جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بل في بعضها الدلالة على المختار ، وأما ما ذكر أخيرا من دعوى إصلاح جميع ذلك مما في السند والدلالة بالشهرة العظيمة ففيه أما أولا فبإمكان معارضته بالشهرة المتأخرة من زمن المصنف الى زماننا هذا ، وأما ثانيا فبمنع الشهرة المذكورة ، إذ كثير من الأصحاب عبر كعبارة المصنف إذا فعلت المستحاضة كانت بحكم الطاهر ، وهي مع تسليم إرادة المفهوم منها على الوجه الذي يزيده الخصم فلا يقتضي إلا أنها مع الإخلال لا تكون بحكم الطاهر ، وهذا لا يستلزم حرمة الوطء ، لعدم اشتراط الطهارة فيه ، وجملة منها ( إنما لا يحرم عليها شي‌ء مما يحرم على الحائض إذا فعلت ما وجب عليها ) وهو أيضا مع تسليم ان المفهوم فيها انها ان لم تفعل حرم عليها سائر ما يحرم على الحائض لا يقضي بحرمة الوطء إلا مع تقييد الحائض في المفهوم بوجود الدم ، نعم وقعت بعض عبارات من بعضهم ظاهرها ذلك ، لكنه ينبغي القطع بعدم إرادتهم شرطية وضوءات الصغرى وتغيير القطنة أو الخرقة أو الاستثفار أو نحو ذلك ، اللهم إلا أن يريدوا ما ستسمعه قريبا من ان أفعال المستحاضة إنما غايتها الصلاة ويباح الوطء حينئذ تبعا ، وإلا فلا يراد فعل هذه الأمور ابتداء للوطء ، فتأمل جيدا. ولو سلم فدعوى وصول هؤلاء إلى الشهرة العظيمة في ذلك لم نتحققها ، بل لعل المتحقق عندنا عدمها ، وكيف كان فمن أعطى النظر حقه في المقام علم أن القول بمدخلية سائر أفعال المستحاضة صغرى كانت أو غيرها في جواز الوطء في غاية البعد. نعم قد يقال ذلك بالنسبة إلى خصوص الأغسال ، لكن الأقوى ما تقدم ، والاحتياط لا ينبغي تركه ، بل لعل الأحوط أيضا غسل جديد لخصوص الوطء ، وأما الكراهة فيعرف وجهها مما سمعت من الأخبار ، كاستحباب الغسل المستقل للوطء ، بل مع الوضوء ، وقد يؤيد ان شاء الله فيما يأتي من الزمان في كتابة رسالة مستقلة في المسألة تشتمل على عبارات الأصحاب وبيان ما يفهم من كل واحدة منها مع الإحاطة بجميع أطراف المسألة ، وفيها فوائد مهمة ربما تسمع الإشارة إلى بعضها ، نسأل الله التوفيق.

٣٦١

ثم ان العلامة الطباطبائي بعد ان ذكر نص العلامة وغيره من الأصحاب على نحو عبارة المصنف من ان المستحاضة إذا أتت بالأفعال كانت بحكم الطاهر قال : « وقضية ذلك عدم وجوب تجديد الوضوء والغسل لغير الصلاة من الغايات كالطواف والمس ودخول المساجد وقراءة العزائم ونحوها ، ويظهر ما قلناه من كلامهم في الصوم والوطء ، وينبغي القطع به على القول بجواز فصل العمل عن الوضوء والغسل ، ومن البعيد وجوب إعادة الغسل عليها لصلاة الطواف بعد الغسل للطواف ، ومن المعلوم عدم وجوب استقلال دخول المساجد بغسل غير غسل الطواف ، وكلام الأصحاب غير محرر في هذا المقام فتدبر » انتهى. قلت : لا ينبغي الإشكال في ظهور عبارات الأصحاب بعدم وجوب تجديد شي‌ء من ذلك عليها بعد فرض محافظتها على ما وجب عليها من الأفعال للصلاة ، لأنها تكون حينئذ بحكم الطاهر من هذا الدم ، فلا يؤثر استمراره أثرا ، نعم تحتاج الى الوضوء أو الغسل مع عروض أسباب أخر موجبة لهما من الجنابة والبول ونحوهما ، إنما الإشكال في أن صيرورتها بمنزلة الطاهر من حدث هذا الدم موقوفة على تلك الأفعال للصلاة خاصة ، فلا يشرع حينئذ فعلها تلك الأفعال مستقلة لغير الصلاة ، ولا تفيدها طهارة بالنسبة اليه ولا الى غيره قد يشعر تصفح عباراتهم في المقام وفي توقف الصوم على ذلك بأن طهارتها واستباحتها لتلك الغايات تابع للأفعال الصلاتية ، نعم قد يلحق بالصلاة الطواف لكونه صلاة ، وللأخبار (١) الواردة به في نفاس أسماء بنت عميس.

وعلى هذا فلو استحاضت المرأة في غير وقت الصلاة لم يكن لها استباحة شي‌ء من الغايات التي تتوقف على رفعه قبل أن يدخل وقت الصلاة ، فتعمل ما عليها من الأعمال ثم تستبيح بذلك غيرها ، ولا يجزئها الاغتسال أو الوضوء قبل ذلك لتلك الغاية مثلا ، وقد يرشد إليه زيادة على ما يظهر من مطاوي كلماتهم خصوصا في توقف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٦ و ١١ و ١٩.

