جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لكن مع زيادة « وكذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك » ما يعين كونه ليس بدلا عن الماء ، وذلك لأن التيمم بالنسبة للحائض لا يفيدها شيئا ، لمكان استمرار حدثها ، وهي وإن كانت مقطوعة إلا انه عمل بها الخصم وبعض الأصحاب كالعلامة وغيره ، بل يقوى الظن ان سندها هو سند الرواية الأولى كما لا يخفى على من لاحظها ، على انها مروية في الكافي الذي هو أضبط كتب الأخبار ، وفي المنتهى انها مناسبة للمذهب ، فما في المعتبر ـ من القول بالاستحباب استضعافا للرواية مع كون التيمم لا يفيدها طهارة ـ ضعيف ، بل في الذكرى انه اجتهاد في مقابلة النص ، وكأنه أراد به قوله : لا يفيدها طهارة ، إذ لعل وجوبه من باب التعبد أو يفيدها إباحة بالنسبة للخروج فقط ، وربما يلحق بها النفساء أيضا دون باقي الأحداث الكبر ، وعلى كل حال فهو وارد بالنسبة للخصم في المسألة الأولى ، لمكان عمله بهذه الرواية أي رواية الحائض ، فالاستشعار منها بكون هذا التيمم ليس بدلا عن ماء فيصح وان تمكن من الماء متجه بالنسبة إليه ، هذا كله مع انا نقول في أصل المسألة ان إيجاب الغسل مع فرض تساوي زمانه لزمان التيمم أو قصره لا يقضي بكون التيمم على القاعدة حتى يجب تسريته لغير المحتلم ، إذ قد يكون منشأ وجوب الاغتسال استفادته بطريق أولى ، بمعنى انه إذا جاز المكث للتيمم مع كونه غير رافع لصدق اسم الجنب فليجز ذلك المقدار بالنسبة للرافع بطريق أولى ، فلا يكون منشأه قيام التيمم مقام الماء حتى يثبت للخصم مطلوبا من التسرية لغير المحتلم ، ولعل هذا هو السبب في اشتراط الشهيد رحمه‌الله عدم طول زمانه على زمن التيمم ، هذا أقصى ما يقال في ترجيح الثالث.

والأقوى في النظر ان يقال : وجوب التيمم لسائر أفراد الجنب عدا المحتلم مع تعذر الاغتسال إذا قصر زمان التيمم عن زمن الخروج ، لأنه وان كان تعارض فيه حرمة المكث للتيمم وحرمة المشي فيه بدونه لكنه مع فرض زيادة الزمان ترجح حينئذ‌

٦١

حرمة الخروج بدونه على تلك الحرمة ، بل يمكن ان يقال : انه لما دلت الأدلة على حرمة الكون في المسجدين للجنب الصادق في الكون الخروجي ولكون للتيمم فمع تعارضهما وملاحظة تقديرهما بالزمان وجب التيمم حينئذ للزائد من الكون الخروجي ، وأما مع تساويهما فيمكن القول بالخروج بدون التيمم ، لأنه مع تعارض الحرمتين وفقد الترجيح يتمسك حينئذ بأصالة البراءة من وجوب التيمم السالمة عن المعارض ، كما انه يمكن القول بالتخيير بينه وبين الخروج ، ويمكن القول بترجيح الحرمة الخروجية على الكون للتيمم ، لظهور الأدلة في النهي عن المرور جنبا ، ولرواية المحتلم ، فإنه مع كونه أولى من غيره بالعذر ومع هذا أمره بالبقاء للتيمم وعدم الخروج إلا متيمما فلعلها تصلح حينئذ لترجيح إحدى الحرمتين على الأخرى ، ومنه ينقدح ترجيحها وان قصر زمان الخروج على زمن التيمم كالمحتلم ، بل لعله لا يخلو من قوة ، وكيف لا وقد عرفت فيما مضى من مقطوعة أبي حمزة أمر الحائض بالتيمم وعدم الخروج إلا متيممة مع فرض عدم افادة التيمم لها طهارة ، فيعلم من جميع ذلك ان حرمة المرور جنبا أولى بالمراعاة من حرمت المكث للتيمم ، وبالتأمل في ذلك كله يظهر لك انه يتجه القول بوجوب الاغتسال على غير مورد الرواية من الجنب مع قصر زمان الغسل على زمن الخروج ، سيما إذا كان مع ذلك أقصر زمانا من التيمم أو مساويا له ، لما سمعته من مراعاة القاعدة في البعض ومن الترجيح في آخر ، بل قد يتعدى الفقيه الماهر الى مورد الرواية وهو المحتلم ، ويجعل حكمه كذلك أيضا ، لكن ان أبيت عن ذلك وجب الجمود على ظاهر الرواية في خصوص المحتلم وعدم مراعاة شي‌ء مما تقدم فيه ، قصر زمانه على زمن الخروج أو لا ، تمكن من الاغتسال أو لا ، والرجوع في غيره الى مقتضى القواعد كما تقدم.

