جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

القدس » إلا انه في الوسيلة والمهذب والمعتبر والمنتهى وعن غيرها انه يستحب الغسل بالصاع فما زاد ، بل في الأخير الإجماع عليه كما في سابقه نفي الخلاف فيه عندنا ، ولعل ذلك يكفي في إثبات استحباب مثله ، ولا صراحة فيما نسب إليها الخلاف في ذلك كالمقنعة وغيرها ، لأن الإسباغ لا يقضي بان الزائد ليس إسباغا ، فكان الأقوى حينئذ حصول الاستحباب بالزائد ، نعم ينبغي تقييده بما قيده في الذكرى بعدم حصول السرف ، ولعل المرسل يحمل على أهل الوسواس ، والظاهر مما تقدم من الأخبار دخول ماء غسل الفرج بالصاع ، وربما يلحق به مستحبات الغسل من المضمضة والاستنشاق وتثليث غسل الأعضاء ، والمراد بالصاع على المشهور بل كاد يكون لا خلاف فيه وربما حكي الإجماع عليه وهو الأصح أربعة أمداد ، والمد رطلان وربع بالعراقي ، ورطل ونصف بالمدني ، فهو تسعة بالأول ، وستة بالثاني ، والرطل العراقي على المشهور كما قيل أحد وتسعون مثقالا ، وهو نصف المكي ثلثا المدني ، والمثقال الشرعي هو الدينار ، وهو عبارة عن درهم وثلاثة أسباع ، فيكون كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل شرعية ، وهو على ما قيل ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي ، والدرهم ستة دوانيق ، والدانق على المشهور كما قيل وزن ثمان حبات من أوسط حب الشعير ، وقد ضبطه الأستاد الأكبر في كشف الغطاء بالعيار العطاري النجفي ، فبلغ حقتين وأربعة عشر مثقالا وربعا ، وذلك لأنك بعد ان عرفت ان الرطل أحد وتسعون مثقالا شرعيا ، وهي ثمانية وستون مثقالا صيرفيا وربع ، لما تقدم ان الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي فينقص حينئذ عن الأوقية العطارية النجفية سبعة مثاقيل إلا ربعا ، لأنها خمسة وسبعون مثقالا صيرفيا ، فيكون الصاع عبارة عن ستمائة مثقال صيرفي وأربعة عشر مثقالا وربع وعن حقتين بالعطاري وأربعة عشر مثقالا وربع ، فتأمل.

ثم ليعلم انه قد زاد بعض الأصحاب على ما ذكر المصنف من السنن ، فذكر الموالاة‌

١٢١

بمعنى المتابعة ، والدعاء حال الاغتسال وبعد الفراغ منه ، والتسمية عند الغسل ، وتكرار الغسل ثلاثا في كل عضو كما في الميت ، وتخليل ما يصل اليه الماء بدون التخليل كالشعر الخفيف استظهارا ، بل ذكر الأستاد في كشف الغطاء أضعاف ذلك من المستحبات ، من أراد فليراجعها ، والأمر سهل ، ولعل الظاهر عدم خصوصية فيما ذكرنا من المستحبات لغسل الجنابة إلا ما ظهر من الدليل اختصاصه ، كغسل اليدين من حدث الجنابة ، لما عرفت سابقا ان ما يرجع الى نفس الغسل وان كان مورده الجنابة مثلا فالظاهر شموله لجميع أفراد الغسل.

مسائل ثلاث : الأولى إذا رأى المغتسل عن الجنابة بالإنزال بللا بعد الغسل فان علم انه مني فلا إشكال في وجوب الغسل ، بل عليه الإجماع محصلا فضلا عن المنقول ، خلافا لبعض العامة ، وان علم انه بول خالص فلا إشكال أيضا كذلك في وجوب الوضوء خاصة ، وكذا لو علم انه غيرهما فلا إشكال في عدم وجوب شي‌ء عليه ، وأما إذا لم يعلم شيئا من ذلك فان كان المغتسل قد بال ثم استبرأ بعد البول فلا إشكال أيضا في عدم وجوب شي‌ء عليه من الغسل والوضوء ، بل حكى عليه الإجماع جماعة نصا وظاهرا ، ويؤيده التتبع لكلمات الأصحاب ، ويرشد اليه ـ مضافا الى ذلك والى ما دل على عدم نقض اليقين بالشك ـ ما تسمع من الصحاح (١) المستفيضة حد الاستفاضة الدالة على سقوط الغسل عن من استبرأ بالبول ، وللأخبار (٢) المعتبرة الدالة على عدم الالتفات لما يخرج من الذكر بعد الاستبراء بالاجتهاد وان بلغ الساق ، فما في‌ صحيح ابن عيسى (٣) من انه « كتب اليه رجل هل يجب الوضوء عما يخرج‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١ و ٥ و ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث (٢) و ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩.

١٢٢

من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب نعم » فهو مع إضماره وكونه مكاتبة محمول على العلم بكونه بولا أو على الاستحباب أو التقية أو غير ذلك ، كإطلاق الأخبار (١) الدالة على الأمر بالوضوء من البلل الخارج بعد البول للاستبراء من المني كما ستسمعها ، فإنه يجب تنزيلها على عدم حصول الاستبراء من البول بالاجتهاد ، كما لعله الظاهر منها جمعا بينها وبين ما دل (٢) على عدم المبالاة مع ذلك وان بلغ الساق من غير فرق بين ان يكون البول للاستبراء من المني وعدمه ، وما يقال : ان بينهما تعارض العموم من وجه يدفعه انه بعد التسليم فالترجيح للأخيرة ، للأصل والإجماع محصلا ومنقولا وغيرها.

