جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كل يوم مرة ، والوضوء لكل صلاة » ونحوه مضمره الآخر (١) وبكثير مما ذكرناه سابقا من وجوب الوضوء مع غير غسل الجنابة ، منها‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « في كل غسل وضوء إلا غسل الجنابة » وما في كشف اللثام من انه لا يدل على إيجابه في كل صلاة مدفوع أولا بما في الرياض من الإجماع المركب ، فتأمل. وثانيا بأنه قد دل الخبر على ان كل موجب للأكبر موجب للأصغر لا يجتزى عنه بالغسل فيجب الوضوء حينئذ لصلاة الغداة ، وقد عرفت انه لا إشكال في غيرها ، مع إمكان تقرير الدليل فيها أيضا ، كل ذا مع ضعف ما عساه يتمسك به للخصم لو كان من الأصل ، ويمكن معارضته بمثله وحصر النواقض في الأخبار في غيرها ، وفيه مع عدم صلاحيته لمعارضة ما سبق أن الحصر فيها إضافي سيما بالنسبة إلى موجبات الكبير مع الصغير ، ومن إغناء كل غسل واجب عنه على ما ذهب اليه السيد ، وفيه مع ما عرفته في محله انك قد عرفت ان السيد هنا صرح بالوضوء لغير الغداة ، بل ولها في الجمل كما حكاه في كشف اللثام ، ولعل ترك بعضهم التعرض له هنا انما هو لإيكاله على ما تقدم سابقا من إيجابه مع كل غسل ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فيجب عليها مع ذلك الغسل لصلاة الغداة كما في الفقيه والهداية لكنه مع ضم صلاة الليل معها فيهما والمقنعة والناصريات والغنية والخلاف والمبسوط والوسيلة والسرائر والجامع والنافع والقواعد والتحرير والمختلف والإرشاد والدروس والبيان والذكرى واللمعة والروضة وجامع المقاصد وغيرها ، وظاهر الجميع بل صريحهم عدم وجوب غيره من الأغسال ، فيكون حينئذ ما في الناصريات والخلاف والغنية من الإجماع حجة على ما ينقل عن ابني أبي عقيل والجنيد من وجوب الأغسال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

٣٢١

الثلاثة ، فأدخلوا هذا القسم في الثالث ، وان اختاره المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى ، وتبعهما بعض متأخري المتأخرين كصاحب المدارك ناقلا له عن شيخه المعاصر أي الأردبيلي ، ويدل على المختار مضافا الى ما تقدم والى الأصل‌ مضمر زرارة (١) في الصحيح « فان جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ثم صلت الغداة بغسل ، والظهر والعصر بغسل ، والمغرب والعشاء بغسل ، وان لم يجز الدم الكرسف صلت بغسل واحد » والمناقشة فيه بإضماره مع ان مثله غير قادح عندنا سيما من مثل زرارة مدفوعة بأن الشيخ قد أسنده الى أبي جعفر عليه‌السلام في أثناء الاستدلال ، كالمناقشة في الدلالة بشموله للاستحاضة القليلة ، إذ خروجها بالأدلة السابقة غير قادح في الحجية في غيرها ، وكذا المناقشة فيه أيضا بعدم صراحته بكون الغسل للغداة ، بل ولا للاستحاضة ، بل لعله للنفاس ، لاندفاع الأول بعدم القول بعد ثبوت الغسل الواحد لغيرها ، ويكفي فيه الإجماعات السابقة ، والثاني بظهوره ظهورا كاد يكون كالصريح في كون الغسل للاستحاضة ، كما يقتضيه ذكر الفاء وغيرها ، على ان اشتراطه الأغسال الثلاثة بجواز الدم الكرسف الذي هو ظاهر في التعدي كاف في إثبات المطلوب.

و‌مضمر سماعة (٢) في الموثق قال : « قال : المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين ، وللفجر غسلا ، وان لم يجز الدم فعليها الغسل كل يوم مرة ، والوضوء لكل صلاة ـ الى ان قال ـ : هذا إن كان دما عبيطا ، وان كان صفرة فعليها الوضوء » وهو ظاهر في المدعى ، لأن المراد بالجواز انما هو التعدي ، ونفيه وان كان أعم من الوسطى لكن لا يقدح في المطلوب ، على انه لا بد من تنزيله على الوسطى لعدم قائل بوجوب غسل في الصغرى سوى ما سمعته عن ابن الجنيد ، وهو ضعيف جدا لا ينبغي حمله عليه ، فيثبت المطلوب حينئذ ، ويراد بالثقب في صدره انما هو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٦.

٣٢٢

التعدي ، ولذا أوجب الأغسال الثلاثة ، ولعل الأمر بالوضوء في الصفرة في ذيله كناية عن الصغرى ، لما عرفت سابقا من غلبة العلة فيها ، فيكون الخبر حينئذ مشتملا على بيان الأقسام الثلاثة للمستحاضة ، فتأمل جيدا.

وصحيح الصحاف (١) المتقدم سابقا ، وفيه مواضع للدلالة على المطلوب ، ( منها ) ما في آخره من اشتراط الأغسال الثلاثة بما إذا كان الدم يسيل من خلف الكرسف صبيبا لا يرقى. و ( منها ) ما في أوله فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة ، إذ هو متناول للوسطى لعدم تحقق السيلان فيها ، ولا ينطبق ذلك إلا على مذهب المشهور من عدم إيجاب الغسل عليها للمغرب والعشاء كالقليلة ، فما في المدارك ـ ان محل الدلالة فيه ( وان طرحت الكرسف فسال الدم فعليها الغسل ) وهو غير محل النزاع ، إذ هو فيما لم يحصل السيلان ، مع انه لا إشعار فيه بكون الغسل للفجر ، ويمكن حمله على الجنس ويكون تتمة الخبر كالمبين ـ ليس على ما ينبغي ، لما عرفت ، على انه قد يقال بالدلالة فيما ذكره أيضا من جهة الاشتراط بالسيلان ، بل قد يدعى إرادة المتوسطة منه لإشعاره بكونه سيلانا قليلا ، ولذا تحقق مع طرح الكرسف ، ويشعر به أيضا مقابلته لما بعده ، فيكون حينئذ مساويا للمتوسطة ، لأنها هي التي يظهر دمها من الكرسف مع احتشائها به ولو طرحته لتحقق مثل هذا السيلان ، لظهور الفرق بين حالتي الاحتشاء وعدمه ، ويدفع حينئذ عدم التعرض فيه لكون الغسل للفجر بما سمعته سابقا فتأمل.

