جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من قبيل الأسباب أو الأحكام.

ومنه ينقدح الإشكال حينئذ في وطء المجنون والمجنونة وإنزالهما ، ولعل التأمل في الأدلة يشرف الفقيه على القطع بكونه من قبيل الأسباب ، سيما في مثل الانزال من المجنون ، وكيف مع ورود‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : ( انما الماء من الماء ) وقوله عليه‌السلام (٢) : ( فأما المني فهو الذي يسترخي له العظام ، ويفتر منه الجسد ، وفيه الغسل ) وقوله عليه‌السلام (٣) بالنسبة إلى الوطء في دبر المرأة : ( هو أحد المأتيين ، فيه الغسل ) وقوله عليه‌السلام (٤) : « إذا وقع الختان على الختان فقد وجب الغسل » ونحو ذلك ، وما يقال : ان ظاهر الأدلة انها من التكاليف لمكان اشتمالها على الأمر ولفظ الوجوب ونحوهما التي هي من أحكام المكلف مع ظهور كون حصولها عند حصول السبب ، ولا يتم ذلك كله إلا في المكلف يدفعه انا نقول بمقتضى ظاهرها من الوجوب ونحوه ، أقصى ما هنالك انه غير مخاطب به في ذلك الوقت ، وتخلف مقتضى السبب لفقد شرط أو وجود مانع لا ينافي السببية شرعا ، فيكون من قبيل وطء الحائض ونحوه ، على انه لا ينبغي التأمل في شمول الخطابات المذكورة له حال البلوغ ، فيدخل تحت‌ قوله عليه‌السلام : « إذا التقى الختانان وجب الغسل ) ودعوى ان المراد من المكلفين تقييد للأدلة من غير مقيد ، كدعوى ان المراد وجوب الغسل في وقت الالتقاء ، فحيث لا يحصل وجوب في ذلك الوقت لم يكن الخطاب شاملا ، وهو بديهي البطلان ، والحاصل ان معنى قوله عليه‌السلام : ( إذا التقى ) الى آخره التقاء الختانين موجب للغسل ، ولا ريب في شمول ذلك لما نحن فيه.

__________________

(١) كنز العمال ـ المجلد ٥ ـ ص ٩٠ ـ الرقم ١٩١٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

٤١

لا يقال : انه لا إشكال ولا نزاع في جريان أحكام الجنب عليه بعد البلوغ مثلا ، إنما الإشكال قبله ، لأنا نقول انه لا وجه لذلك ، إذ جريان الأحكام عليه بعد البلوغ انما هو لحصول وصف الجنابة ، والاتصاف بالجنابة غير موقوف على تحقق البلوغ ، وإلا لم يكن سبب الجنابة الانزال والجماع ، بل هو مع البلوغ ، وهو خلاف ظاهر النص والفتوى ، وبذلك كله تعرف انه لا وجه لما يقال : انه لا أقل من الشك في ان الانزال والجماع سبب للجنابة مطلقا ، أو هو بشرط البلوغ ، أو انه ليس من باب الأسباب أصلا ، بل من قبيل الأحكام ، والأصل براءة الذمة مما عرفته من انقطاع ذلك بظاهر النص والفتوى ، ثم انه قال في الذكرى : « وفي استباحة ما ذكر من الأحكام بغسله الآن وجهان ، وكذا في اكتفائه به لو بلغ ، والأقرب تجديده » انتهى. قلت : لا ينبغي الإشكال في صحة غسله واكتفائه بعد البلوغ به بناء على ان عبادة الصبي شرعية ، نعم يتجه الوجهان بناء على كونها تمرينية ، فإنه يحتمل جريان أحكام البالغ على غسله مثلا ، ويحتمل العدم ، ولعله الأقوى ، كما انه لا ينبغي الإشكال في وجوب تجديده لو بلغ ، لعدم رفع الحدث بالغسل الأول بعد كونه تمرينيا ، فلا يكون قوله الأقرب في محله ، ولعله بناه على الشرعية ، فإن له وجها بناء على كون المراد بالشرعية انه يستحب تشبهه بالبالغ لا انه تجري عليه الأحكام ، ولذا يجب عليه إعادة الصلاة لو بلغ في الوقت ، ولعل الأقوى خلافه ، وفرق بين المثال وما نحن فيه ، هذا كله في السبب.

وأما الحكم فيحرم عليه قراءة كل واحد من سور العزائم كما في المعتبر والمراسم وغيرهما ، وكثير من الأصحاب عبر بلفظ العزائم من دون ذكر لفظ السورة كما في الهداية وجمل الشيخ ومبسوطة والوسيلة والسرائر والنافع والمنتهى والتذكرة والقواعد والإرشاد والذكرى والدروس وغيرها ، والظاهر ان مراد الجميع سور العزائم كما يشعر به قوله جملة منهم ، وأبعاضها لظهور إرادة أبعاض السورة لا آيات العزائم ، بل في‌

٤٢

الهداية وهي الم السجدة وحم السجدة إلى آخرها ، وفي التذكرة وهي أربع ، سورة سجدة لقمان وحم السجدة إلى آخرها وفي مجمع البحرين : « وعزائم السجود فرائضه التي فرض سبحانه وتعالى السجود فيها ، وهي الم تنزيل وحم السجدة والنجم واقرأ كذا في المغرب نقلا عنه ، وهو المروي أيضا » انتهى. ولعله بما سمعته منه يظهر ان مراد المرتضى في الانتصار ذلك أيضا لتعبيره بعزائم السجود ، على ان في آخر كلامه ما يشعر بإرادة السور أيضا ، وأما ما في الغنية ويحرم عليه قراءة العزائم الأربع سجدة لقمان وحم السجدة والنجم واقرأ الى ان قال : كل ذلك بدليل الإجماع المشار اليه فلعل مراده السور أيضا ، ومثله العلامة في المنتهى ، مع انه قال فيه : يتناول التحريم السورة وأبعاضها ، فيكون كاشفا عن إرادته بالأول السورة ، وكذلك الشيخ في الخلاف سور العزائم التي هي سجدة لقمان وحم السجدة والنجم واقرأ ، فإن ذكره أولا السورة قرينة على المطلوب ، وكذا الجامع لابن سعيد ، فإنه قال : وعزائم القرآن وهن أربع ، سجدة لقمان وحم السجدة والنجم واقرأ ، وكيف كان فلا ريب ان الذي يظهر للمتأمل من كلمات الأصحاب ان مراد الجميع انما هو السور لا نفس الآيات ، ومن هنا نقل الإجماع على السور في المعتبر والتذكرة والروض ، وفي المدارك ان الأصحاب قاطعون بتحريم السور كلها ، ونقلوا عليه الإجماع ، انتهى. ونسب بعضهم نقل الإجماع على ذلك الى جماعة.

