جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

على ان في تقييد خبر النفساء بالمبتدأة ما لا يخفى ، بل وسابقه أيضا ، لما في قصر المطلق على الفرد النادر ، وما أدري ما الذي دعاه الى تخصيص المبتدأة بالمعنى الأول ، وكأنه لتصريح جملة من الأصحاب في خصوص المقام بخروج المضطربة عن هذا الحكم وتخصيصه بالمبتدأة ، أو لأن ثبوت اختلافها مع نسائها يمنع من الرجوع إليها عند الاشتباه لكن عرفت أن مرادهم بالمضطربة المتحيرة ، كما يشعر به تعليله في الذكرى وغيرها ذلك بأنها قد سبقت لها عادة ونسيتها ، وهو لا يشمل ما نحن فيه ، والثاني مجرد اعتبار لا يصلح مدركا للأحكام الشرعية ، مع عدم تماميته في جميع الصور ، كما لو لم يجئها الدم إلا مرة واحدة وافقت به نساءها ثم استمر بالمرة الثانية ، وأيضا فمثله وارد بالمبتدأة بالمعنى الأخص إذا اتفق تمييزها بالدورين الأولين مخالفا لنسائها ولم يثبت لها عادة ، فإنها إذا فقدته في الدور الثالث ترجع إلى نسائها وان ثبت اختلافها معهن ، ودعوى الفرق بين الاختلاف التمييزي وغيره ممنوعة ، لكون التمييز عندهم يجري مجرى الحيض المعلوم ، ولهذا تثبت العادة به لو اتفق تكريره جامعا لشرائطها.

فظهر لك من ذلك كله ان الأقوى ثبوت هذا الحكم للمبتدأة بالمعنى الأعم فضلا عن المعنى الأخص ، وما في رواية السنة (١) من ظهور رجوع المبتدأة بالمعنى الأخير فضلا عن الأول إلى التحيض في علم الله في كل شهر بستة أو سبعة لا بد من تقييده ، لعدم مكافأته لما تقدم ، كغيره من الأخبار التي ستسمعها ان شاء الله في المرتبة الثالثة ، وهو التحيض بالروايات ، بل احتمل في الذكرى ان المراد بعلم الله أي فيما علمك من عادة النساء ، فإنه الغالب عليهن ، وهو وان كان بعيدا في نفسه لكن لا بأس به في المقام ، فما يظهر من المصنف في المعتبر من التردد في الحكم وتبعه بعض متأخري المتأخرين ضعيف ، كالمنقول من الخلاف فيه كما تقدم من الغنية ، فتأمل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣.

٢٨١

ثم ان ظاهر النص والفتوى إطلاق الرجوع الى عادة النساء أو الأهل من غير تقييد بالوقت أو العدد خاصة ، سوى ما عن المسالك من التقييد بالثاني ، لكنه لا يخلو من نظر ، لما عرفت من الإطلاق القاضي بالزامها بالرجوع إلى عادة نسائها فيهما معا ، وكأنه أخذه من تبادر العدد في خصوص المقام ، على انه لو اعتبر الاتفاق فيهما لكفى في صدق الاختلاف الذي علق عليه زوال هذا الحكم بالوقت فقط وان انضبط العدد ، وإلا لوجب الرجوع الى الوقت عند انضباطه وان اختلف العدد ، وهما معا بعيدان ، إلا انه قد يدفع ذلك بأنه لا تلازم بين وجوب الرجوع الى الوقت والعدد عند الاتفاق ، قضاء للتشبيه وعدم صدق الاختلاف إلا بالعدد خاصة وان اتفقن في الوقت ، فتأمل فإنه دقيق.

ثم انه هل يعتبر في هذا الحكم اتفاق جميع نسائها من الأبوين أو أحدهما كما عساه يشعر به قول المصنف ان اتفقن وهو ظاهر المعتبر واختاره بعض متأخري المتأخرين ويعطيه بعض عبارات الأصحاب كظاهر المنقول عن نهاية الأحكام من انه لو كن نساؤها عشرا فاتفق تسع رجعت الى الأقران ، أو يكفي اتفاق الأغلب منهن كما هو صريح الذكرى ، أو يكفي البعض ولو واحدة كما يقتضيه الموثقان المتقدمان ، أو بشرط عدم التمكن من استعلام الباقي؟ احتمالات ، لكن ينبغي القطع بفساد الأول منها لتعذره أو تعسره سيما ان أريد الأحياء والأموات والقريب والبعيد ، كما انه ينبغي القطع بفساد الاكتفاء بالواحدة ولو علم الاختلاف ، لعدم القائل به مع عدم العلم بالاختلاف فضلا عن أن يكون معه ، مع ظهور لفظ النساء وتعليق الحكم على الاختلاف في خلافه ، نعم لا يبعد في النظر الاكتفاء بالأغلب مع عدم العلم بالخلاف ، بل وبالبعض المعتد به سيما إذا كان الطبقة القريبة وان لم تكن أغلبا ، لظهور الموثقين (١) السابقين فيه ، وشمولهما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١ والباب ـ ٣ ـ من أبواب النفاس ـ حديث ٢٠.

٢٨٢

لما لا نقول به لا يخرجهما عن الحجية ، مع عدم صراحة قوله لفظ النساء بإرادة شرطية الاستغراق ، بل قد عرفت انه ينبغي القطع بعدمه ، نعم يستفاد من قوله : ( فان كن مختلفات ) ان الاختلاف مانع لا ان الاتفاق شرط ، بل لم يثبت كونه مانعا مع اتفاق الأغلب لإلحاق المشكوك فيه بالأعم الأغلب ، بل الظاهر تناول لفظ النساء لذلك ، فكان الأظهر حينئذ الاكتفاء بالأغلب مطلقا وبالبعض المعتد به مع عدم العلم بالاختلاف سيما مع قرب الطبقة أو عدم التمكن من استعلام حال الباقي ، فتأمل. كما ان الأقوى أيضا عدم اعتبار اتحاد البلد في ذلك وان ظهر من الشهيد في الذكرى اختياره ، لإطلاق ما سمعته من الأدلة السابقة ، ودعوى تبادره من لفظ نسائها كدعوى ظهور مدخليته بالنسبة إلى الأمزجة ممنوعتان ، وان الأقوى أيضا أنه مع تحقق صدق الاختلاف المعتد به لا يثمر اتفاقهن على القدر المشترك بينهن من العدد ، فلا يرجع اليه وان كان محتملا إلا ان الظاهر ذلك لصدق اسم الاختلاف الذي علق الانتقال الى الروايات عليه ، وكذا لا يثمر اتفاقهن في الوقت كما أشرنا إليه سابقا لذلك أيضا ونحوه.