و‌خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٢) الذي هو كالصحيح عن الصادق عليه‌السلام قال : « وان كان قرؤها فيه خلاف فلتحتط بيوم أو يومين ، ولتغتسل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٨.

٣٢٣

وتستدخل كرسفا ، فان ظهر على الكرسف فلتغتسل ، ثم تضع كرسفا آخر ثم تصلي ، فإذا كان دما سائلا فلتؤخر الصلاة ، ثم تصلي صلاتين بغسل واحد » الخبر. وهو كالصريح في إرادة الوسطى من قوله عليه‌السلام : ( فان ظهر ) سيما بعد مقابلته بالدم السائل ، مع ان فيه دلالة أخرى من جهة الشرطية بالنسبة للصلاتين بغسل.

و‌موثق زرارة (١) عن الباقر عليه‌السلام وفيه « تستظهر بيوم أو يومين ، ثم هي مستحاضة فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم ، فإذا نفذ اغتسلت وصلّت » لظهور صدقه بالغسل الواحد للغداة ، كخبر الجعفي (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « وان هي لم تر طهرا اغتسلت واحتشت ولا تزال تصلي بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف ، فإذا ظهر أعادت الغسل والكرسف » ومفهوم‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر يونس بن يعقوب (٣) : « فإن رأت الدم دما صبيبا فلتغتسل في وقت كل صلاة » كخبر محمد بن مسلم (٤) المروي في المعتبر عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن الباقر عليه‌السلام « فان صبغ القطنة دم لا ينقطع فلتجمع بين كل صلاتين بغسل » وموثق سماعة (٥) عن الصادق عليه‌السلام قال : « غسل الجنابة واجب ، وغسل الحيض إذا طهرت واجب ، وغسل الاستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف فجاز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل صلاتين ، وللفجر غسل ، وان لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرة ، والوضوء لكل صلاة » الحديث. والتقريب كما سبق ، ويؤيد الجميع ما في‌ الفقه الرضوي (٦) « فان لم يثقب الدم القطن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٦) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١.

٣٢٤

صلت صلاتها كل صلاة بوضوء ، وان ثقب الدم الكرسف ولم يصلّ صلّت الليل والغداة بغسل واحد ، وسائر الصلوات بوضوء ، وان ثقب وسال صلت الليل والغداة بغسل ، والظهر والعصر بغسل ، وتصلي المغرب والعشاء الآخرة بغسل » وهو مع الإجماعات السابقة والإجماع المركب دال على ان المراد بالغسل انما هو غسل الغداة.

كل ذا مع ضعف متمسك الخصم ، إذ هو ليس إلا إطلاقات جملة من الصحاح (١) في ان المستحاضة تغتسل ثلاثة أغسال ، وهي كما انها عند الخصم مقيدة بالقليلة ، كذلك عندنا بالمتوسطة ، لما سمعت ان لم نقل انها من الأفراد النادرة التي لا ينصرف إليها الإطلاق ، وسوى ما في بعضها من إيجاب الأغسال الثلاثة عند ثقب الدم الكرسف ( منها ) ما تقدم في صدر مضمرة سماعة (٢) السابقة و ( منها ) صحيحة معاوية بن عمار (٣) عن الصادق عليه‌السلام « فإذا جازت ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر تؤخر هذه وتعجل هذه ، وللمغرب والعشاء غسلا تؤخر هذه وتعجل هذه ، وتغتسل للصبح ، وتحتشي وتستثفر ولا تجبي وتضم فخذيها في المسجد ، وسائر جسدها خارج ، وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلّت كل صلاة بوضوء » الخبر. ولعل الظاهر ان المراد بالثقب فيه انما هو الجواز والتعدي ، كما عرفته سابقا في مضمرة سماعة ، وان كان مقتضى المقابلة خلافه ، لكن قد يشعر به هنا الأمر بالاحتشاء المفسر بوضع قطنة محشوة للتحفظ من تعدي الدم والاستثفار والنهي عن الانحناء أو الإجباء وضم الفخذين في حال السجود وسائر جسدها خارج ، وإشعار جواز الدخول للمسجد في مقابلتها عدمه فيها ، وكأنه لكثرة الدم وعدم الأمن من التلويث ، هذا.

وأجاب عنها وعن سائر أدلتهم من المطلقات في شرح المفاتيح ، وتبعه في الرياض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١٢ و ١٤ و ١٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١.

٣٢٥

« ان المتوسطة من الأفراد النادرة التي لا ينصرف إليها الإطلاق ، إذ قل ما يكون الدم ثاقبا للكرسف ولم يتعده ، ولذا خلا كثير من الأخبار عن التعرض لها ، بل وكذا لقليلة » انتهى. قلت : وفيه ان ذلك يقضي بفساد كثير من الأدلة السابقة على المطلوب من المفاهيم وغيرها ، وهما ممن استدلا بها أيضا ، لكن لعل في غيرها من الإجماعات وغيرها مما لا يتأتى فيه ذلك كفاية في ثبوت المختار ، فتأمل جيدا.

ثم ان الظاهر عدم إلزامها في هذا القسم بتقديم الغسل على الوضوء أو العكس ، للأصل وإطلاق الأدلة ، فما عساه يظهر من المقنعة من إيجاب التقديم ضعيف ، كما تقدم سابقا في البحث عن الوضوء مع غير غسل الجنابة ، وكذا احتمال إلزامها بالتأخير حذرا عن الفصل بينه وبين الصلاة بالغسل ، لعدم الدليل على قدح مثل ذلك ، بل قد عرفت ان الإطلاق يقضي بخلافه.