بقي بحث في انه هل يفيد هذا التيمم إباحة لغير الخروج من المشروط بالطهارة‌

٦٢

لو صادف عدم الماء في الخارج أو عدم التمكن من الاغتسال؟ ربما يظهر من بعضهم العدم ، إما لكون هذا التيمم تيمما تعبديا ليس بدلا عن الماء ، فلا يجري عليه هذه الأحكام ، أو لأن استباحة الأمور الأخر به مبنية على التداخل ، والفرض عدم نية غير الخروج ، اللهم إلا أن نقول به من دون نية ، قلت : وكل منهما لا يخلو من نظر ، أما أولا فلما عرفت سابقا من كون هذا التيمم انما هو على حسب سائر التيممات حيث يفقد الماء للمشروط سيما بالنسبة الى غير مورد الرواية من أفراد الجنب ، نعم مع الشرط المتقدم من قصر الزمان ونحوه للطهارة ، فما يقال : انه ليس ببدل عن الماء لا وجه له ، وأما ثانيا فلأنه مع فرض كونه صوريا ولكن صادف المحل واقعا يكون من قبيل وضوء الجنب والحائض ثم بان عدم الجنابة والحيض فإن الأقوى فيهما صحة الوضوء ، لعدم اشتراط نية الرفع والاستباحة ، بل ولا يقدح نية عدمهما ، وأما ثالثا فلأن مسألة التداخل خارجة عما نحن فيه ، إذ تلك مسببات لأسباب متعددة ، بخلاف ما هنا ، فإنه من باب تداخل الغايات ، فيكون كالوضوء المنوي به استباحة الصلاة مثلا ، فإنه يستبيح به غيرها من الأمور الأخر وان لم ينوها ، فتأمل جيدا. فإنه قد أطال بعض المتأخرين زعما منه بناؤها على ذلك ، هذا كله فيمن تيمم وخرج ولم يكن عالما بعدم التمكن من الاغتسال ، أما إذا كان عالما بعدم التمكن لمرض أو غيره فهل يتعين عليه التيمم للخروج ثم انه يتيمم للدخول أو انه يكتفي بتيمم واحد ولا يحتاج الى الخروج بل يستبيح المكث والصلاة وغيرهما بذلك؟ الأقوى الثاني ، وما يقال : ان أقصى ما يستفاد من الأدلة جواز المكث بالتيمم الخروجي دون غيره فيه من الضعف ما لا يخفى ، سيما بعد البناء على ان الخروج من جملة الغايات المشروطة بالطهارة وان التيمم له لذلك ، ولو اتفق انحصار التمكن من الغسل في المسجد فالظاهر جواز استباحة المكث بالتيمم ، لكن قد يقال : انه مما يقتضي وجوده عدمه ، فلا يجوز ، فإنه متى استبيح بالتيمم المكث للغسل‌

٦٣

انتقض التيمم للتمكن من الماء ، ومتى انتقض التيمم حرم الكون للغسل حينئذ ، فتأمل.

وإذ قد فرغ المصنف من المحرمات على الجنب شرع في المكروهات فقال : ويكره مسمى الأكل والشرب عرفا بلا خلاف أجده بين الطائفة ، بل في الغنية الإجماع عليه ، ونسبه في التذكرة إلى علمائنا ، وما في الفقيه والهداية من التعبير عن ذلك بلفظ ( لا يجوز ) محمول على الكراهة كما يشعر به تعليلهما بمخالفة البرص ، وكذا ما في المقنع من النهي عن الأكل والشرب للتعليل المذكور. ونحوه في النهي ما في المهذب ، ويدل عليه مضافا الى ذلك‌ خبر السكوني (١) عن الصادق عليه‌السلام فان فيه « لا يذوق شيئا حتى يغسل يده ويتمضمض ، فإنه يخاف عليه من الوضح » وصحيح الحلبي (٢) قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ » وما عن‌ الفقيه (٣) في باب ذكر جملة من مناهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأكل على الجنابة » وهي وان كان مقتضاها الحرمة إلا انه لما سمعته من الإجماع على الكراهة مع إشعار التعليل في الصحيح الأول بها مع ما‌ في الموثق (٤) قال : سألت الصادق عليه‌السلام « عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن ، قال : نعم يأكل ويشرب ويقرأ ويذكر الله عز وجل ما شاء » وجب حملها على الكراهة ، ومن العجيب ما في المدارك من انه لم يقف على ما يدل على ذلك من الأخبار سوى‌ صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٥) فان فيه قلت : « أيأكل الجنب قبل ان يتوضأ قال عليه‌السلام : انا لنكسل ولكن ليغسل يده ، والوضوء أفضل » وصحيح زرارة (٦)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٦٤

عن الباقر عليه‌السلام قال : « الجنب إذا أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه وأكل وشرب » وهما يقتضيان استحباب الوضوء لمريد الأكل والشرب ، أو غسل اليد خاصة ، أو مع غسل الوجه والمضمضة ، لا على كراهة الأكل والشرب بدون ذلك ، انتهى وأنت خبير بما فيه بعد ما سمعت من الأخبار المنجبرة بفتوى الأصحاب ، مع انه لا منافاة بينها وبين الروايتين ، بل قد يدعى إشعارهما بالكراهة أيضا.

نعم وقع هناك اختلاف في عبارات الأصحاب بالنسبة إلى رافع الكراهة وما يحصل به خفتها ، فقال المصنف وتخف الكراهة بالمضمضة والاستنشاق ولم أجد من وافقه على ذلك صريحا ، لكن عبارة السرائر قد تشعر به كالمنقول عن الاقتصاد والمصباح ومختصره والنهاية ، بل المعروف عندهم رفع الكراهة بالأمرين ، كما هو ظاهر المبسوط والغنية والمهذب والوسيلة والجامع والنافع والتذكرة والمنتهى والإرشاد والقواعد ، ونسبه جماعة إلى المشهور ، وفي ظاهر الغنية الإجماع عليه ، وكذا التذكرة ، ولعل ذلك كاف في المستند ، وإلا فلم أعثر في الروايات على ما يدل عليه ، بل ليس فيها تعرض لذكر الاستنشاق ، سوى ما عن الفقه الرضوي (١) من ذكرهما مع غسل اليدين كما هو فتوى الفقيه والهداية وعن الأمالي ، ولعله لذا قال في المعتبر بعد ذكر ذلك ونسبته إلى الخمسة وأتباعهم : « والذي أقوله أنه يكفيه غسل يده والمضمضة ، لما رواه زرارة عن الباقر عليه‌السلام » الى آخره ، وكان عليه زيادة غسل الوجه ، لاشتمال مستنده عليه ، كما في النفلية لكن مع زيادة الاستنشاق مع خلو الخبر عنه ، ولعله أخذه من جهة تلازم المضمضة والاستنشاق غالبا ، فكان ذكر أحدهما يكفي عن الآخر ، وكان الأولى في المستند للمحقق خبر السكوني المتقدم ، وخير في المنتهى والدروس في رفع الكراهة بين الأمرين والوضوء ، ولا أعرف له مستندا واضحا عدا ما ستسمع ،