ومما سمعت تعرف انه يتجه وجوب الوضوء خاصة لو ترك الاستبراء بالاجتهاد بعد البول وهي الصورة الثانية من صور المسألة ، أما عدم وجوب إعادة الغسل فللأصل وللإجماع المحصل والمنقول ، وما تسمعه من الصحاح (٣) المستفيضة الدالة على سقوط الإعادة مع البول ، وأما وجوب الوضوء فهو المعروف بين الأصحاب ، بل يظهر من بعضهم دعوى الإجماع عليه كما هو صريح بعضهم ، ويظهر من السرائر وعن غيرها نفي الخلاف فيه في باب الاستنجاء ، ولعله كذلك ، إذ لم أقف على من يظهر منه ذلك أو نقل عنه سوى الشيخ في الاستبصار والتهذيب ، وعساه يظهر أيضا من الصدوق أيضا بالأولى لما تسمع من خلافه. وكيف كان فهو ضعيف جدا لا يلتفت اليه ، ويدل عليه مضافا الى ما سمعت‌ صحيح الحلبي (٤) قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يغتسل ثم يجد بعد ذلك بللا وقد كان بال قبل ان يغتسل قال : يتوضأ ، وان لم يكن بال قبل ان يغتسل فليعد الغسل » ونحوه في ذلك صحيح محمد بن مسلم (٥)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١ و ٧ و ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٧.

١٢٣

وموثقة سماعة (١) وخبر معاوية بن ميسر (٢) كل ذلك مضافا الى ما يفهم من الروايات (٣) المستفيضة المذكورة في باب الاستنجاء ، ومن ذلك كله تعرف انه يجب تنزيل‌ صحيح ابن أبي يعفور (٤) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل بال ثم توضأ وقام إلى الصلاة فوجد بللا قال : لا يتوضأ انما ذلك من الحبائل » ونحوه إطلاق الصحيح الآخر (٥) على ان ذلك قبل الاستبراء (٦) لما عرفت.

وأما إذا استبرأ بالاجتهاد ولم يبل فظاهر المصنف انه لا غسل عليه كالبول ، لقوله أو استبرأ لم يعد كظاهر المبسوط والنافع ، وقيد ذلك في المقنعة بما إذا تعذر البول كما في المراسم والسرائر والجامع والتذكرة والدروس والبيان والذكرى وجامع المقاصد وغيرها ، بل نسبه في الأخيرين إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، وربما ظهر من التهذيب كما عن النهاية عدم الإعادة مع تعذر البول مطلقا أي مع الاستبراء وعدمه ، خلافا لما يظهر من بعضهم كالشيخ في الخلاف وغيره ، لإطلاقهم وجوب إعادة الغسل مع خروج البلل ان لم يبل ، بل في الأول الإجماع ، واختاره جماعة من متأخري المتأخرين ، ولعله الأقوى في النظر ، لإطلاق المعتبرة (٧) المستفيضة حد الاستفاضة المتقدم بعضها على وجوب الإعادة على من لم يبل المعتضدة بما سمعته من إجماع الخلاف وبالاعتبار ، فإنه من المستبعد كون الاستبراء بالاجتهاد مع إمكان البول لا يصلح لازالة أجزاء المني بخلافه مع التعذر ، وبذلك كله ينقطع مستند ما تقدم من الأصل ، وكذا ما يقال : انها أي الأقوال المتقدمة قضية الجمع بين هذه الأخبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٠.

(٦) في نسخة الأصل « قبل الاستبراء » والصحيح « بعد الاستبراء ».

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

١٢٤

وبين ما دل على عدم وجوب إعادة شي‌ء بخروج البلل الشاملة بإطلاقها ما قبل البول ، منها‌ خبر عبد الله بن هلال (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجامع أهله ثم يغتسل قبل ان يبول ثم يخرج منه شي‌ء بعد الغسل ، قال : لا شي‌ء عليه ان ذلك مما وضعه الله عنه » وخبر زيد الشحام (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل أجنب ثم اغتسل قبل ان يبول ثم رأى شيئا ، قال : لا يعيد الغسل ليس ذلك الذي رأى شيئا » بحمل الأولى على عدم الاستبراء بالاجتهاد ، والثانية عليه كما هو مقتضى القول الأول ، وعليه مع قيد التعذر وعدمه كما هو مقتضى القول الثاني ، وعلى التعذر وعدمه كما هو مقتضى الثالث ، وذلك لأنهما ـ مع الطعن في سنديهما بعبد الله ابن هلال في الأولى ، وأبي جميلة في الثانية ، واحتياج مثل هذا الجمع الى شاهد لعدم إشارة في اللفظ اليه ـ غير صريحة في المخالفة ، لكون الجماع والجنابة أعم من الانزال ، والشي‌ء أعم من البلل ، ولعلهما محمولان على نفي الوسوسة ، كما لعله يشعر به الخبر الثاني.

وما عساه يقال في تأييد القول الثاني : ان الضعف سندا ودلالة منجبر بالشهرة العظيمة بين الأصحاب التي كادت ان تكون إجماعا يدفعه انه لا يحصل للفقيه بملاحظة ذلك الظن بالمراد بهما ، وإذ يكون الأمر كذلك نمنع الاعتماد عليها ، وكذا ما يقال في التأييد للقول الأول بروايات الاستبراء من البول ، لشمولها تخلل الجنابة بين البول والاستبراء ، فيدخل نحو ذلك تحت مدلولها ، وفيها انه لا يلتفت وان بلغ الساق ، وذلك لأن الظاهر من ملاحظتها الاختصاص أي ان ذلك ينفي احتمال البولية خاصة ، وكذا ما يقال من التأييد الثالث بما نقل من‌ الفقه الرضوي (٣) « إذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد ان تبول حتى يخرج فضلة المني من إحليلك ، وإن جهدت ولم تقدر فلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٤.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