وكيف كان ف في الحال الثالث وبه تسمى الكبرى يلزمها مع ذلك أي ما تقدم من تغيير القطنة والخرقة أو تطهيرهما من غير خلاف أجده فيها هنا لما تقدم سابقا مع الأولوية في المقام ، مضافا الى ما تدل عليه هنا بعض الأخبار (١) ومن الوضوء لكل صلاة وفاقا للسرائر والجامع والنافع والقواعد والإرشاد والذكرى والروضة وجامع المقاصد وغيرها ، بل في المدارك ان عليه عامة المتأخرين ، وعن الروض ان به أخبارا صحيحة (٢) وخلافا لما عساه يظهر من ترك التعرض له ، والاقتصار على الأغسال من عدم وجوبه لشي‌ء من الصلوات من الصدوقين والشيخ في بعض كتبه والسيد في الناصرية والحلبي وبني حمزة والبراج وزهرة على ما نقل من بعضهم ، بل لعله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١ و ٦ و ٩ و ١٣ لكنها في غير الكثيرة إلا الأخير.

٣٢٦

يكون حينئذ داخلا تحت دعوى الإجماع من بعضها كالناصريات والخلاف والغنية ، ومال اليه بعض متأخري المتأخرين ، وللمفيد والمصنف في المعتبر وعن السيد في الجمل وأحمد بن طاوس من تعدده بتعدد الأغسال دون الصلوات ، واختاره في شرح المفاتيح والرياض ، وبالغ المحقق في المعتبر في إنكار القول الأول ، فقال : « وظن غالط من المتأخرين انه يجب على هذه مع هذه الأغسال الوضوء لكل صلاة ، ولم يذهب الى ذلك أحد من طائفتنا ، ويمكن ان يكون غلطه لما ذكره الشيخ في المبسوط والخلاف ان المستحاضة لا تجمع بين فرضين بوضوء ، فظن انسحابه على مواضعها ، وليس على ما ظن ، بل ذلك مختص بالوضع الذي يقتصر فيه على الوضوء » انتهى. وهو منه عجيب بعد ما سمعت ، مع انه هو مختاره هنا والنافع وظاهر المختلف نسبته الى المشهور ، بل قد يظهر منه في المنتهى انه لا خلاف فيه.

وكيف كان فقد يحتج للأول بقوله تعالى (١) ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) وبما تقدم سابقا من إيجاب الوضوء مع سائر الأغسال ، منها‌ قوله عليه‌السلام (٢) ( في كل غسل وضوء ) وبأولوية هذا القسم من السابقين في إيجاب ذلك ، وبأصالة عدم إغناء هذا الغسل عن الوضوء ، لكن قد يناقش في الأول بعدم العموم في الآية ، بل أقصاه الإطلاق المنصرف الى غير محل البحث ، أعني الحدث الأصغر ، بل ورد في المعتبرة (٣) تفسيرها بالقيام من النوم ، بل نقل عن المفسرين ذلك أيضا ، ولو سلم فلا عموم فيها بالنظر الى الأشخاص ، لكون المستفاد منها الحكم بالنسبة إلى الرجال ، فإلحاق النسوة بهم انما هو بالإجماع ، وهو مفقود في المقام ، وفي الثاني بأن أقصاه بعد‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٧.

٣٢٧

القول فيه إيجاب الوضوء في كل غسل لا كل صلاة ، وفي الثالث بمنع الأولوية بعد إيجاب الغسل في المقام ، وفي الرابع بأنه انما يتجه بعد ثبوت الدليل على الإلزام بالوضوء ، أما مع عدمه فلا أصل ، وقد يدفع الأول بعد تسليم إرادة الحدث الأصغر بأن استمرار حدث الاستحاضة بعد الغسل منه ، لظهور الاتفاق على حدثيته في هذا الحال ، مع عدم إيجاب الغسل له ، فيتعين كونه أصغر بالنسبة الى ذلك ، وإلحاق النسوة انما هو بالإجماع على أصالة الاشتراك في التكاليف ، فلا يقدح وقوع الخلاف في المقام كالحضور والغيبة ، والثاني بظهور ما قدمناه سابقا في محله ان الغسل لا يغني عن الوضوء ، كظهور‌ قوله : ( في كل غسل وضوء ) ان كل موجب للأكبر موجب للأصغر ، وربما يظهر من ملاحظة الأدلة ان دم الاستحاضة حدث ، بل في المختلف دعوى الإجماع عليه ، ويرشد اليه مضافا الى ذلك إيجاب الغسل والوضوء لهذا الدم المستمر كالمغرب مثلا ، على أنه لا معنى لدعوى حدثية الابتداء دون الاستدامة ، فيتحصل حينئذ من مجموع ذلك إيجاب الوضوء والغسل عند كل صلاة ، وسقوط الثاني بالإجماع ونحوه لا يقضي بسقوط الأول ، على ان إسقاطه الوضوء إما لإغناء الغسل عنه ، أو لإغناء الوضوء الأول عنه ، أو لأنه لم يثبت حدثية هذا الدم في هذا الحال ، والكل كما ترى قد ظهر لك بطلانه ، كما انه ظهر لك منه أيضا بطلان باقي ما تقدم من المناقشات الأخر ، وبطلان ما عساه يستند به للثاني من الأصل والبناء على الاجتزاء بالغسل عنه ، كما ذهب اليه علم الهدى من خلو النصوص عن التعرض للوضوء ، واقتصارها على الأغسال الثلاثة في مقام البيان ، كما انه قد يشعر التفصيل في بعضها بذلك ، لكنك خبير ان ذلك لا يعارض ما دل على وجوب الوضوء مع كل غسل ، بل لعل الترك فيها كترك التعرض له هنا من بعض قدماء الأصحاب انما هو للايكال على ما ذكروه من إيجاب الوضوء مع‌

٣٢٨

كل غسل عدا الجنابة ، ومن جميع ذلك ظهر لك مستند القول الثالث ، وهو الاكتفاء بالغسل والوضوء للصلاتين ، لما دل على ان في كل غسل وضوء مع عدم الدليل على الزيادة ، وربما يؤيده تعليق الأمر بالوضوء لكل صلاة على عدم ثقب الدم الكرسف في صحيحة معاوية بن عمار وغيرها ، وهو لا يخلو من قوة وان كان الأول أقوى لما عرفت.