وكذا يحرم قراءة بعضها كما في المنتهى والقواعد والإرشاد والذكرى والدروس والروض وغيرها ، بل في الذكرى والروض الإجماع عليه ، بل قد يستظهر الإجماع من كل من حكاه على حرمة قراءة السورة ، إذ الظاهر عدم إرادة شرطية الإتمام للسورة ، ولا فرق في الحرمة بين سائر الأبعاض حتى البسملة إذا نوى بها إحداها كما في القواعد وغيرها ، بل في الروض الإجماع عليه ، بل على لفظة ( بسم ) أيضا ، ولعله أخذه من الإجماع المتقدم على حرمة البعض ، لأن البسملة بعد‌

٤٣

القصد تكون جزء من السورة عندنا ، وجزؤها جزء أيضا ، فلا إشكال في الحكم هنا بالنظر الى كلمات الأصحاب وإجماعاتهم ، نعم قد استشكله بعض متأخري المتأخرين بالنظر الى الأخبار ، إذ الوارد فيه‌ موثق زرارة ومحمد بن مسلم (١) عن الباقر عليه‌السلام « الحائض والجنب يقرءان شيئا؟ قال : نعم ما شاءا إلا السجدة » ونحوه حسنته أو صحيحته أيضا قال : وهما مع قصور سندهما لا دلالة فيهما على تحريم ما عدا نفس السجدة ، فتكون الحرمة مختصة بها ، وفي كشف اللثام « ان ذلك محتمل الانتصار والإصباح والفقيه والمقنع والهداية والغنية وجمل الشيخ ومبسوطة ومصباحه ومختصره والوسيلة » انتهى. قلت : قد عرفت منشأ الاحتمال من التعبير بلفظ العزائم ونحوه ، لكن قد ظهر لك ان المراد خلافه بقرينة الإجماعات المتقدمة ، وأما ما ذكره في الروايات من الطعن في السند فالظاهر خلافه كما هو واضح لمن لاحظ أسانيدها ، مع انه نقل عن‌ الصدوق في علل الشرائع انه روى في الصحيح (٢) عن زرارة قال : قلت : « فهل يقرءان من القرآن شيئا » الى آخره ، وبعد التسليم فهو منجبر بما سمعت ، كما ان ما ذكروه بالنسبة للمتن كذلك ، مع ان الظاهر خلافه أيضا ، وذلك لأنه لا بد من تقدير مضاف ، إذ لا يراد السجدة التي هي وضع الجبهة قطعا ، وهو إما أن يكون لفظ السورة أو الآية ، ولعل الأول أولى ، لاشتهار التعبير عن السور بنحو ذلك من الألفاظ المشهورة كالبقرة وآل عمران والأنعام والرحمن ، مع انه الموافق لفهم الأصحاب والإجماعات المتقدمة ، ويشهد له أيضا ما في المعتبر ، حيث قال : « يجوز للحائض والجنب ان يقرءا ما شاءا من القرآن إلا سور العزائم الأربع ، وهي اقرأ والنجم وتنزيل السجدة وحم السجدة » ، روى ذلك البزنطي في جامعه عن المثنى عن الحسن الصيقل (٣) عن أبي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤ ـ ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١١.

٤٤

عبد الله عليه‌السلام ، وهو مذهب فقهائنا أجمع » انتهى. وما عن الفقه الرضوي (١) إلا سور العزائم وعددها ، فلا ينبغي الإشكال في الحكم المذكور من هذه ، نعم لولا الإجماع المتقدم على حرمة البعض لأمكن تخصيص التحريم بقراءة السورة خاصة لا البعض ، لكون السورة اسما للمجموع ، وبقراءة البعض لا يتحقق الصدق ، سيما إذا كان المقصود من أول الأمر البعض ، والظاهر صدق قراءة البعض على الكلمات ، وأما الحروف فوجهان ، سيما إذا كان المقصد من أول الأمر ذكر بعض الحروف لإتمام الكلمة ، ولعل التفصيل بذلك ـ فيقتصر في الحرمة على ما إذا ذكر بعض الحروف بنية الإتمام ثم قطع ، دون ما إذا كان قصده من أول الأمر البعض من الكلمة الخاصة ـ لا يخلو من قرب ، لعدم صدق اسم القراءة عرفا ، ويستفاد من تقييد المصنف حرمة البسملة بما إذا نواها منها عدم الحرمة إذا نوى خلاف ذلك ، أو لم ينو كسائر الألفاظ المشتركة بين العزائم وغيرها ، وهو كذلك ، وبه يظهر الفرق بين المختص والمشترك ، ولو قرأ لفظة زاعما انها من المشترك ثم في أثنائها علم انها من المختص فهل له إتمامها لأن الباقي يكون حينئذ من البعض الذي ذكرنا جوازه أو لا؟ وجهان ، أقواهما الثاني.

