جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كما يشعر به ـ مضافا الى الإجماعات المنقولة ـ قول الصادق عليه‌السلام (١) في صحيح حجر بن زائدة : « من ترك شعرة من الجنابة متعمدا فهو في النار » على ما هو المتبادر منه من إرادة مقدار شعرة من الجسد ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) : « تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة » والرضوي (٣) « وميز الشعر بأناملك عند غسل الجنابة فإنه يروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان تحت كل شعرة جنابة ، فبلغ الماء تحتها في أصول الشعر كلها ، وخلل أذنيك بإصبعيك. وانظر الى ان لا تبقى شعرة من رأسك ولحيتك إلا وتدخل تحتها الماء » وصحيح علي بن جعفر (٤) عن أخيه عليهما‌السلام قال : « سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحتها أم لا كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه » الى آخره. فما في‌ صحيح إبراهيم بن أبي محمود (٥) قال : « قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يجنب فيصيب رأسه وجسده الخلوق والطيب والشي‌ء اللزق مثل علك الروم والطراز وما أشبهه فيغتسل ، فإذا فرغ وجد شيئا قد بقي في جسده من أثر الخلوق والطيب وغيره ، فقال : لا بأس » محمول على إرادة الصبغ ، أو أثر غير مانع ، أو حصل له الشك بعد الفراغ ، أو نحو ذلك ، كخبر إسماعيل بن أبي زياد (٦) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : « كن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن ، وذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٢) كنز العمال ـ ج ٥ ـ ص ١٣٥ ـ الرقم ٢٧٥٦.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١ مع اختلاف يسير.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

٨١

لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهن أن يصببن الماء صبا على أجسادهن » وإلا فمطرح.

وما في شرح الدروس ـ من انه لا يبعد القول بعدم الاعتداد ببقاء شي‌ء يسير لا يخل عرفا بغسل جميع البدن إما مطلقا أو مع النسيان ، ويجعل صحيح إبراهيم دليلا عليه لو لم يكن الإجماع على خلافه ، لكن الأولى ان لا يجتزى عليه ـ ضعيف جدا ، لما عرفت ، كتشكيك المقدس الأردبيلي في الحكم مما تقدم ومما دل على إجزاء غرفتين للرأس أو الثلاثة ، لاستبعاد وصول هذا المقدار من الماء الى تحت كل شعرة سيما إذا كان كثيرا كثيفا كما في النساء والأعراب وبعض اللحى ، فيمكن العفو عما تحت هذه الشعور والاكتفاء بالظاهر ، كما يدل عليه عدم وجوب حل الشعر على النساء ، وما رواه في‌ الكافي عن محمد بن مسلم (١) عن الباقر عليه‌السلام قال : « الحائض ما بلغ بلل الماء من شعرها أجزأها » قال : إلا ان يقيد بعلم الوصول الى ما تحت الشعور بالإجماع ونحوه من الأخبار ، فلولا الإجماع كان القول به ممكنا ، فالسكوت عنه أولى ، إلا ان النفس غير مطمئنة فيرشح عنها مثله ، مع عدم توجه أحد إلى مثله من المتقدمين والمتأخرين من فحول العلماء ، فليس لمثلي النظر في مثله ، لكن النفس توسوس ما لم تر دليلا تنتفع به فتأمل ، انتهى. قلت وأي دليل أعظم من الإجماع والأخبار سيما مع ما ورد من الأمر للنساء بالمبالغة في غسل رؤوسهن ، كما في خبر جميل وصحيح ابن مسلم ، وبذلك كله يخص عموم‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « كل ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا ان يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء » ان قلنا بشموله لنحو المقام.

ثم إن الظاهر من المصنف كصريح غيره عدم وجوب غسل الشعر مع وصول الماء إلى البشرة ، ففي المعتبر « لا تنقض المرأة شعرها إذا بل الماء أصوله وهذا مذهب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

٨٢

الأصحاب » ومثله الشهيد في الذكرى ، ولا نعرف فيه خلافا كما في المنتهى ، وكان مرادهم بوصول الماء إلى أصول الشعر مقدمة إلى نفس البشرة ، وكذا عبارة التهذيب والغنية وموضع آخر من المعتبر ، قال في الأخير : « ان الواجب غسل البشرة وإيصال الماء إلى أصل كل شعرة » انتهى. وإلا فاحتمال إيجابهم غسل الأصول مع البشرة بعيد جدا ، مع انه لم يحتمله أحد ممن تأخر عنهم في كلامهم ، بل الظاهر من صاحب المدارك وكشف اللثام وغيرهما انهم فهموا من هذه العبارات عدم إيجاب غسل الشعر ، وكيف كان فيدل عليه ـ مضافا الى ذلك والى الأصل وما دل على الاجتزاء بغسل الجسد والبدن والجلد ولا يدخل الشعر في شي‌ء منها ـ خبر غياث (١) عن الصادق عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : « لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت » ونحوه رواه الحلبي (٢) مرسلا عن الصادق عن أبيه عن علي عليهم‌السلام وقد عرفت حمل الصحيح المتقدم المشتمل على التوعد بترك غسل شعرة من الجنابة على إرادة المقدار من الجسد ، كما يشعر به قوله ( من الجنابة ) ، وأما النبوي الآمر ببل الشعر وإنقاء البشرة فهو ـ مع قصوره سيما مع مخالفته لما عليه الأصحاب ـ محتمل للاستحباب ، أو إرادة المقدمة لغسل البشرة ، أو نحو ذلك ، وأما ما في‌ حسن جميل (٣) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عما تصنع النساء في الشعر والقرون ، قال : لم تكن هذه المشطة ، إنما كن يجمعنه ، ثم وصف أربعة أمكنة ، ثم قال يبالغن في الغسل » وصحيح ابن مسلم (٤) عن الباقر عليه‌السلام قال : « حدثني سلمى خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كان أشعار نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرون رؤوسهن مقدم رؤوسهن ، فكان يكفيهن من الماء شي‌ء قليل ، فأما النساء الآن فقد ينبغي لهن ان يبالغن في الماء » فمع عدم صراحتهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٨٣

