المقطوع بعدمه خفاؤه على عامة الشيعة خصوصا الخواص.

ومن هنا كان الأشبه أنه لا يجب بل قد يتردد في أصل مشروعيته كما عن ظاهر التذكرة ونهاية الأحكام ، بل ظاهر الخلاف أو صريحه عدمها كظاهر السرائر ، ويحتمله المحكي عن سلار ، ولعله لبعض ما قدمناه من التشبيه بغسل الجنابة ، واستمرار الترك من سائر الطائفة مع ملازمتهم لغيره من المستحبات ، وقصور تلك الأخبار عن إفادته بعد موافقتها للعامة ، لكن قد يدفع ذلك بانجبارها بالشهرة المحكية بين المتأخرين على الاستحباب ، وربما كان أحوط أيضا لما عرفته من شبهة الوجوب وإن ضعفت التي لا يعارضها احتمال الحرمة التي منشأها التشريع ، وإلا فلا نهي صريح في الأخبار عنه ، فتأمل.

( ولا يجوز الاقتصار على أقل من الغسلات المذكورة ) خلافا للمحكي عن سلار كما مر الكلام عليه مفصلا إلا عند الضرورة كما لو لم يجد إلا ماء غسلة واحدة أو غسلتين ، فيقتصر حينئذ ولا يسقط الغسل بفوات ذلك حتى على القول بأنه عمل واحد ، وكأنه لقاعدة الميسور والاستصحاب على بعض الوجوه المعتضدين بفتوى من تعرض لهذا الفرع من الأصحاب كالشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم ، ولمشابهته الأعمال المتعددة من جهات متعددة ، وإطلاق ما دل على وجوب كل غسلة من دون ظهور باشتراط الاجتماع ، ومع ذلك كله فقد يستأنس بما بعده من المسألة الآتية حيث اتفقوا ظاهرا على وجوب الغسل بماء القراح وإن انعدم السدر والكافور.

ثم انه هل يجب اختيار ماء القراح كما في الذكرى لظهور الأدلة في أهميته بالنسبة إلى أخويه وانه الذي به يحصل رفع الحدث بل قد يظهر منها أن غيره انما هو لتنظيف‌

١٣٦

البدن أو حفظه من الهوام ، فهو أقوى من غيره في التطهير ، ولعدم احتياجه إلى جزء آخر ، نعم لو وجد ماء الغسلتين فالسدر حينئذ مقدم على الكافور ، لوجوب البدأة به ، ويمكن الكافور لكثرة نفعه ، أو السابق فالسابق كما في جامع المقاصد والروض وعن غيرهما ، لوجوب البدأة به المستفاد من الأدلة مع ظهور عدم تقييد ذلك بالتمكن مما بعده ، كظهورها في اشتراط الترتيب القاضي بعدم صحة القراح حتى يسبق بالغسلين ، فالأصل يقضي بسقوطه عند تعذر شرطه من غير فرق بين الاختيار والاضطرار ، وللاستصحاب في بعض الوجوه ، بل قاعدة الميسور عند التأمل ، لأنه هو الميسور من المكلف به ، كل ذا مع ضعف ما سمعته في الوجه الأول ، إذ هي بين دعوى فاقدة للدليل وبين اعتبار لا يصلح مدركا لحكم شرعي ، ومن هنا عدل الشهيد عما ذكره في الذكرى والبيان ، وهو الأقوى.

ويجب التيمم بدل الفائت على ما في البيان وجامع المقاصد والروض وعن المسالك ، لعموم بدلية التراب ، ولاستقلاله بالاسم والحكم ، ولأن وجوب التعدد في المبدل منه ، وعدم إجزاء أحد أقسامه أو القسمين عنه يوجب عدم إجزائها أو أحدها عن بدله.