١٢٥

شي‌ء عليك » لعدم ثبوت حجيته ، مع احتماله ان المراد نفي الإثم.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا من المختار بين الناسي وغيره ، لكون ذلك من باب الأسباب التي لا يفرق فيها بين الناسي وغيره ، ولذا لم أجد أحدا من الأصحاب فرق في ذلك سوى ما عساه يظهر من الشيخ في الاستبصار ، مع انه ذكره احتمالا في‌ خبر أحمد بن هلال (١) قال : « سألته عن رجل اغتسل قبل ان يبول ، فكتب ان الغسل بعد البول إلا ان يكون ناسيا » فهو مع إضماره وضعفه جدا لا دلالة فيه على شي‌ء مما نحن فيه ، نعم هو دال على اشتراط صحة الغسل بتقديم البول عليه ، وقد عرفت الكلام عليه سابقا ، وأما‌ خبر جميل بن دراج (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصيبه الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ، ثم يرى بعد الغسل شيئا أيغتسل أيضا؟ قال : لا قد تعصرت ونزل من الحبائل » فهو ـ مع ان في السند علي بن السندي وعموم الجنابة فيه للمنزل وغيره ، والشي‌ء للبلل وغيره ـ لا يصلح لمعارضة غيره من الأدلة ، على انه ليس في الجواب إشعار بتقييد ذلك بالنسيان ، بل قد يظهر منه خلافه ، فيكون حينئذ مخالفا لما ستعرف من الإجماع المحكي وغيره ، هذا كله فيما إذا خرج البلل وكان قد استبرأ ولم يبل أو بالعكس.

أما إذا تركهما معا وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله وإلا كان عليه الإعادة بلا خلاف أجده إلا من الفقيه فالوضوء خاصة ، وربما مال اليه بعض متأخري المتأخرين كالأردبيلي والكاشاني ، وهو ضعيف ، بل عن العلامة الإجماع على بطلانه كما هو الظاهر من الشيخ وغيره ، وفي السرائر نفي الخلاف فيه ، ويدل عليه مضافا الى ذلك ما سمعته من المعتبرة (٣) السالفة الدالة منطوقا ومفهوما على وجوب الإعادة لمن لم يبل ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

١٢٦

وبذلك كله ينقطع الأصل ، ويظهر عدم صلاحية مرسل الفقيه للمعارضة ، قال في الفقيه بعد رواية الحلبي الدالة على وجوب الإعادة : ما هذا لفظه ، وروي في‌ حديث آخر (١) « ان كان قد رأى بللا ولم يكن بال فليتوضأ ولا يغتسل انما ذلك من الحبائل » قال مصنف هذا الكتاب : « إعادة الغسل أصل ، والخبر الثاني رخصة » انتهى. ولا يخفى عليك ما فيه ، مع ان قضية التعليل بكونه من الحبائل عدم الوضوء ، فتأمل جيدا.

ثم انه هل يحكم بجنابة من هذا حاله بمجرد البول أو انه يوقف على خروج بلل مشتبه؟ ربما يظهر من بعض الأصحاب وكذا الأخبار (٢) الأول ، معللين ذلك بأنه لا بد من بقية أجزاء المني في المخرج ، فبخروج البول تخرج فيجب عليه الغسل ، ولعل الأقوى في النظر الثاني ، ترجيحا للأصل على الظاهر ، وقد يشعر به تصفح كلماتهم سيما فرضهم في أول المسألة الخارج خالصا مما يدل على الانفكاك ، وهل يتوقف وجوب الغسل في المقام وغيره من مقامات البلل على خروج بلل اختبر فاشتبه ، أو على مجرد خروج البلل ، وتظهر الثمرة في الخارج في الظلمة وغيرها؟ لا يبعد الثاني ، لتعليق الحكم في الروايات على خروج البلل ، وتعليق الحكم في بعض كلمات الأصحاب على البلل المشتبه ان لم تنزل على المختار لا يلتفت اليه بعد معارضة الأدلة ، نعم لو شك في الخارج انه بلل أو غيره من ريح أو غيرها فالظاهر عدم الإعادة للأصل من غير معارض ، وما في بعض الأخبار (٣) من التعليق على الشي‌ء فهو مع معارضته بغيره لا يلتفت اليه سيما بعد تعليق الأصحاب الحكم على البلل.

ثم ليعلم انا حيث نوجب الإعادة في المقام وغيره من مقامات خروج البلل مرادنا إعادة الغسل خاصة ، فلا يعيد ما وقع منه من صلاة وغيرها قبل خروج البلل ، وذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٠.

١٢٧

لأن الحدث عبارة عن الخروج لا التحرك عن محله من غير فرق في ذلك بين الأصغر والأكبر ، وكذلك الكلام لو حبسه حتى صلى مثلا بلا خلاف أجده في ذلك بين أصحابنا ، بل قد يظهر من بعضهم الإجماع عليه ، وبه صرح الحلبي والمصنف والعلامة والشهيد والمحقق الثاني وغيرهم ، نعم نقل في المنتهى قولا عن بعض علمائنا بالإعادة ولم نعرفه ، ولعل مستنده ما في‌ صحيح ابن مسلم (١) المشار اليه سابقا « عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شي‌ء ، قال : يعيد الغسل ويعيد الصلاة » ولا دلالة فيها على كون الصلاة قبل الخروج حتى ترك الاستفصال لعدمه في السؤال ، فوجب تنزيلها على ما يوافق المختار ، فتأمل جيدا.