في خلاف ذلك ، بل ولا ظهورهما ، بل لعل الثاني في المطلوب أظهر يراد منهما المبالغة لإيصال الماء إلى البشرة ، ومع التسليم فيجب طرحهما أو تأويلهما ، سيما مع مخالفتهما للأصحاب وموافقتهما للمنقول عن الشافعي ، فما وقع من بعض متأخري المتأخرين من الاحتياط في غسل الشعر كأنه في غير محله ، ولعله لظاهر عبارة المقنعة حيث أمر فيها الامرأة بحل الشعر ان كان مشدودا ، وفيه ان الظاهر إرادته مع توقف الإيصال عليه كما يقتضيه سياقها وفهمه في التهذيب وغيره منها ، أو لما قيل من انه‌ ورد (١) في علة الغسل من الجنابة « ان آدم عليه‌السلام لما أكل الشجرة دب ذلك في عروقه وشعره وبشره ، فإذا جامع الرجل خرج الماء من كل عرق وشعرة في الجسد ، فأوجب الله تعالى على ذريته الاغتسال من الجنابة » ولعل مراده موضع كل شعرة ، وإلا فالمني لا يخرج من الشعر قطعا.

بقي شي‌ء ينبغي التنبيه عليه ، وهو ان الظاهر من بعض متأخري المتأخرين انه لا فرق في ذلك بين شعر الرأس واللحية والجسد المستطيل وغيره ، والحاصل انه لا يجب غسل مسمى الشعر مطلقا ، وهو لا يخلو من تأمل بالنسبة الى ما يدخل منه في الأمر بغسل الجسد عرفا ، ويشهد له ما ذكروه في باب الوضوء من إيجاب غسل الشعر النابت في اليدين معللين ذلك بدخوله تحت مسمى اليد عرفا وكونه في محل الفرض ، بل صرح بعضهم بوجوب غسله حتى لو كان مستطيلا جدا ، وإبداء الفرق بين المقامين لا يخلو من إشكال ، اللهم إلا ان يكون إجماعا كما عساه يظهر من جماعة من المتأخرين كالشهيد وكشف اللثام وغيرهما ، إلا انه للتأمل فيه مجال.

ثم انه لا يخفى عليك ان المراد بوجوب غسل البشرة انما هو غسل الظاهر منها دون الباطن ، كما صرح به غير واحد من الأصحاب ، بل نفى الخلاف عنه في المنتهى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

٨٤

والحدائق ، ويدل عليه مضافا الى ذلك‌ قول الصادق عليه‌السلام (١) في مرسل أبي يحيى الواسطي إذ سأله عن الجنب يتمضمض فقال له : « لا إنما يجنب الظاهر » وعن الصدوق روايته في العلل مع زيادة « ولا يجنب الباطن ، والفم من الباطن » ، وانه قال : وروي في حديث آخر (٢) ان الصادق عليه‌السلام قال في غسل الجنابة : « ان شئت ان تتمضمض وتستنشق فافعل ، وليس بواجب ، لأن الغسل على ما ظهر دون ما بطن » انتهى. وفي‌ خبر زرارة (٣) « إنما عليك ان تغسل ما ظهر » ولعل ما في المقنعة والتذكرة من الأمر بغسل باطن الأذنين يراد به هو ما يظهر للرائي من سطح باطنهما عند تعمد الرؤية لدخوله في الظاهر وان توقف على التخليل ، وقضية الشغل اليقيني ونحوه وجوب غسل ما شك في كونه من الظاهر أو الباطن على إشكال ، فيجب حينئذ غسل الثقب الذي يكون في الأذن كما عن المحقق الثاني ، وفي المدارك كما عن شيخه الجزم بأنه من البواطن إذا كان بحيث لا يرى باطنه ، ولعل الأمر كذلك فيما فرضه.

والخامس من واجبات الغسل الذي يبطل بتركها عمدا وسهوا الترتيب بأن يبدأ بالرأس مقدما على سائر بدنه بلا خلاف أجده ، وما نسب الى الصدوقين من الخلاف في ذلك كما نسب الى ابن الجنيد لعله وهم ، كما يشعر بالأول عبارة والد الصدوق المنقولة في الفقيه ، وبالثاني عبارته المنقولة في الذكرى ، وهي وان كان أولها لا يخلو من إشعار إلا ان التدبر فيها جميعها يقضي بخلافه ، ولذا أمكن دعوى الإجماع عليه محصلا ، كالمنقول من السيد في الانتصار ، وعن الشيخ في الخلاف وابن زهرة في الغنية والعلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى كما هو ظاهر المنتهى والروض وغيرهما ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

