جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

مانع سيما فيما إذا كانت صفات الماء اصلية لا عارضية كما في المياه الكبريتية ونحوها وبأنه لو كان المدار عليه أيضا لكان الحكم دائرا مداره وجودا وعدما ، وهو لا معنى له ، وإلا لم يثبت التنجيس مع زوال التغيير من قبل نفسه وبإلقاء أجسام طاهرة.

ولكن قد يقال في الجواب عن ذلك ان المراد بالغلبة كما هو الظاهر من بعضها الغلبة بالأوصاف فتتحد حينئذ مع التغير كقوله عليه‌السلام : « إذا غلب لون الماء لون البول » (١) وقوله عليه‌السلام : « إلا ان يغلب على الماء الريح فينتن » (٢) وقوله عليه‌السلام « فيما لم يكن فيه تغير أو ريح غالبة » (٣) الى غير ذلك. وكان كلام العلامة في المنتهى ليس مخالفا لما نحن فيه. لانه وان قال ان المدار على الغلبة لكنه جعل العلامة على ذلك التغيير فلا يحكم بحصوله ابتداء بدونه ، نعم لو ذهب التغيير بعد الحكم بحصول النجاسة لم تذهب النجاسة : أما بناء على كلامه فلتحقق الغلبة التي كان علامتها التغير. وأما بناء على مختارنا فللاستصحاب إذا الشارع حكم بالنجاسة مع التغير ولم يعلم ان الاستمرار علة للاستمرار أو لا فيستصحب ، وليس للعقل مدخلية في الطهارة والنجاسة حتى يقال بالمغلوبية والمقهورية التي لم يبق معها قوة الماء. وأيضا لو كان المدار على الغلبة كيف يصح تعليق الحكم على التغير الذي هو وصف مفارق لها وجعلها دائرة مداره. وأيضا ينبغي القول حينئذ بما إذا كشف عن الغلبة غيرها من الكثرة ونحوها. وأيضا لو كان المدار على الغلبة لوجب القول بالتقدير حينئذ في فاقد الصفات وفي الواجد الضعيف وقد عرفت نقل الإجماع على خلافه. وأيضا فإنا نمنع تحقق الغلبة فيما نحن فيه بمجرد ذلك مع بقاء الاسم فإنه لا يعلم ان المدار على صدقها عرفا ، بحيث يقال ان الماء غلب على النجاسة أو شرعا ، وكيفما كان فالتقدير لا يحقق شيئا منهما بل المتحقق خلافه. وأيضا بقرينة الشهرة ونحوها تحمل الغلبة على إرادة التغير. فتأمل جيدا والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١١ مع اختلاف في اللفظ.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١١ مع اختلاف في اللفظ.

٨١

ثم انه على تقدير اعتبار التقدير فهل يعتبر الأشد أو الأوسط أو الأضعف؟ احتمالات. أما الأول فللاحتياط ، وأما الثاني فللغالب ، وأما الثالث فلترجيح جانب الطهارة. قلت : هذه الاحتمالات غير متجهة فيما إذا كانت النجاسة على صفة خاصة ثم سلبت عنه ، فإنه حينئذ لا معنى لتقديرها بالأشد وقد كانت على الأوسط ، كما انه لا معنى لتقدير الأوسط وقد كانت على الأضعف ، نعم قد يتجه ذلك ان لم يعلم كيف وجدت صفة هذه النجاسة ، وان كان تقدير الوسط حينئذ أولى لأنه الغالب المعتاد ، مع عدم تمامية الاحتياط في جميع المقامات.

ثم انه هل يعتبر تقدير الماء أيضا على الحد الوسط من العذوبة والملوحة والصفا والكدورة فإن لها أثرا بينا في التغيير؟ احتمله بعضهم وظاهر الباقين العدم ، وهو أولى سيما فيما إذا كان الماء على صفة معلومة إذ لا معنى لفرض عدمها لعدم المانع في اختلاف المياه في الانفعال وان كانت فردا نادرا. ولعله من ذلك ينقدح الفرق في السابق أي في الموافق للنجاسة في الصفة بين الصفة الأصلية والعارضية فيقدر في الثانية دون الأولى فتأمل. وكيف كان فما ذكرناه من عدم النجاسة في المسلوب انما هو إذا لم يستهلك الماء ، أما إذا استهلك بحيث دخل الماء تحت اسم الخليط فلا إشكال في نجاسته ، وأما إذا سلبه اسم الإطلاق ولم يدخل تحت الاسم فلا إشكال في كونه غير مطهر ، وهل يبقى على الطهارة؟ وجهان أقواهما ذلك ، واحتمال ذهاب الإطلاق مع بقاء اسم الخليط معارض باحتمال عدمه إذ ذهاب الاطلاقية وذهاب اسم الخليط حادثان والأصل يقتضي تأخر كل منهما عن الآخر ، فيبقى أصل الطهارة سالما. نعم لو كان المغير للماء من الأجسام التي علم بقاؤه بعد زوال الاطلاقية لاتجه الحكم بالنجاسة.