( وقيل ) كما هو خيرة النافع والبيان والدروس من دون تقييد في الأول بالبلد وعن التلخيص وظاهر المنقول عن المهذب أو عادة ذوات أسنانها من بلدها بل هو المشهور نقلا وتحصيلا ، إلا انه بالترتيب على فقد النساء أو اختلافهن ، وان اختلفت عباراتهم بالنسبة الى ذلك ، فما بين معلق له عليهما معا بدلا كالمبسوط والقواعد والإرشاد وعن الإصباح ونهاية الأحكام ، وآخر على الأول خاصة كالوسيلة والسرائر والتحرير والمختلف وعن جمل الشيخ واقتصاده وغيرها ، لكن مع التقييد باتحاد البلد في الأولين كالكتب المتقدمة عليهما ، وثالث على الأخير خاصة كاللمعة ، ولعله أجود من غيره ، اللهم إلا ان يراد بفقد النساء فقد العلم بعادتهن بموت أو نحوه ، وكيف كان فلا دليل على أصل الحكم سوى ما يقال : من حصول الظن بالمساواة معه ، واحتمال شمول‌

٢٨٣

لفظ نسائها لصدق الإضافة بأدنى ملابسة ، وقول الصادق عليه‌السلام في مرسل يونس (١) : « ان المرأة أول ما تحيض ربما كانت كثيرة الدم فيكون حيضها عشرة أيام ، فلا تزال كل ما كبرت نقصت حتى ترجع إلى ثلاثة » لظهوره في توزيع الأيام على الأعمار ، وما عن بعض النسخ من تبديل الهمزة في أقرائها في مقطوعة سماعة (٢) وموثقة ابن مسلم (٣) بالنون ، وبه حينئذ يظهر قوة الدخول تحت نسائها ، كل ذا مع الانجبار بالشهرة.

وفي الكل نظر لعدم ثبوت اعتبار مثل هذا الظن في خصوص المقام ، بل ثبوته هنا يقضي بسقوط الرجوع الى الروايات ، لندرة اختلاف غالب أقرانها إن اعتبرناه فضلا عن مطلق البعض ان قلنا بالاكتفاء ، وصدق الإضافة بأدنى ملابسة لا يقتضي تبادرها ، على أن ذلك يقضي بالاكتفاء بالاتحاد بالسن أو البلد كما أنه يقتضي عدم الترتيب ، وهو خلاف المشهور كما عرفت ، ومنع إشعار المرسل بحيث يصلح للحجية ، كما انه ينبغي القطع بفساد ما ينقل عن بعض النسخ في نحو مقطوعة سماعة (٤) كما لا يخفى على من تأملها على تقدير ذلك ، نعم لعل له وجها في مثل الموثقة المتقدمة (٥) مع شهادة لفظ نسائها للهمزة ، بل هو المناسب للتفريع كما لا يخفى على المتأمل فيها ، وأيضا فلا يصلح شي‌ء مما ذكر للترتيب ، بل قضيتها التخيير ، وهو خلاف المشهور ، كما انه لا شي‌ء يقتضي اشتراط اتحاد البلد سوى دعوى انه المتيقن وان له تأثيرا في اختلاف الأمزجة ، ودعوى استفادة الترتيب من تبادر الأهل من لفظ نسائها ، ومن اتفاق الأعيان على الأهل دونه ، والتصريح به في خبر أبي بصير كما ترى ، نعم قد يقال : إن جانب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١.

٢٨٤

الظن بالأهل أقوى ، وبأنه طريق الجمع بين الأخبار على تقدير قراءة النون ، وغير ذلك من التعليلات له ولأصل الحكم التي يشكل الاعتماد عليها سيما على المختار من عدم حجية كل ظن حصل للمجتهد ، ومن هنا أنكره في المعتبر والمنتهى ، وتبعهما جماعة ممن تأخر عنهما ، بل في المنتهى ان الصدوق والسيد لم يذكرا الأقران ، قلت : وكذا الخلاف والجامع كما عن الكافي لأبي الصلاح ، وهو الذي تقتضيه مقطوعة سماعة المتقدمة وغيرها من الروايات التي ستسمعها ، بل عن الشيخ في الخلاف الإجماع على مضمون مقطوعة سماعة ، فتأمل جيدا ، فالأولى إسقاط هذه المرتبة ، والاقتصار على التمييز وعادة النساء.

( فان ) فقد العلم بعادتهن أو ( كن مختلفات ) اختلافا يمتنع الرجوع معه جعلت المبتدأة بالمعنى الأعم بل والمتحيرة عند المصنف في جميع أدوارهما حيضها في كل شهر سبعة أيام أو عشرة من شهر وثلاثة من آخر مخيرة فيهما لكنه خير في المتحيرة في القسم الأول بين الستة والسبعة كما ستسمع ، واقتصر على الثاني هنا ، وكان الأولى له العكس لما ستعرف وقيل عشرة من كل شهر ، ولم نعرف قائله ، وقد يريد به المنسوب الى ابن زهرة من جعل العشرة حيضا والأخرى طهرا وقيل ثلاثة ثلاثة وهو المنقول عن أبي علي ، ومال إليه في المعتبر وبعض متأخري المتأخرين والأول أظهر لأنه بعد كون الفرد الأول من فردي التخيير الغالب في عادات النساء وجه الجمع بين ما ورد من الأخبار في المقام من قوله عليه‌السلام في مرسل (١) يونس الطويل ـ الذي هو كالصحيح ، لكون الإرسال فيه عن غير واحد ، وكون المرسل يونس الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، بل نقل الشيخ في الخلاف‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣ مع الاختلاف وفي الوسائل ( حمية ) بدل ( حميئة ).