٨٥

ويدل عليه ـ مضافا الى ذلك والى ما تسمعه من الترتيب بين الجانبين ـ المعتبرة المستفيضة منها‌ الحسن كالصحيح (١) عن الصادق عليه‌السلام « من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثم بدا له ان يغسل رأسه لم يجد بدا من إعادة الغسل » وهو وان لم يكن فيه دلالة على فساد ما ينافي الترتيب من غسل الرأس مع البدن إلا انه بضميمة عدم القول بالفصل ـ سوى ما عساه يظهر من المنقول عن علي بن بابويه ، وهو مع تسليم ظهوره غير قادح ، وبالإجماع المتقدم على الترتيب المقتضي لفساد كل ما ينافيه من تقديم غيره عليه ، أو غسله معه ـ يتم المطلوب ، مضافا إلى غيره من الأخبار (٢) الدالة على ذلك ، لعطفها ما عداه عليه بلفظ ثم ، وهي للترتيب بالمعنى المتقدم ، كقول أحدهما عليهما‌السلام في صحيح ابن مسلم (٣) قال : « سألته عن غسل الجنابة فقال تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك ، ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد طهر » ومثله في ذلك غيره ، فما في بعض الأخبار مما يشعر بخلافه يجب طرحه أو تأويله ، كقول الصادق عليه‌السلام (٤) في صحيح زرارة بعد ان سأله عن غسل الجنابة فقال بعد ان ذكر جملة من المندوبات : « ثم تغسل جسدك من لدن قرنك الى قدمك » ونحوه غيره مما تضمن الأمر بإفاضة الماء على الرأس والجسد ، على انها مطلقة ويجب تنزيلها على المقيد ، وتحتمل أيضا الغسل الارتماسي بناء على صحته في مثل ذلك كما هو مذهب البعض على ما ستسمعه هناك ان شاء الله تعالى ، أو الحمل على التقية.

وأما‌ صحيح هشام بن سالم ـ (٥) قال : « كان أبو عبد الله عليه‌السلام فيما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

٨٦

بين مكة والمدينة ، ومعه أم إسماعيل فأصاب من جارية له فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها ، وقال لها : إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك ، ففعلت ذلك » الى آخره ـ فلعل أقرب الوجوه فيه ما قاله الشيخ : من وهم الراوي واشتباهه ، قلت : وذلك لأن‌ هشام بن سالم راوي هذا الحديث قد روى عن محمد بن مسلم (١) خلافه ، قال عنه : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام في فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه فقال : ادنه هذه أم إسماعيل جاءت ، وأنا أزعم ان هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجها عام أول كنت أردت الإحرام فقلت : ضعوا لي الماء في الخباء ، فذهبت الجارية فوضعته ، فاستحففتها فأصبت منها ، فقلت : اغسلي رأسك وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك ، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط مولاتها ، فذهبت تتناول شيئا ، فمست مولاتها رأسها ، فإذا لزوجة الماء ، فحلقت رأسها وضربتها ، فقلت لها : هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجك » وربما حمل بعضهم الأولى على التقية ، أو على إرادة غسل الإحرام ، وفيهما نظر.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في وجوب تقديم الرأس على البدن ، والمراد به في المقام ما يشمل الرقبة كما هو صريح المقنعة وكافي أبي الصلاح وغنية ابن زهرة والذكرى والدروس واللمعة وجامع المقاصد والروض والروضة والتحرير وكشف اللثام والحدائق وشرح المفاتيح للأستاذ الأكبر والرياض ، بل قد يظهر من الغنية دعوى الإجماع عليه ، وفي الحدائق انه كذلك من غير خلاف يعرف بين الأصحاب ولا إشكال ، وفي شرح المفاتيح ان الظاهر اتفاق الفقهاء عليه ، وعن غيره مما يقرب الى عصرنا دعوى الاتفاق عليه ، قلت : ولعله استنبطه من عبارات الأصحاب كعبارة المصنف وغيرها ، لظهور دخول الرقبة في الرأس دون أحد الجانبين ، وبذلك يدخل حينئذ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٨٧

تحت معقد الإجماعات المتقدمة ، ويشعر به مضافا الى ذلك‌ صحيح زرارة (١) في حديث كيفية غسل الجنابة الى أن قال : « ثم صب على رأسه ثلاث مرات ثم صب على منكبه الأيمن ثلاث مرات وعلى منكبه الأيسر ثلاث مرات » فإنه ظاهر في إلحاق الرقبة بالرأس ، ونحوه غيره في الدلالة على ذلك ، فما وقع في إشارة السبق للحلبي من غسل كل من الجانبين من رأس العنق ليس في محله ، مع احتمال إرادة أصله ، وكذا ما وقع من بعض متأخري المتأخرين ـ من التشكيك في ذلك ، لعدم كون الرأس حقيقة فيما يشمل الرقبة ، ول‌ قول الصادق عليه‌السلام (٢) في خبر أبي بصير : « ثم تصب الماء على رأسك ثلاث مرات ، وتغسل وجهك ، وتفيض الماء على جسدك » لإشعاره بعدم دخول الوجه في مسمى الرأس ، ولذا نص عليه ـ فإنه في غاية الضعف بعد ما سمعت ، وكون الرأس ليس حقيقة في ذلك غير قادح بعد ما عرفت المراد منه هنا ، وكذلك الرواية ، فإنها في الدلالة على المطلوب أولى ، فتأمل جيدا.

ثم يبدأ بغسل تمام الجانب الأيمن ثم من بعده الأيسر كما في الانتصار والخلاف والغنية والتذكرة والمقنعة والمهذب والمراسم والوسيلة والكافي والسرائر والجامع والمعتبر والمنتهى والقواعد والإرشاد والتحرير والذكرى والدروس وغيرها ، بل في الأربعة الأول الإجماع عليه ، وفي المعتبر انه انفراد الأصحاب ، فإنه أفتى به الثلاثة وأتباعهم وفقهاؤنا الآن بأجمعهم عليه ، وفي المنتهى انه مذهب علمائنا خاصة ، وفي الذكرى انه من متفرداتنا ، وحكى عليه بعضهم الإجماع المركب بعدم قائل بوجوب الترتيب في الطهارة الصغرى دون الكبرى ، وآخر بعدم القائل بوجوب الترتيب في الرأس دون الجانبين ، قلت : ويمكن دعوى تحصيل الإجماع ، إذ لم أعثر على مخالف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث (٢) مع اختلاف كثير.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٩.