بقي شي‌ء ينبغي التنبيه عليه ، وهو انه لا إشكال عندهم بحسب الظاهر في كون هذا الغسل الذي أعيد للبلل المشتبه غسل جنابة ، ويجري عليه حكم غسل الجنابة من الاجتزاء عن الوضوء وغيره كما انه يجري على المكلف أحكام الجنابة قبل فعله ، وعساه الظاهر من الأخبار (٢) لأمرها بإعادة الغسل الأول ، ولم يتضمن شي‌ء منها أمرا بالوضوء لاحتمال البولية. لكن هل ذلك مخصوص بما كان مشتبها من كل وجه كما هو الغالب ، أو انه شامل لكل ما احتمل فيه انه مني وان قطع بدورانه بينه وبين البول؟ يحتمل الأول ، فيبقى غيره على مقتضى القواعد ، وهي تقتضي في نحو ما ذكرنا من المقطوع بكونه إما منيا أو بولا إيجاب الغسل والوضوء ، لأن الشغل اليقيني محتاج الى الفراغ اليقيني ، لكن يشكل ان مقتضى ذلك الحكم بالدائر بين المني والمذي عدم الالتفات ، للأصل وقاعدة اليقين ونحو ذلك. ومنه ينقدح قوة القول بان المستفاد من الأدلة كون الأصل في الخارج قبل الاستبراء بعد الجنابة منيا حتى يعلم الخلاف ، من غير فرق بين ان يكون مجهولا من كل وجه أو من بعضها ، كما انه ينقدح ان الأصل يقضي بكون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة.

١٢٨

الخارج بعد الاستبراء بالبول مثلا ان لا يكون منيا حتى يعلم الخلاف من غير فرق كذلك ، فيكون الحاصل ان المقطوع بكونه إما منيا أو بولا إما ان يكون خارجا قبل الاستبراء أو بعده ، فان كان الأول حكم بالجنابة واكتفي بالغسل ، وان كان الثاني وجب الوضوء خاصة ، وهو لا يخلو من وجه بل من قوة ، ومنه يعرف ما في كلام الشهيد في التمهيد من إيجاب الغسل والوضوء مما قطع بكونه إما منيا أو بولا على إطلاقه ، نعم يتجه ذلك في المستبرئ من الجنابة بالبول ، ومن البول بالخرطات ، ثم خرج منه ما يقطع بكونه أحدهما ، فإنه لا مرجح لأحدهما فيجبان معا ، ومما ذكرنا تعرف حال الخارج بعد الاستبراء من البول وقبله.

المسألة الثانية إذا غسل بعض أعضائه لرفع الجنابة ترتيبا أو ارتماسا ان قلنا بإمكان تخلل الحدث فيه ثم أحدث فإن كان بجنابة أيضا أعاد اتفاقا كما في كشف اللثام ، ولعله لا ريب فيه أيضا بالنسبة الى كل حدث تخلل في أثناء رافعه ، إذ لا إشكال في إيجاب المتخلل مقتضاه ، لعموم ما دل عليه ، ولا وجه للإتمام والتكرير ، لعدم تصور التبعيض في المتجانس على ما هو الظاهر ، وبذلك ينقطع استصحاب الصحة فيما غسل ، نعم يستثنى من ذلك المستحاضة وغيرها ، فإنه لا يقدح حدوث كل قسم في أثناء رافعه لأنه كالمسلوس ، بخلاف حدوث الوسطى أو الكبرى في أثناء رافع الصغرى ، لتضمن الأكبر الأصغر فيكون كحدوث الأصغر في أثناء رافعه فلا يكتفي حينئذ بالوضوء الأول ، وكذا كل أكبر عرض في حدوث رافع الأصغر كالمس في أثناء الوضوء مثلا ، وكذا لو حدثت الكبرى في أثناء رافع الوسطى فإن الأقوى نقض الغسل أيضا ، إذ ليس هما من قبيل الحدثين المتمايزين ليجري فيهما ما تسمع ، وأما إذا كان العارض في أثناء رافع الأكبر غير المرفوع وكان غير حيض كحدوث المس في أثناء غسل الحيض مثلا فلعل الأقوى عدم النقض في غير غسل الجنابة ، لما عرفت سابقا انها أحداث متمايزة‌

١٢٩

لا تداخل قهري فيها ، فيكون من قبيل المحدث بالحدثين وقصد رفع أحدهما ، وأما فيه فالظاهر جريان الوجوه الثلاثة التي ستسمعها في تخلل الأصغر في أثنائه ان قلنا بكفاية غسل الجنابة عن الوضوء مع اجتماعه مع أحدها ، وذلك لجريان ما تسمعه من الوجوه فيه ، نعم لو قلنا بعدم الاكتفاء اتجه عدم النقض ، أما لو عرضت الجنابة في أثناء رافع غيرها فالظاهر عدم النقض للاستصحاب من غير معارض ، وما وقع من بعضهم من دعوى الإجماع على فساد غسل الجنابة لو تخلل في أثنائه حدث أكبر قد يراد به في المجانس منه دون غيره ، لاستبعاد دعوى الإجماع فيه ، وأما إذا كان العارض الحيض فالظاهر من كثير من الأصحاب النقض ، بل صرح به بعضهم بالنسبة إلى غسل الجنابة ، ولعله لقوله عليه‌السلام (١) : « قد جاءها ما يفسد الصلاة » ونحوه ، إلا انه قد يقال : لا دلالة فيه عليه ، بل الظاهر منه إرادة الإرشاد لمكان عدم الفائدة في الغسل حينئذ ، لاشتراك الحائض مع الجنب في كثير من الأحكام ان لم نقل بكلها ، وإلا فلا فرق بين جواز الغسل للجنابة مع بقاء حدث الحيض بعد انقطاع الدم وجوازه كذلك قبل الانقطاع ، لكنه لا يخلو من تأمل ونظر ، لتوقفه على ثبوت الخطاب من الشارع ولو ندبا برفع حدث الجنابة مثلا ، وهو مشكل ، ولا يدخل تحت ما دل على الكون من طهارة لعدم تيسرها ، ولعله بذلك يفرق بين حال انقطاع الدم وعدمه ، فتأمل جيدا ، ويأتي تمام الكلام فيه في باب الحيض ، هذا كله إذا كان المعروض فيه غير غسل الاستحاضة المبيح وأما فيه فقد يقال : انه ينتقض بمجرد عروض المس فيه مثلا ، وذلك لوجوب تقديم غسله عليه وتأخير غسل الاستحاضة عنه ، لمكان وجوب المبادرة بعد غسل الاستحاضة إلى الصلاة ، فتأمل جيدا.