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

٦٥

وما ذكره من الأخبار دليلا لا يمكن حملها عليه ، فتأمل. وعن المقنع « لا تأكل ولا تشرب وأنت جنب حتى تغسل فرجك وتتوضأ » وفي كشف اللثام « انه موافق لقول أحمد ، ولم أظفر له بمستند » انتهى. وكان جميع ذلك منهم لاختلاف ما سمعت من الأخبار ، ويظهر من بعض المتأخرين العمل بها جميعا ، وانها تزول الكراهة بها كلها لكنها مترتبة بالفضل ، فأكمل الجميع الوضوء ، ثم غسل اليد والمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه ، ثم الثلاثة الأول ، ثم الأولان خاصة ، ثم الأول خاصة ، وهو أدنى المراتب ، وكان المستند للأول ما دل على ان الوضوء أفضل كما في صحيح عبد الرحمن ، وللثاني صحيح زرارة عن الباقر عليه‌السلام مع زيادة الاستنشاق ، وللثالث الرضوي ، وللرابع خبر السكوني ، وللخامس ما في صحيح عبد الرحمن أيضا ، ولعل التأمل في الروايات بعد حمل مطلقها على مقيدها وحذف المكرر فيها يقضي بأن رفع الكراهة يحصل بالوضوء الكامل أي الذي معه المضمضة والاستنشاق ، فيدخل حينئذ غسل اليد والوجه في الوضوء ، إلا أنه يستفاد حصول الخفة بغسل اليد ، ولعل المراد بها من الزند كما يظهر منها حيث تطلق ، بل يمكن دعوى حصول الخفة بغيرها أيضا بحمل الروايات المشتملة على ذكر البعض على حصول التخفيف ، هذا ان لاحظنا مجموع الأخبار حتى الرضوي من غير نظر الى كلام الأصحاب ، وأما معه فلعل ما ذكره في المنتهى من التخيير في الرفع بين الوضوء والمضمضة والاستنشاق لا يخلو من قوة ، فيكون دليل الأول الأخبار ، ودليل الثاني الإجماع المدعى ، فتأمل جيدا.

ثم انه صرح جماعة من متأخري الأصحاب بأنه ينبغي ان يراعى في الاعتداد بهما عدم تراخي الأكل والشرب عنهما كثيرا في العادة بحيث لا يبقى بينهما ارتباط عادة ، وتعدد الأكل والشرب واختلاف المأكول والمشروب لا يقتضي التعدد إلا مع تراخي الزمان ، قلت : ويحتمل قويا انه حيث ترفع الكراهة بالوضوء لا يحتاج الى التعدد بتعدد‌

٦٦

الأكل والشرب وان تراخى الزمان ، كما هو قضية المفهوم في‌ قوله عليه‌السلام : ( لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ ) نعم متى أحدث بعده احتاج الى تجديده ، واحتمال القول بعدم ناقضية الحدث له لكونه ليس رافعا له ضعيف جدا ، لعموم ما دل على ناقضية الحدث له ، وصحة كل وضوء بحسبه ، ونحو ما ذكرنا من احتمال عدم التعدد في الوضوء يجري أيضا في نحو المضمضة مما يرفع الكراهة أيضا ، إلا انه أضعف من الأول ، لظهو‌ ر قوله عليه‌السلام : ( إذا أراد ان يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض ) الى آخره في التعدد عند تعدد الإرادة.

ويكره للجنب أيضا قراءة ما زاد على سبع آيات من غير العزائم كما في المعتبر والنافع والمنتهى والتذكرة والإرشاد والقواعد والتحرير والدروس وجامع المقاصد وغيرها ، وربما نسب الى المشهور ، ويستفاد من المتن وغيره أمور ثلاثة ، الأول جواز قراءة الجنب ما شاء ، والثاني عدم الكراهة في السبع ، والثالث الكراهة فيما زاد.

( أما الأول ) فلم أقف فيه على مخالف سوى ما ينقل عن سلار من تحريم القراءة مطلقا ، ولعله في غير المراسم كما حكاه عنه في الذكرى في الأبواب ، وهو مع ضعفه ـ ومخالفته للأصول والعمومات والأخبار التي كادت تكون متواترة ، بل هي كذلك الدالة على جواز قراءة الجنب والحائض ما شاءا من القرآن إلا السجدة ، والإجماع المحصل فضلا عن المنقول في الانتصار والغنية والمنتهى وعن أحكام الراوندي ، وربما نقل عن الخلاف أيضا إلا أن عبارته قاصرة عن ذلك ، بل ظاهره الإجماع على أصالة الإباحة ، نعم قد تشعر به عبارة المعتبر ـ لم أعثر له على مستند صالح لذلك ، وأما المروي عن‌ الخصال عن السكوني عن الصادق عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : « سبعة لا يقرؤون من القرآن الراكع والساجد وفي الكنيف وفي الحمام والجنب والنفساء والحائض » والمنقول عن‌ الصدوق عن أبي سعيد الخدري في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٧

لعلي عليه‌السلام (١) انه قال : « يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن ، فإني أخشى ان تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما » فإنهما مع قصورهما عن إفادة ذلك من وجوه عديدة مع عدم المعارض فكيف مع معارضتهما لما سمعت من الأدلة ، وموافقتهما للعامة كما يشعر به سند الثانية ، وكذا ما يقال : من معروفية ترك الجنب قراءة القرآن في ذلك الزمان كما يقضي به المنقول عن عبد الله بن رواحة ، حيث رأته امرأته مع جاريته ، فمضت لتأخذ سكينا ، فأنكر عليها ذلك ، واحتج عليها بأنه أليس نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يقرأ أحدنا وهو جنب ، فقالت له : اقرأ فقال :