٨٨

ولا من نقل عنه ذلك سوى ما عساه يظهر من الصدوقين ومن المنقول عن ابني الجنيد وأبي عقيل ، وهو ـ مع عدم صراحة كلامهم في الخلاف ـ غير قادح فيه ، ولعل ما في إشارة السبق ـ بعد ذكره الترتيب فان لم يعم الماء صدره وظهره غسلهما وكذا ما في الغنية وكافي أبي الصلاح بعد إيجاب الترتيب أيضا فإن ظن بقاء شي‌ء من صدره وظهره لم يصل الماء اليه غسله ، مع قوله في الكافي : « ويختم بغسل الرجلين » ـ يراد به إرادة الغسل مع مراعاة الترتيب. فلا يكونون مخالفين فيه ، ويحمل قوله في الكافي على إرادة الختم بالرجلين بالنسبة الى كل من الجانبين ، وكذا ما عن جمل السيد بعد ترتيب غسل الأعضاء الثلاثة قال : ثم جميع البدن ، وفي المراسم بعد ذلك ثم يفيض الماء على جسده فلا يترك منه شعرة أو يراد به الاستحباب كما صرح به في الوسيلة ، فإنه قال بعد ان ذكر الترتيب : وان أفاض الماء بعد الفراغ على جميع البدن كان أفضل ، أو يقال : انهم وان أوجبوا الترتيب في الأعضاء الثلاثة لكنهم لم يحصروا البدن فيها ، فجوزوا غسل شي‌ء من الصدر والظهر مما لا يدخل في مسمى أحدهما بعد الفراغ.

ويدل عليه ـ مضافا الى ذلك والى استصحاب بقاء الحدث وان الشغل اليقيني محتاج إلى البراءة اليقينية ـ ما دل على وجوب الترتيب في غسل الميت من الأخبار (١) والإجماع منضما الى بعض المعتبرة (٢) الدالة على انه كغسل الجنابة ، بل يظهر من بعضها (٣) معروفية كونه كذلك حتى سئل الأئمة عليهم‌السلام عن سبب ذلك أي انه لم يغسل الميت غسل الجنابة ، بل في بعضها (٤) الجواب عنه ان علة ذلك خروج النطفة التي خلق منها ، وأيضا كما أن الوضوء كيفيته واحدة ففي أي مقام أطلق لفظ الوضوء انصرف الى هذه الكيفية الخاصة فكذلك الغسل ، فلو كان غسل الميت كيفيته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت حديث ـ ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت حديث ـ ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت حديث ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥.

٨٩

مخالفة لغسل الجنابة لوجب في كل مقام أمر فيه بالغسل كالحيض وغيره من الواجب والمندوب الاستفصال عنه انه كغسل الميت أو غسل الجنابة ، بل يظهر منهم في بحث تداخل الأغسال بداهة اتحاد الهيئة في جميع الأغسال ، على انه من المستبعد جدا بل قد يقطع بعدمه انه لا ترتيب بين الجانبين ، ومع ذلك قد خفي على الشيعة علمائهم وأعوامهم في جميع الأعصار والأمصار مع تكرر الغسل منهم في كل آن ، وقد يشعر به أيضا‌ حسنة زرارة (١) قال : « قلت له كيف يغتسل الجنب؟ قال : ان لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء ، ثم بدأ بفرجه فأنقاه ، ثم صب على رأسه ثلاث أكف ، ثم صب على منكبه الأيمن مرتين ، وعلى منكبه الأيسر مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » ولعل إضمارها غير قادح كما عرفت غير مرة ، على انه رواها في المعتبر عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ووجه دلالتها على المطلوب انه يستفاد منها كون الجسد في الغسل ثلاثة أجزاء ، الرأس والمنكب الأيمن والمنكب الأيسر ، ولا أحد ممن يقول بذلك إلا وهو قائل بالترتيب ، إذ القائل بعدمه يدعي انه جزءان ، الرأس والجسد ، أو يقال : ان المنساق الى الذهن من هذه العبارة مع قطع النظر عن قاعدة الواو الترتيب كما لا يخفى ، هذا كله ان لم نقل ان الواو للترتيب ، وإلا فلا إشكال كما هو المنقول عن جماعة من اللغويين ، ولئن سلمنا كونها حقيقة في مطلق الجمع فما سمعت من الإجماعات وغيرها قرينة على إرادة الترتيب منها هنا ولو مجازا ، بل يمكن الاستدلال عليه ببعض الروايات العامية (٢) « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اغتسل بدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر » ان قلنا بحجية مثل ذلك بعد الانجبار بالشهرة بين الأصحاب.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في وجوب الترتيب ، فما وقع من بعض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) صحيح البخاري ـ باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل ـ من كتاب الغسل.

٩٠

متأخري المتأخرين من الاستشكال في ذلك بل الفتوى بعدمه تبعا لذلك الشاذ من ظاهر بعض القدماء ليس في محله ، وان كان هو ظاهر جملة من الروايات (١) فيها الصحيح وغيره ، إلا انه ـ مع إعراض الأصحاب عنها واشتمال جملة منها على عدم الترتيب بين الرأس والجانبين ، مع انه لا يقول به الخصم ، وموافقتها للعامة ـ لا ينبغي الركون إليها ، على ان كثيرا منها من المطلق الذي يجب تنزيله على المقيد من الإجماعات المتقدمة وغيرها ، لا أقل من الشك بعد تعارض الأدلة ، فيجب الترتيب تحصيلا لليقين.

