جواهر الكلام - ج ٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

فقام في المطر حتى سال من جسده أيجزيه ذلك من الغسل؟ قال : نعم » بل ربما يتمسك بالأخبار التي أشرنا إليها سابقا في الترتيب ، كقوله عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) : « ثم تغسل جسدك من لدن قرنك الى قدميك » وفي آخر (٢) « ثم أفض على رأسك وجسدك » ونحوه غيره ، قلت : ولعل الأقوى الأول كما انه أحوط لما تقدم ، مع ضعف مستند الثاني ، بل ينبغي القطع بفساد الأول منه أي صدق الارتماس ، ويقرب منه في ذلك الثاني بعد ثبوت الحقيقة الشرعية ، وقد عرفت ان قوله عليه‌السلام : ( ما جرى ) الى آخره وارد في الترتيبي ، وأما الصحيح فلعله في خلاف المطلوب أظهر ، لاشتراط الاجزاء بمشابهة الاغتسال بالماء ، وهو غير ممكن إلا في الترتيبي ، على انه يجب تنزيله على ما دل على وجوب الترتيب ، بل الظاهر انصرافه إلى الترتيبي لكونه المتبادر والفرد الشائع ، والارتماس رخصة يجزي عنه ، ومنه يعرف الجواب عن المرسلة مع الغض عن إرسالها ، وكذا الأخبار الأخيرة ، بل قد عرفت سابقا دعوى ظهور الإجماع على خلاف ظاهرهما ، ولذا لم أجد أحدا استند إليها في المقام ، مع معارضتها بقوله عليه‌السلام (٣) : « ثم تصب على رأسك ثم تصب على جسدك » وغيره مما دل على الترتيب ، فتأمل جيدا.

ثم انه هل يشترط في صحة الغسل بنوعيه إزالة النجاسة عن محل الغسل عينية أو حكمية قبل الشروع في أصل الغسل ، أو يعتبر جريان ماء الغسل على محل طاهر فيكفي إزالتها قبل غسل المحل التي هي فيه بآن ما أو يعتبر عدم بقائه نجسا بعد الغسل فيكتفى بغسل واحد لهما ، أو يفرق في ذلك بين الاغتسال بالماء الكثير كالارتماس فيه وما إذا كانت في آخر العضو وبين ما لم يكن كذلك فيكتفى بالغسل الواحد في الأولين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

١٠١

دون الثاني ، أو انه لا يشترط شي‌ء من ذلك ، نعم يعتبر ان لا تمنع عين النجاسة وصول الماء إلى البشرة ، وإلا فيكتفى وان بقي المحل نجسا؟ وجوه بل أقوال ، إلا أن الأول وان كان يظهر من عبارة بعض الفقهاء كالحلبي في إشارة السبق والعلامة وغيرهما ، ويؤيده مضافا الى الاحتياط الأخبار (١) المستفيضة جدا الآمرة بانقاء الفرج قبل الشروع في الغسل وغسل ما أصاب من البول ثم الغسل ، مع عدم قائل بالفصل بين الفرج وغيره ، بل في‌ صحيح حكم بن حكيم (٢) « ثم اغسل ما أصاب جسدك من أذى ، ثم اغسل فرجك وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل » وفي‌ خبر يعقوب بن يقطين (٣) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن غسل الجنابة فيه وضوء أم لا فيما نزل به جبرئيل عليه‌السلام؟ قال : الجنب يغتسل يبدأ بغسل يديه الى المرفقين قبل ان يغمسهما في الماء ، ثم يغسل ما أصابه من أذى ، ثم يصب على رأسه وعلى وجهه » الى آخره. وربما يظهر من الغنية الإجماع عليه. حيث قال : « وأما الغسل من الجنابة فالمفروض على من أراده الاستبراء بالبول ـ الى أن قال ـ : وغسل ما في بدنه من نجاسة ثم النية ـ الى أن قال ـ : كل ذلك بدليل الإجماع ». وعن الصدوق في الأمالي انه من دين الإمامية ، وفي شرح المفاتيح « انه هو الظاهر من فتاوى الأصحاب ، لأنهم حين يبينون الغسل يذكرون كذلك ، واتفقوا في ذكر غسل الفرج مقدما على الغسل » انتهى. إلا ان الذي يظهر من ملاحظة جملة من عبارات الأصحاب ان ذلك ليس محل خلاف ، نعم الإشكال في وجوب إزالة النجاسة قبل محلها ، ومن هنا قال في جامع المقاصد : انه ربما أوهم قول المصنف وجوب إزالة النجاسة قبل غسل الاغتسال ، وليس كذلك قطعا ، وفي كشف اللثام ان تقديم غسل الفرج من باب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

١٠٢

الأولى قطعا ، وفي الحدائق انه لا يعقل لوجوب التقديم على أصل الغسل وجه.

قلت : وربما يؤيده مضافا الى الإطلاقات ما في‌ صحيح حكم بن حكيم (١) عن الصادق عليه‌السلام في حديث كيفية غسل الجنابة ، قال : « فان كنت في مكان نظيف فلا يضرك ان لا تغسل رجليك ، وان كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك » فإنه لا يخلو من دلالة على عدم وجوب إزالة النجاسة مقدما على أصل الغسل ، لكن مع ذلك فالإنصاف ان القول به لا يخلو من قوة لما سمعت ، وإلا فمع الاعراض عن ذلك يشكل إثبات إيجاب الجريان على محل طاهر وان قال في جامع المقاصد : انه الشائع على ألسنة الفقهاء إذ أقصى ما استدلوا به لذلك انهما سببان ، فوجب تعدد حكمهما ، فان التداخل خلاف الأصل ، وبأن ماء الغسل لا بد أن يقع على محل طاهر ، وإلا لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة ، وبانفعال القليل ، وماء الطهارة يشترط ان يكون طاهرا إجماعا.