وكيف كان فيجب عليها مع ذلك غسلان ، غسل للظهر والعصر تجمع بينهما ، وغسل للمغرب والعشاء تجمع بينهما بلا خلاف أجده كما نفاه عنه غير واحد ، بل حكي عليه الإجماع مستفيضا كالسنة (١) وقد تقدم سابقا جملة منها ، وفيها الصحيح وغيره ، وهل يعتبر في إيجاب الأغسال الثلاثة استمرار الدم الموجب لذلك الى العشاءين مثلا ، فان استمر الى الظهرين فاثنان ، وإلا فواحد كما عساه تشعر به عبارة العلامة في القواعد ، وأصرح منها عبارة جامع المقاصد ، كالمنقول عن الروض ، وفي الحدائق انه الظاهر من الأخبار ، أو يكفي فيها الاستمرار أو الحدوث قبل فعل الصلاة ولو لحظة كما في الرياض ، حيث قال : « وتجب الثلاثة مع استمرار الكثرة من الفجر الى الليل أو حدوثها قبل فعل الصلاة ولو لحظة ، ومع عدم استمرارها أو حدوثها كذلك فاثنان ان استمر أو حدث الى الظهر ، أو واحد ان لم يستمر ولم يحدث كذلك » انتهى. أو أنه يكفي في إيجاب الثلاثة استمرار الدم ولو لحظة بعد كل من غسلي الصبح والظهرين مثلا ما لم يكن الانقطاع للبرء ، كما انه يكفي في إيجاب الغسلين استمرار الدم ولو لحظة بعد غسل الصبح ، ومع عدمها فغسل واحد كما في كشف اللثام ناقلا له عن التذكرة قال : قال فيها : لو كان الدم كثيرا فاغتسلت أول النهار وصامت ثم انقطع قبل الزوال لم يجب غسل آخر عند الزوال لا للصوم ولا للصلاة ان كان للبرء ، وان كان لا له وجب لتحقق السيلان الموجب للغسل بإطلاق النصوص والفتاوى ، كما انها إذا انتفت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة.

٣٢٩

عند أحد الأغسال من غير عود لم يجب غسل آخر لانتفاء موجبه؟

قلت : الأخير لا يخلو من قوة ، بل لعله مراد الجميع سيما سابقه وان قصرت العبارة عن ذلك ، لما سمعته من إطلاق النصوص والفتاوى ، وما يقال : إن ظاهر الأخبار الاستمرار قد يمنع إن أراد به الاشتراط ، نعم قد تشعر به ما في بعضها (١) من الأمر بالاحتشاء والاستذفار وإطلاق الدمية ونحو ذلك ، لكن لا ظهور فيها بالاشتراط أي اشتراط وجوب الأغسال بالاستمرار المتقدم حتى تصلح مقيدة لغيرها ، سيما مفهوم‌ قوله عليه‌السلام في خبر الصحاف (٢) : « فان كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة » وفي كشف اللثام « ولا يدفعه‌ قوله عليه‌السلام (٣) : « فان كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيبا لا يرقى فان عليها ان تغتسل في كل يوم وليلة ثلاث مرات » فإن ( إذا ) لا تفيد الاستمرار والكلية » انتهى ، فتأمل. بل لولا مخافة خرق ما عساه يظهر من الإجماع وتشعر به بعض الأخبار (٤) لأمكن القول بإيجابه الأغسال الثلاثة وان لم يستمر لحظة بعد الغسل للإطلاق المتقدم ، فيكون حينئذ هذا الدم حدثا يوجب أغسالا ثلاثة وان لم يستمر ، نعم قد يتجه بناء على المختار عدم الفرق بين كون الانقطاع للبرء وعدمه إذا لم يتعقبه غسل بعد انقطاعه ، كما إذا انقطع للبرء بعد فعل الصلاة مثلا ولم نقل بوجوب إعادة الطهارة والصلاة أو كان في خارج الوقت بالنسبة للصبح مثلا ، سيما بعد ثبوت كون هذا الاستمرار من دم الاستحاضة حدثا وعدم ثبوت إجزاء الغسل المتقدم عليه عنه ، اللهم إلا ان يثبت إجماع على عدمه ، والظاهر عدمه ، كما تأتي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٤.

٣٣٠

الإشارة اليه ان شاء الله في البحث عن الغسل للانقطاع للبرء ، على انه لم يعقل الفرق بين الانقطاع للبرء وعدمه ، لأنه ان كان الموجب للغسل انما هو ما وقع من الحدث قبل انقطاعه فهو موجود في الحالتين ، وإلا فلا يفيده ما تجوز مجيئه من الحدث ، اللهم إلا أن يقال ببقاء وصف المستحاضة كبرى مثلا في الثاني دون الأولى ، وللنظر فيه مجال سيما مع عدم اطمئنانها بالعود ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى ان ما ذكرناه من إيجاب الغسل بذلك مبني على الاجتزاء بوجود الدم الموجب لذلك قبل فعل الصلاة التي يقع الغسل لها سواء كان في الوقت أو لا كما في سائر مراتب الاستحاضة ، فيجب الغسل للظهرين بمجرد حصول الكثرة قبل الوقت وان طرأت القلة فيه ، وفاقا لجماعة من متأخري المتأخرين منهم الشهيد الثاني ، وربما مال إليه في جامع المقاصد هنا للإطلاق المتقدم من النصوص والفتاوى ، ولأنه كغيره من الأحداث التي لا يشترط في تأثيرها دخول الوقت ، ولعله الظاهر من خبر الصحاف المتقدم ، وخلافا لما عساه يظهر من الشهيد في الدروس ، وربما مال إليه في جامع المقاصد في مبحث الغايات ، وقال : إنه الذي يلوح من الأخبار ، قال في الأول : والاعتبار بكمية الدم بأوقات الصلاة في ظاهر خبر الصحاف وفي الذكرى بعد ان ذكر خبر الصحاف : هذا مشعر بأن الاعتبار بوقت الصلاة ، فلا أثر لما قبله ، واعترضه سائر من تأخر عنه بأنه لا ظهور فيه بذلك ، بل ظاهره العكس كما عرفت ، قلت : وهو كذلك إلا أن يكون مقصوده أمرا آخر يصعب استقامته أو يكون أخذه مما في آخره من اشتراط كونه دما صبيبا لا يرقى أو نحو ذلك من الامارات التي يشكل الاعتماد عليها ، ولذا كان ظاهره في البيان ما قلناه ، قال فيه : لو اختلفت دفعات الدم عمل على أكثرها ما لم يكن لبرء ، لكن لا يخلو ما فيه من التقييد من النظر ، سيما إذا كان الاختلاف في الدفعات التي تعقبها البرء بعد الوقت ، بل قد يظهر منه فيه أيضا خلافه ، فلاحظ وتأمل.