٣٦٢

الصوم والوطء عدم ذكر جملة منهم ما يتوقف على أغسال المستحاضة ووضوءاتها في غايات الوضوء والغسل ، ولعله لما ذكرنا ، إذ ليست حينئذ هي غايات مستقلة تشرع الأفعال لها ابتداء ، بل هي أمور تابعة لتكليفها الصلاتي ، فتكون حينئذ من قبيل الأحكام لها ، لكن الجرأة على الجزم بذلك اعتمادا على مثل هذه الاشعارات لا يخلو من إشكال ونظر إلا انه يرتفع الاشكال بناء عليه في منافاة حكمهم بكون المستحاضة بحكم الطاهر مع الأفعال لما تقدم من أن المشهور عندهم عدم جواز الفصل بين الوضوء أو الغسل عن الصلاة ، معللين ذلك بما يظهر منه انه مع التأخير ينقض الوضوء والغسل ، مع إمكان رفعه أيضا بوجه آخر ، وهو أن صيرورتها بحكم الطاهر مع الأفعال لا ينافي إيجاب معاقبة الصلاة للفعلين تمسكا بما يظهر من الأخبار (١) من الاغتسال مثلا عند الصلاة ، فحينئذ يتجه وجوب إعادة الأفعال للصلاة مع الفصل وان جوزنا استباحة غيرها من الغايات بذلك الغسل مثلا ، ولا بعد في كون هذه الطهارة كالمنقوضة بالنسبة إلى الصلاة دون غيرها ، ويتجه بناء على هذا الأخير انه يجوز فعل هذه الأفعال ابتدءا لغير الصلاة من الغايات ، فتستباح حينئذ بها وإن أخلت بها للصلاة ، لكن هل تكون بمنزلة الطاهر بالنسبة إلى سائر الغايات غير الصلاة ، أو يقتصر على خصوص تلك الغاية التي فعلت الأفعال لها اقتصارا على المتيقن؟ لا يبعد الأول ، كل ذلك في كلمات الأصحاب غير محرر ، وعباراتهم كتعليلاتهم في مقامات متعددة مضطربة ، إلا أن الذي يمكن تحصيله من مجموعها ما تقدم سابقا من أن المراد أن فعلها للأفعال المذكورة انما هو للصلاة ، ويباح الوطء حينئذ وغيره تبعا لها ، بناء على اشتراطها بها فلا يستبعد حينئذ دعوى توقف جواز الوطء مثلا على تغيير القطنة أو الخرقة أو نحو ذلك ، لكون المراد به بالنسبة للصلاة لا له ، فتأمل جيدا كي يظهر لك الحال في ذلك وفي حكمها بالنسبة إلى صلاة النوافل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٥ و ٩ و ١١.

٣٦٣

والقضاء والتحمل ونحو ذلك من الصلوات ، ولعل قضية قولهم : إنها مع الأفعال تكون بحكم الطاهر جواز ذلك كله من دون تجديد لغسل أو وضوء ، اللهم إلا أن يفرق بين الصلاة وغيرها من الغايات لما تقدم من الأخبار (١) الآمرة بالوضوء مثلا عند كل صلاة ، وفي شمولها لمثل المقام نظر.

وكيف كان فلا إشكال في أنها ان أخلت بشي‌ء من ذلك الذي قد أثبتنا سابقا وجوبه عليها لم تصح صلاتها فيجب عليها الإعادة أو القضاء للأدلة المتقدمة الظاهرة في الوجوب الشرطي ، وما في‌ مكاتبة ابن مهزيار (٢) الآتية من أنها « تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة » شاذ معرض عنه بين الأصحاب أو محمول على ما لا ينافي ذلك وكذا لا إشكال في الجملة في أنها ان أخلت بالأغسال اللازمة عليها لم يصح صومها من غير خلاف أجده فيه ، بل في جامع المقاصد وعن حواشي التحرير ومنهج السداد والطالبية والروض الإجماع عليه ، مع التصريح في الأول بعدم الفرق بين حالتي الوسطى والعليا كالمحكي عن غيره ، فما في البيان وعن الجعفرية والجامع من التقييد بالكثيرة شاذ أو محمول على ما يقابل القلة ، مع ان الموجود في الأخير في المقام على ما حضرني من نسخته لا تقييد فيه ، ويدل على أصل الحكم ـ مضافا الى ما تقدم والى الشغل في وجه ـ صحيح ابن مهزيار قال : « كتبت إليه امرأة طهرت من حيضها أو نفاسها من أول شهر رمضان ، ثم استحاضت وصلت وصامت شهر رمضان من غير ان تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكل صلاتين ، فهل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟ فكتب تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر فاطمة عليها‌السلام والمؤمنات من نسائه بذلك ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١ و ٦ و ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٧.

٣٦٤

والمناقشة فيها ـ بالإضمار أولا ، وباشتمالها على ما لا يقول به الأصحاب من عدم قضاء الصلاة ثانيا ، وبمخالفتها للأخبار (١) المعتبرة الدالة على أن فاطمة عليها‌السلام لم تكن تر من ذلك شيئا ثالثا ـ مدفوعة بما مر غير مرة من عدم قدح الأول في الأخبار سيما في المقام ، ومن أن خروج بعض الخبر عن الحجية لا يخرجها تماما عنها ، إذ هو بمنزلة أخبار متعددة ، فلا يبعد وهم الراوي في بعض دون بعض ، سيما في مثل الكتابة التي هي مظنة ذلك ، فلا حاجة حينئذ إلى ارتكاب التكليفات البعيدة والتمحلات التي ليست بسديدة في علاج ذلك ، كما وقع من بعضهم مع عدم صحة بعضها ، فتأمل. وباحتمال أن المراد بفاطمة انما هي فاطمة بنت أبي جيش ، لأنها التي كانت كثيرة الاستحاضة فتسأل عنها ، أو أن المراد انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر فاطمة عليها‌السلام ان تأمر المؤمنات ، كما عساه يظهر من صحيح زرارة (٢) الوارد في قضاء الحائض للصوم دون الصلاة ، هذا مع ان المروي (٣) عن الفقيه والعلل خال عن ذكر فاطمة ، بل فيه ( لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر المؤمنات من نسائه بذلك ) فلا وجه للتوقف في هذا الحكم من نحو هذه المناقشات في الرواية ، كما وقع لسيد المدارك قائلا انه قد يظهر التوقف من الشيخ في المبسوط في هذا الحكم حيث أسنده إلى رواية الأصحاب ، وهو في محله ، إذ قد عرفت انه في غير محله بعد ما سمعت من اتفاق الأصحاب على ان ما استظهر من الشيخ لتلك العبارة محل منع ، سيما بعد ملاحظة طريقته وطريقة مشاركيه من العاملين بأخبار الآحاد حيث يسندون الحكم إلى رواية الأصحاب مع عدم التعرض لطعن أو قدح انه في غاية الاعتماد عندهم ، بل ذلك من الشيخ مؤيد للمختار لكونه أما رواية مستقلة أو إشارة إلى الصحيحة المتقدمة ، وعلى‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣ و ٤ و ١٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٧.