وأما إذا كان حدثه بالأصغر في أثناء الأكبر فإن كان في غير غسل الجنابة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١.

١٣٠

فالظاهر عدم النقض ، بناء على عدم الاكتفاء بشي‌ء منها عن الوضوء من غير فرق في ذلك بين تقدم الوضوء وتأخره عنها ، وتخيل إمكان جريان ما تسمعه من الوجوه الثلاثة في غسل الجنابة لكون الوضوء جزءا رافعا ضعيف جدا كما هو واضح وان كان غسل جنابة ، فقيل يعيد الغسل من رأس كما في الهداية والفقيه والمبسوط ، واختاره العلامة والشهيد وغيرهما ، بل عن المحقق الثاني في حاشية الألفية نسبته إلى الأكثر ، واختاره جماعة من متأخري المتأخرين استصحابا للحدث وللشغل مع توقيفية العبادة ، ولأنه لو تأخر عن تمام الطهارة لأبطل إباحتها الصلاة ، فللبعض بطريق أولى ، ولضعف القول بالإتمام مع الاجتزاء لما فيه من منافاة ما دل على إيجاب الأصغر الطهارة ، والقول بالإتمام ثم الوضوء لمنافاته لما دل على ان غسل الجنابة يجزي عن الوضوء ، لظهور انه متى تحقق غسل الجنابة أجزأ عن الوضوء ، فتعين الثالث ، لعدم القول بالفصل ، ولاستبعاد الاجتزاء بالغسل مع وقوع الأحداث الكثيرة في أثنائه ولو ببقاء جزء يسير من البدن ، ولما روي عن‌ الفقه الرضوي (١) « فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح بعد ما غسلت رأسك من قبل ان تغسل جسدك فأعد الغسل من أوله » وهو عين عبارة الصدوق في الهداية كما نقله في الفقيه عن رسالة والده ، فتكون هي مع ما نقل من فتوى الشيخ في النهاية مؤيدة له لأنهما على ما قيل متون أخبار حتى كانوا إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليهما وأمثالهما ، مضافا الى ما في الذكرى والمدارك ، ففي الأول قيل انه مروي عن الصادق عليه‌السلام في كتاب عرض المجالس للصدوق ، وفي الثاني أنه‌ روى الصدوق في كتاب عرض المجالس (٢) عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بتبعيض الغسل ، تغسل يدك وفرجك ورأسك ، وتأخر غسل جسدك الى وقت الصلاة ،

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

١٣١

ثم تغسل جسدك إذا أردت ذلك ، فإن أحدثت حدثا » الى آخر ما تقدم عن الفقه الرضوي ، وفي الوسائل انه رواه الشهيدان وغيرهما من الأصحاب.

وقيل : يقتصر على إتمام الغسل كما هو خيرة ابن إدريس ، ووافقه المحقق الثاني وغيره من متأخري المتأخرين ، وربما مال إليه في الذخيرة ، وهو المنقول عن ابن البراج استصحابا لصحة الغسل وعدم قابلية تأثير الحدث ، وللإجماع على ان ناقض الصغرى لا يوجب الكبرى ، ولقوله تعالى (١) ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) الى آخره. ولإطلاق ما دل على الغسل كقوله عليه‌السلام (٢) : « كل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته » ونحوه ، بل كاد ما دل على جواز تفريق الغسل كخبر أم إسماعيل (٣) والخبر الوارد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) في جواز التفريق ولو الى الظهر أو بعده يكون كالصريح في عدم البأس بالحدث ، لاستبعاد عدم التخلل في مثل ذلك ، فلاحظ. وحيث ثبت ان مثل ذا داخل تحت مسمى الغسل لم يكن للوضوء عقبه وجه ، لما علم من السنة وغيرها انه مجز عن ذلك (٥) وانه بنفسه طهارة ، بل في بعضها (٦) ان الوضوء معه بدعة.

وقيل : يتمه ويتوضأ للصلاة وهو الأشبه كما هو خيرته في المعتبر والنافع ، ووافقه عليه الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، وسبطه في المدارك ، والفاضل الهندي والمقدس الأردبيلي والكاشاني في مفاتيحه ، والبهائي ووالده على ما نقل هو عنه ، واختاره العلامة الطباطبائي في منظومته ، وقواه في كشف الرموز ، وهو المنقول‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ الآية ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الجنابة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

١٣٢

عن علم الهدى ، ولعله الأقوى جمعا بين ما دل على صحة مثل هذا الغسل من الاستصحاب والإطلاقات وغيرها وبين ما دل على إيجاب الأصغر الوضوء ، ولم يثبت أخذ الاجزاء في طبيعة الصحيح منه ، كما لم يثبت إجزاؤه حتى عن المتخلل في أثنائه ، وملاحظة الأخبار لا يستفاد منها ذلك ، ولا هي مسافة في بيان ما هنالك ، على انه ليس من الأفراد المتعارفة حتى يكون مشمولا لإطلاقها ، كما ان ما نقل من رواية المجالس ـ مع عدم ثبوتها كما نقل عن جماعة من المتأخرين عدم العثور عليها في هذا الكتاب ، ويشعر به نسبة الشهيد له الى القيل ـ فاقدة لشرائط الحجية ، ولا شهرة محققة حتى تجبرها ، مع ظهور عدم كونها منشئا لفتوى كثير منهم ، ولذا لم تقع الإشارة إليها قبل الشهيد ، مع مخالفتها الاحتياط في نفي الوضوء ، فتكون كالقولين الأخيرين من نفي الإعادة ، فلا يقين فراغ بواحد من الأقوال ، وبه يظهر فساد دعوى حصول الفراغ اليقيني بالأول ، اللهم إلا ان يقال : انه بنية الابطال للغسل يبطل ، فيكون غسلا جديدا مستأنفا فيجزي وهو لا يخلو من إشكال وتأمل ، لأن أقصى ما في نية القطع انما هو فوات الاستدامة وهي ليست شرطا في صحة ما سبق فلا يقدح ، نعم هي شرط في صحة اللاحق خاصة ، على ان الاستصحاب وحصول الامتثال للتكليف بغسل الجزء مثلا يقضي بذلك أيضا.