ومن جملة أحكامه انه يحرم عليه المس بما يتحقق فيه صدق اسم مس كتابة القرآن بلا خلاف أجده فيه ، سوى ما نقل عن ابن الجنيد من الحكم بالكراهة ، مع احتمال إرادته منها الحرمة ، ولذا أو لعدم الاعتناء بخلافه نقل الإجماع عليه جماعة منهم الشيخ في خلافه ، والسيد ابن زهرة في الغنية ، والمصنف في المعتبر ، والعلامة في المنتهى والتذكرة ، والشهيد في الروض ، بل في المعتبر والمنتهى نسبته الى علماء الإسلام ، ومع استثناء داود في التذكرة ، وما في المدارك من نسبة الكراهة إلى الشيخ في المبسوط لعله سهو ، إذ الموجود فيما حضرني من نسخته الحكم بالحرمة ، وكذا ما نقله المقداد عن القاضي ، إذ المنقول لنا من عبارة المهذب صريح في الحرمة ، اللهم إلا ان يكون‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٤٥

في غيره ، لكنه لم ينقل عنه أحد غيره ذلك ، ويدل عليه مضافا الى ما سمعت جميع ما تقدم في حرمة المس مع الحدث الأصغر من الكتاب والسنة ، فلاحظ وتأمل ، لتعرف ذلك وتعرف كثيرا من الأبحاث السابقة مما يتعلق بالمس وبكتابة القرآن وغيرهما ، وكذا ما تقدم بالنسبة إلى وجوب منع الصبي ونحوه عن المس مع الجنابة ، فإن فيه قولين أيضا كما هناك ، والدليل الدليل ، والترجيح الترجيح ، فتأمل جيدا.

أو شي‌ء عليه اسم الله سبحانه كما في المبسوط والغنية والمراسم والوسيلة والمهذب والسرائر والجامع والمعتبر والمنتهى والإرشاد والقواعد والتذكرة والتحرير والذكرى والدروس وغيرها ، بل لا أجد فيه خلافا سوى ما يظهر من بعض متأخري المتأخرين ممن لا يقدح خلافه في تحصيل الإجماع ، ولذا حكاه عليه في الغنية ، ونسبه في المنتهى وغيره إلى الأصحاب مشعرا بدعواه أيضا ، وعن نهاية الأحكام نفي الخلاف فيه ، ويدل عليه مضافا الى ذلك‌ موثقة عمار بن موسى (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله » ويؤيده مع ذلك انه المناسب للتعظيم ، وما يقال ـ : من الطعن في الرواية ومعارضتها بما رواه المحقق نقلا عن كتاب‌ الحسن بن محبوب عن أبي الربيع (٢) عن الصادق عليه‌السلام « في الجنب يمس الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله (ص) قال : لا بأس به ، ربما فعلت ذلك » وبموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٣) قال : سألته « عن الجنب والطامث يمسان بأيديهما الدراهم البيض ، قال : لا بأس » وبما في المعتبر نقلا من‌ جامع البزنطي عن محمد بن مسلم (٤) عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته « هل يمس الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب؟ فقال : والله اني لأوتى بالدرهم وآخذه وإني جنب ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

٤٦

وما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا إلا ان عبد الله بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا ، يقول : جعلوا سورة من القرآن في الدرهم ، فيعطي الزانية وفي الخمر ويوضع على لحم الخنزير » ومن انه لا دليل على وجوب التعظيم فلذا كان الحكم بالكراهة متجها عند بعض المتأخرين ـ مما لا ينبغي ان يصغى اليه ، أما الطعن فهو على تقدير تسليمه منجبر بما عرفت من الإجماع المنقول الذي يشهد له التتبع لفتاوى الأصحاب ، وبه يتضح عدم مقاومة الرواية الأولى لها ، على انها غير صريحة في الدلالة على مس الاسم ، وكونه فيها أعم من ذلك ، مع عدم الجابر لدلالتها ، وأما ما سمعته من المنقول عن جامع البزنطي فهو مع ابتنائه على معروفية نقش الدرهم الأبيض بلفظ الجلالة لا صراحة فيه في المطلوب ، إذ أخذه أعم من ذلك ، وأما ما في ذيله فهو ـ مع دلالته على جواز مس كتابة القرآن المنقوشة على الدرهم ، وقد عرفت في السابق ما يدل على فساده ـ محتمل لكونه من غير الامام عليه‌السلام ولأمور أخر ، بل ينبغي القطع بذلك عند التأمل ، وأما ما ذكره من عدم وجوب التعظيم فهو مسلم ان أريد به زيادة التعظيم ، وكذا يمكن تسليمه في التعظيم الذي لا يكون تركه تحقيرا ، وأما التعظيم الذي يكون تركه تحقيرا فلا ينبغي الإشكال في وجوبه ، بل لعله من ضروريات المذهب بل الدين ، ولعل ما نحن فيه فمن هذا القبيل ، وان كان ليس لأهل العرف نصيب في معرفة التحقير بالنسبة للجنابة ونحوها ، إلا انهم يحكمون بذلك من جهة مؤانسة الشرع ، كمنعه من دخول المساجد ومس كتابة القرآن ونحوهما ، على انه يمكن دعوى وجوب التعظيم الذي لا يكون تركه تحقيرا من قوله تعالى (١) ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) نعم أقصى ما يسلم من عدم وجوبه انما هو زيادة التعظيم كوضع القرآن مثلا في أعلى الأماكن وأرفعها ونحو ذلك ، لأصالة البراءة وقضاء السيرة به ، مع عدم تناهي أفراد زيادة التعظيم فتأمل ،

__________________

(١) سورة الحج ـ الآية ٣٣.

٤٧

وهل يختص الحكم بلفظ ( الله ) خاصة كما في الموجز الحاوي ، ومحتمل بل ظاهر عبارة المصنف وكل من عبر بتعبيره ، سيما إذا قلنا ان المتبادر الإضافة البيانية وكذلك الرواية ، أو يجري الحكم في كل اسم من أسمائه ، كما لعله الظاهر من الغنية والوسيلة والجامع ، لقوله في الأول أو اسم من أسماء الله تعالى ، وفي الثاني كل كتابة معظمة من أسماء الله ، والثالث كل كتابة فيها من أسماء الله ، ومحتمل عبارة المصنف ونحوها على جعل الإضافة لامية ، أو يختص الحكم بلفظ الجلالة وما يجري مجراه بالاختصاص به تعالى كالرحمان؟ وجوه ، ولعل التعظيم وإجماع الغنية والاحتياط تؤيد الأوسط.