ثم لا يخفى ان ظاهر التثليث في حسنة زرارة (٢) وأكثر عبارات الأصحاب مع عدم التعرض فيها للعورة والسرة يقضي بأن العورتين والسرة داخلة فيهما ، بل الظاهر منهما ان دخولهما على حسب التنصيف كما صرح به بعضهم ، فاحتمال كون العورة عضوا مستقلا لا مدخلية له في أحدهما ضعيف ، إلا انه قد يظهر من ملاحظة أخبار (٣) غسل الميت ، لكن ما ذكرناه أحوط ، ولعل الأحوط غسلهما مع الجانبين تخلصا من الاحتمالات الأربعة ، إذ هي إما ان تكون من الجانب الأيمن أو الأيسر أو على التوزيع أو خارجة عنهما ، ولا يأتي عليها كلها إلا ذلك ، أو غسلها تماما بعد الفراغ من الجانب الأيمن مع غسل نصفها مع الجانب الأيسر ، فتأمل جيدا. والظاهر من عبارة المصنف وغيرها من عبارات الأصحاب التي حكوا الإجماع عليها عدم وجوب الترتيب في نفس أجزاء الأعضاء ، فلا يجب الابتداء بالأعلى في شي‌ء منها ، ويؤيده مضافا إلى الأصل‌ قول الصادق عليه‌السلام (٤) في صحيح ابن سنان : « اغتسل أبي من الجنابة ، فقيل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤ والباب ٢٦ ـ حديث ٧ و ١٠ و ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب غسل الميت حديث (٢) و (٣) والمستدرك كذلك.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الجنابة حديث ١.

٩١

له : قد بقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء ، فقال عليه‌السلام : ما كان ضرك لو سكت ، ثم مسح تلك اللمعة بيده » قيل ونحوه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ينافي العصمة ، إذ ليس فيه انه نسيه ، أو ان القائل أصاب ، نعم يمكن القول باستحباب الابتداء بالأعلى فالأعلى كما استظهره الشهيد رحمه‌الله في الذكرى وربما يشعر به‌ حسنة زرارة المتقدمة « ثم صب على منكبه الأيمن مرتين ، وعلى منكبه الأيسر مرتين » بل هو المنساق الى الذهن من ملاحظة الأدلة المتعارف في الغسل ، لكن لا يبعد عدم استحباب التدقيق في ذلك ، وليعلم أيضا ان مقتضى إيجاب الأصحاب الترتيب بين الأعضاء الثلاثة انه متى بقيت لمعة أغفلها المغتسل وجب الإعادة عليها وعلى ما بعدها إلا إذا كانت في الجانب الأيسر ، فالواجب غسلها حينئذ فقط ، لعدم إيجاب الترتيب في نفس أجزائه ، وبذلك كله صرح جماعة ، بل قد يظهر من بعضهم دعوى الإجماع عليه ، وعليه يحمل‌ قول الصادق عليه‌السلام (١) في صحيح أبي بصير : « اغتسل أبي من الجنابة ، فقيل له : قد بقيت لمعة من ظهرك لم يصبها الماء ، فقال له : ما كان عليك لو سكت ، ثم مسح تلك اللمعة بيده » فإنه يحتمل ان تكون اللمعة في الجانب الأيسر أو في الجانب الأيمن ولما يشرع في الجانب الأيسر ، فيراد من قوله : ( اغتسل ) أي في حال الغسل ، ونحوه‌ الخبر المروي عن نوادر الراوندي (٢) مسندا عن الكاظم عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام : « اغتسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جنابة ، فإذا لمعة من جسده لم يصبها ماء ، فأخذ من بلل شعره فمسح ذلك الموضع ثم صلى بالناس ».

وأما ما رواه في‌ الصحيح (٣) عن الباقر عليه‌السلام قال : « قلت له : رجل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

٩٢

ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الجنابة ، فقال : إذا شك وكان به بلة وهو في صلاته مسح بها عليه ، وان كان استيقن رجع فأعاد عليهما الماء ما لم يصب بلة ، فإن دخله الشك وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته ولا شي‌ء عليه ، فأما إذا استيقن رجع فأعاد عليه الماء ، وإن رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ، وان كان شاكا فليس عليه في شكه شي‌ء فليمض في صلاته » فهو مع ما تراه في متنه قابل للحمل على أدلة الترتيب أيضا ، إذ أقصى ما فيه ترك الاستفصال ، وهو وان كان عقيب السؤال يفيد العموم إلا انه غير صالح لمعارضة تلك الأدلة كما هو واضح ، وما عساه يقال : انه يمكن استثناء ذلك من الترتيب سيما مع عدم صراحة أدلته في شمول مثل هذه الصورة فيه ما لا يخفى ، ومثله ما احتمله بعضهم من الاكتفاء بالمسح لمثل اللمعة أخذا بظاهر ما تقدم من قوله : ( ومسح ) ونحوه ، وفيه انه لا وجه للخروج عن أخبار الباب وفتاوى الأصحاب بمجرد ذلك ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ المسح مع تحقق أقل مسمى الغسل الحاصل بإمرار اليد الذي هو كالدهن.

ويسقط ما تقدم من الترتيب بارتماسة واحدة للإجماع المحصل والمنقول ، وقول الصادق عليه‌السلام (١) في صحيحة زرارة : « ولو ان رجلا جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وان لم يدلك جسده » ول‌ قوله عليه‌السلام في حسن الحلبي (٢) : « إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله » ونحوه‌ مرسله (٣) قال : حدثني من سمعه يقول عليه‌السلام : « إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله » وبذلك كله يقيد ما دل على وجوب الترتيب في غسل الجنابة ان سلم الشمول فيها لنحو المقام ، وإلا فلا معارضة حينئذ أصلا ، ومن العجيب ما في الاستبصار من احتمال الجمع بينها بأن المرتمس يترتب حكما وان لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٥.