٣٦٥

كل حال فالتأييد به متجه.

ثم ان ظاهر المصنف بل كاد يكون صريحه كظاهر غيره انما هو توقف الصوم على خصوص الأغسال ، لكن قد يظهر من السرائر كما عن صوم النهاية والمبسوط توقفه على غيره أيضا من أفعالها ، لتعليق الفساد فيها على الإخلال بما عليها ، فيشمل حينئذ الوضوء وتغيير القطنة والخرقة ، وكذا يظهر من طهارة المبسوط توقفه على الأغسال وتجديد الوضوء ناسبا للقضاء مع الإخلال بذلك إلى رواية أصحابنا ، ولعله للإشعار في سؤال الرواية السابقة بأن المدار على أفعال المستحاضة وان اقتصر على ذكر جمع الصلاتين بغسل واحد ، والأقوى الأول. وعلى كل حال فهل تتوقف صحة الصوم على الأغسال النهارية خاصة ، أو هي مع الليلة السابقة خاصة ، أو اللاحقة خاصة ، أو الليلتين ، أو الفجر خاصة؟ أوجه ، أجودها الأول ، وأضعفها الأخير ، بل لم أعرف به قائلا على البت ، نعم نقل عن العلامة في نهاية الأحكام أنه احتمله ، ثم دونه في الضعف ما قبله من الوجهين ، لمكان اعتبار غسل الليلة المستقبلة ، وقد قطع جماعة بعدم اعتباره لمكان سبق انعقاد الصوم ، وهو كذلك ، وان أمكن تجشم توجيهه مع تأييده بإطلاقهم فساد الصوم باخلالها بالغسل ، نعم قد يتجه ثانيهما كالسابق على أولهما باعتبار الليلة الماضية ، إلا انه لا دليل عليه أيضا مع الاجتزاء بما في النهار عنه ، وعن الروض انه فصل بتقديم غسل الفجر ليلا وعدمه ، فاجتزى بالأول عن غسل العشاءين دون الثاني ، فيبطل الصوم حينئذ لو أخرته الى الفجر هنا ، وان لم يبطل لو لم يكن غيره ، والأقوى عدم التوقف على غير الأغسال النهارية ، كما ان الأقوى أيضا عدم وجوب تقديم غسل الفجر عليه وفاقا لظاهر المعظم وصريح البعض ، لتبعية حصوله للصوم لحصوله للصلاة ، إذ لم يثبت اشتراط الزيادة على ذلك ، كما تشعر به الصحيحة السابقة ككلمات الأصحاب ، وخلافا لما عن الذكرى ومعالم الدين من إيجاب التقديم ، لكونه حدثا‌

٣٦٦

له مدخلية في صحة الصوم ، فيجب تقدمه كالحائض المنقطع دمها قبل الفجر ، ويدفعه منع التلازم بين المدخلية المذكورة ووجوب التقديم إذ لا إشكال في توقفه على غسل الظهرين مع عدم تصور تقديمه ، وبذلك يمتاز حكم هذا الحدث عن حدث الحيض ، وقد تقدم في مبحث الغايات ما له نفع تام في المقام ، ويأتي إن شاء الله في باب الصوم ما هو كذلك.

( الفصل الرابع ) من الفصول الخمسة.

( في النفاس )

( النفاس ) بالكسر لغة ولادة المرأة إذا وضعت ، فهي نفساء على ما في الصحاح والقاموس ومجمع البحرين ، وعن الغريبين يقال : نفست المرأة بضم النون وفتحها وفي الحيض بالفتح لا غير كما قيل ، فهي نفساء ، والجمع نفاس بكسر النون مثل عشراء وعشار ، ولا ثالث لهما كما في الصحاح والقاموس ، ويجمع أيضا على نفساوات من تنفس الرحم أو من النفس بمعنى الولد أو بمعنى الدم ، لمكان استلزام خروج الدم غالبا ، ولعله أولى من سابقيه ، بل عن المطرزي ان اشتقاقه من تنفس الرحم أو خروج النفس بمعنى الولد ليس بذاك ، ولذا كان في عرف الفقهاء على ما نص عليه غير واحد من الأصحاب وان كان في إثبات كونه كذلك شرعا نظر ، يقال لدم يقذفه الرحم بسبب الولادة في أيام مخصوصة ، ومن هنا كانت الولادة من غير دم وان خرج الولد تاما ليست بنفاس إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا حد الاستفاضة ، بل لعله متواتر ، وبه يخرج عن الأخبار بناء على شمولها لمثله ، لمكان بقائه على اللغوي ، مع إمكان المناقشة فيه ولو قلنا بذلك ، لكونها منصرفة إلى غيره من الأفراد الغالبة المتبادرة كما عساه يلوح من تصفحها ، خصوصا صحيح ابن يقطين (١) الآتي أيضا لا أقل من الشك ، فيقتصر فيما خرج عن الأصل على اليقين ، فما عن الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى الروايتين عنه مما يخالف ذلك ليس في محله.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٦.