ثم اعلم انه قد يظهر من قول المصنف لا ينجس إلا باستيلاء النجاسة الى آخره أن التغيير لا بد وان يكون بعد ملاقاة النجاسة. فلو تغيرت أحد أوصاف الماء بالمجاورة لم ينجس ، ولعله لا خلاف فيه بل مجمع عليه للأصل بل الأصول والعمومات ، ولا شمول‌

٨٢

في النبوي المتقدم ونحوه لظهور تبادره في الملاقاة كما هو واضح. فلا ينبغي الإشكال في ذلك كما أنه لا ينبغي الإشكال في عدم التنجيس بسبب حصول التغيير في غير الصفات الثلاثة كالحرارة والرقة والخفة ونحوها ، بلا خلاف أجده في ذلك ، للأصل وظهور الأخبار في حصر النجاسة بالأوصاف الثلاثة ، وما في الذكرى عن الجعفي وابني بابويه انهم لم يصرحوا بالأوصاف الثلاثة بل اعتبروا أغلبية النجاسة للماء لا صراحة فيه بل ولا ظهور ، لان المتعارف في تحقق الغلبة انما هو بالأوصاف الثلاثة بحيث صار هو المتبادر من غلبة النجاسة للماء ، فليتأمل جيدا. ولعله لذا قال في كشف اللثام : كأنه لا خلاف فيه.

ثم ان مقتضى قول المصنف ككثير من الأصحاب مضافا الى تصريح الفاضل والشهيدين والكركي وغيرهم لذلك للتعبير بالنجاسة أنه لا ينجس لو تغير الماء بأحد أوصاف المتنجس ، كما لو تغير بدبس نجس ونحوه ، خلافا للمنقول عن الشيخ في باب تطهير المضاف كما تسمع نقل عبارته. وربما ظهر من التحرير موافقته للأصل والعمومات ، مع انه ليس في أخبار التغيير إشارة الى ذلك ، بل فيها الإشارة إلى خلافه ، بل قد يدعى انه يستفاد من ملاحظتها وملاحظة ما اشتملت عليه اسئلتها الجزم به ، مع كونه هو المتبادر فتأمل ، كما لا يخفى على من لاحظها ، إلا النبوي فإنه قد يستدل بظاهره على مثل المقام ، وهو مع إمكان دعوى ظهوره في النجاسة دون المتنجس سيما بعد شيوع مثل هذه العبارة في المشتملة على الأوصاف الثلاثة في ذلك ـ لا جابر له في المقام لمصير ظاهر المشهور الى خلافه هنا ، ومنه لا يحصل الظن بشمول لفظ ( ما ) للمتنجس. ويمكن استنباط الإجماع عند التأمل على عدمه ، وذلك لذكرهم في المقام الفروع التي لا ينبغي ان تسطر كالتغير بالمجاورة وبغير الأوصاف الثلاثة ونحو ذلك ولم يذكروا ما نحن فيه ، ولم يتعرضوا له ، بل عبروا بلفظ النجاسة التي لا تشمله مع كون الشيخ هو المخالف ، ومن عادتهم التعرض لذكر خلافه ، بل قد يدعى ان عبارة الشيخ المنقولة عنه غير صريحة بالخلاف ،