٩٣

يترتب فعلا ، قال : لأنه إذا خرج من الماء حكم له أولا بطهارة رأسه ثم جانبه الأيمن ثم جانبه الأيسر ، وكان مراده بالتعليل التفسير لنفس الدعوى ، ولعل تخصيصه ذلك بالخروج انما هو لمكان ظهور ثمرة الطهارة حينئذ دون ما إذا كان تحت الماء ، فلا يراد التخصيص على سبيل الحقيقة ، بل المراد انه متى حصل الارتماس حكم له أولا بطهارة رأسه ثم الأيمن ثم الأيسر ، وما يقال : انه يحتمل ان يكون مراده انه لا يحكم له بالطهارة حتى يخرج ، فإذا خرج حكم له بالترتيب المذكور ، لمكان خروج رأسه مقدما على سائر بدنه فبعيد جدا بل لا معنى له ، فإنه ـ مع انه لا يسمى مرتمسا بعد الخروج وعدم تعليقه الحكم على خروج الرأس مقدما بل على مطلق الخروج ـ لا يتم في الجانبين ، لمكان خروجهما دفعة ، ولعل هذا الاحتمال بناء على ما ذكرنا من التفسير هو القول الذي نقله الشيخ في المبسوط وابن إدريس في السرائر وغيرهما عن بعض أصحابنا ان الارتماس يترتب حكما ، والمراد به على ما فسره بعض أصحابنا انه تجري عليه جميع أحكام الترتيب ، فيكون حينئذ بمنزلة المترتب ، حتى انه فرع عليه مسألة النذر واليمين وما لو بقي من بدنه لمعة ، فإنه يغسلها فقط ان كانت في الأيسر ، وهي مع الأيسر ان كانت في الأيمن على حسب ما ذكرنا في الترتيب ، ولا يخفى عليك مخالفة ذلك كله للأصل مع عدم الدليل ، بل ظاهر أدلة الارتماس عدمه ، ومن هنا نقل الإجماع على بطلان الترتيب الحكمي ، وما يقال : انه جمع بين الأدلة فيه انه بعد تسليم تعارضها لا يصلح ذلك جمعا لها من غير شاهد ، وكذا ما يقال : انه أقرب الى الترتيب الحقيقي أي بمعنى ان الترتيب هو الأصل في الغسل ، فيقتصر على مقدار الضرورة في مخالفته ، كما انه لا يخفى عليك ما في التفريع المذكور ، أما في النذر واليمين فلأنه يتبع القصد ، ومع فقده لا ينصرف الإطلاق إلى مثل ذلك قطعا ، وأما مسألة اللمعة فلأن الترتيب الحكمي بعد القول به متفرع على صدق الارتماس ، ولا ريب في عدم صدقه مع بقائها فكيف يجعل‌

٩٤

كالترتيب حكما ، فلعل الأقوى حينئذ انه لا ثمرة في ذلك ، وانما ارتكبوه لتخيل المنافاة بين الأدلة ، فذكروا ذلك لرفعها بتقريب ان المرتمس في الماء لمكان اختلاف سطوح الماء عليه وتعدد جريانها عليه كان بمنزلة الغسل المتعدد ، فيجعل الأول للرأس ، والثاني للأيمن ، والثالث للأيسر ، فسموا ذلك ترتيبا حكميا.

وأما ما وقع لبعضهم وربما أشعرت به عبارة المصنف في المعتبر من أن المراد بالترتيب الحكمي نية المرتمس واعتقاده الترتيب فهو مما لا ينبغي ان يصغى إليه ، فإنه ـ مع فساده في نفسه من وجوه غير خفية ومخالفته للأصل وغيره ـ يأباه ظاهر المنقول في المبسوط وغيره انه يترتب حكما بصيغة الفعل اللازم لا المتعدي ، وليعلم ان أدلة الارتماس وان كان موردها الجنابة إلا ان الظاهر جريانه في جميع الأغسال واجبها ومندوبها كما صرح به جماعة من الأصحاب ، بل نسبه في الحدائق إلى ظاهر الأصحاب ، وفي الذكرى انه لم يفرق أحد بين غسل الجنابة وغيره في ذلك ، قلت : ويؤيده ما دل (١) على ان غسل الحيض والجنابة واحد وتتبع كلمات الأصحاب ، فإنه يظهر منها ان الغسل هيئة واحدة كالوضوء وان تعددت أسبابه وغاياته ، ولذا تراهم لا يستشكلون في جريان كثير من أحكام غسل الجنابة في غيره مع ثبوتها فيه من عدم اشتراط الموالاة وغيره ، ولو لا ذلك لأمكن المناقشة في ثبوت وجوب الترتيب في كثير من الأغسال ، لعدم الدليل عليه إلا في غسل الجنابة ، وعند التأمل ترى الصوم والصلاة والحج وغيرها من هذا القبيل ، فلم يفرقوا فيما يرجع فيها إلى الكيفية بين المندوب والواجب منها كما هو واضح ، فقد يدعى حينئذ ان الأصل ذلك حتى يثبت خلافه ، وربما ظهر من بعضهم إلحاق غسل الميت أيضا لما ذكرنا ، ولما ورد (٢) انه كغسل الجنابة ، وهو لا يخلو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب غسل الميت.

٩٥

من قرب وان كان الجزم به لا يخلو من إشكال سيما بعد انصراف التشبيه الى الترتيب في غسل الجنابة لكونه المتعارف ، فتأمل.