٣٦٧

وليس لقليله حد إجماعا محصلا ومنقولا في الغنية والخلاف والمعتبر والمنتهى والذكرى والروض وغيرها ، مضافا الى الأصل فيجوز ان يكون لحظة واحدة ففي‌ الخبر (١) « عن النفساء كم حد نفاسها حتى يجب عليها الصلاة؟ وكيف تصنع؟ فقال : ليس لها حد » والمراد في جانب القلة للإجماع والنصوص (٢) في ثبوت التحديد في طرف الكثرة وفي‌ صحيح ابن يقطين (٣) عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام في النفساء « كم يجب عليها الصلاة؟ قال : تدع ما دامت ترى الدم العبيط » فيدخل فيه ما لو لم تر إلا لحظة ، كما انه قد يشعر بما تقدم آنفا من انه لو ولدت ولم تر دما في الأيام التي يحكم به لو وجد فيها لم يكن لها نفاس بلا خلاف وان كان الولد تاما كما مر بيانه ودليله. وكذا لو رأت دما قبل تحقق الولادة بأن لم يبرز شي‌ء من الولد فإنه ليس بنفاس بلا خلاف كما في الخلاف ، وإجماعا كما في المدارك والرياض ، وهو الحجة بعد الأصل والنصوص ، ففي‌ موثق عمار (٤) المروي في الكافي عن الصادق عليه‌السلام « في المرأة يصيبها الطلق أياما أو يوما أو يومين فترى الصفرة أو دما ، قال : تصلي ما لم تلد » وكذا رواه الصدوق بإسناده إلى عمار (٥) مع تغيير يسير ، وخبر زريق بن الزبير الخرقاني (٦) المروي عن مجالس الشيخ قال : « سأل رجل الصادق عليه‌السلام عن امرأة حامل رأت الدم ، فقال : تدع الصلاة ، قال : فإنها رأت الدم وقد أصابها الطلق فرأته وهي تمخض ، قال : تصلي حتى يخرج رأس الصبي ، فإذا خرج رأسه لم يجب عليها الصلاة ، وكل ما تركته من الصلاة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١٧.

٣٦٨

في تلك الحال لوجع أو لما هي فيه من الشدة والجهد قضته إذا خرجت من نفاسها ، قال : جعلت فداك ما الفرق بين دم الحامل ودم المخاض؟ قال : ان الحامل قذفت بدم الحيض وهذه قذفت بدم المخاض الى أن يخرج بعض الولد ، فعند ذلك يصير دم النفاس ، فيجب ان تدع في النفاس والحيض ، فأما ما لم يكن حيضا ونفاسا فإنما ذلك من فتق الرحم » فلا إشكال حينئذ في كونه ليس بنفاس.

لكنه هل هو استحاضة أو حيض مع إمكانه؟ أطلق المصنف فقال كان طهرا وهو متجه بناء على مختاره من عدم مجامعة الحيض الحمل ، كالذي في الخلاف الدم الذي يخرج قبل الولادة ليس بحيض عندنا ، الى ان قال : دليلنا إجماع الفرقة على ان الحامل المستبين حملها لا تحيض ، وكذا يتجه بناء على المختار أيضا من جواز الاجتماع إذا لم يمكن الحكم بحيضيته كما إذا فقد التوالي ثلاثة أيام أو لم يتخلل بينه وبين النفاس أقل الطهر بناء على اشتراط ذلك فيهما كما بين الحيضتين ، لكون النفاس دم حيض احتبس للحمل ، ولما دل (١) على مساواة حكم النفاس للحيض ، ولخبري زريق وعمار المتقدمين ، ولما دل (٢) على ان أدنى الطهر عشرة ، ولإطلاق الأخبار (٣) والفتاوى بأن دمها إذا جاوز أكثر النفاس حكم بالاستحاضة ، ولو جازت معاقبة الحيض النفاس من غير تخلل أقل الطهر حكم بالحيضية إذا أمكنت خصوصا إذا صادف العادة ، وعن الخلاف نفي الخلاف عن اشتراط تخلل أقل الطهر بين الحيض والنفاس ، فما عساه يظهر من المنتهى ـ كالمنقول عن النهاية وظاهر التذكرة واختاره في المدارك من عدم اشتراط ذلك ، فيحكم بحيضية ما قبل الولادة وان لم يتخلل نقاء أقل الطهر ، لأن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١ و ٧ و ١١.

٣٦٩

نقصان الطهر انما يؤثر فيما بعده لا فيما قبله ، وهنا لم يؤثر فيما بعده ، لأن ما بعد الولد نفاس إجماعا ، فأولى ان لا يؤثر فيما قبله ، فيمنع حينئذ اشتراط طهر كامل بين الدمين مطلقا ، بل بين الحيضتين ـ ضعيف لما عرفت ، ولا فرق فيما ذكرنا من الحكم بالاستحاضة بين ما كان الحكم بالحيضية مستلزما لأقلية الطهر من عشرة وبين ما لا يكون كذلك ، كما لو كان الدم المرئي قبل الولادة متصلا بها ، مع عدم المنافاة بين حيضيته ونفاسية ما بعده ، كما لو رأت ثلاثة أيام متوالية قبل الولادة ثم ولدت ورأت دم النفاس وانقطع في اليوم الخامس ، واحتمال الحكم هنا بالحيضية لعدم استلزامه صيرورة الطهر أقل من عشرة ولا غير ذلك مما ينافيها ممكن ، إذ ليس في الأدلة ما يدل على وجوب تخلل أقل الطهر بين الحيض والنفاس ، بل أقصاها كون الطهر لا يقصر عن عشرة ، نعم حيث كان النفاس حيضا احتبس اعتبر فيه ان لا يتجاوز هو مع سابقه العشرة ، أما مع التجاوز فلا بد من الحكم باستحاضة السابق ، لكون ما بعد الولادة نفاسا إجماعا حتى تنتهي الأيام التي يمكن فيها النفاسية ، وقد تحمل بعض عبارات من لم يشترط تخلل النقاء على هذا ، لا الحكم بطهرية النقاء المتخلل وان قصر عن العشرة ، بل المراد انه لا مانع من تعقب النفاس للحيض من دون تخلل نقاء ، لكن الظاهر من ملاحظة كلام من تعرض لذلك عدم الفرق بين الصورتين أي صورة الاتصال وعدمه ، كما لعله الأقوى ، ولذا نقل عن العلامة انه قال : « ولو رأت الحامل الدم على عادتها وولدت على الاتصال من غير تخلل نقاء أصلا فالوجهان » انتهى.