والكل لا يخلو من نظر ، أما ( الأول ) ـ فبعد تسليم ان الأصل عدم التداخل ـ قد يقال : انه في المقام مما علم ذلك من الأدلة ، لما يظهر منها ان المدار في إزالة النجاسات على تحقق ماهية الغسل بماء طاهر من غير اشتراط لشي‌ء آخر ، على ان ذلك لا يقضي إيجاب سبق الإزالة ، وما عساه يقال ـ : ان السبق لا بد أن يتحقق هنا شرعا ، وذلك لأنه يستفاد من الشارع ان جريان الماء على المحل النجس سبب تام في تطهيره ، فحيث يوجد لا بد من وجود مسببه ، وإذا وجد مسببه امتنع حصول التطهير به من الحدث لأصالة عدم التداخل ، ولا فرق في ذلك بين النسيان وغيره ـ مدفوع بأن فيه مع إمكان القلب تقييد لأدلة الغسل ، كقوله عليه‌السلام (٢) : « الجنب ما جرى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

١٠٣

عليه الماء فقد أجزأه » ونحوه بما إذا لم يكن ما جرى عليه نجسا من غير دليل ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، إذ‌ ( لكل امرئ ما نوى ) (١) ونحوه ينافي صرف الغسل الذي نوى به المكلف انه لرفع الحدث إلى إزالة النجاسة دون ما نواه من غير مقتض له ، على انه لا معنى لأصالة عدم التداخل سوى ما يظهر من الخطابات من التعدد ، ولا شك في ان الظاهر من ملاحظتها في خصوص المقام خلاف ذلك ، فإنه ان ارتمس حينئذ في ماء كثير وكان في بدنه نجاسة لا تمنع وصول الماء إلى البشرة حصلت الطهارتان معا حينئذ فتأمل.

وأما ( الثاني ) فهو مصادرة واضحة ، وما ذكره من اللازم تمنع بطلانه ، فلو فرض انه كان على بدنه نجاسة لا تمنع وصول الماء إلى البشرة ثم ارتمس في ماء كثير ولم تزل عين تلك النجاسة حصلت الطهارة من الحدث دون الخبث ، وكذا لو فرض ان بدنه نجس نجاسة تحتاج الى غسلتين ، فيرتفع الحدث بالغسلة الأولى ويبقى الخبث موقوفا على الثانية.

وأما ( الثالث ) فهو ـ مع عدم جريانه في الاغتسال بالماء الكثير ونحوه وابتنائه على نجاسة ماء الغسالة قبل الانفصال ـ انا نمنع الإجماع على اشتراط الطهارة بحيث يشمل المقام ، إذ أقصى ما يمكن تسليمه اشتراط الطهارة قبل تحقق الغسل به ، ولعله لذلك كله قال الشيخ في المبسوط : « وان كان على بدنه نجاسة أزالها ثم اغتسل ، فان خالف واغتسل أولا فقد ارتفع حدث الجنابة ، وعليه ان يزيل النجاسة ان كانت لم تزل بالغسل ، وان زالت بالاغتسال فقد أجزأه عن غسلها » انتهى ، فان ظاهره عدم اشتراط الجريان على محل طاهر مع القول بالتداخل ، لكن يظهر منه إيجاب الإزالة أولا ، وكأنه لما سمعت من الأخبار السابقة ، ولعله فهم منها الوجوب التعبدي لا الشرطي ، ولذا لم يحكم بفساد الغسل عند المخالفة ، وفيه انه بعد العمل بتلك الأخبار لا ريب في ظهورها في الوجوب الشرطي ، وبالتأمل في جميع ما ذكرنا يظهر لك وجه كل واحد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ١٠.

١٠٤

من الأقوال المتقدمة عدا القول بالتفصيل المتقدم ، فإنه ليس له وجه ظاهر سالم عن التأمل والنظر ، والاحتياط لا ينبغي ان يترك بحال سيما في مثل المقام ، لمكان توقيفية العبادة ، واستصحاب الحدث ، واشتهار اشتراط طهارة ماء الغسل والجريان على محل طاهر ، حتى انه يمكن ادعاء تنزيل إجماع الغنية ونحوه عليه ، فينبغي ان يغسل النجاسة أولا ثم يجري الماء لرفع الحدث ، وأحوط منه إزالة النجاسة سابقا على الشروع في الغسل.

وظاهر المصنف عدم وجوب الموالاة في الغسل بمعنييها كما هو المصرح به في عبارات الأصحاب من غير خلاف يعرف ، بل ادعى عليه الإجماع جماعة ، كما هو ظاهر آخرين ، ويدل عليه ـ مضافا الى ذلك والى الأصل والإطلاقات وما تقدم من قصة أم إسماعيل ـ خبر إبراهيم بن عمر اليماني (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « ان عليا عليه‌السلام لم ير بأسا ان يغسل الجنب رأسه غدوة ، ويغسل سائر جسده عند الصلاة » وصحيحة حريز (٢) السابقة في باب الوضوء قال : قلت : « وكذلك غسل الجنابة ، قال : هو بتلك المنزلة ، وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك ، قلت : وان كان بعض يوم قال : نعم » وما عن‌ الفقه الرضوي (٣) « ولا بأس بتبعيض الغسل تغسل يديك وفرجك ورأسك ، وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة ، ثم تغسل إن أردت ذلك » وقضية الإجماعات المتقدمة على نفي وجوبها كما هو قضية الأصل والإطلاق انه لا فرق في ذلك بين الأعضاء والعضو الواحد ، ولعل أخبار اللمعة تشعر به أيضا ، والمراد بعدم وجوبها انما هو في أصل الغسل ، أما إذا عرض لوجوبها بمعنى المتابعة عارض خارجي فلا إشكال في الوجوب ، كما لو نذرها بناء على استحبابها على ما صرح به بعضهم ، أو ضاق الوقت أو غير ذلك ، وقيل انه منه ما لو خيف فجأة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

١٠٥

الحدث كالسلس والمبطون والمستحاضة ، وهو مبني على فساد الغسل بعروضه في أثنائه ويأتي التحقيق فيه ، مع احتمال عدم الوجوب أيضا كما انه لا يجب عليهم مراعاة زمان القلة ، أما إذا خاف عروض الحدث الأكبر فربما احتمل الوجوب محافظة على سلامة العمل من الابطال ، وفيه بعد تسليم حرمة الإبطال في مثله انه بطلان لا إبطال ، نعم يجب الاستيناف ، أما إذا كان مستمرا فقيل انه يجب فيه الموالاة ، لعدم العفو عن القدر الضروري كما تقدم مثله في الوضوء ، وفيه تأمل يعرف مما سبق.