٢٨٥

الإجماع على روايته في خصوص ما نحن فيه ، مضافا الى ما يظهر من ملاحظته من كثرة الشواهد الدالة على صحته ـ للمبتدأة : « تحيضي في كل شهر في علم الله ستة أو سبعة أيام ، ثم اغتسلي وصومي ثلاثة وعشرين يوما أو أربعة وعشرين يوما ـ ثم قال الصادق عليه‌السلام فيه بعد ذلك ـ : وهذه سنة التي استمر بها الدم أول ما تراه أقصى وقتها سبع ، وأقصى طهرها ثلاث وعشرون ـ وقال عليه‌السلام أيضا ـ : وان لم يكن لها أيام قبل ذلك واستحاضت أول ما رأت فوقتها سبع وطهرها ثلاثة وعشرون ـ وقال عليه‌السلام فيه أيضا ـ في التي اختلط عليها أيامها وزادت ونقصت حتى لم تقف منها على حد ولا من الدم على لون : إنها ان أطبق الدم عليها فلم تزل الاستحاضة دارة وكان الدم على لون واحد وحالة واحدة فسنتها السبع والثلاث والعشرون ، لأن قصتها كقصة حميئة حين قالت : إني أثجه ثجا » وبين‌ موثق عبد الله بن بكير (١) قال « في الجارية أول ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون مستحاضة : إنها تنتظر بالصلاة ، فلا تصلي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض ، فإذا مضى ذلك وهو عشرة أيام فعلت ما تفعله المستحاضة ، ثم صلت فمكثت تصلي بقية شهرها ، ثم تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة ، وتجلس أقل ما يكون من الطمث ، وهو ثلاثة أيام ، فإن دام عليها الحيض صلت في وقت الصلاة التي صلت ، وجعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر ، وتركها الصلاة أقل ما يكون من الحيض ».

و‌موثقه الآخر (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « المرأة إذا رأت الدم في أول حيضها فاستمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيام ، ثم تصلي عشرين يوما ، فان استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام ، وصلت سبعة وعشرين يوما » وفي الخلاف الإجماع على روايته ، ومضمر سماعة (٣) قال : « سألته عن جارية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

٢٨٦

حاضت أول حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر وهي لا تعرف أيام أقرائها ، فقال : أقراؤها مثل أقراء نسائها ، فإن كانت نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة ، وأقله ثلاثة أيام » وقول أبي الحسن عليه‌السلام في خبر الحسن بن علي بن زياد الخزاز (١) قال : « سألته عن المستحاضة كيف تصنع إذا رأت الدم وإذا رأت الصفرة؟ وكم تدع الصلاة؟ فقال : أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة ، وتجمع بين الصلاتين ».

وما في المعتبر من المناقشة بكون الروايتين ضعيفتين يعني بذلك مرسلة يونس ورواية ابن بكير الأخيرة معللا ذلك بما ذكره ابن بابويه عن ابن الوليد انه لا يعمل بما تفرد به محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس ، وبأن ابن بكير فطحي لا يلتفت اليه ، لما عرفته من قوة تلك المرسلة من وجوه متعددة ، بل في الذكرى انها مشهورة النقل مفتى بمضمونها حتى عد إجماعا ، وفي الخلاف دعوى الإجماع على مضمونها بالنسبة للمبتدأة كرواية ابن بكير ، مع ان الفطحية لا تمنع من العمل عندنا ، بل عنده أيضا كما لا يخفى على من لاحظ كتابه ، مع ان ما نقله عن ابن الوليد معارض بما نقل عن النجاشي انه جليل في أصحابنا ثقة عين كثير الرواية حسن التصانيف ، مع ما يظهر من الأصحاب قولا وفعلا من إنكار ما قاله ابن وليد ، بل في حاشية المدارك للأستاد الأعظم أنه « اتفق علماء الرجال والحديث والفقهاء على عدم قدح ذلك » انتهى.

فمن العجيب طرحه لهذين الروايتين ورجوعه إلى الثلاثة مطلقا ، حيث قال : والوجه عندي ان تتحيض المبتدأة بالمعنى الأعم ثلاثة أيام ، لأنه اليقين في الحيض ، وتصلي وتصوم بقية الشهر استظهارا ، وعملا بالأصل في لزوم العبادة كالمنقول عن أبي علي ، مع ما فيه من إمكان منع اقتضاء القواعد ما ذكر بعد طرح الروايتين ، لعدم اطراد أصالة لزوم العبادة ، بل قد يكون الأصل البراءة منها ، سيما بعد ملاحظة استصحاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٤.

٢٨٧

الحيض وقاعدة الإمكان ونحوهما ، ومعارضة الاحتياط في العبادة بمثله ، بل لعل المنقول حينئذ عن ابن زهرة وغيره من جعل الحيض عشرا والطهر كذلك أولى ، وان كان فيه أيضا طرح لما عرفته من الأخبار (١) المعمول بها بين الأصحاب ، ومنافاة لما دل (٢) من الأخبار على ان الحيض في كل شهر مرة التي يشهد لها الوجدان ، على انه لم أعرف لهما مستندا حينئذ بالنسبة إلى تعيين الثلاثة أو العشرة في أول الشهر أو غيره.

وقضية القواعد فيه حينئذ ترك جميع ما كان في تركه الاحتياط في سائر زمان الدم كما في غير الصلاة من دخول المساجد والوطء وقراءة العزائم ونحوها ، وأما الصلاة ونحوها مما تعارض فيه الوجوب والحرمة فيحتمل تغليب جانب الحرمة ، كاحتمال العكس في خصوص الصلاة لشدة أمرها وانها عماد دينكم ، ودعوى احتمال الرجوع الى اختيارها في التعيين لا دليل عليه ، لكون الفرض طرح العمل بالأخبار ، كدعوى احتمال التعيين في أول الحيض لمكان أسبقيته ، وكدعوى احتمال التمسك بما يقتضيه الأصل بالنسبة الى جميع ما مر ، لرجوعه إلى الشبهة الغير المحصورة ، فيجوز دخولها المساجد ونحوه ، وأما بالنسبة للصلاة والصوم فبأصالة براءة ذمتها من حرمة ذلك فيما أرادت تعيينه فإنه كما ترى.