٣٣١

وقال في الذكرى في المقام : « قيل الاعتبار في الكثرة والقلة بأوقات الصلاة ، فلو سبقت القلة وطرأت الكثرة انتقل الحكم ، فلو كانت الكثرة بعد الصبح اغتسلت للظهرين ـ الى ان قال ـ : أما بالنسبة إلى الظهرين فلا يجب إن كثر بعدهما غسل لهما ، بل إذا استمر الى العشاءين اغتسلت لهما قطعا ، وكذا ان انقطع مظنونا عوده أو مشكوكا فيه لأصالة البقاء ، وان شفيت منه بني على ما مر ، ولو سبقت الكثرة في الصبح اغتسلت له ، فلو قل عند الظهرين توضأت ، ولو جوزت عود الكثرة فالأجود الغسل لأنه كالحاصل ، فان علمت الشفاء كفاها الوضوء » انتهى. وفيه مواضع للتأمل يظهر بعضها مما تقدم وبعضها مما يأتي.

وحيث انجر بنا الكلام الى البحث في ان انقطاع دم الاستحاضة يوجب شيئا أو لا فنقول : قد أطلق الشيخ في مبسوطة وخلافه كما عن الإصباح والمهذب إيجاب الوضوء للانقطاع قبل الشروع في الصلاة ، وظاهره عدم الفرق بين مراتب الاستحاضة وبين كون الانقطاع للبرء والشفاء وعدمه وان كان في كلامه ما عساه يشعر بالثاني ، وقيده العلامة في القواعد وغيره بالبرء كما ان الشهيد في البيان قيده بما إذا كان قبل الانقطاع موجبا للوضوء ، وإلا فالغسل ، وقد اعترف الشهيد في الذكرى بعدم الوقوف على نص في المسألة ، وهو كذلك ، وتفصيل الحال وبالله التوفيق ان يقال : إنه لا إشكال في حكم انقطاع دم الاستحاضة قبل ان تفعل موجبه من وضوء أو غسل سواء كان الانقطاع انقطاع فترة أو برء ، وذلك لأنه يجب فعل ما خوطبت به من الوضوء أو الغسل حينئذ من غير زيادة للانقطاع ، سواء كان ذلك في الوقت أو قبله بناء على ما تقدم من المختار ، وأما إذا كان الانقطاع بعد فعل الصلاة فإن كان برء احتمل وجوب الإعادة لانكشاف فساد الأول ، واحتمل العدم لحصول الامتثال واقتضاء الأمر الاجزاء وإطلاق الأدلة ، ولعله الأقوى ، وان كان لفترة فلا إشكال حيث لا تسع الطهارة‌

٣٣٢

والصلاة ، وأما إذا كانت كذلك فهي كالأول ، بل عدم الإعادة فيها أولى.

ثم انه بناء على عدم الوجوب بالنسبة إلى الصلاة السابقة فهل يجب للصوم أم لا؟ وجهان ، اختار أولهما في الذكرى ، وفيه نظر لتبعية الصوم للصلاة ، فلا يجب له مستقلا فتأمل. وأما إذا حصل الانقطاع بعد فعل الطهارة قبل فعل الصلاة فهو إما أن يكون انقطاع برء أو فترة أو لم تعلم ، فان كان الأول فقد عرفت ان قضية كلام الشيخ وغيره وجوب تجديد الوضوء عليها ، وعلله في المبسوط بان دم الاستحاضة حدث ، فإذا انقطع وجب منه الوضوء ، ومراده انه يظهر بانقطاعه حكم حدثية استمراره المتخلل بين الانقطاع والطهارة ، لا ان الانقطاع نفسه حدث كما ظن ، وثبوت العفو عن مثله في حال الاستمرار كما هو المنساق من الأخبار (١) لا يستلزم ثبوت العفو عنه في حال الانقطاع ولا أولية ، وفي الذكرى في الرد على المحقق « لا أظن أحدا قال : بالعفو عن هذا الدم الخارج بعد الطهارة مع تعقب الانقطاع » انتهى. قلت : لكن قضية ذلك كله إيجاب موجبه سابقا من غسل أو وضوء لا الوضوء خاصة ، ومن هنا كان الأقوى كما اختاره في الذكرى والبيان وتبعه المحقق الثاني وغيره عدم الاقتصار على الوضوء إلا إذا كان موجبه سابقا كذلك ، وإلا فالغسل ، بل قد يظهر من الأول كونه مجمعا عليه ، حيث قال : « وهذه المسألة لم نظفر فيها بنص خاص من قبل أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكن ما أفتى به الشيخ هو قول العامة بناء منهم على ان حدث الاستحاضة يوجب الوضوء لا غير ، فإذا انقطع بقي على ما كان عليه ، ولما كان الأصحاب يوجبون به الغسل فليكن مستمرا » انتهى.

قلت : ويمكن تنزيل كلام الشيخ على إرادة القليلة كما عساه يظهر من ملاحظة كلامه ، لكن قال في كشف اللثام بعد نقله كلام الشيخ وابن إدريس وغيرهما : « ولم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٦.