وسنن الغسل‌ تقديم النية بناء على انها الاخطار ، وقد يتأتى ذلك على الداعي في وجه عند غسل اليدين كما في المبسوط والسرائر والتذكرة وعن الإصباح ونهاية الأحكام ، والمراد بغسل اليدين المستحب في الغسل على ما سيأتي التعرض له ، ولعل وجه استحباب التقديم كونه أول أجزاء الغسل المندوبة ، وفي المعتبر والقواعد وغيرها انه يجوز تقديم النية عند ذلك ، وقد يظهر من بعضهم التردد في الجواز فضلا عن الاستحباب لعدم ثبوت الجزئية ، وفيه نظر لما يظهر من ملاحظة الأخبار من إدخاله في كيفية الغسل حتى ان في بعضها كالخبر المنقول عن‌ مجالس الصدوق (١) التصريح بذلك ، حيث روى عن الصادق عليه‌السلام انه قال : « لا بأس بتبعيض الغسل ، تغسل يدك وفرجك ورأسك ، وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة » الى آخره ، اللهم إلا ان يقرأ بفتح الغين ، فيخرج عن الاستدلال حينئذ ، نعم ربما يناقش في اقتضاء ذلك استحباب التقديم ، لكن يمكن ان يقال : انه متى أريد الإتيان باستحباب غسل اليدين يتعين إتيان النية ، إذ تأخيرها عند غسل الرأس يستلزم حصولهما بغير نية ، أو إفرادهما بنية مستقلة ، وفي الأول ما لا يخفى ، كما ان الثاني لا يخلو من إشكال ، وإلا لجاز إفراد أول الأجزاء الواجبة بذلك ، وأيضا الغسل ماهية شاملة للكامل وغيره ، فمتى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

١٠٦

أريد التقرب بالأول مثلا كان ابتداؤه غسل اليدين ، فهو أحد أفراد الواجب المخير وأفضلها ، ولعله لذلك قال في المنتهى : « ان وقتها عند غسل اليدين ، لأنه بدء أفعال الطهارة » انتهى. فيراد بمقابل المستحب حينئذ انه يترك غسل يديه ويجعل النية عند غسل الرأس ، لا انه يغسل يديه مؤخرا لنيته ، لكنه خلاف الظاهر جدا ، وعلى كل حال فتتضيق عند غسل الرأس ولعل الأحوط فعلها عند غسل اليدين ثم تجديدها عند غسل الرأس.

ومن سننه إمرار اليد على الجسد إذا لم يتوقف عليه إيصال الماء إلى البشرة ولم يختر المكلف الغسل به ، وإلا كان واجبا معينا على الأول ومخيرا على الثاني ، وبدون ذلك لا إشكال في عدم وجوبه ، بل حكى عليه الإجماع جماعة ، وهو الحجة ، مضافا الى الأصل وصدق الغسل بدونه ، وخلو كثير من الأخبار المبينة لكيفية الغسل عنه ، ولما دل على الاجتزاء بجريان الماء كما في صحيح زرارة وغيره (١) وفي‌ خبر إسماعيل بن زياد (٢) « كن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن ، وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهن أن يصببن الماء صبا على أجسادهن » وفي أخبار الارتماس التصريح بالاجتزاء بارتماسة واحدة وان لم يدلك جسده ، بل لعل ثبوت الاستحباب بالنسبة إلى الغسل الارتماسي محل نظر ، سيما إذا أريد استمرار اليد على سائر الجسد ، للأصل مع عدم المعارض ، مع تعسره في غالب الأوقات ، وإطلاق الأصحاب منزل على الترتيبي ، لأنه هو الشائع من الغسل ، وكان مستنده في الترتيبي مضافا الى الإجماع في المعتبر وغيره عليه ما في المروي‌ عن كتاب علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام (٣) في السؤال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢ عن ابن أبي زياد.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١١.

١٠٧

عن الاغتسال بالمطر قال : « ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه إلا انه ينبغي له أن يتمضمض ويستنشق ويمر يده على ما نالت من جسده » وما عن‌ الفقه الرضوي (١) بعد ذكر صفة الغسل ترتيبا. ثم قال : « تمسح سائر بدنك بيديك » والتعليل بالاستظهار في وصول الماء إلى البشرة كما وقع من جماعة ، لكن قد يناقش بأنه لا معنى له بعد حصول العلم ، وقبله يكون واجبا لعدم الاكتفاء بالظن.