ومن ذلك كله يظهر لك زيادة ضعف ما قالاه ، لما فيه من العسر والحرج في بعض الأحوال ، ومنافاته لسهولة الملة وسماحتها ، مع ان الباري ( عز وجل ) أجل من أن يجعل مثل هذا الحكم العام البلوى مخفيا ، ولم يبينه على لسان صاحب الشريعة ، كضعف المنقول عن الجامع من تحيض كل منهما بسبعة أو ثلاثة عملا بالرواية واليقين ، فإنه لا يكاد يفهم لهذا الجمع وجه يعتد به ، مع استلزامه لطرح ما سمعته من خبري ابن بكير وغيرهما ، ومنه يظهر ضعف ما اختاره في الرياض تبعا لبعض متأخري المتأخرين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الحيض.

٢٨٨

من التحيض لهما بسبعة سبعة للمرسل المتقدم ، وطرح ما سواه قائلا بعد ذكره روايتي ابن بكير : « وليس فيهما مع اختصاصهما بالمبتدأة دلالة على التحيض بذلك في جميع الأدوار ، بل ظاهرهما الاختصاص بالدور الأول ، ومع ذلك تضمنا تقديم العشرة ولم أر عاملا بهما سوى الإسكافي على ما حكاه بعض ، وربما حكي عنه القول بتعين الثلاثة مطلقا فالرواية حينئذ شاذة ، فالاستدلال بها لذلك والقول بالتخيير بينهما وبين ما تقدم للجمع بينهما وبين ما مر ضعيف ، مضافا إلى عدم تكافؤهما للأول ، وعلى تقدير التكافؤ فهو فرع وجود شاهد عليه ، وليس فيبطل ، فالقول الأول متعين ولا تخيير » انتهى.

وفيه أما أولا ما عرفت من ان المرسل قد اشتمل على الترديد بين الست والسبع مكررا صريحا وضمنا ، وهو يقتضي التخيير كما عن جماعة الفتوى به ، بل عن الذكرى نسبته الى المشهور ، وفي الخلاف دعوى الإجماع على روايته ، وبه مع شهادة ملاحظته له يندفع احتمال كونه من الراوي ، كما انه يندفع الاشكال فيه من جهة استلزامه للتخيير بين الواجب وتركه بأنه تخيير في سبب الوجوب ، ولا مانع منه كما تقدمت الإشارة إليه سابقا ، وكذا يندفع ما عساه يقال أيضا من التأييد للسبع بقول الصادق عليه‌السلام (١) بعد ذلك في المبتدأة : « أقصى وقتها سبع وأقصى طهرها ثلاث وعشرون » إذ لو جاز الاقتصار على الست لما كان ذلك أقصى ، بل الأربع والعشرون ، وب‌ قوله عليه‌السلام (٢) أيضا في المضطربة : « فسنتها السبع والثلاث والعشرون » بناء على اشتراكهما في ذلك كما عساه يشعر به أيضا التشبيه بقصة حميئة ، إذ بملاحظة ما سمعت يقوى كون مراد الصادق عليه‌السلام ذكر أحد الفردين اتكالا على ما سبق ، وانه أقصى إذا كان الحيض سبعا كما يشعر به مقارنته له فيه ، أو يراد به أقصى بالنظر الى ما دون ، بل لعل إرادة التفضيل منه يعين ذلك ، كما ان إرادته من‌ قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣.

٢٨٩

( أقصى وقتها سبع ) يشعر بوجود مرتبة أخرى دونها ، فيقوى حينئذ إرادة العهد بما ذكره في المضطربة الى ما تقدم في المبتدأة من كون السبعة أحد الفردين ، ويجعل التشبيه مؤكدا لذلك ، فتأمل. نعم قد يقال ان الأحوط اختيار السبع للاتفاق على جوازها عند القائلين بذلك ، كما انه يمكن القول بأن الأولى للمبتدأة اختيار الستة في شهر ، والسبعة في آخر بناء على التخيير لها بذلك ، وبالثلاثة في شهر وعشرة في آخر حتى يتوافق عدة أيام حيضها في الشهرين بالنسبة إلى مجموع الروايات ، فتأمل جيدا.

وأما ثانيا فلأنك قد عرفت ان رواية ابن بكير مما لا يسوغ للفقيه طرحها ، وكيف مع اشتمالها على شرائط الحجية ، ونقل الشيخ في الخلاف الإجماع على مضمونها ، بل لعلها أولى من المرسل لمخالفتها للعامة بخلافه ، ولذا قال ابن بكير بعدها : ( هذا مما لا يجدون منه بدا ) مريدا به التعريض لهم في ذلك ، وقد أفتى بمضمونها في الجملة جماعة من رؤساء الأصحاب ، بل لعل مشهورهم ذلك ان لم يكن إجماعهم سوى ممن لا يعتد بخلافه في ذلك وان اختلفوا في فهم المستفاد منها ، وأما ما ذكره من انه لا شاهد لهذا الجمع المقتضي للتخيير فهو مع ابتنائه على ان المراد به التخيير الحكمي لا العملي يمكن القول بعدم الاحتياج إليه في خصوص المقام ، لانتقال الذهن الى التخيير عند الأمر بشيئين متضادين في وقت واحد من آمر واحد أو ما هو بمنزلته ، كما انه يندفع ما عساه يقال أيضا ان ظاهرهما الاختصاص بالدور الأول ، لظهور إرادة المثال ، مع إمكان استفادته من مضمرة سماعة (١) وخبر الخزاز (٢) بعد صرفهما عن ظاهرهما من إرادة التخيير من الثلاثة إلى العشرة في كل الأدوار وان نقل الفتوى به عن المرتضى وظاهر الصدوق ، لكنه لمعارضته ما سمعت يقوى تنزيله على ما ذكرنا ، كل ذا مع عدم القول بالفرق بين الدور الأول وغيره من الأدوار في ذلك سوى ما ينقل عن أبي علي من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٤.