وهل المراد بالارتماس هو استيلاء الماء على جميع أجزاء البدن أسافله وأعاليه المحتاج الى التخليل وغيره في آن واحد حقيقة ، فتجب النية حينئذ بناء على انها الصورة المخطرة بالبال ، وانه يجب مقارنتها حقيقة لأول العمل عند حصول الانغماس التام ، أو يراد به توالي غمس الأعضاء بحيث يتحد عرفا كما عن المشهور ، بل يظهر من بعضهم نسبته إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، فتكون النية حينئذ عند أول جزء لاقى الماء لأنه من أجزاء الغسل ، أو انه لا يعتبر فيه شي‌ء من ذلك ، حتى إذا نوى فوضع رجله مثلا ثم صبر ساعة بحيث نافى الدفعة العرفية فوضع عضوا آخر هكذا الى ان ارتمس أجزاؤه كما اختاره بعض متأخري المتأخرين ، فتكون النية كسابقه أيضا؟ أوجه بل أقوال ، وربما كان هناك وجه رابع ، وهو ان الارتماس مأخوذ من الرمس ، وهو التغطية والكتمان ، ومنه رمست الميت إذا كتمته ودفنته ، فيراد به تغطية البدن بالماء ، فأوله أول آنات التغطية ، وآخره آخر جزء انغسل في تلك التغطية ، فلا عبرة بما يغسل قبلها ، كما لا عبرة بما يغسل بعدها ، فلا مانع حينئذ من التخليل ونحوه في أثنائها ، بل يمكن القول بصدق الارتماس عرفا وان لم يحصل التخليل ، وانما أوجبناه لما يظهر من إيجاب استيعاب البشرة في تلك الغطة.

وقد وقع للأستاذ في شرح المفاتيح كلام ظاهر التدافع إلا على وجه بعيد جدا ، فإنه قال فيه : « ان الارتماس هو إدخال مجموع الجسد من حيث المجموع تحت الماء دفعة واحدة عرفية ، فأول الغسل هو شمول الجميع بالدفعة العرفية ، فالأجزاء التي تلاقي الماء أولا ليست من الغسل في شي‌ء ، الى ان قال : فالارتماس شي‌ء واحد عرفي ليس له ابتداء وانتهاء ، ولا يتصور وقوع الحدث في أثنائه ، ثم أورد على من ادعى‌

٩٦

ان أوله الأجزاء التي تلاقي الماء بأن ذلك يستلزم ان يكون ترتيبا على خلاف المعهود من الترتيب ، لأنه غالبا يكون الابتداء بالرجل بل بباطن الرجل ، ويتصور وقوع الحدث حينئذ في أثنائه وغير ذلك من ثمرات الترتيب الحقيقي ، والفقهاء يتحاشون عن مثل ذلك » انتهى. وقال في مقام آخر : « انه يشكل حينئذ أمر النية بناء على كونها الصورة المخطرة بالبال ، وانه يجب مقارنتها لأول العمل إذ الارتماس ليس له أول ، بل هو شمول الجميع ولا زمان له معين ، والتزم حينئذ جواز وقوع النية سابقه عند أول جزء لاقى الماء وان لم نقل بأنه من الأجزاء ، لكنه من المقدمات الواجبة شرعا أو عقلا ، فهي أولى من المستحبات التي جوزوا وقوع النية عندها كغسل اليدين مثلا في الوضوء والغسل » انتهى. وفيه انه لا يلتئم دعوى اعتبار الدفعة العرفية مع دعوى انه ليس له بداية ولا نهاية ، وانه لا يتصور وقوع الحدث في أثنائه ، وأيضا ما ذكره من أمر النية فيه ان تجويزهم لها عند تلك المستحبات باعتبار أنها أجزاء مستحبة ، فليست المقدمات الخارجة عن العمل بأولى منها حينئذ ، وكيف كان فلعل أقوى الوجوه وأحوطها الرابع ، ثم الثاني ، أما الأول فينبغي القطع بفساده من وجوه كثيرة ، وما أحسن ما قاله المحقق الثاني فيه : « انه مخالف لإجماع المسلمين ، وانه لا يوافقه شي‌ء من أصول المذهب ، ولكن لا داء أعيى من الجهل » انتهى. وأما الثالث فقد يدعى انصراف الأدلة إلى غيره لا أقل من الشك ، واستصحاب الحدث محكم ، ثم انه هل يشترط بناء على المختار توالي الأعضاء بالدفعة العرفية أو يكفي ولو مع التراخي ما دام الغمر في الماء؟ وجهان.

وكيف كان فعليه متى بقيت لمعة لم تغسل حتى خرج وجب استيناف الغسل كما هو المنقول عن والد العلامة ، واختاره جماعة من متأخري المتأخرين ، وقيل يكتفي بغسلها ، وجعله في القواعد أقوى الاحتمالات ، وظاهره عدم الفرق بين طول الزمان‌

٩٧

وقصره ، وربما احتمل جريان حكم الترتيب عليها ، فان كانت في الأيمن غسلها وأعاد الأيسر وان كانت في الأيسر اكتفى بغسلها ، ويظهر من المحقق الثاني وغيره التفصيل بين طول الزمان وقصره ، فيجب الإعادة في الأول دون الثاني ، ولعل الأقوى الأول ، أما مع عدم صدق الارتماسة الواحدة كما إذا كانت اللمعة واسعة وطال الزمان فواضح ، وأما مع صدق مسمى الارتماسة ان سلم تصور الصدق مع إغفالها كما لو كانت قليلة جدا كتخليل ما بين بعض الأصابع مثلا. فلأن المفهوم من أدلة الارتماس انه متى غسل جميع جسده أي ما كان يغسله في حال الترتيب بارتماسة واحدة أجزاؤه ، وفي الفرض وان صدق عليه انه ارتمس ارتماسة واحدة لكن لا يصدق عليه انه غسل جميع بدنه بارتماسة واحدة كما هو واضح ، ويشعر به ترتب الاجزاء على الارتماسة.