شهدت بأن وعد الله حق

وان النار مثوى الكافرينا

وان العرش من فوق طباق

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسومينا

فقالت : صدق الله وكذب بصري ، فجاء وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فضحك حتى بدت نواجده ، فإن إثبات الحرمة بمثل هذه الأمور مخالف لأصول المذهب ، سيما مع المعارضة لما سمعت ، ولذا كان هذا القول غير معروف النقل بين أصحابنا ، ولم أقف على من نقله غير الشهيد في الذكرى ، نعم المعروف نقله في لسان الأصحاب تحريم ما زاد على سبع ، إذ نقله الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا ومثله ابن إدريس في السرائر ، وكذا غيرهما ، لكنا لم نعرف القائل به من المتقدمين على الشيخ ، نعم هو ظاهر ابن البراج في المهذب ، حيث قال : ولا يجوز أن يقرأ منه أزيد من سبع آيات ، وقيل انه قد يظهر أيضا من الشيخ في كتابي الأخبار ، وفيه ان الشيخ في الاستبصار ذكره احتمالا في مقام الجمع بين الأخبار كما ذكره غيره ، نعم قد يظهر منه في التهذيب كما يظهر منه في النهاية ، حيث قال فيها : ويقرأ القرآن من أي موضع شاء ما بينه وبين سبع إلا أربع سور ، مع احتمال إرادته ثبوت الكراهة فيما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

٦٨

عدا ذلك ، كعبارة المقنعة أيضا ، فإنه قال : لا بأس ان يقرأ من سور القرآن ما شاء ما بينه وبين سبع آيات إلا أربع سور ، فان ثبوت البأس أعم منه ، إلا ان الظاهر ان الشيخ فهم من عبارة المقنعة ثبوت الحرمة في الزائد.

وكيف كان فهو ضعيف كسابقه مخالف للأصول والعمومات وما سمعته من الإجماعات المنقولة ، مع انه خال عن المستند سوى‌ الموثق عن سماعة (١) قال : سألته « عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال ما بينه وبين سبع آيات » قال الشيخ : وفي رواية زرعة عنه سبعين آية ، وبذلك عدهما بعضهم روايتين ، مع احتمال ان تكون رواية واحدة مضطربة ، وهو مع معارضته لما سمعت لا يصلح لأن يكون مقيدا أو مخصصا للأخبار الكثيرة التي فيها الصحيح وغيره الدالة على جواز قراءته ما شاء إلا السجدة ، مع انه بعد فرض كونهما روايتين يحتمل قويا في الثانية إرادة بيان جواز قراءته ما شاء ، وذلك طريق متعارف في إفادة هذا المعنى كما ذكر ذلك في قوله تعالى (٢) ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) بل يحتمل إرادة ذلك أيضا في الأولى ، لكنه ضعيف كما ذكر في بيان‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « نزل القرآن على سبعة أحرف » ومع ذلك فهما متعارضتان ، إذ مفهوم الأولى حرمة ما عدا السبع ، ومفهوم الثانية حليته الى السبعين ، ومقتضى الجمع بينهما بتحكيم الثانية على الأولى حرمة الزائد على السبعين ، مع ان المنقول من القول انما هو حرمة ما زاد على السبع ، بل لم أعرف أحدا قال بحرمة ما زاد على السبعين ، ولا نقله أحد عدا العلامة في المنتهى ، فإنه حكاه عن بعض الأصحاب ، نعم في السرائر عن بعض أصحابنا انه قال بحرمة السبع أو السبعين ، وكذا قال الشهيد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٩.

(٢) سورة التوبة ـ الآية ٨١.

(٣) البحار ـ المجلد ـ ٨ ـ باب تفصيل مثالب عثمان وبدعه ـ الطعن السابع ـ ص ٣٢٧ من طبعة الكمباني.

٦٩

في الذكرى : انه يشعر كلام الشيخ في التهذيب بحرمة السبع أو السبعين ، ومن المعلوم ان هذا الترديد غير ملتئم بحسب الظاهر ، اللهم إلا أن يكون القائل بالحرمة مترددا غير جازم بأحدهما ، وأما احتمال كون الحرمة مقصورة على السبع أو السبعين ، أي فلا يحرم ما دون السبع حتى يبلغ السبع ، ولا ما فوقها حتى يبلغ السبعين فضعيف جدا لا يخفى استبشاعه ، وأيضا هما لا ظهور فيهما بالحرمة ، لمكان حمل الجملة الخبرية فيهما على الأمر الذي أقصى مراتبه الندب ، فيكون المفهوم حينئذ انتفاء الندب ، وهو أعم من الحرمة بل ومن الكراهة ، اللهم إلا ان يقال : إن السؤال فيهما عن مطلق الاذن في القراءة ، فتحمل الجملة الخبرية حينئذ على إرادة ثبوت الإذن بالنسبة الى هذا المقدار ، فيكون المفهوم انتفاء الاذن ، بل لو كان أمر صريح لكان المتجه حمله على الإباحة ، لكونه في مقام توهم الحظر ، فتأمل. والحاصل لا ينبغي الإشكال في عدم صلاحيتهما لإثبات الحرمة ، وكيف وستسمع المناقشة من بعض المتأخرين في إثبات الكراهة فضلا عن الحرمة.

( المقام الثاني ) عدم كراهة السبع ، ولا أعرف فيه خلافا إلا من ابن سعيد في الجامع ، حيث أطلق كراهة قراءة الجنب القرآن ، وسلار في المراسم ، حيث قال : انه يندب له ان لا يقرأ القرآن ، بل قد يظهر من الغنية دعوى الإجماع عليه ، وهو الذي يقضي به الأدلة المشتملة على الأمر بقراءة الجنب ، فضلا عن عموم ما دل على أصل الأمر بقراءة القرآن ، كقوله تعالى (١) ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) وغيره كتابا وسنة مع عدم المعارض سوى الروايتين الأولتين اللتين ذكرناهما سندا للقول بالحرمة ، وهما قاصرتان عن إفادة الكراهة وان كانت مما يتسامح بها ، لمكان ظهورهما في موافقة العامة ، ومعارضتهما لفتوى أكثر الأصحاب بعدم الكراهة ، بل ظاهرهم البناء على الندبية كما هو مقتضى بعض أدلتهم ، مع ان الاستحباب مما يتسامح في دليله أيضا ،

__________________

(١) سورة المزمل ـ الآية ٢٠.