والأولى حينئذ إلحاق سائر الأعلام في سائر اللغات ، كما قيل ان الأولى تعميم المنع لما جعل جزء اسم كما في عبد الله للاحتياط ، وقصد الواضع اسمه تعالى عند الوضع ، واحتمال عموم النص والفتوى ، وخصوصا مع بيانية الإضافة ، مع احتمال العدم ، بل لعله الأقوى للأصل والخروج عن اسمه بالجزئية.

ثم ان ظاهر عبارة المصنف وما ماثلها بل الرواية أيضا يعطي تحريم مس الشي‌ء الذي عليه الإسلام وان لم يمس نفس النقش ، لكن ينبغي القطع بعدم إرادته ، إذ لا يحرم مس اللوح العظيم مثلا إذا كان مكتوبا في أحد نواحيه لفظ الجلالة ، كما يشعر به بل يدل عليه إطلاق جواز مس أوراق القرآن من دون مس الكتابة ، ولذا صرح جماعة بأن المراد بما عليه في النص والفتوى نفس النقش ، وظاهر المصنف وغيره وصريح بعض الأصحاب اختصاص الحكم باسم الله دون أسماء الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام للأصل السالم عن المعارض ، ولعل الأولى الإلحاق ، كما في المبسوط والغنية والوسيلة والمهذب والسرائر والجامع والإرشاد والذكرى والدروس واللمعة وجامع المقاصد والروضة ، مع التقييد في الأخير بمقصودية الكاتب ، وحكاه في كشف اللثام عن المقنع وجمل الشيخ ومصباحه ومختصره والإصباح وأحكام الراوندي والتبصرة ، ونسبه في جامع المقاصد‌

٤٨

إلى الأكثر وكبراء الأصحاب ، وفي الغنية الإجماع عليه ، وهو الحجة ، مضافا الى ما سمعته من دعوى تعارف نقش اسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الدرهم ، فيدل عليه حينئذ الموثقة ، ويتم بعدم القول بالفصل ، وان كان في ذلك ما فيه ، ضرورة عدم اقتضاء تعارف نقشه حرمة مسه بعد اقتصار الموثق على لفظ الجلالة ، والى انه المناسب للتعظيم ، لكن الأولى قصر الحكم بما قيده به في الروضة ، فلا يجري الحكم بالنسبة للأسماء المتعارفة الآن عند الناس وان كان المقصود التشرف بها ، مع احتمال التعميم كما يقتضيه إطلاق الباقين وجعله كاسم الله.

ويحرم على الجنب أيضا الجلوس في المساجد كما في السرائر والقواعد ، ولعل مرادهم بالجلوس اللبث والمكث فيها ، فيكون عين ما في الخلاف والمنتهى والإرشاد والذكرى والدروس ، بل عن سائر كتبه وجامع المقاصد ، بل عن سائر تعليقاته ، وفي المنتهى انه لا نعرف فيه خلافا إلا من سلار ، وفي غيره انه أطبق عليه الأصحاب عدا سلار ، ولعل ذلك يكون قرينة على كون المراد باللبث والمكث مطلق الدخول عدا الاجتياز حتى يكون موافقا لما في الفقيه والمقنع والهداية ولما في المبسوط والغنية والوسيلة والجامع والمعتبر والنافع ، لقولهم فيها : انه يحرم دخول المساجد إلا اجتيازا ، وان أبيت تنزيل الكلمة على ذلك كان الأقوى الأخير ، فيحرم الدخول مطلقا إلا ما استثني للإجماع في الغنية ، بل لعله ظاهر الخلاف أيضا ، وقوله تعالى (١) ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) لظهور ان المراد بالنسبة للجنب مواضع الصلاة بقرينة قوله تعالى ( إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ).

وما يقال : من احتمال ان يراد بعبور السبيل السفر فيكون المعنى لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا في السفر ، فان لكم ذلك مع التيمم ففي غاية الضعف ، لمخالفة الظاهر‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ـ ٤٦.

٤٩

من الآية ، خصوصا والتيمم سيأتي ذكره بقوله تعالى (١) بعد هذه الآية ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ) الى آخره. على ان ذلك غير خاص بالسفر أيضا ، بل الحضر كذلك مع عدم التمكن من الاستعمال ، ومع ذلك كله مخالف لما جاء عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام في تفسيرها ، ففي مجمع البيان ان المروي (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام ( ان المراد لا تقربوا مواضع الصلاة ) ويقرب منه المرسل (٣) عن علي بن إبراهيم في تفسيره ، لا يقال : انه لا يحرم على السكران القرب الى المساجد من حيث كونها مساجد ، لأنا نقول قد يكون المراد من الصلاة نفسها بالنسبة إلى السكران والى الجنب مواضعها على طريق الاستخدام أو غيره ، على ان ذلك اجتهاد في مقابلة النص.

ومما يدل على أصل الدعوى وعلى المراد في الآية‌ قول الباقر عليه‌السلام في صحيح زرارة وابن مسلم (٤) قالا : قلنا له عليه‌السلام : « الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال : الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين ، ان الله تبارك وتعالى يقول ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) » وللمروي (٥) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدة من الأخبار « ان الله كره لي ست خصال ، وكرهتهن للأوصياء من ولدي وأتباعهم من بعدي ، ـ وعد منها ـ إتيان المساجد جنبا » فان الظاهر ان المراد بالكراهة الحرمة بقرينة غيره من الأخبار ، ويمكن الاستدلال عليه بما ورد (٦) في عدة من الروايات « عن الجنب يجلس في المساجد ، قال : لا ، ولكن يمر فيها » فان الاستدراك ظاهر في حرمة ما عدا المستدرك ، والحاصل ان الظاهر من‌

__________________

(١) سورة النساء ـ الآية ٤٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٩ و ١٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث (٢) و (٥) و (٦).