قلت : ولعله لكون النفاس عندهم بمنزلة حيضة مستقلة لا مدخلية لها بالحيضة الأولى ، ابتداؤها من حين رؤية الدم بعد الولادة ، فيجب حينئذ ان يتخلل بين الحيضة الأولى وبين النفاس أقل طهر ، وإلا لزم جواز تعاقب الحيضتين من دون تخلل الطهر ، مضافا الى ما سمعته من الأخبار المتقدمة ، لظهورها في استحاضة الدم المتصل بدم النفاس ،

٣٧٠

ولو أمكن القول باستحاضة دم الطلق على كل حال لكان وجها لما تقدم ، خصوصا خبر زريق ، إلا أنه لم أره لأحد ، ولعله لندرة تحقق الطلق مع اجتماع شرائط الحيض من التوالي وتخلل النقاء ، إذ الغالب وجود الطلق قبل الولادة بيوم أو يومين ونحوهما ، فمن هنا حكم باستحاضته ، هذا كله في المرئي قبل الولادة ، أما ما كان بعدها فلا إشكال في نفاسيته إجماعا ونصوصا (١) وأما المصاحب لها فالمشهور نقلا وتحصيلا انه كذلك ، بل لعله لا خلاف كما يشعر به قوله في الخلاف ( عندنا ) لاحتمال تنزيل ما في الوسيلة والجامع كالمنقول عن كافي أبي الصلاح ومصباح المرتضى من أن الدم الذي تراه المرأة عقيب الولادة على إرادة خروج جزء من الولد أو على الغالب أو غيره كبعض الأخبار المعلقة للنفاس على الولادة ، منها ما تقدم في موثق عمار ( انها تصلي ما لم تلد ) وذلك لضعفها عن مقاومة خبر زريق المتقدم المعتضد بالشهرة العظيمة بل بظاهر إجماع الخلاف كخبر السكوني (٢) عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كان الله ليجعل حيضا مع حبل ، يعني إذا رأت المرأة الدم وهي حامل لا تترك الصلاة إلا أن ترى على رأس الولد إذا أخذها الطلق ورأت الدم تركت الصلاة » بناء على أن ( يعني ) من كلام المعصوم (ع) كما هو الظاهر ، وبدونه فهو مؤيد لما قلنا وان لم يكن حجة ، هذا. واستدل جماعة من الأصحاب على المختار مضافا الى ذلك بتناول اسم النفاس له ، إذ هو دم خرج بسبب الولادة ، فيشمله إطلاق النصوص ، وفيه نظر واضح يعرف مما تقدم سابقا في معنى النفاس ، إلا أن الأمر سهل.

ثم انه لا إشكال في تحقق النفاس مع صدق اسم الولادة سواء كان المولود تاما أو ناقصا ولو سقطا ، أما ما كان مثل المضغة فالمعروف بين الأصحاب بل لم أجد فيه خلافا انها كذلك ، بل في التذكرة الإجماع عليه ، قال فيها : « فلو ولدت مضغة أو علقة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب النفاس.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٢.

٣٧١

بعد ان شهد القوابل انه لحمة ولد ويتخلق منه الولد كان الدم نفاسا بالإجماع ، لأنه دم جاء عقيب حمل » انتهى. وأرسل عن شرح الجعفرية الإجماع أيضا عليها لكن مع التقييد بما قيدها به في الذكرى والروضة من اليقين ، قلت : وكأنه مستغنى عنه بعد تعليق الحكم على المضغة كالمتقدم في التذكرة ان قلنا انه قيد فيها للمضغة ، ولعله للعلقة كما عساه يشعر به كلامه في العلقة المشتبهة.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في إلحاق المضغة بعد ما عرفت وان لم يصدق اسم الولادة معها ، مع إمكان منع ذلك أيضا ، وربما يظهر من الكلام في المضغة الكلام في العلقة ، لما فيه من الاشعار بعدم دوران النفاس على اسم الولادة بل على مبدأ نشو آدمي ، وهو متحقق في العلقة ، ومن هنا صرح بتحقق النفاس معها جماعة منهم العلامة والشهيدان ، بل قد عرفت دعوى الإجماع عليه في التذكرة كما عن شرح الجعفرية لكن مع التقييد في الجميع بالعلم بكونها كذلك بشهادة القوابل أو غيرها ، ولعله به يرتفع الخلاف فيها ، لتعليل من منع النفاس معها كما في المعتبر والمنتهى وغيرهما بعدم اليقين للحمل بذلك ، فهو يشعر بتحققه مع اليقين ، فلا خلاف حينئذ ، ومن هنا أنكر في الروض على المحقق الثاني توقفه في العلقة بعد العلم واليقين ، حيث قال بعد ان نقل عن الذكرى انه لو فرض العلم بأنه مبدأ نشو انسان بقول أربع من القوابل كان نفاسا : « قال : وتوقف فيه بعض المحققين لانتفاء التسمية ، ولا وجه له بعد فرض العلم ، ولأنا ان اعتبرنا مبدأ النشو فلا فرق بينها وبين المضغة » انتهى. فما في المدارك من الإنكار على جده بأن التوقف لعدم صدق اسم الولادة ليس في محله ، بل قد يظهر من الذكرى احتمال ثبوت النفاس مع النطفة أيضا بعد العلم بكونها كذلك ، ولا بأس به إلا ان فرض العلم به متعسر ان لم يكن متعذرا ، فظهر لك من ذلك كله ان الأقوى تحقق النفاس مع المضغة والعلقة ، وبه ينقطع الأصل لو لم نقل ان الأصل يقضي بما قلنا ، فتأمل جيدا.