قلت : وقد يشكل ذلك بناء على المختار من أن غسل الميت عمل واحد ، لعدم ظهور أدلة التيمم في بدليته عن الجزء ، ولعله لذا حكم في الذكرى بعدم التيمم معللا له بحصول مسمى الغسل ، إذ مآله عند التأمل إلى عدم ثبوت تلفيق من التراب والماء ، كما أنه قد يشكل بدليته أيضا عن الكافور بناء على الاكتفاء بالمضاف منه ، لظهورها أيضا في بدلية ما كان الماء شرطا فيه ، لكن قد يدفع الأول بعموم البدلية ، وبأنه وإن كان عملا واحدا إلا أن له شبها بالأعمال المتعددة ، كما أنه قد يدفع الثاني بالعموم أيضا لما صح رفعه بالماء وإن لم يكن شرطا فيه ، ومع ذلك كله فالمسألة لا تخلو من إشكال‌

١٣٧

وإن كان الذي يقوى الآن في النظر سقوط التيمم ، إلا أن الاحتياط هنا كاللازم ، خصوصا والمفقود في المقام ماء القراح بناء على ما سمعته من المختار ، وينبغي الاجتزاء بتيمم واحد وإن كان الفائت غسلين بناء على الاجتزاء به عند فوات الثلاث على ما ستعرف ففيه أولى ، نعم قد يتجه التعدد بناء على تعدده عند فوات الثلاث ، ويأتي الكلام فيه.

( ولو عدم الكافور والسدر غسل بالماء القراح ) بلا إشكال ولا خلاف أجده بين كل من تعرض لذلك من الأصحاب كالشيخ والحلي والفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم من متأخري المتأخرين ، فاحتمال القول حينئذ بالانتقال إلى التيمم بناء على أن غسل الميت عمل واحد وقد تعذر بتعذر جزئية لا التفات اليه ، سيما بعد ما سمعته في المسألة السابقة من القاعدة وغيرها ، مع اعتضادها بما سمعته هنا أيضا ، ولا إشعار فيما في المبسوط والسرائر بعدم وجوب ذلك وإن قالا لا بأس بالغسل بماء القراح ، إذ الظاهر إرادة الوجوب ، لأنه متى جاز هنا وجب ، فتأمل. نعم صريح المعتبر والنافع ومجمع البرهان والمدارك وظاهر الذكرى ومحتمل المبسوط كما عن النهاية سقوط ما عدا المرة الواحدة وكأنه لجزئية الخليطين ، فيفوت بفواتهما ، ولأن المراد بالسدر الاستعانة على إزالة الدرن ، وبالكافور تطيب الميت وحفظه بخاصية الكافور من إسراع التغيير وحفظ الهوام ، ومع عدمهما فلا فائدة في تكرار الماء.

خلافا للعلامة والمحقق الثاني والشهيد الثاني ، فأوجبوا ثلاث غسلات ، ولعله الظاهر من السرائر كما عرفت ، وإليه أشار المصنف بقوله وقيل لا تسقط الغسلة بفوات ما يطرح فيها وكأنه لظهور كثير من الأخبار بكونه واجبا مستقلا لا جزئا ، كقوله عليه‌السلام : « غسله بماء وسدر » فالمأمور به شيئان متمايزان وإن امتزجا في الخارج ، وليس الاعتماد في إيجاب الخليط على ما دل على الأمر بتغسيله بماء السدر خاصة حتى يرتفع الأمر بالمضاف‌

١٣٨

بارتفاع المضاف اليه ، وبعد تسليمه لا نسلم فوات الكل بفوات الجزء بعد قيام المعتبرة المنجبرة بعمل الأصحاب في الجملة ، وبعدم سقوط الميسور بالمعسور ، بل قد يظهر من المختلف في المقام الحكم بوجوب الجزء وإن انتفى الكل مع قطع النظر عن هذه القاعدة ، ولعله لثبوت وجوبه بوجوب الكل ، ضرورة استلزام وجوب المركب وجوب أجزائه ، ولم يعلم سقوط ذلك بعد انتفائه ، فيستصحب وجوبه حينئذ.