٧٠

فلا يصلحان لقطع الأصل وتقييد الأوامر بقراءة القرآن ، على انهما معارضتان بمفهوم موثقتي سماعة ، إذ ظاهرهما نفي الكراهة في هذا المقدار ، فكان القول بالكراهة حينئذ ضعيفا.

( وأما المقام الثالث ) وهو الكراهة فيما زاد فهو المشهور ، بل لا أعرف فيه خلافا سوى ما يظهر من صاحبي المدارك والحدائق من القول بعدمها ، وربما تشعر به عبارة الفقيه والهداية وكذا عن المقنع ، لمكان إطلاق نفي البأس فيها عن قراءة القرآن كله خلا العزائم ، وقد يراد منه الجواز ، فلا خلاف كما يشعر به استثناء العزائم ، وقد يشعر بعدم الكراهة أيضا عبارة العلامة في المختلف وغيرها من عبارات القدماء كالانتصار والخلاف والسرائر ، وخص ابن حمزة الكراهة بما فوق السبعين ، وظاهره نفيها فيما دون ، وكيف كان فيدل على الكراهة مضافا الى كونه فتوى المشهور ظاهر إجماع الغنية ، وموثقة سماعة المتقدمة بحمل المفهوم فيها على نفي الاذن المحمول على الكراهة بعد عدم صلاحيته للحرمة كما عرفت ، وما يقال : ان سماعة واقفي والخبر مقطوع فيه انه لا يمنع من ثبوت الكراهة بعد انجباره بفتوى الأصحاب وبإجماع الغنية ، وكذا ما في الحدائق من احتمال حمله على التقية وان لم ينقل عن العامة القول بمضمونه ، لعدم اشتراط ذلك في الحمل عليها ، وقد يستدل عليها أيضا بالروايتين السابقتين بعد تقييد النهي فيهما بذلك ، وحمله على الكراهة بمعونة ما سمعت من امتناع حمله على ظاهره.

وأشد من ذلك قراءة سبعين كما في القواعد والإرشاد وشرح الدروس والرياض ، للجمع بين موثقة سماعة المتقدمة وبين موثقته الأخرى بحمل الأولى على الكراهة والثانية على شدتها ، ولعل الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد يقضي بتخصيص الكراهة فيما زاد على السبعين كما هو الظاهر من ابن حمزة ، لكنك قد عرفت انه مخالف لفتوى المشهور بل ظاهر إجماع الغنية ، فتعين الجمع الأول حينئذ ، إلا ان الذي يظهر من كثير من الأصحاب ان ما زاد على السبع في مرتبة واحدة من الكراهة إلا من حيث‌

٧١

كثرة فعل المكروه ، لا انه كراهة مخصوصة ، ولعل ذلك منهم لعدم العمل برواية زرعة عن سماعة ، أو انهم فهموا انها رواية واحدة ، ورجحوا الأولى ، أو لغير ذلك.

بقي شي‌ء وهو انهم ذكروا كراهة ما زاد على السبع ، وظاهره عدم الكراهة فيها ، وقد عرفت ان الرواية قد دلت على الإذن بقراءة ما بينه وبين سبع ، وفي تنقيح دلالتها على ذلك تأمل ، لكن لا بأس به لمكان الفتوى به ، وهل المراد بالكراهة هنا كراهة العبادة بمعنى أقلية الثواب أو المرجوحية الصرفة؟ لا يبعد الثاني ، فإن الأول لا يرتكب إلا في الشي‌ء الذي لا يمكن ان يقع إلا عبادة ، فنلتزم حينئذ بذلك ، ودعوى أن قراءة القرآن من هذا القبيل ممنوعة ، إلا انه يظهر من الاستدلال الواقع من جملة من الأصحاب على الجواز بقوله تعالى (١) ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) ونحو ذلك قاض بالأول ، والظاهر ان المراد بالسبع آيات المتمايزات ، فلا يصدق بتكرير الآية الواحدة ، بل الظاهر عدم الكراهة في تكرير السبع أيضا ، لعدم صدق الزيادة حينئذ ، ولا فرق في الآيات بين طويلها وقصيرها. ثم ان الظاهر ان مراد المصنف بقوله : ( وأشد من ذلك قراءة سبعين ) كغيره ممن عرفت حصول الشدة ببلوغ السبعين ، فلو قرأ سبعين إلا آية بقي على المرتبة الأولى ، وتفرد المصنف بثبوت مرتبة ثالثة للكراهة ، فقال :

وما زاد أغلظ كراهية ولم أعثر على ذلك لغيره ، كما ان مدركه لا يخلو من نظر وتأمل.

ويكره للجنب أيضا مس المصحف عدا الكتابة منه بما يتحقق به مسمى المس ، أما الجواز فينبغي ان يكون مقطوعا به للأصل والاستصحاب ، مع عدم الخلاف فيه بين أصحابنا ، بل كاد ان يكون مجمعا عليه سوى ما ينقل عن المرتضى رحمه‌الله

__________________

(١) سورة المزمل ـ الآية ٢٠.