ثم انه بناء على عدم الإفساد فهل يصح له غسل إذا أعاد ولو بالتلفيق في الأجزاء من الفعل الأول والثاني ، أو يلتزم بالإعادة على النية الأولى حتى يصدق انه جاء بالعمل بنية واحدة؟ وجهان ، أقواهما الاجتزاء ، إذ لا دليل على شرطية ما زاد على تعقب غسل الأجزاء اللاحقة بنية في صحة السابقة ، فتأمل جيدا فإنه دقيق ، ولعلك في التأمل في جميع ما ذكرنا تستغني عن التعرض لفساد جميع ما ذكرنا من المرجحات للقولين السابقين.

نعم بقي شي‌ء لم نذكره سابقا وهو انه لا إشكال في رافعية غسل الجنابة لما تقدمه‌

١٣٣

من الأحداث الصغر ولما تضمنه حدث الجنابة من ذلك ، فحينئذ يتوجه ان يقال : انه حيث يتخلل في أثنائه فهل يبقى على الحال الأول أو لا؟ فان كان الأول اتجه كلام ابن إدريس ، إذ لا يتصور التبعيض في رفع الأصغر ، وان كان الثاني خالفت ما سلمته أولا ، ولعل التحقيق في الجواب عنه اختيار الثاني وعدم تسليم ذلك على إطلاقه ، لا يقال : انه بعد تسليم رافعية الغسل للأصغر فتخلل الحدث في أثنائه ينقضه لكونه من قبيل تخلل الحدث في أثناء رافعه ، لأنا نقول : أما أولا فبمنع الرافعية ، بل هو من باب الاسقاط ، وأما ثانيا فبعد التسليم نخص البطلان في رافعية الأصغر ، ودعوى تلازمهما ممنوعة ، فتأمل جيدا.

بقي الكلام في مقارنة الحدث لحصول الغسل تماما كما يتصور في الارتماس بالدفعة الحكمية ، أو الجزء الأخير كما يتصور في الترتيبي عند غسل آخر أجزائه ، ولعله لا إشكال فيه بناء على المختار من الصحة مع إيجاب الوضوء ، نعم قد يكون فيه تأمل ونظر بالنسبة للقولين الأخيرين ، ولعل الأحوط إعادة الغسل ثم الحدث بعده والوضوء ، وأحوط منه إيجاد مفسد قهري لما تقدم من الغسل بجنابة جديدة أو غيرها ، وذلك لما في الاجتزاء بالإعادة من دون ما ذكرنا من الاشكال بعدم تأثير نية القطع في إفساد ما تقدم ، مع عدم قابلية إتمامه بالمتجدد ، لكون نيته غير النية الأولى ، لا يقال : انه يتم الاحتياط بإتمام الغسل الأول ثم استقباله من رأس ثم الوضوء ، لأنا نقول : ان فيه احتمال عدم الاجتزاء من جهة عدم وجود الجزم بالنية ، كما تخيله بعض متأخري المتأخرين وان كان في غاية الضعف ، فتأمل جيدا.

الثالثة لا يجوز ان يغسله غيره مع الإمكان على ما قدمناه في الوضوء ، إذ لا فرق على الظاهر بينهما كما يستفاد مما تقدم ، ونحوه انه يكره ان يستعين فيه فلاحظ وتأمل.

١٣٤

الفصل الثاني من الفصول الخمس :

( في الحيض )

( وهو يشتمل على بيانه وما يتعلق به ، أما الأول‌ فالحيض ) لغة على ما صرح به كثير من الأصحاب هو السيل من قولهم حاض الوادي إذا سال ، وربما اعتبر فيه السيل بقوة ، وفي القاموس حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا سال دمها ، كما هو الظاهر من الجوهري أيضا ، وفي المغرب ومجمع البحرين إذا سال دمها في أوقات معلومة ، وإذا سال في غير أيام معلومة من غير عرق المحيض ، قلت : استحيضت فهي مستحاضة ، وكيف كان فالذي يظهر بعد إمعان النظر والتأمل في كلمات أهل اللغة وغيرها أن الحيض اسم لدم مخصوص مخلوق في النساء لحكم أشارت إلى بعضها الأخبار (١) منها تغذية الولد وغيره يعتاد النساء في أوقات مخصوصة ، فهو حينئذ كلفظ المني والبول والغائط من موضوعات الأحكام الشرعية التي يرجع فيها الى غيره ، وكان معروفا بهذا الاسم في السابق قبل زمان الشرع على ما قيل ، ويشير اليه قوله تعالى (٢) ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ) وبغيره كالطمث والقرء وغيرهما ، وكان لخروجه أحكام أيضا مترتبة عليه عند بعض الأمم السابقة حتى ان منهم من كان يهاجر الحائض مهاجرة تامة ، نعم قد يحصل الاشتباه في بعض أفراده ، فميزه الشارع بأشياء تعرفها ان شاء الله تعالى ، وليس له نقل شرعي إلى معنى جديد ، واحتماله كاحتمال ان الحيض في اللغة اسم من أسماء المعاني هو السيل ، أو سيل دم مخصوص ، وهو الذي رتب الشارع على خروجه الأحكام ضعيفان ، وان كان الثاني أقوى من الأول ، وما في بعض العبارات مما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣ ـ والباب ٣٠ ـ حديث ١٣ و ١٤.