٣٣٣

يوجب أحد منهم الغسل للانقطاع ، ونص المصنف في النهاية على العدم » قلت : ولعله للأصل ، والفرق بينه وبين الوضوء ، لأن هذا الدم يوجب الوضوء مطلقا ولا يوجب الغسل إلا مع الاستمرار الخاص فعلا أو قوة ، ويظهر لك ضعفه مما تقدم ، كضعف ما في المعتبر من انه يمكن القول بأن خروج دمها بعد الطهارة معفو عنه ، فلم يكن مؤثرا في نقض الطهارة ، والانقطاع ليس بحدث ، وربما يظهر من الجامع موافقته لما تقدم لك سابقا من انه لم يثبت العفو في هذا الحال مع عدم شمول الإطلاقات لمثله ان لم تكن ظاهرة في عدمه ، ولا أولوية ولا استصحاب لا للطهارة ولا للعفو عن هذا الدم ، لانقطاع الأول بحدثية هذا الدم التي هي مجمع عليها بحسب الظاهر ، ففي المختلف ان دم الاستحاضة حدث إجماعا ، وأوضح منه في ذلك ما في شرح المفاتيح ، وعدم إمكان جريان الثاني ، هذا. لكن الإنصاف انه لا يخلو من قوة لولا ظهور اتفاق الأصحاب على عدمه ، كما سمعته من الشهيد في الذكرى ، إذ يمكن تأييده مع عدم إشارة في شي‌ء من النصوص اليه بما سيأتي من قولهم : إذا فعلت المستحاضة ما يجب عليها كانت بحكم الطاهر ، وإمكان تصحيح الاستصحابين المتقدمين ، على انه قضية كون الأمر يقتضي الاجزاء ، مع انه لم يتصور الفرق بين انقطاعه بعد الصلاة وبينه بعد الطهارة ، فتأمل جيدا.

وأما إذا كان الانقطاع للفترة فهي ان لم تكن تسع الطهارة والصلاة فلا يلتفت اليه قطعا ، وكأن إطلاق الشيخ ومن تابعه منزل على غيرها ، وأما إذا كان بحيث تسع الطهارة والصلاة فالأقوى وجوب الإعادة وفاقا للشهيد والمحقق الثاني وعن العلامة في نهاية الأحكام ، وربما يظهر من بعضهم العدم ، وهو ضعيف ، ومما ذكرنا ينقدح انه يجب على المستحاضة انتظار الفترة حيث تكون لها إلا مع حصول المشقة لارتفاع عذرها وإمكان فعلها الصلاة مرفوعة الحدث ، مع الشك في تناول الأخبار لمثلها ان لم يكن ظاهر العدم.

٣٣٤

وأما إذا لم تعلم انه انقطاع برء أو فترة فيحتمل القول بوجوب الطهارة ، كما عساه يظهر من المنقول عن نهاية الأحكام تمسكا بأصالة عدم عوده والاحتياط ، لعدم العلم بصحة ما وقع من الطهارة الأولى ، ويحتمل العدم تمسكا باستصحاب صحة ما وقع ، وأصالة عدم الشفاء ، واستصحاب العفو عما وقع من الدم ، ولعله الأقوى ، ومثل هذا الحكم ما لو علمت انه لفترة لكن لم تعلم انها تسع الطهارة والصلاة أو لا ، بل لعل عدم وجوب الإعادة هنا أولى ، لما في التكليف بمجرد هذا الاحتمال من المشقة والحرج الذي لا يتحمل عادة ، مع أن أصل مشروعية هذا الحكم للتخفيف ، بل لعل الأخبار المكتفية بأفعال المستحاضة ظاهرة فيما قلنا ، لتحقق الفترات غالبا ، مع انها لم تعتبر فيما وصل إلينا من الأخبار.

ثم انه هل يجب عليها إذا انكشف بعد ذلك انه انقطاع برء إعادة ما فعلته من الصلاة بالطهارة الأولى أو لا؟ وجهان أيضا ، ينشئان من اقتضاء الأمر الاجزاء ، ومن انه تكليف ظاهر عذري ، وإلا فقد انكشف فساد طهارتها بذلك المتخلل الذي تعقبه هذا الانقطاع ، ولعله الأقوى ، ولا ينافي ذلك ما تقدم منا سابقا من الحكم بعدم الإعادة لو حصل الانقطاع بعد الصلاة ، لظهور الفرق بينهما بشمول الإطلاقات القاضية بالاجتزاء للأول دون ما نحن فيه فتأمل جيدا. ومما ذكرنا من المختار هنا يظهر الحال فيما تقدم أيضا ، وهي ما لو علمته انه انقطاع فترة لكنها لم تعلم أنها فترة تسع الطهارة والصلاة أو لا ثم انكشف بعد ذلك انها كذلك ، مع احتمال الفرق بينهما بأن الفترة انما تعتبر لو علمت بها ، أما مع عدم العلم وتجويزها مجي‌ء الدم في كل آن فلا ، مع أصالة براءة الذمة من القضاء وغيره ، ولعله الأقوى أيضا ، ويشعر به ما عن العلامة في نهاية الأحكام ، حيث قال : « ولو انقطع لا للبرء بل كان من عادتها العود أو أخبرها به العارف فان قصر الزمان عن الطهارة والصلاة لم يجب إعادة الطهارة ، بل تشرع في الصلاة‌

٣٣٥

ولا عبرة بهذا الانقطاع ، لأن الظاهر عدم دوامه ، فان صلت فطال زمانه فالوجه الإجزاء لأنها دخلت في الصلاة بأمر شرعي فكان مجزئا » انتهى. ويقرب منه ما في الذكرى أيضا.