٥٠

ملاحظة الأدلة حرمة الدخول مطلقا إلا للاجتياز وغيره مما دل عليه الدليل ، فيحرم حينئذ الدخول لا بعنوان الاجتياز ولا المكث ، واحتمال القول ان المحرم انما هو المكث واللبث ، فيحل غيره قد عرفت فساده ، وان الظاهر من الأدلة ان المحلل الاجتياز خاصة والأخذ منها كما ستعرف ، وكيف كان فما في المراسم من انه يندب للجنب ان لا يقرب المساجد إلا عابري سبيل ضعيف جدا مخالف للكتاب والسنة والإجماع المنقول ، بل قد يدعى تحصيله ، لعدم قدح خلافه في ذلك ، ولعل مستنده‌ خبر محمد بن القاسم (١) قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن الجنب ينام في المسجد ، فقال : يتوضأ ولا بأس ان ينام في المسجد ويمر فيه » وهو مع موافقته للتقية ومخالفته للكتاب قاصر عن مقاومة غيره من الأدلة من وجوه عديدة ، على انه لا دلالة فيه ، نعم قد يظهر من الصدوق العمل به ، قال بعد ان ذكر ان الجنب والحائض لا يجوز أن يدخلا المسجد إلا مجتازين : « ولا بأس ان يختضب الجنب ، ويجنب وهو مختضب ـ الى ان قال ـ : وينام في المسجد ويمر فيه ، ويجنب أول الليلة وينام الى آخره » انتهى. وهو مع عدم انطباقه على تمام مدلول الرواية لعدم ذكر الوضوء ضعيف ، كسابقه لما سمعت ، مع احتمال تأويل عبارته بما يرجع الى الأصحاب وإن بعد.

وإذ قد عرفت ان المحلل الاجتياز خاصة فلا ريب في الرجوع الى تحقيق معناه الى العرف كما هو الشأن في غيره من الألفاظ ، قيل وهل يدخل فيه التردد في جوانبها والمشي من غير مكث ولا جلوس؟ ربما ظهر من بعضهم ذلك ، قلت : لا ينبغي الإشكال في عدم صدق اسم الاجتياز عليه ، ولعل القائل بجوازه منشأه ان المحرم اللبث والمكث لا غير الاجتياز ، وهذا ليس لبثا ، وفيه ما عرفت سابقا من ظهور الأدلة في حرمة ما عدا الاجتياز ، على انا نمنع عدم صدق اسم اللبث والمكث‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٨.

٥١

عليه ، إذ لا يراد منه السكون وعدم الحركة كما هو واضح ، وما يقال : من التمسك على جوازه بخبر جميل (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « الجنب ان يمشي في المساجد كلها ، ولا يجلس فيها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ضعيف ، لما فيه من الطعن في السند أولا ، وعدم صلاحيته لمعارضة ما سمعت من الأدلة ثانيا ، فلا بأس بحمل المشي فيها على المشي الاجتيازي ، على انه من قبيل المطلق.

وهل يشترط في الاجتياز الدخول من باب والخروج من أخرى ، فلا يشمل الدخول والخروج من باب واحدة أو لا يشترط؟ وجهان ، أقواهما الأول ، ولا أقل من الشك ، وقد عرفت عموم الأدلة لمنع ما عدا الاجتياز ، فيدخل المشكوك تحت العموم ، فتأمل. وليعلم انه نقل عن جماعة إلحاق الضرائح المقدسة والمشاهد المشرفة بالمساجد ، ونقله الشهيد في الذكرى عن المفيد في العزية ، وابن الجنيد واستحسنه ، وربما نقله بعضهم عن الشهيد الثاني ، ومال اليه بعض المتأخرين من أصحابنا ، ولا يخلو من قوة ، لتحقق معنى المسجدية فيها وزيادة ، وللتعظيم ، ولما يظهر من عدة روايات (٢) من النهي عن دخول الجنب بيوتهم في حال الحياة ، وحرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء ، بل قد يظهر من ملاحظتها المنع من الدخول فضلا عن المكث ، واحتمال حملها على الكراهة مناف للأمر في بعضها بالقيام والاغتسال ، وللنهي في آخر ، بل في المنقول‌ عن الكشي (٣) عن بكير قال : « لقيت أبا بصير المرادي فقال أين تريد قلت : أريد مولاك ، قال أنا أتبعك ، فمضى فدخلنا عليه عليه‌السلام وأحد النظر اليه ، وقال : هكذا تدخل بيوت الأنبياء وأنت جنب ، فقال : أعوذ بالله من غضب الله وغضبك ، وقال : أستغفر الله ولا أعود » ما هو كالصريح في الحرمة ، واشتمال بعضها على لفظ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ـ ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ـ ٥.

٥٢

( لا ينبغي ) ليس صريحا في الكراهة ، على انه قد يكون قال له الامام عليه‌السلام لا ينبغي لأن دخوله كان لتعلم العلم ونحوه من غير مكث.

لكن هل يلحق بالجنب الحائض والنفساء؟ إشكال. ولعل التعظيم واشتمالها على ما في المسجد يؤيد الأول ، سيما مع اشتراك الحائض مع الجنب في كثير من الأحكام ، ويحتمل العدم لحرمة القياس ، بل لعله مع الفارق ، بل قيل ان الظاهر ان الحائض والنفساء ربما كن يدخلن بيوتهم للسؤال عن المشكلات التي ترد عليهن ، والله أعلم. وهل يقتصر في الحكم حينئذ على نفس الروضة المقدسة أو يلحق بها الرواق ونحوه؟ وجهان ، أقواهما الأول.