ومن هنا ظهر من بعض متأخري المتأخرين القول فيه بالاستحباب التعبدي للإجماع المنقول من غير مدخلية للاستظهار ، قلت : قد يدفع بأنه معقول ولو مع حصول العلم ، لتفاوت مراتب العلم كالظن ، نعم قد يتجه ذلك بالنسبة الى بعض الجسد ، لوصول العلم بتحقق الغسل فيه الى حد غير قابل للزيادة ، أو يقال : ان المستحب له اختيار الغسل بإمرار اليد ، فيكون أفضل أفراد الواجب المخير لما فيه من الاستظهار ، نعم لو لا سهولة أمر الاستحباب لأمكن المناقشة في ثبوته بالنسبة إلى سائر البدن سيما إذا كان المنشأ الاستظهار ، لكن ربما يؤيد التعبد‌ خبر عمار بن موسى الساباطي (٢) سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن المرأة تغسل وقد امتشطت بقرامل ولم تنقض شعرها كم يجزيها من الماء؟ قال : مثل الذي يشرب شعرها ، وهو ثلاث حفنات على رأسها ، وحفنتان على اليمين ، وحفنتان على اليسار ، ثم تمر يدها على جسدها كله » فإنه لو أريد الاستظهار لكان ينبغي فعله بعد كل عضو لا بعد تمام الغسل ، إذ لو كان في الجانب الأيمن مثلا شي‌ء لم يكن غسل الأيسر صحيحا ، وعلى كل حال فالأمر سهل. ومنه يظهر لك انه يستحب تخليل ما يصل اليه الماء استظهارا.

ومن سننه البول أمام الغسل والاستبراء وظاهره استحبابهما معا من غير‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٦.

١٠٨

فرق بين تقديم كل منهما على الآخر ، ولم أعرف له دليلا كما اني لم أعرف من عبر به غيره من القائلين بالاستحباب إلا ابن فهد في الموجز ، بل ولا هو في غير هذا الكتاب ، نعم يقرب منه ما في البيان ، ويستحب تقديم الاجتهاد على الأصح بالبول ثم الاجتهاد ، ونحوه ما في الروضة ، مع انه لا دليل عليه أيضا ، إذ استحباب الاجتهاد بعد البول انما هو من آداب التخلي لا من آداب الغسل ، ولعل وجه ما في المتن هو التخلص من شبهة خلاف الجعفي على ما نقل عنه من إيجابهما معا ان قلنا بصحة مثل ذلك منشئا لمثله ، وفي السرائر والقواعد تقييد الثاني بما إذا لم يتيسر الأول ، كما انه اقتصر على الثاني أعني الاستبراء بالخرطات في النافع والتحرير ، وأطلق الاستبراء في الإرشاد واللمعة.

وكيف كان فالظاهر ان المشهور بين المتأخرين كما حكى ذلك بعضهم عدم وجوب شي‌ء منهما في صحة الغسل ، وهو المنقول عن المرتضى رحمه‌الله للأصل وخلو كثير من الأغسال البيانية عنه. ومفهوم‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام في خبر محمد بن مسلم (١) : « من اغتسل وهو جنب قبل ان يبول ثم وجد بللا فقد انتقض غسله » وما يستفاد من فحوى غيره من الأخبار (٢) من تعليق إعادة الغسل لمن لم يبل على خروج البلل المشتبه مع إشعارها بتركه قبل الغسل ، خلافا لظاهر الهداية والمهذب والاستبصار وإشارة السبق من إيجاب البول ، وللمقنعة والوسيلة والجامع من إيجاب البول ، فان لم يتيسر فالاجتهاد ، وللمراسم وعن الجعفي من إيجابهما معا مع التصريح في الأول بالاكتفاء بالاجتهاد مع تعذر البول ، وللمبسوط والغنية من التخيير بينهما مع زيادة الثاني إيجاب الاستبراء من البول ، وللكافي من إلزام مريد الغسل الاستبراء بحيث يتيقن الاستنجاء على كل حال ، وما عن الكامل والمصباح ومختصره والإصباح والجمل والعقود والكيدري من الوجوب ، لكن لم تنقل لنا عباراتهم لنعرف كيفيته ، وفي الذكرى انه لا بأس بالوجوب محافظة من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة.

١٠٩

طريان مزيله ، ومصيرا الى قول معظم الأصحاب وربما مال إليه في جامع المقاصد كالدروس.

وكيف كان فقد احتج عليه بما دل (١) على إعادة الغسل مع الإخلال به لو خرج منه بلل مشتبه ، وهو خلاف المدعى ، بل قد عرفت ان تلك الأخبار في الدلالة على المطلوب أظهر من وجوده. والأولى الاستدلال عليه ـ مضافا الى الشغل اليقيني في وجه وإجماع الغنية بصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر (٢) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن غسل الجنابة ، قال : تغسل يدك من المرفقين إلى أصابعك ، وتبول ان قدرت على البول ، ثم تدخل يدك الإناء » إلى آخرها. وضعيفة أحمد بن هلال (٣) قال : « سألته عن رجل اغتسل قبل ان يبول ، فكتب ان الغسل بعد البول إلا ان يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل » وما فيها من الضعف منجبر بإجماع الغنية وبذهاب معظم الأصحاب كما في الذكرى وجامع المقاصد ، قلت : ولا ريب ان الأول أقوى ، بل يمكن ادعاء الإجماع على الصحة لما في المختلف بعد نقل القولين « انهم اتفقوا على انه لو أخل به حتى وجد بللا بعد الغسل فان علم انه مني أو اشتبه عليه وجب الغسل ، وان علم انه غير مني فلا غسل » انتهى. ونحوه غيره في استظهار ذلك ، ومنه يعلم حينئذ إرادة الوجوب التعبدي في كلامهم ، فيسقط الاستدلال بالشغل وبالضعيفة الأخيرة ، مضافا الى اشتمالها على التفصيل الذي لم يعلم به قائل ، بل يمكن دعوى ان النزاع لفظي ، وان مراد الموجبين انما هو اشتراط عدم إعادة الغسل مع خروج المشتبه بذلك ، كما‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث (٣) لكن رواه عن الرضا عليه‌السلام وفي تنقيح المقال للمامقانى عن النجاشي « ان أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي لقي الرضا والجواد عليهما‌السلام » وعن الشيخ « انه كان من أصحاب الكاظم والرضا عليهما‌السلام » وعن الفهرست « أنه لقي الرضا عليه‌السلام » وعن الخلاصة « ان له اختصاص بأبي الحسن الرضا وأبي جعفر الجواد عليهما‌السلام ».