٢٩٠

الفتوى بمضمون مقطوعة ابن بكير أي التحيض بعشر في الدور الأول ثم ثلاثة ثلاثة لكنه مع انه نقل عنه خلاف ذلك من التحيض بثلاثة ثلاثة فقط معرض عن دليله بين الأصحاب ، مع عدم صراحته فيما ادعاه ، لاحتمال إرادته التحيض بالعشر في الشهر الرابع ، فلاحظ وتأمل.

ومما ذكرنا يظهر لك اندفاع المناقشة أيضا بتضمنهما تقديم العشرة مع عدم ظهورهما في إرادة الإلزام ، بل لعله من جهة جلوسها في أول الدور عشرة من جهة انتظارها انقطاع الدم واستمراره ، نعم قد يشكل الحكم المذكور باختصاص روايتي ابن بكير في المبتدأة بالمعنى الأخص دون المتحيرة والقسم الثاني من المبتدأة ، ومن هنا قد يقال : باختصاص التخيير بها دونهما ، وقصرهما على المرسل ، لكن قد تستفاد المساواة بينهما بعد نسبتها للمشهور من بعضهم ، بل أرسل آخر عن الخلاف الإجماع على تحيض المتحيرة بالستة أو السبعة أو عشرة من شهر وثلاثة من آخر إلا أني لم أجده فيه ، بل الموجود فيه الإجماع على السبعة خاصة من التشبيه بقصة حميئة في المرسل لإفادته انها كالمبتدأة ، ومن خبر الخزاز بعد التنزيل المذكور ، مع ما عرفت من قرب مدلول المرسل للروايتين بالنسبة الى أيام الحيض في الشهرين ، إذ هي ثلاثة عشر يوما أو أربعة عشر ، فيقوى في الظن حينئذ ان المراد قيام الثلاثة والعشرة في الشهرين مع موافقتها للاعتبار في الجملة بالجمع بين الأقل والأكثر الموافقين لقاعدة الإمكان واليقين مقام السبعة في كل شهر شهر ، فتأمل جيدا ، الى غير ذلك من المؤيدات الكثيرة ، ولعله الأقوى وان كان سابقه أحوط منه وفاقا للمصنف في الكتاب والنافع ، وللعلامة في القواعد ، والشهيدين في الدروس واللمعة والبيان والروضة ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد وغيرهم ، بل لعله المشهور نقلا وتحصيلا بين المتأخرين على اختلاف في عباراتهم بالنسبة إلى الفرد الأول من فردي المخير في الاقتصار على السبعة أو التخيير بينه وبين الستة ، وقد عرفت ان الأقوى الثاني.

٢٩١

وبقي في المقام مضافا الى ما عرفته في مطاوي البحث أقوال متشتتة لا دليل يعتد به في مقابلة ما ذكرنا على شي‌ء منها ، كالمنقول عن الاقتصاد من تحيض المضطربة بسبعة في كل شهر ، أو بثلاثة في الشهر الأول وعشرة في الثاني ، والمبتدأة بسبعة خاصة ، وهو كالمستغرب بالنسبة إلى المبتدأة والى تخصيص الأول بالثلاثة والثاني بالعشرة ، وكالمنقول عن الجمل والعقود والمهذب والإصباح من العكس ، وهو وان خلا عن الاستغراب الأول لكنه غير خال عن الثاني ، اللهم إلا ان يريدوا المثال ، فيقرب حينئذ الى ما عساه يظهر من المنقول عن الخلاف من تحيض المضطربة بسبعة خاصة ، والمبتدأة بستة أو سبعة أو بثلاثة وعشرة ، ويظهر لك وجهه مما تقدم مع ما فيه ، وكالمنقول عن موضع من المبسوط من القطع بتخير المبتدأة بين السبعة أو الثلاثة والعشرة مع إلزامه المتحيرة العمل بالاحتياط والجمع بين عملي الحيض والاستحاضة ، كما عن النهاية والاستبصار في المتحيرة انها تدع الصلاة كل ما رأت الدم ، وتصلي كل ما رأت الطهر الى ان ترجع الى حال الصحة ، ونقله عن موضع آخر من المبسوط في المبتدأة الى ان تستقر لها عادة ولعله لخبري أبي بصير (١) ويونس بن يعقوب (٢) المتضمنين لذلك ، وقد تقدم البحث فيهما سابقا غير مرة ، مع ان فيهما‌ ( انها تصنع ذلك ما بينها وبين ثلاثين يوما ثم هي مستحاضة ) ولا مقاومة فيهما لما ذكرنا من وجوه متعددة كما لا يخفى ، مع قصورهما عن إفادة تمام ما ذكر ، بل عن الشهيد في البيان ان العمل بالاحتياط ليس مذهبا لنا ، الى غير ذلك من الأقوال التي لا فائدة مهمة في التعرض لها ، وربما أنهاها بعضهم إلى ثمانية وعشرين قولا ، أربعة عشرة في المبتدأة ، ومثلها في المضطربة.

وكيف كان فقد عرفت فيما مضى انه لا إشكال في التخيير بين الست والسبع كما هو ظاهر المرسل ، إذ هو تخيير في سبب الوجوب والحرمة من التحيض وعدمه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

٢٩٢

فما وقع للعلامة في المنتهى والنهاية ـ من الإشكال في ذلك حتى انه حمل لفظ ( أو ) في المرسل على التفصيل في الرد الى اجتهادها ورأيها مما يغلب على ظنها انه أقرب الى الحيض إما من عادتها أو عادة نسائها أو ما يكون أشبه بلونه ـ ضعيف جدا مع عدم اطراده ، إذ قد تفقد ذلك كله ، ومنه يرتفع الإشكال في التخيير في غيره من الأعداد ، نعم هل تلتزم ذلك بمجرد اختيارها قبل العمل بمقتضاه أو لا؟ وجهان ، أقواهما العدم ، للإطلاق والاستصحاب ، كما انها لا تلتزم برواية السبع مثلا بمجرد اختيارها في سائر الأدوار ، بل لها ان تعدل إلى رواية الثلاث والعشر ، نعم يحتمل قويا القول بالزامها بذلك بالنسبة إلى الشهر الثاني ان اختارت السبع في الأول ، كما انها إذا اختارت الثلاث في الأول تلتزم العشرة في الثاني ، فيكون تمام دورها الشهران ، وبعد تمامهما ترجع الى التخيير حينئذ بين رواية السبع أو الثلاث والعشر ، للإطلاق والاستصحاب ، فما وقع في جامع المقاصد من ان تخييرها في ذلك منحصر في الدور الأول دون غيره ضعيف كدليله ، ومثله احتمال جواز تلفيق الدورين من الروايتين كأن تجلس في شهر عشرة وفي آخر سبعة ، فتأمل.