ومما سمعته في بيان الوجهين قال المصنف فيه تردد وإن كان قد يناقش فيما ذكر من مدرك الثاني ، إذ هو إما مبني على إنكار جزئية السدر من المكلف به ، ولا ريب في فساده ، لظهور قوله ماء السدر والسدر فيه ، ولا ينافيه ماء وسدر ، إذ هو مع إمكان تنزيله على الأول مراد منه الاجتماع قطعا ، وليس هو من قبيل اضرب زيدا وعمروا كما هو واضح ، وإما مبني على المناقشة في قاعدة انتفاء الكل بانتفاء الجزء ، لقاعدة الميسور أو لما سمعته من المختلف ، وهما معا محل للنظر ، أما الأولى فقد يمنع شمولها لمثل المقام الذي هو من قبيل الأجزاء المتصلة التي يحللها العقل ، إذ من الظاهر عدم تناولها لما لو كان المكلف به شخصا خاصا فينتقل منه مثلا إلى نوعه ، ولا ريب أن المكلف به هنا ماء السدر ، وبعد انتفاء السدر لا ينتقل منه إلى مطلق الماء ، مع أنه يمكن أن نخص هذه القاعدة بالمركبات الشرعية دون غيرها ، لكن قد يقال : إن المكلف به هنا ماء وسدر كما هو مضمون بعض الأخبار (١) فيتمشى فيه القاعدة ، وفيه أنه بعد التسليم فقد يمنع حينئذ التمسك بها من دون جابر يجبرها في خصوص المقام ، ووجوده في غيره غير مجد ، إذ لعل العمل بما يوافق بعض مضمونها فيه لغيرها من الأخبار المنطبقة على ذلك المقام وإن لم نعثر عليها ، ولا يلزم من ذلك عدم جواز العمل بها عند وجدان الشهرة مع عدم دليل غير هذه الأخبار مثلا ، للاكتفاء بوجود الشاهد من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ١ و ٦.

١٣٩

أخبار أهل البيت عليهم‌السلام في العمل وإن لم نعلم أن منشأ حكم المشهور تلك الاخبار نفسها ، نعم قد يقال بالاكتفاء في الجبر بمقام عن سائر المقامات إذا علم أن منشأ عملهم بالحكم انما هو خصوص هذه الأخبار ، ولم يثبت ، ولتحرير المسألة مقام آخر ، وأما الثانية فأوضح فسادا ، ضرورة أنه لا وجه لاستصحاب وجوب الجزء الثابت وجوبه من تلك الحيثية بعد انتفاء الكل ، فمن ذلك كان الأول لا يخلو من قوة وإن كان الثاني أحوط إن لم يكن أولى ، لا لما ذكر بل لما سيأتي مما دل (١) على كون المحرم كالمحل غسلا وغيره إلا أنه لا يقربه كافور ، إذ المتعذر عقلا كالمتعذر شرعا.

ثم انه ذكر في جامع المقاصد انه بناء عليه يجب التمييز بين الغسلات بالنية محافظة على الترتيب ، وفيه تأمل بل منع ، كما أنه كذلك أيضا بالنسبة إلى وجوب التيمم بناء على المختار ، لعدم ظهور تناول أدلة مشروعيته لمثل المقام كما هو واضح.

ثم ان الظاهر وجوب إعادة الغسل لو وجد الخليطان قبل الدفن على كل من القولين وفاقا للذكرى وجامع المقاصد والروض ، وخلافا لصريح المدارك وظاهر مجمع البرهان ، لعدم ظهور الأخبار في بدلية الممكن عن المتعذر حتى يقتضي الاجزاء فهو من قبيل الأعذار ، بخلافه بعده قطعا مع استلزامه النبش ، وعلى احتمال في غيره كما لو اتفق خروجه لأمر ما ، لانصراف إطلاقات (٢) الأخبار إلى غيره ، فالأصل البراءة ، ولإطلاق ما حكاه في الرياض من الإجماع ، وهو لا يخلو من نظر بناء على وجوب إعادته قبل الدفن ، لابتنائه على ما عرفت من عذرية الغسل الأول ، لا إجزائه ، فهو كمن دفن بغير غسل ثم اتفق خروجه ، اللهم إلا أن يفرق بين الأجزاء قبل الدفن وبعده تنزيلا لما بعد الدفن منزلة انتهاء زمان التكليف بخلافه قبل الدفن ، وهو لا يخلو من وجه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب غسل الميت.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

١٤٠