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٢.

١١٠

يشعر به استدلاله عليه في الاستبصار بالأخبار المتضمنة لهذا الحكم ، وتفريع هذا الحكم عليه في المبسوط والمراسم والمهذب والجامع ، فتحمل باقي العبارات عليه ، ولذا قال في كشف اللثام : « ويمكن انتفاء النزاع لاتفاق الكل على ان الخارج من غير المستبرئ إذا كان منيا أو اشتبه به لزم إعادة الغسل ، ولا شبهة في بقاء أجزائه في المجرى إذا لم يستبرئ ، فإذا بال وظهر منه بلل تيقن خروج المني أو ظنه فوجب إعادة الغسل ، ولعله الذي أراده الموجبون » انتهى. وهو جيد سوى ما يظهر منه من إيجاب الغسل بالبول لما فيه من خروج المني أو مظنونه ، فإنه ـ مع إمكان منع لزوم خروج شي‌ء مع البول إذ قد يكون بولا محضا أو يعلم أنه مذي أو وذي أو غير ذلك ـ فرق بين الاشتباه في البلل بعد القطع بخروجه وبين الاشتباه في أصل الخروج ، فقوله : إذا بال يتيقن أو يظن خروج المني فيه ما لا يخفى ، فإنه مع تسليم حصول الظن غير مجد ، فتأمل جيدا.

وأما الصحيحة المتقدمة فهي مع كون الأمر فيها بالجملة الخبرية غير صريحة ، لو رودها في سياق الأمر المستحب ، مضافا الى عدم صلاحيتها للاستدلال لما يظهر من بعض العبارات المتقدمة ، إذ لم تقيد بالقدرة على البول ، وقد يشعر بالاستحباب‌ النبوي (١) أيضا « من ترك البول على أثر الجنابة أو شك تردد بقية الماء في بدنه ، فيورثه الداء الذي لا دواء له » ومما عرفت يظهر لك ضعف الظن بإجماع الغنية ، على انه منقول على وجوب البول والاجتهاد فيه ثم الاستبراء من البول ، مع ان ما سمعت من عبارات الأصحاب تشهد بخلافه.

ثم ان المتبادر من النص والفتوى اختصاص استحباب الاستبراء بالمجنب بالإنزال ، وبه صرح جماعة ، ونسب الى المشهور ، لظهور ان الحكمة في الاستبراء المشار إليها في الروايات (٢) من إخراج أجزاء المني هي في المنزل خاصة ، وما في الذخيرة ـ من الإيراد‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١ مع اختلاف في اللفظ.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة.

١١١

على ذلك بمنافاته لعموم الروايات ، ومنع انتفاء الفائدة ، إذ عسى ان ينزل ولم يطلع عليه أو احتبس شي‌ء في المجاري لكون الجماع مظنة لنزول الماء ـ ضعيف ، لعدم الانصراف لمثل ذلك بعد تسليم إمكان وقوعه سيما مع ملاحظة علامات المني ، نعم احتمل في الذكرى استحباب الاستبراء مع احتمال خروج المني أخذا بالاحتياط ، ولا بأس به ، لكن لا يجب عليه الغسل بخروج البلل منه قطعا ، كما انه لا يجب على المرأة بذلك وان كانت مجنبة بالإنزال استصحابا ليقين الطهارة ، مع ظهور اختصاص أدلته بالرجل خاصة ، مضافا الى ما في صحيح سليمان بن خالد (١) من انها لا تعيد الغسل له معللا بأن ما يخرج منها انما هو من ماء الرجل ، ومنه مع الأصل يعلم انه لا استبراء عليها كما هو المشهور بين الأصحاب. لظهور أن فائدته ذلك ، وهي منتفية ، وكأنه لاختلاف المخرجين ، ولعل ما في نهاية الشيخ ـ من ثبوت الاستبراء لها بالبول ، فان لم يتيسر فالاجتهاد ، والمقنعة من انه ينبغي لها ان تستبرئ بالبول ، فان لم يتيسر فلا شي‌ء عليها ـ لا يلزم منه إثبات حكم البلل المشتبه على الخارج منها ، بل هو نزاع في أصل ثبوت الاستبراء لها بالبول أو الاجتهاد ، فما احتمله بعضهم من احتمال جريان حكم البلل على الخارج منها مطلقا أو إذا لم تستبرئ ضعيف لا يلتفت اليه ، ولعل الحكم بالاستحباب للاستظهار ـ ولأن المخرجين وان تغايرا يؤثر خروج البول في خروج ما تخلف ان كان وخصوصا مع الاجتهاد ـ لا يخلو من وجه ، أما الوجوب فينبغي القطع بعدمه ، وقد يأتي للمسألة تتمة ان شاء الله تعالى. وأما الخنثى المشكل فلا يبعد إلحاقه بالرجل في الاستبراء والبلل حيث يحصل الانزال منه بآلة الذكر مع حصول الجنابة بذلك على تأمل ونظر ، ومن التأمل فيما تقدم يعلم الحكم في الرجل المعتاد إنزال المني من غير المعتاد ، فان الظاهر عدم جريان الحكم على بلله كعدم ثبوت الاستبراء بالنسبة إليه.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٠.