ثم ان الظاهر ثبوت التخيير لها وان لم يستمر الدم شهرا فضلا عن أشهر وان كان ظاهر الروايات ذلك ، لكنه موردا لا شرطا كما لو انقطع على الحادي عشر مثلا فتحيض حينئذ إما بسبع أو بثلاث أو بعشر على إشكال في الأخيرين ، فتأمل. وكيف كان فهل يتعين عليها وضع ما تختاره من العدد في أول الدم كما عن التذكرة واختاره كاشف اللثام ، أو هي مخيرة في سائر الشهر كما هو المنقول عن جماعة؟ قولان ، أحوطهما بل أقواهما الأول ، لاقتضاء الجبلة ، ولما عساه يظهر من روايتي ابن بكير ومن‌ مرسل يونس ( عدت من أول ما رأت الدم الأول والثاني عشرة أيام ، ثم هي مستحاضة ) ولأن عليها أول ما ترى الدم ويجوز كونه حيضا ان تتحيض به ، على انه قد يشكل‌

٢٩٣

الحكم بجواز جعلها خارج العشرة ، وبما عرفته سابقا انها ترجع إلى معرفة حالها بمجرد تجاوز الدم العشرة من التمييز أو عادة النساء مثلا أو الروايات ، وإلا فلا تبقى منتظرة إلى تمام الشهر ، فتأمل جيدا.

ومن هذا الأخير ينقدح الكلام في مسألة غير محررة في كلام الأصحاب ربما أشرنا إليها فيما سبق ، وهي ان رجوع ذات الروايات إليها هل هو بمجرد تجاوز الدم لعشر أو بعد تمام الثلاثين؟ وعلى الأول فهل يتعين عليها وضع ما تختاره من العدد في ضمن العشرة أو لها جعلها في خارجها وان لم تعلم باستمرار الدم؟ وعلى الثاني فهل تعمل في هذه المدة عمل المستحاضة ونحوه مما يقتضيه الاحتياط أو لا يجب عليها شي‌ء منه؟ كل ذلك غير منقح في كلماتهم ، وان كان الأقوى الأول ، كما انها بالدور الثاني كذلك ما لم تصادف تمييزا فيه أو علما بعادة نساء كما صرح به بعضهم ، وان أطلق آخرون ، فتأمل جيدا. ثم ان الظاهر ان ليس لها ان تعدل عن وضعها العدد في العشر الأول ان أرادت وضعه في العشر الثاني على إشكال.

هذا كله في المبتدأة والمتحيرة‌ وأما ذات العادة وقتا وعددا فل تجعل عادتها حيضا إذا استمر بها الدم مجاوزا للعشرة ولم يعارضها تمييز إجماعا محصلا ومنقولا في المعتبر والمنتهى وغيرهما ونصوصا (١) وحينئذ يكون ما سواه استحاضة حتى أيام الاستظهار كما تقدم تحقيقه سابقا ، ويأتي تحقيق الكلام ان شاء الله في المستقرة أحدهما ، لكن ينبغي ان يعلم ان الظاهر ان رجوعها الى عادتها انما هو في ضمن كل شهر لا بمجرد فصل أقل الطهر ، عملا بما دل (٢) على انه في كل شهر مرة ، نعم لو قلنا بإمكان استقرار العادة في الطهر كما مر سابقا أمكن مراعاته هنا ، فقد يكون لها حينئذ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الحيض.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الحيض.

٢٩٤

في ضمن كل شهرين حيضة فتأمل. فإن اجتمع لها مع العادة تمييز وكان معارضا بحيث يستلزم حيضية كل منهما نفي الآخر قيل كما هو المشهور نقلا وتحصيلا تعمل على العادة ، وقيل على التمييز ونسب للشيخ في النهاية ولم يثبت ، نعم هو الظاهر منه في الخلاف والمبسوط وقيل بالتخيير كما هو ظاهر الوسيلة والأول أظهر لعموم ما دل (١) على الرجوع إليها المؤيد بما سمعته من الشهرة العظيمة ، وبأن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وبأن العادة أفيد للظن ، لكونها من الأمور الجبلية ، ولاطرادها في غير المقام إجماعا دون التمييز إجماعا أيضا ، ولما عساه يشعر به موثق إسحاق بن جرير (٢) الوارد في التمييز من اشتراط الرجوع اليه بفقد العادة ، كما هو ظاهر مرسلة يونس الطويلة ، بل كاد يكون صريحها ، وبذلك كله يقيد إطلاق ما دل (٣) على التمييز وان كان بينه وبين أخبار الرجوع الى العادة عموم من وجه ، لما عرفته من الرجحان من وجوه ، سيما الشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا ، لرجوع الشيخ عن المخالفة في باقي كتبه كما قيل ، بل قال في المبسوط والخلاف بعد ذلك انه لو قيل بتقديم العادة مطلقا لكان قويا ، وبهما يوهن ما ادعاه من الإجماع في الثاني على تقديم التمييز ، لعدم إمكان مجامعته لقوة الثاني ، كما انه بجميع ما تقدم يوهن ما عساه يقال للقول بالتخيير من الجمع بين الأمارتين والعمومين به.

ثم ان قضية ما ذكرناه كما هو قضية إطلاق الفتاوى وصريح بعضها انه لا فرق في العادة الحاصلة من الأخذ والانقطاع أو التمييز ، لكنه صرح في جامع المقاصد بتقديم التمييز على الثانية ، ولعله لعدم زيادة الفرع على الأصل مع الشك في تناول الأدلة السابقة ، وهو لا يخلو من وجه ، وان كان الأوجه خلافه ، نعم قد يشكل الحال في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الحيض.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض.