هذا كله إذا انقطع الدم بعد الطهارة قبل فعل الصلاة أما لو انقطع في أثنائها فقد أطلق الشيخ في المبسوط والخلاف صحة الصلاة وعدم إيجاب الطهارة مع حكمه بفساد الطهارة لو حصل قبل فعل الصلاة ، ووافقه العلامة في المنتهى والمختلف والشهيد في البيان ، وأنكر عليه ابن إدريس ذلك معللا بأنه إذا كان انقطاع دم الاستحاضة حدثا فهو مفسد للصلاة مع تخلله فيجب الاستيناف ، قلت : وهو في محله ، إذ لا نعرف وجها يختص به الانقطاع في أثنائها عن الانقطاع قبلها ، إذ هو إن كان إطلاق ما دل على العفو عن هذا الدم فهو ـ مع عدم شموله بحسب الظاهر لمثل هذا الفرد النادر الذي قل ما يتحقق الاطلاع عليه في أثناء الصلاة ـ جار في الحالين ، فلا ينبغي الفرق من جهته ، وإن كان لمكان الاستصحاب فهو ـ مع إمكان المناقشة في جريانه في مثل تخلل الحدث في أثناء الصلاة لانقطاعه بما دل على بطلانها بذلك ، وبه يظهر الفرق بعد الإجماع المحكي وغيره بين ما نحن فيه وبين وجدان الماء للمتيمم في أثناء الصلاة ، لعدم الحدث فيه بخلافه هنا ، مع استصحابها للنجاسة المغلظة هنا دونه ، بناء على بطلان الصلاة للمتيمم لو كان على ثوبه أو بدنه نجاسة كذلك ـ جار أيضا فيهما من غير فرق بين حالتي الانقطاع في الأثناء أو قبله ، على انه بعد ما كانت الأدلة الدالة على العفو عن هذا الدم ظاهرة في غير هذا الفرد ، فلم تثبت صحة لتلك الطهارة حتى تستصحب ، فليس حينئذ إلا الرجوع لغيرها ، وهي تقتضي فسادها لأن دم الاستحاضة حدث ، والتمسك باستصحاب صحة الصلاة غير متجه حينئذ ، على انه لا يستلزم الصحة مطلقا ، بل أقصاه عدم البطلان ، وقد يكون حينئذ تكليفها الطهارة ثم البناء أو غير ذلك فتأمل جيدا. وان كان لأنه قد دخل‌

٣٣٦

في صلاته دخولا مشروعا فوجب عليه الإكمال لقوله تعالى (١) ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) فهو ـ مع عدم صلاحيته لمعارضة ما دل على بطلانها بحصول الحدث في أثنائها وعدم شمول الآية للبطلان القهري بعد الغض عن صحة التمسك في أصل ذلك ، لظهور سياقها في إرادة النهي عن إحباط العمل بالارتداد ونحوه ـ انها لا تستلزم الصحة على الإطلاق ، فلم لا يجوز حينئذ الطهارة والبناء مثلا.

ولقد أجاد المصنف في المعتبر فساوى بين الانقطاع في أثنائها وبين السابق عليها لكنه في عدم الناقضية والعفو عنه ، ومال إليه في المدارك مستدلا عليه بعموم الاذن لها في الصلاة بعد الوضوء المقتضي للعفو عما يخرج من الدم بعد ذلك ، وقد عرفت فيما تقدم ما فيه ، بل في الذكرى أني لا أظن أحدا قال : بالعفو عن هذا الدم الخارج بعد الطهارة مع تعقب الانقطاع ، انما العفو عنه مع قيد الاستمرار ، قلت : وما سمعته من المدارك من دعوى العموم يدفعه أنا لم نجد في الأدلة عموما يتناول مثل ما نحن فيه ، ولذا كان المتجه حينئذ التساوي بينهما ، لكن في الناقضية كما هو صريح جماعة منهم الشهيد في الدروس والمحقق الثاني في جامع المقاصد وعن العلامة في نهاية الأحكام وظاهره في القواعد والتحرير ، وصرح بعضهم ببطلان الصلاة ، بل لم أعثر على من احتمل الصحة ثم التجديد والبناء هنا كما ذكر في المبطون ، ولعله لأن الانقطاع ليس حدثا حتى يكون من قبيل الحدث المتخلل في أثناء الصلاة ليجي‌ء فيه ذلك على أحد الوجهين ، بل هو مظهر لحكم حدثية الدم السابق المتخلل بين الطهارة والانقطاع ، فيفسد المتقدم حينئذ ، فما عساه يظهر من شيخنا الأكبر في شرح المفاتيح من جعله كالحدث المتخلل في أثناء الصلاة لم يتضح لنا وجهه ، فتأمل جيدا. هذا بالنسبة إلى البحث في أصل الفرق بين الأثناء والسبق. بقي الكلام في البحث عن نفس الانقطاع انه لبرء أو غيره ، ولا أظنه يخفى‌

__________________

(١) سورة ( محمد ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الآية ٣٥.

٣٣٧

عليك شي‌ء منه بعد ملاحظة ما سبق لنا من التفصيل ، كما انه لا يخفى عليك حال الانقطاع في أثناء الطهارة ، فتأمل.

كما انه‌ بقي الكلام في عدة أمور ينبغي التنبيه عليها‌ ( منها ) انك قد عرفت ان حدث الاستحاضة إنما يوجب أفعالها بالنسبة الى ما تعقبه من الصلوات دون ما تقدمه ، فلو رأت الكبرى بعد صلاة الصبح مثلا لم يجب الغسل لها قطعا. نعم يجب بالنسبة إلى الظهرين استمر إليهما أو لم يستمر ، بناء على عدم اشتراط حدثيته بما بعد الوقت ، ولو رأت الوسطى بعد صلاة الصبح فلا غسل لها قطعا كالسابقة ، ولكن هل يجب لها غسل للظهرين إذا استمر إليهما أو لم يستمر على الوجهين ، وكذا العشاءين مع استمراره إليهما أو حصوله بعد الظهرين؟ ظاهر كلام الأصحاب عدمه ، كما صرح به في جامع المقاصد في مبحث الغايات ، والشهيد في الروضة هنا بل لعل المتأمل في كلماتهم يمكنه تحصيل الإجماع على ذلك ، لتخصيصهم الغسل بكونه للغداة مع عدم تعرض أحد منهم لذكر تعدد الأغسال فيها بالنسبة إلى شي‌ء من صورها ، وقد سمعت فيما تقدم سابقا ان جماعة من الأصحاب نقلوا الإجماع على ذلك ، كما انهم حيث استدلوا بالأخبار على إيجاب الغسل الواحد فيها تمموا دلالتها على كون المراد الغسل للغداة بالإجماع ، منهم الأستاد الأكبر في شرح المفاتيح لما ذكر موثقة سماعة (١) الدالة على الغسل في كل يوم مرة ان لم يجز الدم الكرسف قال : « وأما كون الغسل لصلاة الغداة فلعدم قائل بالفصل ، إذ لم يقل أحد بأن المتوسطة عليها غسل واحد وليس لخصوص صلاة الصبح ، فكل من قال بالمتوسطة وهم المعظم قال كذلك ، والشاذ الذي جعلها من الكثيرة أوجب الأغسال الثلاثة ، بل ربما كان بديهي المذهب انه لو كان غسل واحد فموضعه صلاة الصبح » انتهى. وهو كالصريح فيما قلناه ، وقال العلامة الطباطبائي في مصابيحه : « المعروف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