١١٢

وكيفيته أي الاستبراء من البول والمني أن يمسح من المقعد إلى أصل القضيب ثلاثا ، ومنه الى رأس الحشفة ثلاثا ، وينتره ثلاثا فيكون المجموع تسعا على الترتيب الظاهر من العبارة ، كما هو صريح الصدوق فيه وفي التسع أيضا ، وكذا المنتهى والقواعد والتحرير والتذكرة والذكرى والدروس والروض والروضة ، وربما كان هو أي اعتبارها ظاهر المبسوط والنهاية وغيرهما خلافا للمفيد ، فاكتفى بمسح ما تحت الأنثيين إلى أصل القضيب مرتين أو ثلاثا ، ويمر المسبحة والإبهام باعتماد قوي من أصله الى رأس الحشفة مرتين أو ثلاثا ، ولأبي الصلاح في الكافي لاكتفائه بحلب القضيب من أصله الى رأس الحشفة دفعتين أو ثلاثا ويعصرها ، وللصدوق في الفقيه لاكتفائه بالمسح من عند المقعدة إلى الأنثيين ثلاث مرات ثم ينتر ذكره ثلاث مرات ، وهو ظاهر الوسيلة والمراسم والنافع وكذا الغنية والسرائر وغيرها ، ومحتمل المبسوط والنهاية وإشارة السبق ، وللمنقول من علم الهدى لاكتفائه بنتر الذكر من أصله إلى طرفه ثلاث مرات.

وكيف كان فقد عرفت انا لم نقف على ما يدل صريحا على استحباب هذا القسم من الاستبراء في خصوص ما نحن فيه أي الجنابة ، فضلا عما يدل على كيفيته ، ولعله لأنه لا فرق بينه وبين المذكور في البول كما يظهر من كلمات الأصحاب ، فنقول حينئذ لعل مستند الأول ـ بعد كونه أبلغ في الاستظهار وأقرب الى العلم بحصول البراءة الذي هو معنى الاستبراء ـ الجمع بين الأخبار من الأمر بنتره ثلاثا ، ثم ان سال حتى بلغ الساق فلا يبالي في خبر حفص بن البختري (١) ومن الأمر بعصر الذكر من أصله الى رأسه ثلاث عصرات وبنتر طرفه كما في حسن ابن مسلم (٢) وعن مستطرفات السرائر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٢.

١١٣

انه رواه عن كتاب حريز ، ومن‌ قول الصادق عليه‌السلام في خبر عبد الملك بن عمرو (١) : « إذا بال فخرط ما بين المقعدة والأنثيين ثلاث مرات وغمز ما بينهما ثم استنجى فان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي » على ان يكون ضمير بينهما راجعا إلى الأنثيين للقرب ونحوه. وأما احتمال رجوعه إليهما مع المقعدة ـ على إرادة غمز ما انتهى اليه خرط المقعدة فإن ذلك بينهما حقيقة ولغمزة زيادة مدخلية في إخراج المتخلف كما هو مشاهد ـ يبعده انه لم يقل أحد بوجوبه ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خبر الكاظم مسندا له عن آبائه عليهم‌السلام كما عن نوادر الراوندي (٢) : « من بال فليضع إصبعه الوسطى في أصل العجان ثم يسلها ثلاثا » وبهذا الاسناد قال : « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بال نتر ذكره ثلاث مرات » (٣) فإن ملاحظة جميع هذه الأخبار بعد تحكيم منطوق بعضها على مفهوم الآخر ومقيدها على مطلقها يفيد إثبات التسع ، هذا. مع ان احتمال ان يكون ذلك أيضا مقتضى الأصل ، لإجمال لفظ الاستبراء المعلق عليه عدم الالتفات الى البلل الخارج بعده.

نعم لا يستفاد من الأخبار إيجاب الثلاثة المتوسطة أن تكون مسحا كما هو ظاهر المصنف وغيره ، بل يكتفي بالعصر والغمز ونحوهما ، ولعل ذكره في كلامهم غير مقصود به التعيين ، واحتمال الجمع بين هذه الأخبار ـ بان المستحب الاستظهار بحيث لا يتخلف شي‌ء من أجزاء البول وذلك قابل للشدة والضعف ويتفاوت بقوة المثانة وضعفها ـ ضعيف لا محصل له ، كالجمع بان مدارها حصول العلم والاطمئنان ببراءة المجرى من المقعدة الى رأس الذكر من أجزاء البول ، فيدور مداره وجودا وعدما من غير فرق في العدد زيادة ونقيصة ، فإنه لا شاهد له ، بل ظاهر الأخبار يقضي بخلافه ، وكيف لا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٣.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ١.

١١٤

وظاهرها حصول الاكتفاء بالمسحات المذكورة بالنسبة الى عدم اعتبار البلل المشتبه حصل الاطمئنان ببراءة المجرى أو لا ، على انه متى يحصل العلم وقد يكون هذه الكيفية لها مدخلية في قطع دريرة البول مع براءة المجرى ، وكذا ما يقال : من الجمع بالتخيير في مضامين تلك الروايات ، وهو كأنه خرق للإجماع المركب ، ولم نعثر على ما يدل على ما سمعته من المفيد وأبي الصلاح ، بل فيما سمعت من الروايات ما يدل على خلافه.

وأما مختار الصدوق ومن تابعه فقد يستدل له مع الأصل في وجه بصحيح حفص المتقدم منضما الى حسن عبد الملك بن عمرو مع حمل الغمز فيه على التثليث الذي في الصحيح مع عدم القول بالفصل وإعادة ضمير التثنية فيه الى الأنثيين ، وفيه انه طرح لحسن ابن مسلم المتقدم عند التأمل ، لكن قال في الرياض تبعا لكشف اللثام : انه لا فرق بين هذا القول والقول بالتسع ، وكأنهما فهما منه إرادة الجمع بين مسح القضيب من أصله الى رأسه مع نتره كذلك بأن يضع مسبحته تحت القضيب وإبهامه فوقه مثلا ، ويمسح باعتماد قوي من الأصل إلى الرأس ناترا له في هذا الحال من أصله الى رأسه ، ولا يخفى ما فيه من التكلف ، مع ان التأمل في عباراتهم يأباه أيضا سيما ما اشتمل منها على لفظة ( ثم ) المفيدة للترتيب ، على ان حسن ابن مسلم المتقدم ( وينتر طرفه ) يشعر بخلافه أيضا ، كما ان ظاهر كلام أهل التسع العمل به ، لتعبيرهم بنتر الذكر الصادق بنتر طرفه ، ولا يشترطون نتر الذكر من أصله ، نعم لا يبعد في النظر الاكتفاء بالطريق المذكور وان كان الأحوط مراعاة التسع منفصلة غير مفصول بين آحادها ، والظاهر عدم إيجاب ما وقع في عبارات بعضهم من مسح ما بين المقعدة بالوسطى وكذا وضع المسبحة والإبهام في الثلاثة المتوسطة ، للأصل مع إطلاق الأدلة السالمة عما يصلح للحكم عليها ، وما في خبر الراوندي محمول على الاستحباب ، وكأن هذا التقدير في كلام الأصحاب انما هو لكونه أمكن في حصول الاستظهار ، ومما سمعت تعرف ضعف مستند المرتضى من‌