٢٩٥

تقديم العادة على التمييز إذا كانت وقتية خاصة ، لظهور الأدلة في غيرها ، هذا كله مع فرض التعارض بحيث كان الحكم بحيضية أحدهما يستلزم نفي الآخر كما سمعت من تقييدنا لعبارة المصنف ، أما مع عدمه كأن فصل أقل الطهر بينهما أو كان مجموع العادة والجامع للتمييز لم يتجاوز العشرة فقد صرح جماعة بحيضيتهما معا ، بل أرسل في الرياض الإجماع على الثانية ، كما في ظاهر التنقيح نفي الخلاف فيه ، وقد تشعر به عبارة المنتهى أيضا ، كما انه نقل عن ظاهره الاتفاق في الصورة الأولى. وقد تشعر به عبارة المدارك ، وكأنه لقاعدة الإمكان ولعدم التنافي بين عمومي العادة والتمييز ، فيعمل بهما معا ، وظهور أدلة الاقتصار على العادة أو التمييز في غير ذلك ، ولأن أقصى ما يمكن إثباته ان العادة مثبتة لحيضية ما فيها لا انها تنفي ما عداه ، ولأنه كما إذا لم يستمر الدم مجاوزا للعادة وفصل أقل الطهر ثم رأت ، لكنه قد يشكل بعموم أخبار العادة ، وبما عرفت من اشتراط الرجوع للتمييز بفقدها في المرسل ، والشك في شمول الإمكان لمثل ذلك ، ويؤيده إطلاق الأصحاب الرجوع إليها خاصة مع التجاوز ، واستحاضة ما عداها الشامل لبعض صور المقام ، ولعل الأول لا يخلو من قوة في كلا الصورتين.

وإذا تبين ذلك فنقول‌ ها ( هنا مسائل : ( الأولى ) إذا كانت عادتها مستقرة عددا ووقتا فرأت ذلك العدد متقدما على ذلك الوقت أو متأخرا عنه تحيضت بالعدد تقدم ) العدد على الوقت وبالعكس لمستقرتهما وألغت الوقت ، لأن العادة تتقدم وتتأخر اتفاقا كما هو الظاهر على ما في كشف اللثام ، ويشهد به الوجوه والاعتبار ، وقاعدة الإمكان والنصوص (١) منها‌ مضمرة سماعة (٢) قال : « سألته عن المرأة ترى الدم قبل وقت حيضها قال فلتدع الصلاة ، فإنه ربما يعجل بها الوقت » إلا انه عن الشيخ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الحيض.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

٢٩٦

في المبسوط « متى استقر لها عادة ثم تقدمها الحيض بيوم أو يومين أو تأخر بيوم أو يومين حكمت بأنه من الحيض ، وان تقدم بأكثر من ذلك أو تأخر بمثل ذلك الى تمام العشرة أيام حكم أيضا انه من الحيض ، فان زاد على العشرة لم يحكم بذلك » ولعله أراد انها إذا رأت العادة مع ما قبلها أو ما بعدها كان الجميع حيضا ان لم يتجاوز الجميع ، وإلا فالعادة.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في الحكم بناء على ما تقدم من قاعدة الإمكان سواء كان ما رأته بصفة دم الحيض أو لم تكن نعم قد يستشكل بالنسبة إلى تحيضها به بمجرد الرؤية أو التربص إلى ثلاثة ، وقد تقدم في المبتدأة ان التحقيق التفصيل بين الجامع وعدمه ، وانه لا فرق بينها وبين ذات العادة إذا رأته متقدما أو متأخرا وان ظهر من بعضهم ذلك ، لكن قد عرفت ضعفه ، كضعف الفرق بين التقدم والتأخر بكون الثاني يزيده انبعاثا ، فتتحيض به بخلاف التقدم ، إلا انه قد تقدم لك سابقا اشتراط كون التقدم والتأخر معتدا به لا ما يتسامح بمثله بالنسبة للعادات كاليوم واليومين ونحوهما ، ولصدق الرؤية في وقت الحيض بنحوه ، وبما يشير اليه‌ خبر إسحاق بن عمار (١) عن الصادق عليه‌السلام « في المرأة ترى الصفرة ان كان قبل الحيض بيومين فهو من الحيض » وما في الروض ـ من ان ذلك يستلزم جوازه مطلقا ، لانحصار الخلاف في المنع مطلقا وعدمه كذلك ، فالتقييد باليومين إحداث قول ثالث ـ ضعيف ، إذ المدار في حجية ذلك على القطع برأي المعصوم ، وهو مما يقطع بعدم حصوله في مثل هذه المسائل ، ولذا قال في جامع المقاصد بعد ذكره الخبر السابق : « انه يمكن الفرق بين ذات العادة وغيرها إذا تقدم دمها العادة اليوم واليومين ، عملا بهذه الرواية لتقييدها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢ وهو خبر إسحاق بن عمار عن أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام كما نقله « قدس‌سره » عن أبي بصير في التعليقة « ٥ » من الصحيفة ١٧٩.

٢٩٧

وإطلاق غيرها. ولا يحضرني قائل بذلك » انتهى.

( ( الثانية ) إذا رأت ) دما ( قبل العادة و) استمر ( في ) تمام العادة فان لم يتجاوز العشرة فالكل حيض بلا خلاف معتد به أجده لكن بشرط الاتصال بل وكذا إذا كان مفصولا ببياض مع كون السابق أقل حيض ، أما مع عدمه كما إذا رأت قبل العادة بيوم أو يومين ثم فصل ببياض فيشكل الحكم بحيضية الجميع ، لما تقدم سابقا من اشتراط تقدم أقل الحيض ، فإطلاق المصنف كغيره منزل على ذلك ، فتأمل. وأما ان تجاوز جعلت العادة خاصة مراعية للوقت والعدد مع فرضهما ، وإلا كان المضبوط منهما حيضا ، وكان ما تقدمها استحاضة لما عرفته سابقا من الإجماع والنصوص (١) إذا لم يعرضها تمييز ، بل وإن عارض على الأقوى ، كما انك قد عرفت الكلام في صورتي عدم المعارضة ، فتأمل جيدا. وكذا الكلام لو رأت في وقت العادة وبعدها من غير فرق بينهما أصلا ونحوه لو رأت قبل العادة وفي العادة وبعدها ف انه ان لم يتجاوز العشرة فالجميع حيض لقاعدة الإمكان وغيرها خلافا للمنقول عن أبي حنيفة ، فقصره على العادة ، وهو ضعيف. وان زاد على العشرة فالحيض وقت العادة ، والطرفان استحاضة خلافا للمنقول عن الشافعي بناء على قوله بأن أكثر الحيض خمسة عشر ، فاعتبر مجاوزتها ، ولأبي حنيفة ، فجعل العادة وما بعدها حيضا ان لم يتجاوز مجموعهما العشرة ، ولعل وجهه استصحاب الحيضية ، وبه حينئذ يفرق بين المتقدم والمتأخر عنها ، لكنه ينافي ما سبق له آنفا ، ولا ريب في ضعفه عندنا لإطلاق الأدلة في الرجوع للعادة.