(٢) سورة البقرة ـ الآية ٢٢٢.

١٣٥

يوهم الأول لا بد من تأويله كما يشهد به ملاحظة ما ذكروه له من التعاريف ، أو الاعراض عنه

( منها ) ما ذكره المصنف من انه هو الدم الذي له تعلق بانقضاء العدة ، ولقليله حد وان كان ليس بجار على قياس التعاريف التي تذكر لكشف المعرف بقرينة ذكر الأحكام الموقوفة على معرفة كونه حيضا فيه ، ولكن لفظ الدم فيه بمنزلة الجنس ، لشموله لسائر الدماء الخارجة من الفرج ، وما بعده بمنزلة الفصل ، لخروج ما عدا النفاس به ، فإنه لا تعلق لشي‌ء منها لا لظهوره ولا لانقطاعه بالعدة ، وبالأخير يخرج النفاس ، فان له تعلقا بانقضاء العدة في الحامل من زنا لاحتسابه بحيضة إلا انه ليس لقليله حد ، ومنه يعرف ما في تعريف التذكرة وأحد تعريفي المبسوط والمنتهى حيث اقتصرا على ما عداه ، وكان ما ترك أولى في الاقتصار عليه لسلامته طردا وعكسا. و ( منها ) ما في الوسيلة من انه الدم الأسود الغليظ الخارج عن المرأة بحرارة وحرقة على وجه له دفع ، وفيه انه قد لا يكون كذلك ، اللهم إلا ان يريد الغالب كما في السرائر. و ( منها ) ما في الكافي من انه الدم الحادث في أزمان عادية ، أو الأحمر الغليظ في زمان الالتباس ، وما في المهذب من انه دم أسود حار يخرج من المرأة بحرارة على وجه يتعلق بظهوره أو انقطاعه على الخلاف في ذلك انقضاء عدة المطلقات ، وما في المراسم من انه دم غليظ يضرب الى السواد بحرقة وحرارة ، وما في التحرير من انه الدم الأسود الغليظ الذي يخرج بحرقة وحرارة غالبا ، ولقليله حد يقذفه الرحم مع بلوغ المرأة ، ثم يصير لها عادة في أوقات متداولة بحسب مزاجها لحكمة تربيته الولد ، فإذا حملت صرفه الله تعالى إلى غذائه ، فإذا وضعت أزال الله عنه صورة الدم ، وكساه صورة اللبن ليغتذي به الطفل مدة رضاعه ، فإذا خلت من الحمل والرضاع بقي الدم لا مصرف له فيستقر في مكان ، ثم يخرج غالبا في كل شهر ستة أيام أو سبعة أو أقل بحسب قرب مزاجها من الحرارة وبعده ، الى غير ذلك مما يظهر ان مرادهم به كشف المعنى بعبارة‌

١٣٦

أوضح ، والإشارة إلى الدم المخصوص المعروف عند سائر النساء ، وليس المقصود التعريف الحقيقي الكاشف عن الحقيقة ، فلا حاجة الى التطويل بالتعرض لانتقاضها طردا وعكسا وعدمه ، فتأمل جيدا.

وإذ قد عرفت ان دم الحيض دم معروف فيما بين النساء إلا انه قد يقع الاشتباه في بعض أفراده فاحتيج الى التمييز ببعض صفاته الغالبة ، لحصول المظنة به عندها ، واكتفى الشارع بها كما في غير ذلك من المقامات ، ومن هنا قال المصنف انه في الأغلب يكون أسودا غليظا حارا يخرج بحرقة كما صرح به جماعة ، بل لا أجد فيه خلافا ، بل قد عرفت ان منهم من أخذه في تعريف الحيض ، ويدل عليه أيضا‌ الصحيح أو الحسن عن حفص البختري (١) قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم ، فلا تدري أحيض هو أو غيره؟ قال : فقال لها : ان دم الحيض حار عبيط أسود له دفع وحرارة ، ودم الاستحاضة أصفر بارد ، فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة ، قال : فخرجت وهي تقول : والله لو كان امرأة ما زاد على هذا » وصحيح معاوية (٢) عن الصادق عليه‌السلام « ان دم الاستحاضة والحيض ليس يخرجان من مكان واحد ، ان دم الاستحاضة بارد ، وان دم الحيض حار » وموثق إسحاق بن جرير (٣) قال : « سألتني امرأة منا ان أدخلها على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فاستأذنت لها فأذن لها ، فدخلت ـ الى أن قال ـ : فقالت له : ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ فقال : ان كان أيام حيضها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢ لكن رواه عن حفص ابن البختري كما هو الصحيح ولعل عدم ذكر لفظ ( ابن ) من سهو النساخ إذ هو قدس‌سره نقل رواية في التعليقة (١) من الصحيفة ١١٣ عن حفص بن البختري.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٣.

١٣٧

دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثم هي مستحاضة ، قالت : فان الدم يستمر بها الشهر والشهرين والثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال : تجلس أيام حيضها ثم تغتسل لكل صلاتين ، قالت له : ان أيام حيضها تختلف عليها ، وكان يتقدم الحيض اليوم واليومين والثلاثة ويتأخر مثل ذلك ، فما علمها به ، قال : دم الحيض ليس به خفاء ، هو دم حار له حرقة ، ودم الاستحاضة دم فاسد بارد ، قال : فالتفتت الى مولاتها فقالت : أتراه كان امرأة » وفي الوسائل « ورواه في السرائر من كتاب محمد بن علي بن محبوب إلا انه قال أترينه كان امرأة » انتهى. وخبر يونس بن عبد الرحمن (١) عن غير واحد سألوا أبا عبد الله عليه‌السلام ، والحديث طويل ، وفيه « ان الحيض أسود يعرف » وفي آخر (٢) « إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة ، ثم قال : وانما سماه أبي بحرانيا لكثرته ولونه » وفي السرائر كما عن المعتبر والتذكرة انه الشديد الحمرة والسواد ، وفي كشف اللثام « ان البحراني كما في كتب اللغة الخالص الحمرة شديدها منسوب الى بحر الرحم أي قعره » انتهى. ومنه ـ مع ما في بعض الأخبار المرسلة كقوله عليه‌السلام (٣) في الحبلى : « ان كان دما أحمر كثيرا فلا تصل ، وان كان أصفر فليس عليها إلا الوضوء » وقوله عليه‌السلام في آخر (٤) : « إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة » الخبر ـ يظهر أغلبية كونه أحمر أيضا ، فكان على المصنف ان يقول : أسود أو أحمر كما في النافع ، ولعل مراد المصنف بالأسود ما يشمل الأحمر كما قد يدعى ظهور ذلك من الأخبار المتقدمة ، ويشعر به مقابلته بالأصفر ، لكنه بعيد ، ولعل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ١٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