ويحرم على الجنب أيضا وضع شي‌ء فيها أي المساجد كما في الفقيه والمبسوط والجمل والعقود والغنية والوسيلة والمهذب والسرائر والجامع والمعتبر والنافع والمنتهى والإرشاد والقواعد والمختلف والذكرى والدروس واللمعة والروضة وغيرها من كتب المتأخرين ، بل عليه الإجماع في الغنية كما عن جماعة الإجماع عليه مما عدا سلار ، بل في المنتهى انه مذهب علماء الإسلام عدا سلار ، وظاهر الجميع كون الوضع محرما لنفسه ، بل صرح بعضهم انه يحرم عليه حتى لو طرح فيه من خارج المسجد ، ولعل المستند في ذلك مضافا الى ما تقدم ما عن العلل من‌ صحيح زرارة ومحمد بن مسلم (١) من قوله عليه‌السلام « في الجنب والحائض : يأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا ، قال زرارة : قلت : فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه ، قال : لأنهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلا منه ، ويقدران على وضع ما بيديهما في غيره » وصحيح عبد الله بن سنان (٢) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه ، قال : نعم ، ولكن لا يضعان في المسجد شيئا » فما في المراسم من أنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٥٣

يندب أن لا يضع ضعيف ، وظاهر الصحيحين جواز الأخذ منها كما هو ظاهر الأصحاب بلا خلاف أعرفه فيه ، بل في المنتهى انه مذهب علماء الإسلام ، وفي غيره انه المجمع عليه ، بل ظاهر إطلاق النص والفتوى انه يجوز له ذلك وان استلزم لبثا طويلا ، وما عساه يظهر ـ من بعضهم ان المراد بجواز الأخذ من حيث كونه أخذا في مقابلة الوضع ، وإلا فلا يحل لأجله ما كان محرما سابقا كاللبث فيما عدا المسجدين والجواز فيهما ، بل هما باقيان على حرمتهما وان حل الأخذ ـ مخالف لظاهر النص والفتوى ، فتأمل.

والذي يقوى في ذهن القاصر أن حرمة الوضع ليست لكونه وضعا ، بل المراد حرمة الدخول للوضع كما يشعر به ذكره في مقابلة جواز الأخذ منها ، إذ من المعلوم ان المراد الدخول إليه للأخذ منه ، ويشعر به أيضا التعليل المتقدم في الرواية ، وربما يشير اليه استدلال المصنف في المعتبر ، ونحوه العلامة في بعض كتبه على حرمة الوضع بقوله تعالى ( وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ) وليس له وجه يحمل عليه سوى ان يكون المراد منه أن المفهوم من الآية انه لا يجوز الدخول للمساجد لغرض من الأغراض إلا لغرض الاجتياز ، فيبقى حرمة الدخول للوضع مشمولا للآية ، ومن هنا قال ابن فهد في المقتصر : « انه لو وضع فيه شيئا من خارج المسجد حل له قطعا ، وقال قبل ذلك : ان المراد بالوضع الوضع المستلزم للدخول واللبث لا أن الرخصة في الاجتياز خاصة ، فلا يباح الدخول لغير غرض الاجتياز » انتهى. وهو عين ما ذكرنا ، وما أورد عليه بعض المتأخرين من انه قول بعدم حرمة الوضع ، لكون اللبث محرما في نفسه وضع أو لم يضع ففيه ان ذلك لا يصح للإيراد به عليه ، بل هو بيان لكلامه ، فان مراده من حرمة الوضع حرمة الدخول للوضع ، وإلا فلو لم يدخل أو دخل بعنوان الاجتياز أو الأخذ فلا يحرم عليه الوضع ، وهو متجه مؤيد بالأصول السالمة عن المعارض سوى ما عرفت ، وهو لا ظهور فيه ، وبكثير من الوجوه الاعتبارية ، نعم الإنصاف ان عبارات كثير من الأصحاب تأبى‌

٥٤

التنزيل على هذا ، فتأمل ، وطريق الاحتياط غير خفي‌

ويحرم على الجنب أيضا الجواز في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة كما هو خيرة الغنية والوسيلة والمهذب والسرائر والجامع والمعتبر والمنتهى والقواعد والإرشاد والتذكرة والذكرى وغيرها ، بل لا أجد فيه خلافا صريحا بل عليه الإجماع في الغنية والمدارك ، ونسبه في التذكرة إلى علمائنا ، ولعل ذلك يكون قرينة على عدم ظهور الخلاف من المفيد وسلار والشيخ في الجمل ، كما عن الاقتصاد والمصباح ومختصره والكيدري وان أطلقوا جواز الاجتياز في المساجد ، فيكون مرادهم في غير المسجدين ، وما نقله في كشف اللثام عن ظاهر المبسوط بالكراهة لم نتحققه ، بل لعل الظاهر منه القول بالحرمة فيه ، قال : « والمكروهات الأكل والشرب ـ الى ان قال ـ : والمسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدخلهما على حال ، فان كان في واحد منهما فأصابه احتلام خرج منهما بعد ان تيمم من موضعه ، ويكره مس المصحف » فان مقتضى عدم عطفه له على المكروهات بل ذكر النهي عنه بالخصوص الحرمة كما هو واضح.

وكيف كان فيدل عليه مضافا الى ذلك المعتبرة المستفيضة المشتملة على الرخصة في الاجتياز فيما عدا المسجدين المعتضدة بإطلاق النهي عن المرور في غيرها ، وبذلك كله يقيد إطلاق الآية وغيرها الدالة على جواز الاجتياز في سائر المساجد ، ثم ان ظاهر بعض الأدلة المتقدمة وغيرها كقول الباقر عليه‌السلام (١) في خبر أبي حمزة الثمالي في حديث : « ان الله أوحى الى نبيه ان طهر مسجدك ـ الى ان قال ـ : ولا يمر فيه جنب » وقول الصادق (٢) عليه‌السلام في الحسن : « للجنب ان يمشي في المساجد كلها ولا يجلس فيها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » عدم جواز مطلق الدخول للمسجدين سواء كان للاجتياز أو لأخذ المتاع ، ومن هنا قال في الغنية :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