٧٢

من القول بالمنع ، لقوله تعالى (١) ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) وقول أبي الحسن عليه‌السلام (٢) في خبر إبراهيم بن عبد الحميد : « المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمس خيطه ولا تعلقه ، ان الله يقول ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) » وضعفه واضح كاستدلاله ، أما بالآية فلما عرفت من رجوع الضمير فيها الى القرآن ، وهو غير المصحف ، لأنه عبارة عن المقرو ، وهو نفس الكتابة ، ولعله بذلك يظهر أن المراد بالمصحف في الرواية أيضا ذلك ، كما يشعر به الاستدلال عليه بالآية سيما على نسخة ( ولا خطه ) أي كتابته ، فيكون عطفا تفسيريا ، ومن هنا تعجب صاحب الحدائق من ذكر بعض الأصحاب لهذه الرواية سندا للكراهة مع خروجها عن المطلوب ، سيما مع ذكرهم لها هناك سندا للمنع عن مس المحدث بالحدث الأصغر. نعم يمكن استفادة الكراهة منها بفحوى النهي عن التعليق وعن مس الخيط على النسخة الأخرى ، ولعل وجه استدلال الأصحاب بها هو شمول لفظ المصحف للكتابة وغيرها ، إلا انه لما انجبر النهي بفتوى الأصحاب بالنسبة للكتابة وجب القول بالحرمة ، ولم ينجبر بالنسبة إلى غيرها ، فوجب القول بالكراهة ، لعدم صلاحية الرواية لإثبات الحرمة لما فيها من الضعف. لا يقال : ان ذلك استعمال للنهي في حقيقته ومجازه ، لأنا نقول لو سلم لا بأس بارتكاب حمله على عموم المجاز ، إذ أقصاه انه مجاز قرينته ما سمعت ، هذا على نسخة ولا خيطه بالياء ، وأما على نسخة الخط فيحتمل ان يقال حينئذ المراد بالمصحف في الأول ما عدا الكتابة فيحمل النهي الأول على الكراهة ، والثاني على الحرمة.

والأولى الاستدلال للمرتضى رحمه‌الله بصحيح ابن مسلم (٣) قال : قال‌

__________________

(١) سورة الواقعة ـ الآية ٧٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٧.

٧٣

أبو جعفر عليه‌السلام : « الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثياب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة » إلا انه لما أعرض الأصحاب عن القول بموجبه قوي الظن بحمل الأمر فيه على الاستحباب ، سيما مع معارضة‌ الرضوي (١) المعتضد بالأصل وفتوى المشهور ، قال على ما نقل عنه : « ولا تمس القرآن إذا كنت جنبا أو على غير وضوء ، ومس الأوراق » إذ ليس الصحيح مع الإعراض أقوى من الرضوي مع الاعتضاد ، وبما سمعته مما تقدم ظهر لك وجه القول بالكراهة مع مناسبة التعظيم وفتوى المشهور ومقتضى الاحتياط ، فلا معنى للمناقشة فيها من بعض متأخري المتأخرين ، ولعل المراد بالمصحف مجموع ما بين الدفتين ، فلا تتحقق الكراهة بمس ما كتب فيه من الآية والآيتين ، لكن لا يبعد شمول الحكم لأوراق المصحف وان كانت مفردة عنه ، لمناسبة التعظيم ، فتأمل.

وكذا يكره للجنب النوم حتى يغتسل أو يتوضأ كما صرح به في المبسوط والغنية والوسيلة والجامع والنافع والمعتبر والمنتهى والتذكرة والقواعد والإرشاد والدروس وغيرها ، وعليه الإجماع في الغنية والمنتهى ، وعلماؤنا كما في المعتبر والتذكرة ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في أصل الجواز ، بل الظاهر انه مقطوع به ، فما في المهذب من النهي للجنب عن النوم حتى يتمضمض ويستنشق يراد منه الكراهة قطعا ، ويدل عليه مضافا الى ذلك‌ صحيح الأعرج (٢) قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : « ينام الرجل وهو جنب وتنام المرأة وهي جنب » ومثله غيره في الدلالة عليه ، كما انه لا ينبغي الإشكال أيضا في الكراهة ، ويدل عليه مضافا الى ما سمعت‌ صحيح عبد الله الحلبي (٣) قال : سئل الصادق عليه‌السلام « عن الرجل ينبغي له ان ينام وهو جنب؟ قال : يكره‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٧٤

ذلك حتى يتوضأ » كما انه لا ينبغي الإشكال في ارتفاع الكراهة بالوضوء على ما هو ظاهر من عرفت ممن ادعى الإجماع وغيره كالصحيح المتقدم ، إلا انه قال في كشف اللثام : « الظاهر الخفة ، لقول الصادق عليه‌السلام (١) في صحيح عبد الرحمن « عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال : ان الله يتوفى الأنفس في منامها ولا يدري ما يطرقه من البلية ، إذا فرغ فليغتسل » ويعطيه كلام النهاية والسرائر » انتهى ، واستحسنه الفاضل في الرياض ، قال : ويشعر به‌ الموثق (٢) عن سماعة « سألته عن الجنب يجنب ثم يريد النوم ، قال : من أراد ان يتوضأ فليفعل ، والغسل أفضل من ذلك ، فان نام ولم يتوضأ ولم يغتسل فليس عليه شي‌ء إن شاء الله ».

قلت : ولعل الأقوى خلافه ، لما عرفت من ظاهر الصحيح المتقدم المعتضد بفتوى الأصحاب ، وفيهم من ادعى الإجماع ، ولا ينافيه ما ذكر من قول الصادق عليه‌السلام ، إذ أقصاه استحباب تعجيل الاغتسال ، وهو لا ينافي ارتفاع الكراهة بالوضوء وان تضمن ترك مستحب ، وما استشعره الفاضل الثاني من الموثق مما أيد به ذلك لا يخلو من نظر وتأمل ، نعم قد يؤيد بالمروي في العلل كما عن‌ الصدوق عن أبي بصير (٣) عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال : « لا ينام المسلم وهو جنب ، ولا ينام إلا على طهور ، فان لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد » لعدم إخراج الوضوء له من وصف الجنابة ، لكن فيه انه يجب تقييده بما عرفت ، وأيضا قد يدخل الوضوء بما قد ذكره من الطهور ، ولذا قال الفاضل في الرياض : انه ان لم يتمكن الجنب من الطهارتين أي الغسل والوضوء أمكن استحباب التيمم ، للعموم وخصوص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٦ ـ مع اختلاف.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

٧٥

الخبر المتقدم ، فيعلم منه حينئذ فهم شمول الطهور للوضوء ، لكنه لا يخلو من إشكال ، إذ الظاهر إرادة التيمم بدل الاغتسال تمكن من الوضوء أو لا ، فلا مانع من القول بارتفاع الكراهة بأحد أمرين إما بالوضوء أو بالتيمم بدل الاغتسال.