١٣٨

الظاهر ان الغالب فيه ان يكون أحمر شديد الحمرة جدا بحيث يميل الى السواد ، فصح وصفه بهما.

وكيف كان فقد قال في المدارك تبعا لجده في الروض : انه يستفاد من هذه الروايات ان هذه الأوصاف خاصة مركبة ، فمتى وجدت حكم بكون الدم حيضا ، ومتى انتفت انتفى إلا بدليل من خارج ، وإثبات هذا الأصل ينفع في مسائل متعددة من هذا الباب ، وتبعهما على ذلك بعض من تأخر عنهما كصاحبي الذخيرة والحدائق ، واعترضه في الرياض تبعا لشرح المفاتيح بما حاصله انه لا دلالة في هذه الأخبار على ذلك ، بل المستفاد الرجوع إليها عند الاشتباه بينه وبين الاستحاضة خاصة ، ومن هنا تراهم عند الاشتباه بينه وبين العذرة أو القرحة مثلا لم يذكروا شيئا من ذلك ، على انك قد عرفت ان منشأ هذه الأوصاف انما هو مجرد الغلبة ، وإلا فقد تتخلف ، فكيف تكون خاصة ، وستعرف ان الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، ومن هنا قيد بالأغلب ، كما انك قد عرفت ان دم الحيض من الموضوعات التي لا مدخلية للشرع فيها ، وانه دم معروف كالمني والبول وغيرهما ، فلو قطع بكون مسلوب الصفات حيضا ما كان لنفيه معنى والحكم له بغيره.

قلت : هو متجه ، لكنه لا ريب في كون المستفاد منها تمييزه عن الاستحاضة بذلك وان كانت أغلبية ، وهو مناف لما ستعرفه من الأصحاب من ان كل ما أمكن كونه حيضا فهو حيض ، وتظهر الثمرة بينهما في عدة مقامات ، منها ما لو رأت المبتدأة دما ليس في صفات الحيض ، فإنه بناء على الاعتداد بها لا يحكم بحيضيته ابتداء بخلافه على الثانية ، وكذا لو رأت ذات العادة الوقتية دما كذلك قبل العادة ، ولعل الأقوى في النظر البناء عليها بالنسبة الى هذه المقامات وما أشبهها ، وقد يكون ذلك مرادهم وان قصرت عبارتهم عنه ، وتعرف فيما يأتي إن شاء الله زيادة تحقيق له ، وأما دعوى اختصاص‌

١٣٩

التمييز بهذه الصفات في صورة استمرار الدم خاصة فهو في غاية البعد مناف للظاهر المتبادر منها ، وما في أسؤلة بعضها لا يصلح للحكم على ما في أجوبتها كما هو مقرر في محله.

ثم انه حينئذ هل يشترط اجتماع ما سمعته من الصفات أو يكفي وجود الواحدة منها ان قلنا بانفكاكها؟ لا يبعد اعتبار المظنة ، فيدور الحكم مدارها وجودا وعدما ، وهو مختلف بالنظر الى الصفات لا ضابطة له ، فتأمل جيدا.

( و) على كل حال فالصفات المذكورة انما هي للتمييز بينه وبين الاستحاضة ، أما غيرها فإنه قد يشتبه بدم العذرة أي البكارة كما لو افتضت البكارة فسال الدم ثم طرأ الاشتباه إما لكثرته أو استمراره أو نحوهما ان ذلك لحدوث دم الحيض وانقطاع دم العذرة ، أو انهما اختلطا ، أو انه دم عذرة فقط ، وكذا فيما إذا وقع الشك ابتداء ، واحتمال التمسك في الأول بالاستصحاب وسقوط وجوب الاختبار ضعيف بعد ظهور الرواية فيه ، ( فيعتبر بـ ) إدخال ( القطنة ) ونحوها ( فان خرجت مطوقة فهو العذرة ) وان خرجت منغمسة فهو الحيض كما في المبسوط والمهذب والوسيلة والسرائر والجامع والمنتهى والذكرى وغيرها ، بل لا أجد فيه خلافا في الأول ، بل لعله متفق عليه كالثاني ، سوى ما يظهر من المصنف هنا والنافع والمعتبر كظاهر القواعد من عدم الحكم بالحيض إذا خرجت مستنقعة لاحتمال غيره ، وهو ضعيف جدا لما تسمعه من الأخبار (١) المعتبرة المعمول بها بين الطائفة ، على ان مفروض المسألة فيما كان الاشتباه في العذرة خاصة ، فحيث تنتفي ، يتعين الثاني ، ولو سلم فرض المسألة فيما هو أعم فلا يتجه بناء على ما عندهم من ان كل ما أمكن كونه حيضا فهو حيض ، سيما وقد نقل عن المصنف دعوى الإجماع عليها ، اللهم إلا ان يكون المراد من هذه القاعدة غير ما هو المتبادر منها كما ستعرف إن شاء الله.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الحيض.

١٤٠