٥٥

انه ليس له دخولهما على حال الى ان قال : كل ذلك بدليل الإجماع ، فما يقال ـ : ان إطلاق الأصحاب بجواز الأخذ من المساجد شامل للمسجدين ، وتنصيصهم على حرمة الاجتياز لا يقضي بحرمته ـ ضعيف ، لظهور ان تنصيص الأصحاب على ذلك إنما هو لمكان كون الاجتياز مما لا إشكال في حليته بالنسبة إلى سائر المساجد ، والأخذ وان كان كذلك لكنه ليس بتلك المكانة من الوضوح ، فأرادوا التنصيص على حرمة واضح الحلية بالنسبة إلى غيرهما ، ليستفاد غيره بالأولى ، سيما بعد اشتمال الروايات عليه ، وأيضا قد عرفت ان ابن زهرة قال : لا يجوز دخولهما على حال كابن إدريس في السرائر وكذا ابن فهد في موجزه ، وأصرح منه عبارة ابن البراج في المهذب ، فإنها كالصريحة في عدم جواز الدخول للأخذ ، ونحوها عبارة المصنف في المعتبر ، وما عساه يقال ـ : ان ما دل على جواز الأخذ شامل بإطلاقه المسجدين ، كما ان النهي عن المرور في المسجدين والمشي ونحوهما أيضا شامل للدخول للأخذ وغيره ، فيكون التعارض بينهما تعارض العموم من وجه ، مع ترجيح الأول بأصالة براءة الذمة ونحوها ـ مدفوع بأنه لو سلم ذلك لكان الترجيح للثانية ، لصراحتها وكثرتها ، مع اعتضادها بإجماع الغنية ومناسبة التعظيم ، بل قد يشعر حرمة الاجتياز فيهما بحرمة غيره بطريق أولى ، على انه ما دل على الأخذ إنما سبق لبيان مطلق جواز الأخذ ، لا انه مساق لبيان جواز الأخذ من سائر المساجد ، كما لا يخفى على من لاحظها.

ولو أجنب فيهما كما في الجامع والقواعد لم يقطعهما إلا بالتيمم وظاهر الثلاثة عدم الفرق بين ان تكون الجنابة فيه بالاحتلام أو غيره ، بل قد يظهر من الإرشاد والدروس والبيان وعن موضع من التذكرة تعميم الحكم للمجنب خارج المسجد إذا دخل اليه عمدا أو سهوا ، كما هو نص الشهيد في الذكرى ، لكن ظاهر الهداية والفقيه والمبسوط والسرائر والمعتبر والنافع والمنتهى والتحرير الاقتصار على الاحتلام خاصة ،

٥٦

واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا ، وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في وجوب التيمم بالنسبة للمحتلم في المسجد ، لما تسمعه من الصحيح المعتضد بالعمل ، بل في ظاهر المعتبر والمنتهى الإجماع عليه ، خلافا لابن حمزة من القول بالاستحباب ، وهو مع خلوه عن المستند عدا الأصل الذي لا يصلح لمعارضة ما ذكرنا ضعيف ، ومن هنا نسبه في المعتبر والمنتهى الى علمائنا من غير إشارة إلى خلاف.

نعم وقع ما سمعت من الاختلاف في عبارات الأصحاب ، فمنها في الجنب في المسجد احتلاما أو غيره ، ومنها مطلق الجنب ولو في خارج المسجد ، ومنها خصوص الاحتلام ، ولعل مستند ( الأول ) ـ بعد الفاء الفارق بين الاحتلام في المسجد والجنابة فيه ـ صحيح أبي حمزة (١) على ما رواه المحقق في المعتبر قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « إذا كان الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحتلم أو أصابته جنابة فليتيمم ، ولا يمر في المسجد إلا متيمما » والمعروف من روايته في كتب الأخبار وغيرها ( فأصابته جنابة ) فيخرج حينئذ عن الاستدلال به لذلك ، على انه أيضا لا يشمل جميع صور الدعوى بناء على ما هو الظاهر منه من عطفه على قوله ( فاحتلم ) إذ لا يشمل حينئذ الجنابة في حال اليقظة ، إلا ان روايته بأو أوفق بصحة المعنى من الفاء ، فتأمل. ولعل مستند ( الثاني ) ـ بعد عدم تعقل الفرق بين الأفراد كلها أي الاحتلام وغيره في المسجد أو خارجه ، بل قد يكون الضمير في قوله : ( ولا يمر ) راجعا الى الجنب المستفاد من قوله عليه‌السلام : ( فأصابته جنابة ) لا إلى المحتلم ـ ان التيمم للخروج على وفق القاعدة ، فلا فرق حينئذ ، وذلك لمكان الإجماع على الظاهر ، والاخبار على حرمة المرور والمشي للجنب في المسجدين ، وقد علم من خارج عموم بدلية التراب عن الماء ، فيجب عليه حينئذ التيمم بدلا عنه للخروج ، كما إذا اضطر الى دخولهما ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

٥٧

ولعل مستند ( الثالث ) الجمود على ظاهر النص ، بناء على المعروف من روايته ، وما يقال : من عدم تعقل الفرق فيه انه لو سلم فعدمه بالنسبة إلينا لا يدل على نفيه في الواقع ، ودعوى الوصول الى حد القطع ممنوعة كل المنع ، وكذا ما قيل من الموافقة للقاعدة المتقدمة ، إذ نمنع كون مقتضاها ذلك ، لمكان تعارض حرمة اللبث مع حرمة المرور ، وترجيح الثانية على الأولى ترجيح من غير مرجح ، سيما مع زيادة زمان اللبث على زمن الخروج ، بل الظاهر إبقاء الحرمتين في الداخل عمدا ، فيكون كالداخل في الدار المغصوبة ، نعم إذا أمكن التيمم من غير لبث اتجه القول بوجوبه ، لما تقدم.