٣٧٢

ولا ريب أن لأكثر النفاس حدا إجماعا ونصوصا (١) فما في بعض الأخبار (٢) من انه لا حد للنفاس مطرح أو يراد الأقل ، وكذا ما في آخر مروي عن‌ المقنع (٣) عن الصادق عليه‌السلام « ان نساءكم لسن كالنساء الأول ، ان نساءكم أكثر لحما وأكثر دما فلتقعد حتى تطهر » نعم وقع الخلاف بين الأصحاب في تحديده لاختلاف الروايات ، فقيل عشرة أيام كالحيض ، واختاره المصنف بقوله على الأظهر كما هو خيرته في المعتبر وظاهر النافع حيث نسبه الى أشهر الروايات وفاقا للمقنعة على ما حضرني من نسختها والتهذيب والخلاف والمهذب والغنية والوسيلة وإشارة السبق والسرائر والجامع وغيرها ، وحكاه في المختلف عن علي بن بابويه ، وربما مال إليه في المبسوط كما انه عساه يظهر من المنقول عن المقنع ، بل هو المشهور على ما حكاه جماعة ، وفي ظاهر الخلاف أو صريحه كالغنية الإجماع عليه ، ولعله يرجع اليه ما في كتب العلامة عدا المختلف والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم من متأخري المتأخرين من أن أكثره عشرة للمبتدأة والمضطربة دون ذات العادة ، فتتبع عادتها ان لم ينقطع الدم على العشرة ، وإلا كان الكل نفاسا كما صرح به في القواعد ، إذ الظاهر أن مراد الأولين بكون العشرة أكثره انما هو تحديد لأقصى ما يمكن فيه النفاس ، لا إرادة العشرة الفعلية في كل ما تجاوز الدم ، فلا ينافيه حينئذ رجوع ذات العادة إلى عادتها عند تجاوز الدم ، كما يرشد الى ذلك تشبيههم له بالحيض ، وظاهر استدلالهم عليه بالروايات (٤) الكثيرة المتضمنة لرجوع ذات العادة إلى عادتها ، وبأنه حيض احتبس لتغذية الولد ، ونسبته في المقنعة إلى الأخبار المعتمدة والى أشهر الروايات في النافع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٢٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس.

٣٧٣

وليس إلا أخبار العادة ، كحكاية الشهرة على ما سمعت من التفصيل من المحقق الثاني وغيره ، وهي لا تتم إلا بإرادة المتقدمين ذلك ، فيكون حينئذ قولهم : إن أكثر النفاس نحو قولهم : أكثر الحيض عشرة ، أي أقصى إمكان الحيض لا أنها بتمامها دائما حيض ، ولذا حكموا برجوع ذات العادة إلى عادتها ، والمبتدأة والمضطربة إلى التمييز والنساء والروايات ، فإذا كان المراد بأكثر الحيض ذلك كان ما نحن فيه أيضا كذلك لتشبيههم له به.

لكن الذي يظهر من العلامة في المختلف والشهيد في الذكرى وتبعهما بعض متأخري المتأخرين ان مراد الأصحاب بقولهم : أكثر النفاس عشرة أن العشرة بتمامها نفاس مع استمرار الدم وان كانت ذات عادة ، ومن هنا قال الشهيد في الذكرى : « الأخبار (١) الصحيحة المشهورة تشهد برجوعها الى عادتها في الحيض ، والأصحاب يفتون بالعشرة ، وبينهما تناف ظاهر » انتهى. وقد يؤيده ما عساه يظهر من التهذيب حيث قال : « انه لا خلاف بين المسلمين أن عشرة أيام إذا رأت المرأة من النفاس ، وما زاد على ذلك مختلف فيه » ثم قال : « ويدل على ما ذكرنا من أن أقصى أيام النفاس عشرة ما أخبرني به الشيخ أيده الله » وساق الأخبار المستفيضة التي تضمنت الرجوع الى العادة ، وكذا يؤيده إطلاق بعضهم أن أكثر النفاس عشرة من دون بيان القدر الذي تتنفس فيه من العشر لو استمر ، وكذا ذكرهم لذلك في سياق سائر الأقوال التي ذكروها في تحديد الأكثر لكون النفاس تمام المدة على تلك الأقوال ، وأصرح من ذلك كله ما في المعتبر ، فإنه بعد أن نقل الأقوال في المسألة واختار العشرة مستدلا عليها بلزوم العبادة ترك العمل به في العشرة إجماعا ، وبأن النفاس حيض حبس للاحتياج الى الغذاء ، وأيده بالنقل المستفيض عن أهل البيت عليهم‌السلام وذكر بعض أخبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس.

٣٧٤

الرجوع الى العادة ، ثم قال بعد ذلك : « ويعتبر حالها عند انقطاعه قبل العشرة ، فإن خرجت القطنة نقية اغتسلت ، وإلا توقعت النقاء أو انقضاء العشرة » واستدل عليه بما‌ روي (١) أن النفساء تقعد بأيام قرئها ، ثم تستظهر بعشرة أيام ، ثم قال في جملة فروع أوردها : « لا ترجع النفساء مع تجاوز الدم الى عادتها في النفاس ولا الى عادتها في الحيض ولا إلى عادة نسائها ، بل تجعل عشرة نفاسا ، وما زاد استحاضة حتى تستوفي عشرة ، وهي أقل الطهر » انتهى.

لكنك خبير بأن الذي يقتضيه التدبر في كلام الأصحاب بعد تحكيم محكمه على متشابهه هو ما ذكرناه أولا وأن ما ذكره في المعتبر اختيار منه ، لا أن كلام الأصحاب كذلك على انه ممكن التأويل بما لا ينافيه من إرادته وجوب الاستظهار إلى العشرة ، مع إلحاق أيامه بالنفاس ككلام الشيخ في التهذيب على أن يكون مراده أيضا من نفي الخلاف عن كون العشرة أكثر إمكانه.

وكيف كان فالمشهور في أكثر النفاس ذلك مطلقا ، وقيل ثمانية عشرة مطلقا كما في الفقيه والانتصار ناسبا له الى انفراد الإمامية والمراسم وظاهر الهداية ، وحكاه في المختلف عن المفيد وابن الجنيد ، وقيل بالتفصيل بين ذات العادة وغيرها كما هو خيرة العلامة في المختلف قال فيه بعد نقله الأقوال : « والذي اخترناه نحن في أكثر كتبنا أن المرأة إن كانت مبتدأة في الحيض تنفست بعشرة أيام ، فإن تجاوز الدم فعلت ما تفعله المستحاضة بعد العشرة ، وان لم تكن مبتدأة وكانت ذات عادة مستقرة تنفست بأيام الحيض ، وان كانت عادتها غير مستقرة فكالمبتدأة ، والذي نختاره هنا أنها ترجع الى عادتها في الحيض ان كانت ذات عادة في الحيض ، وإن كانت مبتدأة صبرت ثمانية عشر يوما » انتهى. واستحسنه المقداد في التنقيح كما ربما مال اليه بعض متأخري المتأخرين ، وقيل بأن أكثره أحد وعشرون ، وهو المنسوب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٣.