وما يقال في الاستدلال للوجه الثاني : انه بعد سقوط الترتيب في حقه وقد غسل أكثر بدنه أجزأه حينئذ ما غسله عنه ، لقول أبي عبد الله عليه‌السلام (١) : « فما جرى عليه الماء قليله وكثيره فقد أجزأه » يدفعه ظهوره في الترتيب كما هو صريح غيره مما ورد بهذه العبارة ، لكونه الفرد الشائع المتعارف من الغسل ، ونحوه‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « وكل شي‌ء قد أمسسته الماء فقد أنقيته » ويشعر به قوله عليه‌السلام : ( جرى ) وكذا ( قليله وكثيره ) على ان الظاهر إرادة الاجزاء عن الدلك ، وهو انما يكون في الترتيب ، وأيضا لو أريد به إطلاقه لنافى اشتراط الوحدة العرفية الثابت اشتراطها بالنص والإجماع ، فتأمل. مع ما فيه من المنافاة لمفهوم‌ قوله عليه‌السلام (٣) : « إذا ارتمس » الى آخره. ومن انه يكون حينئذ كالترتيبي بل هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث (٣) لكن رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٢.

٩٨

ترتيب بالعكس ، على ان ما يظهر ـ من أدلة الارتماس من اشتراط صحة غسل كل جزء غسل الجميع بارتماسة واحدة ـ كاف في تقييدها ، فتأمل جيدا. وأما الوجه الثالث فقد عرفت ان مبناه الترتيب الحكمي ، وفيه ما تقدم ، وأما الوجه الرابع فصدق مسمى الارتماس ، وفيه انه مبني على التفسير الثالث للارتماس ، وهو مع إمكان منعه كما عرفت محتمل لإرادة توالي الأعضاء بالهيئة العرفية للارتماس ، كأن تتوالى للانغماس في الماء أو فيه لعدم صدقه بدون ذلك ، وقد وقع في كشف اللثام في المقام في تفسير القول الذي اخترناه ما هو محل للبحث والنظر ، من أراده فليراجعه.

ثم ان الظاهر من النص والفتوى عدم توقف صدق الارتماس على خروج البدن خارج الماء ، بل يمكن الاكتفاء باستمرار مغموريته في الماء لو نوى الغسل هناك ما لم يكن قد قصد بابتدائها غسلا آخر لعدم صدق التعدد عرفا ، مع احتمال الاكتفاء به أيضا ، كل ذلك للصدق العرفي سيما في الأول ، فما وقع في كلام بعض متأخري المتأخرين من الاشكال فيه في غير محله ، سيما مع مكث القليل من بدنه في الماء ، بل عن ابن فهد في المقتصر ما نصه انه لو انغمس في ماء قليل كحوض صغير أو إجانة ونوى بعد تمام انغماسه فيه وإيصال الماء الى جميع البدن ارتفع حدثه إجماعا ، ومنه يعلم عدم اشتراط الكثرة في الارتماس كما هو قضية إطلاق النصوص والفتاوى ، فما وقع للمفيد في المقنعة انه لا ينبغي له ان يرتمس في الماء الراكد ، فإنه ان كان قليلا أفسده ، وان كان كثيرا خالف السنة فيه انها دعوى عارية عن الدليل ، كتعليله في التهذيب ذلك بأن الجنب حكمه حكم النجس الى ان يغتسل ، فمتى لاقى الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد ، ولعل حمل كلامهما على إرادة الإفساد لغير المستعمل بمعنى سلب طهوريته كما هو المنقول عنهما فيما يرفع الحدث الأكبر أولى من ذلك ، لما فيه من المخالفة لما عليه الإمامية ، وقد يشعر به قوله : ( ولا ينبغي ) أو يراد بالإفساد في عبارة المقنعة مع تلوث الجنب‌

٩٩

بالنجاسة ، أو يراد حصول النفرة ، أو غير ذلك ، واحتمال التمسك لهما بما في الذكرى من الرواية له الارتماس في الجاري أو فيما زاد على الكر من الواقف لا فيما قل كالمروي‌ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) انه قال : « لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ولا يغتسل فيه عن جنابة » يدفعه مع فقدهما لشرائط الحجية انه لا دلالة فيهما على الإفساد المتقدم ، ولعل ذلك دليلهما على سلب الطهورية ، وفيه ما تقدم سابقا ، ولو لا التسامح في دليل الكراهة كان للنظر في إثباتها بهما مجال سيما الثاني.

وظاهر المصنف هنا والمعتبر كظاهر كثير من القدماء عدم سقوط الترتيب بغير الارتماس من الجلوس تحت المطر ونحوه ، وهو المنقول عن ابن إدريس ، واختاره جماعة ممن تأخر عنه ، خلافا للشيخ في المبسوط فألحق بالارتماس الجلوس تحت المجرى والمطر ، وتعدى في التذكرة فألحق الميزاب وشبهه ، وعن بعضهم إلحاق الصب بالإناء ، ولعل مستند الأول بعد الأصل واستصحاب حكم الحدث عموم أو إطلاق ما دل (٢) على وجوب الترتيب في الغسل ، ومفهوم‌ قوله عليه‌السلام (٣) : « إذا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه » ولعل مستند الثاني ـ بعد دعوى صدق اسم الارتماس عليه لكونه شمول الماء للبدن دفعة عرفية ـ إطلاق الأمر بالاغتسال كإطلاق‌ قوله عليه‌السلام (٤) : « ما جرى عليه الماء فقد أجزأه » ونحوه‌ صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام (٥) قال : « سألته عن الرجل يجنب هل يجزيه غسل الجنابة أن يقوم في المطر حتى يغسل رأسه وجسده وهو يقدر على ما سوى ذلك؟ قال : ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك » ومرسلة محمد بن أبي حمزة (٦) عن الصادق عليه‌السلام « في رجل أصابته جنابة

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٥ ـ ص ٨٥ ـ الرقم ١٧٩٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٠.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٤.

١٠٠