ثم انه حيث يكون فاقدا لماء الطهارتين يتخير في نية التيمم بين كونه بدل الاغتسال أو الوضوء ، والأول أفضل ، لكون مبدله كذلك ، وربما يفهم من بعضهم تقييد الكراهة بما إذا لم يرد الجنب معاودة الجماع ، ولعله لما ذكره الصدوق رحمه‌الله بعد رواية الحلبي المتقدمة ، قال وفي حديث آخر (١) : « أنا أنام على ذلك حتى أصبح وذلك اني أريد أن أعود » وتكلف له في الحدائق ان المراد بالعود انما هو العود في الانتباه ، وانه لا يموت في تلك الليلة ، فلا كراهة بالنسبة إليه ، لأن منشأ الكراهة كما هو مقتضى صحيحة عبد الرحمن احتمال الموت ، وهو كما ترى ، بل الأولى إما حمله على الأول إلا انه يبعده إطلاق كلام الأصحاب ، أو يقال : انه لا دلالة فيه على عدم الوضوء ، فقد يكون عليه‌السلام كان يتوضأ وينام ، ولعله الأقرب ، فتأمل جيدا.

وكذا يكره للجنب الخضاب وهو ما يتلون به من حناء وغيره كما في جامع المقاصد والمدارك والرياض ، وقد يناقش في أخذ التلون في حقيقته ، نعم لا فرق في ذلك بين الكف وغيره ، وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في الجواز وعدم الحرمة ، بل عليه الإجماع في الرياض ، ويشعر به أيضا إجماع الغنية على الكراهة ، بل قد يدعي إمكان تحصيله ، فما في المهذب من النهي عنه يراد منه الكراهة قطعا ، كما يرشد اليه تعبيره عن سائر المكروهات بذلك ، ومن هنا لم ينقل عنه القول بالحرمة ، وما في عبارة المفيد في المقنعة من التعليل للحكم بالكراهة بمنع الخضاب وصول الماء الى الجسد قيل قد يشعر بالمنع أيضا ، لكن قال في المعتبر : لعله رحمه‌الله نظر الى ان اللون عرض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

٧٦

( لا ينتقل ) (١) فيلزم حصول أجزاء من الخضاب في محل اللون ليكون وجود اللون بوجودها ، إلا انها خفيفة لا تمنع الماء منعا تاما ، فكرهت لذلك ، على انه لا يلتئم على ظاهره قطعا لأنه يقتضي المنع من الجنابة بعد الخضاب ، مع تصريحه انه لا حرج في ذلك مع الأخبار (٢) الدالة على نفي البأس عن الاغتسال مع بقاء صفرة الطيب والزعفران.

وعلى كل حال فيدل على ذلك ـ مضافا الى الأصل وما سمعت ـ الأخبار المتضمنة نفي البأس عن الخضاب حال الجنابة ، كقول الصادق عليه‌السلام في خبر الحلبي (٣) : « لا بأس أن يختضب الرجل وهو جنب » لكن قيل انه في بعض نسخ الكافي ( يحتجم ) ( بدل يختضب ) فيسقط الاستدلال به حينئذ ، وخبر ابن جميلة (٤) عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام « لا بأس بأن يختضب الجنب ، ويجنب المختضب ، ويطلي بالنورة » ونحوه غيره في الدلالة على ذلك ، وأما الكراهة فقد صرح بها في المقنعة والمبسوط والغنية والوسيلة والجامع والمعتبر والنافع والمنتهى والقواعد والإرشاد والدروس والذكرى وغيرها ، بل في الغنية الإجماع عليه ، ولعله كذلك ، إذ لم أعثر على مخالف في ذلك ولا من نسب اليه سوى الصدوق رحمه‌الله ، فإنه قال : لا بأس كالروايات المتقدمة مع عدم صراحته ، لاحتمال إرادته الجواز في مقابلة احتمال المنع ، ويدل عليها ـ مضافا الى ما سمعت ـ الأخبار المشتملة على النهي عن ذلك ، كقول الصادق عليه‌السلام (٥) في خبر كردين « لا يختضب الرجل وهو جنب ، ولا يغتسل وهو مختضب » ونحوه غيره في النهي عنه ، إلا انه يجب حمله فيها على الكراهة ، لقصورها عن إفادته سندا ،

__________________

(١) في نسخة الأصل ( ينتقل ) وبهامشه ( يستقل ).

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الجنابة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١ عن أبي جميلة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

٧٧

مع معارضتها بما سمعت ، مع ان في بعضها الجواب عن ذلك بلفظ ( لا أحب ) المشعر بالكراهة ، بل روى الحر في الوسائل عن الحسن بن الفضل الطبرسي في مكارم الأخلاق نقلا من‌ كتاب اللباس للعياشي (١) عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : « يكره ان يختضب الرجل وهو جنب ، وقال : من اختضب وهو جنب أو أجنب في خضابه لم يؤمن عليه ان يصيبه الشيطان بسوء » وهي مصرحة بلفظ الكراهة حاكمة على غيرها من الروايات بمعونة ما تقدم ، وكما دلت على كراهة الخضاب للمجنب كذلك دلت على كراهة الجنابة للمختضب ، كما اشتمل غيرها على النهي عنه أيضا ، وصرح به غير واحد من الأصحاب ، فلا مانع من القول به أيضا ، لكن في بعض الأخبار ما يدل على ارتفاع الكراهة بما إذا صبر حتى أخذ الحناء مأخذه كما في‌ خبر أبي سعيد (٢) قال : قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : « أيختضب الرجل وهو جنب؟ قال : لا ، قلت : فيجنب وهو مختضب؟ قال : لا ، ثم سكت قليلا ، ثم قال : يا أبا سعيد ألا أدلك على شي‌ء تفعله ، قلت : بلى ، قال : إذا اختضبت بالحناء وأخذ الحناء مأخذه وبلغ فحينئذ فجامع » وقد تحمل عبارة المقنعة على ذلك ، فإنه قال بعد ان ذكر كراهة الاختضاب بعد الجنابة : « فإن أجنب بعد الخضاب لم يحرج ذلك » وحملها في المعتبر على وقوع الجنابة اتفاقا لا اختيارا ، وكان ما ذكرناه أولى.