٣٧٥

الى ابن أبي عقيل ، لكن عبارته المحكية عنه لا تخلو من تناف ظاهر قال : « وأيامها عند آل الرسول ( صلوات الله عليهم ) أيام حيضها ، وأكثره أحد وعشرون يوما ، فان انقطع دمها في أيام حيضها صلت وصامت ، وان لم ينقطع صبرت ثمانية عشر يوما ثم استظهرت بيوم أو يومين ، فان كانت كثيرة الدم صبرت ثلاثة أيام ثم احتشت واستثفرت وصلت » إذ قوله : ( أيام حيضها ) مناف لقوله : ( أحد وعشرون ) ولا يخفى ما في قوله أيضا : ( صبرت ثمانية عشر ) مع أنها ليست بأكثره عنده ، وإلا فلا وجه لقوله : ( صبرت ثلاثة ) فتأمل.

وكيف كان فلا ريب ان الأقوى عدم إمكان زيادته على العشر ، كما ان الأقوى رجوع ذات العادة إليها مع التجاوز لا مع عدمه ، وغيرها إلى العشرة ، أما الأول فللأصل في وجه كالاحتياط ، ولاجماعي الخلاف والغنية المعتضدين بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا كما عرفت وتعرف ، ولما تشعر به الأخبار المستفيضة حد الاستفاضة الآمرة بالرجوع إلى العادة ، خصوصا ما اشتمل منها (١) على الأمر بالاستظهار باليوم أو اليومين أو الثلاثة أو بعشرة ، على ان يراد بالباء معنى ( الى ) كما صرح به الشيخ ، إذ لا ريب في ظهورها وكون المنساق منها مساواة النفاس للحيض في ذلك ، وقد ورد (٢) نظيرها فيه مع إمكان تتميمها أيضا بالإجماع المركب ، إذ لم يقل أحد ممن قال بأن أكثر النفاس ثمانية عشر مطلقا بالرجوع إلى العادة ، وبأن يقال : إنها أمرت بالرجوع إلى العادة ، وأقصاها عشرة فأقصاه عشرة ، فتأمل ، أو بأن يراد بأيامها الأيام التي يمكن أن يكون الدم فيها حيضا ، كما لعله يكشف عنه‌ الرضوي (٣) قال : « النفساء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٢ و ٣ و ٤ و ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٥.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١.

٣٧٦

تدع الصلاة ، أكثره مثل أيام حيضها ، وهي عشرة » لكنه بعيد بالنسبة إلى جميعها ، إلا أن الرضوي مؤيد آخر للمطلوب ، وأيضا فقد عرفت فيما مضى أن الذي يقتضيه التدبر في أخبار الاستظهار ثبوته للعشرة ، كما أنه هنا كذلك ، ومن المعلوم أن المراد بالاستظهار طلب ظهور الحال ، فلو لم يكن أكثره عشرة لما كان في انتظارها ظهور للحال ، وذلك واضح ، ولما في المقنعة انه جاءت أخبار معتمدة في أن أقصى مدة النفاس هو عشرة أيام ، وهو يرشد الى ما قلناه في أخبار العادة إن أراد الإشارة إليها كما هو الظاهر ، إذ لم نجد في كتب الأخبار غيرها ، ويؤيده استدلال بعض أساطين الأصحاب بها على ذلك ، وإن أراد غيرها كان حجة مستقلة ، إذ ليس ما يحكيه إلا كما يرويه ، كالمروي (١) في‌ التهذيب عن ابن سنان « ان أيام النفساء مثل أيام الحيض » ولما يشعر به‌ صحيح زرارة (٢) زيادة على الرجوع الى العادة قال : « قلت له النفساء متى تصلي فقال : تقعد بقدر حيضها ، وتستظهر بيومين ، فان انقطع الدم وإلا اغتسلت واحتشت واستثفرت ـ الى أن قال ـ : قلت : والحائض ، قال : مثل ذلك سواء فان انقطع عنها الدم وإلا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء ، ثم تصلي ولا تدع الصلاة على حال ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الصلاة عماد دينكم » وهو وان كان مضمرا في الكافي لكنه مسند الى أبي جعفر عليه‌السلام في رواية الشيخ كما في الوسائل ، ولما يشعر به مساواة النفساء للحائض في جل الأحكام كما ستعرف ، ولأن النفاس حيض احتبس لغذاء الولد كما ذكره غير واحد من الأصحاب. ولعله يستفاد من الأخبار (٣) وللمرسل عن الصادق عليه‌السلام على ما حكاه في كشف اللثام‌

__________________

(١) التهذيب ـ ج ١ ـ ص ١٧٨ من طبعة النجف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١٣ و ١٤ والمستدرك الباب ـ ٣٧ ـ حديث ٨.

٣٧٧

عن السرائر عن المفيد ، وان كان لم أجده فيها ، قال : سئل المفيد كم قدر ما تقعد النفساء عن الصلاة؟ وكم تبلغ أيام ذلك؟ فقد رأيت في كتاب أحكام النساء أحد عشر يوما ، وفي المقنعة ثمانية عشر يوما ، وفي كتاب الإعلام أحد وعشرين يوما ، فعلى أيها العمل دون صاحبه؟ فأجابه بأن قال : الواجب على النفساء ان تقعد عشرة أيام ، وانما ذكرت في كتبي ما روي (١) من قعودها ثمانية عشرة يوما ، وما روي في النوادر استظهارا بأحد وعشرين يوما ، وعملي في ذلك على عشرة أيام لقول الصادق عليه‌السلام « لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان حيض » وستعرف فيما يأتي ما يدل عليه من أخبار أسماء (٢) أيضا.