( ( الثالثة ) لو كانت عادتها في كل شهر مرة واحدة عددا معينا ) تعين الوقت مع ذلك أم لا فرأت في شهر مرتين بعدد أيام العادة وفصل أقل الطهر كان ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الحيض.

٢٩٨

حيضا من غير ريب ، لقاعدة الإمكان ، ولقوله عليه‌السلام في‌ رواية محمد بن مسلم (١) : « وان كان بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة » وغيرهما ، بل وكذا لو جاء في كل مرة أزيد من العادة لكان حيضا لما تقدم إذا لم يتجاوز العشرة ، فإن تجاوز تحيضت بقدر عادتها وكان الباقي استحاضة بلا إشكال في جميع ذلك ، كما هو المستفاد من كلمات الأصحاب. والمضطربة العادة الناسية لها وقتا وعددا فلم تحفظ شيئا منهما ترجع الى التمييز بشرائطه المتقدمة فتعمل عليه بلا خلاف أجده لإطلاق أدلته ، ولرواية السنن (٢) الصريحة في ذلك ، سوى ما ينقل عن أبي الصلاح من رجوع المضطربة الى النساء ، ثم التمييز ، ثم سبعة سبعة ، وهو ضعيف ، كضعف المنقول عن ابن زهرة من عدم الالتفات إلى شي‌ء من ذلك ، بل تتحيض بعشرة بعد الفصل بأقل الطهر ، لكن قد يشكل على ظاهر عبارة المصنف ونحوها ممن أطلق بأن المضطربة هي التي اختلف عليها الدم ونسيت عادتها إما عددا أو وقتا أو عددا ووقتا كما نص عليه بعضهم ، ويشعر به كلامه الآتي بأن الحكم برجوع الجميع للتمييز لا يستقيم ، لأن ذاكرة العدد الناسية للوقت لو عارض تمييزها عدد أيام العادة لم يرجع الى التمييز بناء على ترجيح العادة ، وكذا القول في ذاكرة الوقت الناسية للعدد ، وربما اعتذر عن ذلك بأن المراد برجوعها ما إذا طابق تمييزها العادة بدليل ما ذكره من ترجيح العادة ، واعترضه في المدارك بأنه لا يظهر لاعتبار التمييز حينئذ فائدة ، قال : ويمكن ان يقال : باعتبار التمييز في طرف المنسي خاصة أو تخصيص المضطربة بالناسية للوقت والعدد ، ولعل هذا أولى ، قلت : لكن ينافيه تقسيم المصنف بعد ذلك المضطربة عند فقد التمييز إلى الأقسام الثلاثة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٤.

٢٩٩

وكيف كان ففذلكة الكلام في جميع صور المستحاضة أن يقال : إنها إما مبتدأة بالمعنى الأعم أي من لم تستقر لها عادة وقتا ولا عددا سواء سبقت بالدم أم لا ، وإما ذات عادة فيهما أو في أحدهما ، وإما مضطربة ناسية لهما أو لأحدهما ، أما الأولى فقد عرفت انها ترجع الى التمييز ، وإلا فعادة النساء ، وإلا فمخيرة في كل شهر بين سبعة سبعة أو عشرة من شهر وثلاثة من آخر ، والأحوط لها تقديم العشرة في الدور الأول وأحوط منه الاقتصار على الأول سيما القسم الأول ، وأما الثانية وهي ذات العادة فتأخذ عددها في وقتها ، وتجعله حيضا إذا لم يعارضها تمييز ، بل وإذا عارضها كما تقدم الكلام فيه وفي صورتي عدم المعارضة ، وما سواه استحاضة بالنسبة الى كل شهر فما دون ما لم تستقر لها عادة في الطهر إن قلنا به ، وإلا اتبعته ، هذا مع مطابقة الوقت للعدد ، أما إذا لم تر تمام العدد في الوقت كأن تكون عادتها في أول الشهر عشرة وقد رأت قبله الدم مثلا بعشرة إلى اليوم الخامس وانقطع أخذت ما كان في الوقت ، وأكملته بالمتقدم ، وكذا إذا كان ابتداء رؤيتها في اليوم الخامس من الشهر ثم استمر فإنه تكمله ببعض المتأخر ، ونحوهما ما لو كان رؤيتها جميع الدم خارج الوقت أخذت العدد وألغت الوقت ، فيكون الحاصل انها تراعي الوقت مهما أمكن ، وإلا اقتصرت على العدد ، أما لو تعارض أخذ تمام العدد وملاحظة الوقت بمعنى عدم إمكان التلفيق كما لو تخلل بياض فهل تقتصر على حيضية ما في الوقت مع إمكانه وتلغي غيره وان لم يبلغ تمام العدد ، أو أنها تأخذ تمام العدد من غيره وتلغي اعتبار الوقت؟ احتمالان ، ومنه يعلم اشتراط ما قدمناه من الصور السابقة في التلفيق من السابق أو اللاحق بما أمكن فيه ذلك ، فتأمل جيدا فان في المقام صورا متشتتة لا تخفى على من له خبرة بأصول الباب.

هذا كله في الوقتية العددية أما إذا كانت وقتية خاصة فقد ظهر لك انه يجب عليها مراعاة ذلك الوقت مهما أمكن ، وقد عرفت سابقا الإشكال في تقديمها على التمييز‌

٣٠٠