٣٣٨

في الاستحاضة الوسطى وجوب غسل واحد لصلاة الغداة ، وظاهر عبائرهم في المقام ان هذا الغسل غايته خصوص صلاة الغداة ، فلا يتوقف صحة باقي الصلوات ، وربما احتمل ان يكون ذلك لجميع الخمس ، فيتوقف عليه صحة الجميع ، وعلى هذا التقدير فلو رأته في غير وقت الفجر احتمل وجوب الغسل ، والأصل والعمومات تنفي ذلك ، وقد صرح بعضهم بنفيه ، وهو ظاهر كلام الباقين » انتهى. وهو كالصريح أيضا فيما ذكرنا ، وكان الحكم من الواضح الذي لا يعتريه الشك ، نعم قد يستشكل في إيجابه الغسل لصلاة الغداة المستقبلة فيما ذكرنا من الفرض مع عدم استمراره أو حدوثه قبلها من دون تخلل صلاة فرض ، والظاهر خلافه ، لإطلاق ما دل على إيجابه الغسل المنزل على إرادة الغداة سواء تخلل الفصل بصلاة غيرها بينه وبينها أو لا ، بناء على عدم اعتبار وقت الصلاة في حدثيته ، اللهم إلا ان يدعى انسياق غداة ذلك اليوم ، والفرض حصول الحدث بعدها ، فلا غسل له حينئذ فتأمل.

ومن العجب ما وقع للمولى في الرياض من الحكم بوجوب الغسل للظهرين والعشاءين في الفرض المتقدم. قال فيه في المتوسطة بعد ان اختار عدم دخولها تحت الكثيرة في الحكم ، خلافا لابن الجنيد ومن وافقه : « ثم ان وجوب الغسل للصبح مشروط بالثقب قبله ومع عدمه له حكمه. نعم بعده يجب الغسل للظهرين أو العشاءين إذا استمر إليهما أو حدث قبلهما ، كالصبح من اليوم الآخر إذا استمر اليه ، واستدل على ذلك بكونه حدثا بالنظر الى جميع الصلوات اليومية ، ويرتفع بالغسل الواحد ، غاية الأمر لزومه وقت الصبح ، وذلك لا يدل على اختصاص حدثيته بالنظر إليه خاصة » قلت : وهو كما ترى ، مع مخالفته لما سمعت وللأصل وظاهر الأخبار (١) الموجبة غسلا واحدا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣ ـ والباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٥ و ٦.

٣٣٩

وتنزيلها على غير ما نحن فيه لا دليل عليه ، ودعوى ظهورها في المستمر دمها ـ مع انه لا يقضي بكون ابتداء رؤيتها له سابقا على الصبح ، وهو الذي يثمر في تضمنها الاكتفاء بالغسل الواحد لها ـ مصادرة محضة ، على انه لو سلم مدخلية هذا الحدث في باقي الصلوات فهو لا يقضي بأزيد من اشتراط صحة باقي الصلوات بالغسل للصبح لو حصل قبله ، فلو أخلت به لم تصح حينئذ صلواتها ، فيجب ان تغتسل حينئذ للظهرين ، لبقاء الحدث بالنسبة إليهما على إشكال فيه أيضا ، لعدم ثبوت مشروعيته بعد فوات المحل الموظف شرعا ، لا أنه يوجب غسلا لو حدث بعد انقضاء الصبح كما هو المفروض ، لعدم ثبوت الاحتياج الى الغسل في هذا الحال حتى يحتاج إلى إيجاده ، فتأمل.

وبذلك يظهر لك ما في تأييده لما ادعاه من كونه حدثا بالنسبة الى جميع الصلوات بالأمر بالجمع بين الصبح وبين صلاة الليل بالغسل في الرضوي (١) فلولا عموم حدثيته لأخر فيه ، للاكتفاء في صلاة الليل بالوضوء ، وفيه ـ مضافا الى ما تقدم وبعد الغض عما في الاعتماد عليه خصوصا في المقام ـ ان ملاحظته تقضي بكونه أظهر فيما قلنا ، لإطلاقه الحكم بغسل واحد لصلاة الليل والغداة من غير تعدد في الأغسال لباقي الصلوات في مقابل الكثيرة التي فيها ثلاثة أغسال ، ولا تعيين لابتداء حدوث الدم قبل العشاءين أو قبل الظهرين أو غير ذلك ، فهو بإطلاقه حجة عليه ، إذ المتجه على مختاره تعدد الأغسال حينئذ ، اللهم إلا ان ينزله على رؤيتها ذلك بعد العشاءين ، وهو تحكم ، على ان ظاهره يقضي بكون الحكم بذلك أي الغسل لصلاة الليل والغداة في جميع الليالي ، وكأنه مقطوع بعدمه ، لما ستعرفه فيما يأتي ان شاء الله ان المستحاضة متى فعلت ما يجب عليها من الأفعال كانت بحكم الطاهر ، فلا إشكال حينئذ في استباحتها صلاة الليل في الليلة الثانية بالوضوء مجردا ، وتنزيله على أول ليلة خاصة واضح الفساد ، فتعين حملها حينئذ‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١.

٣٤٠