هذا كله مع أنا لم نعثر للخصم على ما يصلح لمعارضة شي‌ء مما ذكرنا ، إذ الأخبار ـ ( منها ) (٣) وهو الكثير حتى انه روى ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب والاستبصار نحوا من عشرة أحاديث ـ صريحة في رجوع النفساء إلى أيامها في الحيض ، والأكثر منها متكرر في الأصول ، و ( منها ) (٤) ما دل على جلوسها ثلاثين ، ولم يقل به أحد من الأصحاب ، بل الإجماع محصل ومنقول على خلافه ، وكذا ما دل منها (٥) على الأربعين ، ومثلهما (٦) المتضمن لما بين الأربعين إلى الخمسين ، ونحوه آخر (٧) ثلاثين أو أربعين إلى الخمسين ، ولذا قال في الفقيه : والأخبار التي رويت في قعودها أربعين يوما وما زاد الى أن تطهر معلولة كلها ، وردت للتقية لا يفتي بها إلا أهل الخلاف ، وقال في التذكرة على ما حكي عنها : « قال الشافعي : أكثره ستون يوما ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٢٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٦ و ٧ و ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٨.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٣.

٣٧٨

وهو رواية لنا ، وبه قال عطاء والشعبي وأبو ثور ، وحكي عن عبد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطأة ـ إلى أن قال ـ : وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأبو عبيدة أكثره أربعون يوما ، وهو رواية (١) لنا أيضا ، وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري انه قال : خمسون يوما ، وهو رواية (٢) لنا ، وحكى الطحاوي عن الليث انه قال : من الناس من يقول : انه سبعون يوما » انتهى. و ( منها ) ما دل (٣) على سبع عشر ليلة ، ولم أعرف أحدا عاملا به ، ونحوه‌ المروي (٤) عن الصادق عليه‌السلام « كم تقعد النفساء حتى تصلي؟ قال : ثمان عشرة سبع عشرة ثم تغتسل وتحتشي وتصلي » إن أريد التخيير ، وليس بحجة في خصوص الثمان عشر ان كان شكا من الراوي ، و ( منها ) ما دل (٥) على الثمان عشر ، ولم نعثر على غيرها مما يدل على مذهب ابن عقيل من الواحد والعشرين ، ولذا كان ساقطا ، بل في المبسوط انه لا خلاف في ان ما زاد على الثمانية عشر حكمه حكم الاستحاضة ، كما هو قضية إجماع الانتصار وغيره ، مع ما عرفت من تساقط عبارة القائل ، واحتمال الاستدلال له بما في‌ صحيح ابن مسلم (٦) قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن النفساء كم تقعد؟ فقال : إن أسماء بنت عميس أمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان تغتسل لثمان عشرة ، ولا بأس بأن تستظهر بيوم أو يومين » كما ترى لا ينطبق على تمام ما تقدم من دعواه ، بل لم أعثر على عامل به جميعه عدا ما ينقل عن الصدوق في الأمالي ، نعم قد يستدل له بمرسل البزنطي المروي في المعتبر ، قال بعد نقله عبارة القائل : قد روى ذلك البزنطي في كتابه عن جميل عن زرارة ومحمد بن مسلم عن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٢٢.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ١٥.

٣٧٩

الباقر عليه‌السلام ، وعن التذكرة بعد إيراد تلك العبارة كما رواه البزنطي في الصحيح عن الباقر عليه‌السلام وهو على تقدير تسليمه لا يصلح لمعارضة ما تقدم من وجوه غير خفية ، وبذلك كله يظهر لك انحصار البحث في الثمانية عشر وغيرها من أخبار العادة ، ولا ريب في ترجيح الثانية لوجوه

( منها ) قلة المفتي بالأولى حتى ان عمدة القائلين بذلك كالمفيد والمرتضى قد نقل عنهما في السرائر الفتوى بالمختار في كتاب أحكام النساء من شرح كتاب الأعلام والخلاف للمرتضى ، وقد عرفت ما عن الصدوق في المقنع ، كما أنك قد عرفت فيما مضى ان ما حضرني من نسخة المقنعة ومتن التهذيب على الظاهر موافقة المشهور ، حيث قال فيها : « وقد وردت أخبار معتمدة تدل على أن أكثر النفاس عشرة ، وعليها أعمل لوضوحها عندي » لكنه يظهر من الذكرى أن هذه العبارة للشيخ في التهذيب ، والله أعلم ، وقد سمعت فيما مضى ما حكاه كاشف اللثام عن السرائر في نقله عن المفيد ، كما انه قد يشعر ما نقله في السرائر عن خلاف الثاني بدعوى الإجماع عليه ، حيث قال فيه : « عندنا أن الحد في نفاس المرأة أيام حيضها التي تعهدها ، وقد روي انها تستظهر بيوم ويومين ، وروي في أكثره خمسة عشر يوما ، وروي أكثر من هذا ، والأول أثبت » انتهى. وبه مع ما سمعت سابقا من نسبة المختار لمن عرفت حتى ادعي الإجماع عليه يوهن ما في الانتصار من دعوى الإجماع على الثمانية عشر ، فإنه نسبه أولا فيه الى انفراد الإمامية معللا ذلك بأن باقي الفقهاء يخالفون فيه ويجعلونه أزيد ، ثم قال : « والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتردد ذكره ، وأيضا فإن النساء يدخلن في عموم الأمر بالصلاة والصوم ، وانما يخرج النفساء من الأيام التي راعتها الإمامية بإجماع الأمة على خروجها دون ما زاد عليه ـ الى ان قال ـ : وأيضا فإن الأيام التي ذكرناها مجمع على انها نفاس ، وما زاد عليها لا يجوز إثباته لنا بأخبار الآحاد والقياس ـ ثم قال ـ : وقد تكلمنا في هذه‌

٣٨٠