وحيث فرغ المصنف من البحث في سبب الجنابة وأحكامها شرع في الغسل ، فقال :

( وأما الغسل‌ )

فواجباته المتوقف صحته عليها خمس‌ الأول النية إجماعا كما في كل عبادة سيما ما كان منها مثل الغسل ، ولا يعتبر فيها سوى القربة والتعيين مع الاشتراك على الأقوى ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

٧٨

وان كان الأحوط التعرض فيها لنية الوجه مع رفع الحدث أو الاستباحة ، بل الأحوط التعرض لهما حتى في مستدام الحدث كالمستحاضة ، وان ذكر بعض المتأخرين الاقتصار فيه على نية الاستباحة دون الرفع ، زاعما الفرق بينهما بأن الأول رفع المنع وهو ممكن ، دون الثاني فإنه رفع المانع ، ولكن نوقش فيه بأنا لا نعقل معنى للحدث سوى الحالة التي لا يسوغ معها للمكلف الدخول في العبادة ، فمتى ساغ علم الزوال وهو معنى الرفع ، غاية الأمر أن زوالها قد يكون إلى غاية كما في المتيمم ودائم الحدث ، وقد يكون مطلقا ، وفيه ان الحدث هو عبارة عن طبيعة المنع المسببة عن ذات الخارج ، فلا يتصور حينئذ تبعض رفعها في الأوقات ، إذ مع فرض وجودها في وقت آخر لم تكن الطبيعة مرفوعة ، ولا إشكال في كون المنع المتأخر مسببا عن الأول ، وإلا لزم تحقق الحدث من دون سببه ، وتخلف بعض آثار المحدث في بعض الأوقات لا ينافي تحقق طبيعة الحدث ، فتأمل جيدا. وكالمستحاضة المسلوس والمبطون بناء على فساد الغسل بتخلل الحدث الأصغر ، وانه لا فرق بينهما وبين غيرهما في ذلك ، فيجب تجديد الغسل عليهما بالنسبة الى كل صلاة.

والثاني استدامة حكمها الى آخر الغسل على ما تقدم في الوضوء من تفسيرها ودليل وجوبها وغير ذلك ، وقضية إطلاق المصنف وغيره انه يكفيه ذلك حتى لو أخل بالموالاة ، لعدم وجوبها فيه ، فلا يجب عليه تجديد نية حينئذ ، ولعله هو الأقوى ، فما عن نهاية الأحكام من إيجاب التجديد مع التأخير بما يعتد به ، وما في الذكرى من إيجاب ذلك مع طول الزمان لا يخلو من نظر وتأمل ، لعدم الدليل على وجوب الزائد على النية أو استدامتها ، ولعل مرادهما انه يجب عليه استحضار الإتمام ، فلا يكفي وقوعه منه مع الذهول عن أصل الغسل كما كان يكفي ذلك في الصلاة مثلا ، وهو كذلك فتأمل جيدا. والمراد بوجوب الاستدامة فيه انه متى وقع بعض الغسل مع عدمها يفسد‌

٧٩

ذلك لا أصل الغسل ، فيجب عليه تجديد النية حينئذ ، ثم إعادة ذلك البعض لا الاستيناف إلا ان يحصل مفسد خارجي ، وقد تقدم تحقيق كثير من هذه المباحث في الوضوء.

والثالث غسل البشرة فلا يجزي غسل غيرها عنها في غير ما استثني من الجبيرة ونحوها بما يسمى غسلا عرفا ، وان كان من الأفراد الخفية كما إذا كان مثل الدهن ، وعليه يحمل‌ خبر إسحاق بن عمار (١) عن أبي جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن عليا عليه‌السلام قال : « الغسل من الجنابة والوضوء يجزي منه ما أجزأه من الدهن الذي يبلّ الجسد » جمعا بينه وبين غيره ، كخبر زرارة (٢) عن الباقر عليه‌السلام قال : « الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه » وصحيح ابن مسلم (٣) في اغتسال الجنب « فما جرى عليه الماء فقد طهر » وغير ذلك ، على انه إن أريد بهذه الرواية وشبهها إثبات الاجتزاء بذلك وان لم يتحقق مسمى الغسل ففيه انه مناف للكتاب والسنة والإجماع محصلا ومنقولا ، بل يمكن دعوى ضرورية اعتبار الغسل في الغسل ، وان أريد إثبات كون مثل هذا الفرد من الغسل فهو ـ مع انه مما لا ينبغي ان يقع النزاع فيه ـ مناف للوجدان ، فتعين الحمل المذكور ، وقد تقدم تحقيق ذلك في الوضوء.

والرابع تخليل ما لا يصل اليه الماء إلا بتخليله مقدمة لحصول غسل البشرة المدلول على وجوب غسلها نفسها في الغسل بالسنة والإجماع المحصل والمنقول مستفيضا ، بل كاد يكون متواترا ، فلا يجتزى بغسل الشعر مثلا عنها كما في الوضوء ، من غير فرق بين الكثيف والخفيف ، والمراد جميع أجزاء البشرة على التحقيق لا التسامح العرفي ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٥ لكن رواه عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٨٠