١١٥

الصحيح المتقدم لمعارضته بغيره من الأخبار ، مع ان كلامه محتمل للتنزيل على المختار ، فتأمل. وكذا ما نقل عن علي بن بابويه من الاكتفاء بمسح ما تحت الأنثيين ثلاثا لحسن عبد الملك بن عمرو ، وقد عرفت ان الأولى فيه إرجاع الغمز إلى الأنثيين ، فيخرج عن الاستدلال به له ، وربما زاد بعضهم في الاستبراء التنحنح ثلاثا ، ولا دليل عليه.

وفائدة الاستبراء بالنسبة للبول الحكم بعدم ناقضية الخارج من البلل المشتبه بعده ، بخلاف ما إذا كان قبله بلا خلاف أجده فيهما ، كما نفاه عنه فيهما ابن إدريس ، وما عساه يظهر من الاستبصار من الخلاف في الثاني ضعيف جدا ، ويظهر من بعضهم دعوى الإجماع على خلافه ، ويدل عليه مضافا الى ذلك السنة (١) ويستفاد منها أيضا خبثيته كحدثيته للأمر فيها بالاستنجاء منه وغير ذلك ، وبها ينقطع أصالة الطهارة وقاعدة اليقين ، وما في بعضها مما ينافي ذلك محمول على ضرب من التأويل ، وحكم المرأة في استحبابه لها وأمر البلل الخارج منها ما تقدم سابقا في الخارج منها بعد الانزال ، وربما ألحق بعض مشايخنا بالاستبراء طول المدة وكثرة الحركة بحيث لا يخاف بقاء شي‌ء في المجرى ، وهو لا يخلو من وجه بعد حصول القطع بذلك ، وإلا فإطلاق الأدلة ينافيه ، بل يمكن المناقشة حتى في صورة القطع ، لاحتمال مدخلية الكيفية الخاصة في قطع دريرة البول ، لكنها ضعيفة ، ولعل الظاهر عدم سقوطه بقطع الحشفة ، بل ولا ثلاثة النتر ، نعم لو كان الذكر مقطوعا من أصله أمكن الاجتزاء بثلاثة المقعدة ، والظاهر عدم اشتراط المباشرة في الاستبراء ، فيجزي التوكيل ، بل والتبرع ، وهل يدور الحكم في البلل مدار اشتباهه عند من خرج منه البول ، فحيث لا يعلم منه ذلك لم يحكم بنجاسته مثلا ، كما لو خرج بلل من غير المستبرئ وكان مجنونا أو كان نائما لا يعلم به وعلم به الغير ونحو ذلك ، أو لا؟ الأقرب الثاني ، لما عساه يظهر من الأدلة ان الأصل في البلل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة.

١١٦

الخارج قبل الاستبراء إلحاقه بالبول ، وعليه حينئذ فلو خرج من غير المستبرئ بلل وكان بحيث لا يمكن اختباره إما لظلمة أو غير ذلك وجب عليه إجراء حكم البول من حدثية وخبثية ، بل يمكن إلحاق الأخير بالمشتبه ، إذ هو أعم من الاشتباه بعد الاختبار.

ومن سنن الغسل أيضا من غير خلاف يعرف فيه بل حكى عليه الإجماع بعضهم غسل اليدين ثلاثا قبل إدخالهما الإناء لكن هل هو من الزندين كما عساه يظهر من إطلاق لفظ اليدين في النص (١) والفتوى ، وصريح كثير من الأخبار (٢) بالكفين ، وصريح الرضوي (٣) وقضية جمعه مع الغسل من حدث النوم والغائط (٤) كما تقدم في الوضوء ، أو من نصف الذراع كما لعله يظهر من مرسل يونس (٥) وربما يرجع إليه في وجه‌ موثقة سماعة (٦) « فليفرغ على كفيه فليغسلهما دون المرفق » أو من المرفق كما في صحيحة يعقوب بن يقطين وغيرها (٧) وجمع بينها بعض المتأخرين بتفاوت مراتب الفضيلة ، فأفضلها من المرفق ، ثم من نصف الذراع ، ثم من الزندين ، وهو بعيد جدا ، بل كاد يكون كلام الأصحاب صريحا بخلافه ، كموثقة سماعة المتقدمة في احتمال ان يراد بقوله عليه‌السلام : ( دون المرفق ) غسل المرفق لا التحديد للمسافة ، ولذا لم ينقل الفتوى باستحباب الغسل من المرفق والنصف إلا عن الجعفي ، لكن أمر الاستحباب هين ، ولو لا مخافة الخروج عن كلام الأصحاب لأمكن دعوى انه يتحصل من الأخبار ان استحباب غسل الكفين انما هو من حيث مباشرة ماء الغسل لمكان توهم‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٨.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١ و ٣.

١١٧

النجاسة ، ولذا كان‌ في بعضها (١) « انه ان لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء » الى آخره. وأما الغسل من المرفق فهو مستحب من حيث الغسل فيكون كالمضمضة مثلا.