ومما يرشد الى عدم كونه موافقا للقاعدة أيضا انه لو كان كذلك لوجب القول بوجوب التيمم على الجنب في سائر المساجد ، بناء على ان الخروج منه أو الدخول ثم الخروج من باب واحد لا يدخل تحت مسمى الاجتياز ، فيكون قطعه حينئذ محرما على الجنب ، فيجب التيمم حينئذ له ، فلو دخل فيه مثلا جنب عمدا أو سهوا ثم أراد الخروج منه كان الواجب عليه حينئذ التيمم ، مع ان المصرح به في كلام بعضهم بل هو قضية كلام الجميع بل كاد يكون مقطوعا به عدم الوجوب ، بل عدم المشروعية عدا الشهيد رحمه‌الله فإنه ذكر استحباب التيمم للمحتلم في غير المسجدين للخروج معللا ذلك بكونه أقرب حينئذ إلى الطاهر ، وأنكر عليه بعض من تأخر عنه مشروعيته فضلا عن استحبابه ، وهو كذلك ، اللهم إلا ان يقال : ان عدم ذكرهم لإيجاب التيمم لعله من جهة البناء منهم على ان المحرم في سائر المساجد اللبث والمكث ، لا ان المحلل الاجتياز خاصة ، فيكون الخروج ليس بمحرم ، فلا يجب التيمم له ، نعم لو احتاج الجنب إلى المكث في المسجد وجب عليه التيمم من غير إشكال ، فيكون المكث في سائر المساجد كالاجتياز بالنسبة للمسجدين ، لكن قد عرفت فيما تقدم ان الذي تقتضيه الأدلة من الآية وغيرها حرمة ما عدا الاجتياز ، فيتعين عدم ذكرهم الإيجاب للوجه الأول ، وهو عدم الوجوب.

٥٨

ومما يرشد أيضا الى عدم كون التيمم موافقا للقاعدة إطلاق النص والفتوى بوجوبه من غير تقييد بما إذا لم يتمكن من الاغتسال ، مع انه لا إشكال في اشتراط التيمم الذي هو على وفق القاعدة بعدم التمكن من الطهارة المائية ، بل صرح بعضهم هنا بوجوب التيمم سواء تمكن من الاغتسال أو لا بزمان مساو للتيمم أو أقصر أو لا ، كما انه صرح بعضهم ان هذا الموضع أي الخروج من المسجدين مما يختص به وجوب التيمم عن الاغتسال ، نعم ربما ظهر من الشهيد رحمه‌الله فقط القول بوجوب الاغتسال بشرط مساواة زمانه لزمن التيمم أو أقصر ، وربما تبعه عليه بعض من تأخر عنه معللا ذلك بأن فيه جمعا بين ما دل على وجوب التيمم هنا وبين ما دل على اشتراطه بعدم الماء ، مع ان إطلاق الحكم بوجوب التيمم في الرواية مبني على الغالب من عدم التمكن من الاغتسال بدون تلويث للمسجد في النجاسة ، سيما مع كون مورد الخبر المحتلم ، أو على الغالب من زيادة زمان الغسل على زمن التيمم ، وربما يؤيده معروفية كون التيمم طهارة اضطرارية لا ترتكب إلا مع فقد الماء حتى صار ذلك أصلا بالنسبة للتيمم ، فيكون الإطلاق حينئذ منزلا على القيد المعلوم ، وأيضا لا يتصور مانع من جواز الغسل سوى استلزامه للمكث المحرم ، وهو إذا جاز للتيمم مع عدم إذهابه لحدث الجنابة فليجز بالنسبة للغسل بطريق أولى ، بل هو الموافق لقوله عليه‌السلام : ( ولا يمر فيه جنب ).

وفيه ـ بعد تسليم عموم الأدلة الدالة على اشتراط كل تيمم بعدم الماء ـ انه ينبغي القول حينئذ بوجوب الغسل طال زمانه على زمن التيمم أو قصر ، والاعتذار عن ذلك بعدم وجود القائل به ضعيف ، إذ كما انه لم يقل أحد قبل هذا القائل بوجوب الاغتسال مع طوله على زمان التيمم كذلك لم يقل أحد به مع قصره ، لإطلاق الأصحاب وجوب التيمم ، وتنزيله كالرواية على الغالب يقضي بوجوب الاغتسال وان طال ، بل المتجه‌

٥٩

حينئذ وجوبه وان توقف على مقدمات بعيدة ، كاستيجار شخص مثلا للإتيان بالماء من خارج المسجد وإتيان الماء لإزالة النجاسة حيث يكون محتاجا لذلك على قياس غيره من التيممات ، وفورية الخروج لا ينافي الاشتغال بمقدمات ما توقف الخروج عليه ، كما لو فرض احتياج التيمم الى مقدمات من إتيان التراب ونحوه وان بلغ في زيادة المكث على زمن الخروج ، والظاهر انه لا يقول بذلك أحد ، بل كان الاحتياج الى التيمم حينئذ من النادر الذي لا ينبغي ان يؤمر به على الإطلاق ، وأيضا إيجاب التيمم مع طول زمان الغسل قاض بتحكيم الرواية على ما دل على اشتراط التيمم بفقدان الماء ، وحيث تحكم فلتحكم بإطلاقها الشامل لطول الزمان وقصره ، لكونها من قبيل الخاص بالنسبة إلى ذلك العام ، وإلا فتحكيمها بالنسبة الى بعض مدلولاتها من دون دلالة دليل على ذلك لا وجه له ، على انه بعد التسليم المتقدم يكون التعارض بينها وبين غيرها من العمومات تعارض العموم من وجه ، ولا ريب في الترجيح لها ، لمكان اعتضادها بفتوى الأصحاب وأقلية أفرادها ، بل قد يدعى ان الفهم العرفي قاض بتحكيمها على العمومات كالخاص بالنسبة للعام ، كما يظهر لك من ملاحظة قولنا مثلا يجب التيمم عند فقد الماء وقولنا المحتلم في المسجد يتيمم ويخرج ، فإنه لا ريب في ان الفهم العرفي يحكم الثاني على الأول ، فيكون المعنى إلا الجنب في المسجد ، سيما واشتراط فقدان الماء في التيمم صار من قبيل الأصول والقواعد التي يكفي في الخروج عنها رائحة الدليل ، كما في التيمم للنوم ونحوه ، وأيضا فإن أقصى ما يسلم من الاشتراط المذكور انما هو في التيمم الذي يكون بدلا عن الماء ، والكلام فيما نحن فيه انه منه أولا ، ودعوى ان الأصل في التيمم ذلك لو سلم يجب الخروج عنه بإطلاق الدليل.

بل في‌ مقطوعة أبي حمزة (١) المروية في الكافي بالمتن المتقدم في الصحيحة الأولى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

٦٠