وكيف كان فظاهر المصنف كظاهر غيره من الأصحاب اشتراط التثليث في ذلك ، بل في المعتبر وعن الغنية الإجماع مع التعبير بعبارة المصنف كالرضوي ، وخبر حريز (٢) ومرسل الفقيه (٣) « اغسل اليد من حدث الجنابة ثلاثا » وفي الصحيح المتقدم (٤) سابقا في باب الوضوء‌ عن الصادق عليه‌السلام انه قال : « واحدة من حدث البول ، واثنتان من الغائط ، وثلاث من الجنابة » وبه يقيد الإطلاقات ، فلا يجتزى بالمرة والمرتين حينئذ إلا ان القول بالاجتزاء لا يخلو من قوة ، وان التثليث مستحب في مستحب ، لضعف نحو هذا المفهوم بحيث يصلح للتقييد المذكور.

ثم ان ظاهر عبارة المصنف اختصاص الاستحباب المذكور فيما إذا كان الاغتسال بالاعتراف من إناء لا ما إذا كان من الماء الكثير ، أو كان الغسل ارتماسيا أو تحت المطر ، خلافا للمنقول عن العلامة فأثبته مطلقا ، وقد يشهد له ما يظهر من بعض الأخبار (٥) من استحباب ذلك للغسل مطلقا ، ولعله لا يخلو من قوة ، وتقدم في الوضوء ما له نفع في المقام ، فلاحظ وتأمل.

وكذا يستحب المضمضة والاستنشاق بلا خلاف أجده فيهما هنا ، بل حكى عليه الإجماع جماعة ، ويدل عليه مضافا الى ذلك الأخبار الكثيرة (٦) وما في بعضها (٧) مما يعارض ذلك لتضمنها كونهما ليسا من الغسل محمول على انه ليس من واجباته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الجنابة.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٦.

١١٨

كما هو المنقول عن كثير من العامة ، وكذا ما في بعضها (١) ليستا من السنة أي مما وجب بالسنة ، وفي الوسيلة والسرائر والتحرير والذكرى كما عن غيرها استحباب ذلك ثلاثا ثلاثا ، ولم نقف لهم على ما يدل عليه سوى ما ينقل من عبارة‌ الفقه الرضوي (٢) « وقد نروى أن يتمضمض ويستنشق ثلاثا وروي مرة مرة تجزيه وقال : الفضل الثلاث وان لم يفعل فغسله تام » الى آخرها. وتقدم في الوضوء ما له نفع في المقام. فلاحظ وتأمل.

ثم ان الظاهر من بعض الأخبار (٣) هنا ترتيب المضمضة والاستنشاق على غسل اليدين وان كان لا ترتيب بينهما ، ومقتضاه عدم حصول الاستحباب ان خالف ذلك ، لكنه لا يخلو من إشكال.

ويستحب ان يكون الغسل بصاع إجماعا محصلا ومنقولا خلافا للمنقول عن أبي حنيفة فأوجبه ، ولذا وجب حمل‌ قول أبي جعفر عليه‌السلام (٤) في صحيح زرارة ان « من انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع » على ضرب من التأويل كالحمل على الاستحباب ، واشتراط تحصيل هذه الوظيفة بالصاع أو غير ذلك ، لما عرفت من الإجماع ، ولما دل من الاجتزاء بحصول مسمى الغسل ولو كالدهن وغيره ، وأما ما يقضي به مفهومه حينئذ ـ من عدم الاستحباب مع الاشتراك كما هو ظاهر‌ صحيح معاوية بن عمار (٥) قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغتسل بصاع ، وإذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع ومد » وصحيح محمد بن مسلم (٦) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الجنابة.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١ و ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

١١٩

يغتسل بخمسة أمداد بينه وبين صاحبته » وصحيح زرارة (١) قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « اغتسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو وزوجته من خمسة أمداد من إناء واحد ، فقال زرارة كيف صنع ، فقال : بدأ هو فضرب بيده الماء قبلها ، فأنقى فرجه ـ الى ان قال ـ : وكان الذي اغتسل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أمداد والذي اغتسلت به مدين ، وانما أجزأ عنهما لأنهما اشتركا فيه جميعا ، ومن انفرد بالغسل » الى آخره. ونحوها غيرها ـ فهو وان كان معارضا لظاهر كلام الأصحاب بل الإجماع على الظاهر كما في المعتبر والمنتهى وغيرهما لكن يمكن تقييده بغير صورة الاشتراك لمكان هذه الأخبار ، ولذا قال في الجامع : انه يستحب الغسل بصاع ، والرجل والمرأة معا يغتسلان بخمسة أمداد ، إلا ان ظاهره الاقتصار على الرجل والمرأة ، ولعل الأولى خلافه ، لعدم ظهور الخصوصية ، بل التعليل بالشركة ومفهوم قوله عليه‌السلام : ( من انفرد ) يدلان على خلافه ، هذا. ويمكن ان يقال : انه لا صراحة فيها بعدم الاستحباب عند الاشتراك ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعم من ذلك ، سيما مع ما ستعرف ان الصاع منتهى غاية الاستحباب في الإسباغ لا انه أول مراتبه. والتعليل في الرواية الأخيرة يراد بها انه مع الاشتراك اجتزيا لأنهما يتحفظان على الماء غير حالة الانفراد ، فتأمل جيدا.

وقد يظهر مما سمعت من الأخبار ان الصاع منتهى الغاية في الاستحباب كما استظهر من المقنعة والنهاية والمبسوط والسرائر والخلاف ، بل في الأخير الإجماع ، ويقضي مع ذلك به‌ المرسل عن الفقيه (٢) قال (ص) : « الوضوء بمد والغسل بصاع ، وسيأتي أقوام من بعدي يستقلون ذلك ، أولئك على خلاف سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٦.

١٢٠