٨٣

قال على ما نقل عنه : « ولا طريق الى تطهير المضاف إلا بان يختلط بما زاد على الكر من المياه الطاهرة المطلقة ، ثم ينظر فيه فان سلبه إطلاق اسم الماء وغير أحد أوصافه إما لونه أو طعمه أو رائحته فلا يجوز استعماله بحال ، وان لم يغير أحد أوصافه ولا سلبه إطلاق اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المطلقة » والتأمل فيها يعطي انها ليست بصريحة فيه بل ولا ظاهرة ، وذلك لأخذه في الحكم الأول وهو عدم جواز الاستعمال سلب الاسم مع تغير أحد الأوصاف وأخذه في الثاني بقاء الاسم وعدم التغير ، فلم تكن عبارته دالة على ما إذا بقي الاسم وتغيرت الأوصاف ولم يظهر منه الحكم بنجاسة مثل ذلك ، وهو الذي يفيد في المقام ، وقد يكون مبنى كلامه على الاستهلاك وعدمه. نعم بقي في المقام شي‌ء لا بد من التنبيه عليه ، وهو ان التغير بالمتنجس ان كان بصفاته الأصلية فقد عرفت ان الأقوى عدم التنجيس ، وأما إذا كان التغير به بالصفات المكتسبة من النجاسة فمثل الماء أو اللبن ونحوهما من المتنجس بدم ونحوه حتى غير لونهما ثم انهما تنجس بهما الجاري أو الكثير حتى تغير لونهما بذلك أي باللون المكتسب من النجاسة بالدم ، ففيه إشكال ، والأقوى في نظري انه متى حصل التغير في الجاري أو الكثير مع استناد التغير الى تلك النجاسة التي تنجس بها المتنجس نجس الماء وإلا فلا : أما الأول فلدخوله تحت الأدلة حينئذ وأما الثاني فلعدم صدق تغيره مع ملاقاة عين النجاسة ، إذ ليس المدار على وصف النجاسة كيفما كان ، بل لا بد من مباشرة عينها للماء فلونها المكتسب منها بعد اضمحلال عينها واستهلاكها لا ينجس الماء حينئذ للأصول والعمومات ، والنبوي لا جابر له. ولعله الى ذلك يرجع ما أطنب به العلامة الطباطبائي من النجاسة إذا كان التغير بواسطة المتنجس بخلاف ما إذا كان بلون المتنجس وطعمه وريحه التي هي صفات أصلية له ، وإلا كان محلا للنظر باعتبار عدم ملاقاة عين النجاسة له ولا عبرة بأوصافها مع عدم ملاقاتها ضرورة كونها حينئذ كالمجاورة خصوصا في الريح ونحوه فتأمل جيدا.

وظاهر المصنف بل كاد يكون صريحه عدم نجاسة الجاري مطلقا سواء كان‌

٨٤

قليلا أو كثيرا ، لتقييده في المحقون بالكرية وإطلاقه في الجاري ، ومثله كثير من الأصحاب ، بل قال في المعتبر : « ولا ينجس الجاري بالملاقاة وهو مذهب فقهائنا أجمع » الى ان قال بعد ذلك : « ولا الكثير من الراكد » فعلم انه لا فرق بين قليل الجاري وكثيره. وعن شرح الجمل لابن البراج نقل الإجماع على عدم نجاسة الجاري مع التصريح فيه بعدم الفرق بين القليل والكثير ، ومثله عن الغنية ، وربما ظهر من عبارة الخلاف نقل الإجماع على ذلك ، وفي الذكرى انى لم أقف فيه على مخالف ممن سلف أي ممن تقدم على العلامة ، ونسب رأى العلامة في جامع المقاصد الى مخالفة مذهب الأصحاب ، وعن حواشي التحرير نقل الإجماع صريحا على عدم اشتراط الكرية ، وربما ظهر من المصابيح دعوى الإجماع أيضا. ويمكن للمتأمل المتروى في كلمات الأصحاب تحصيل الإجماع على عدم اشتراط الكرية ، وخالف في ذلك العلامة (ره) في بعض كتبه ، وفي بعضها وافق المشهور كما قيل ، ولم أعثر على موافق له في هذه الدعوى ممن تأخر عنه سوى الشهيد الثاني ، وما لعله يظهر من المقداد في التنقيح ، مع ان المنقول عن الأول انه رجع عنه وان الذي استقر رأيه عليه آخرا الطهارة ، وعبارة الثاني غير صريحة في ذلك قال في التنقيح : « وهل يشترط كريته أم لا؟ أطلق المصنف الحكم بطهارته وقيده العلامة بالكرية وهو أولى ، ليدخل تحت إطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا » ‌والإجماع على العمل بمفهومه » وقال الشهيد : « ان جرى عن مادة فلا يشترط الكرية ولا عنها يشترط وهو حسن وعليه الفتوى » وكلامه الأخير ظاهر فيما ذكرنا فتأمل. ولا نقل عن أحد ممن تقدمه ، نعم نقل عن المرتضى رحمه‌الله والصدوقين بعض العبارات المفصلة في الكرية وعدمها من غير تعرض للجاري وغيره. وهي ليست صريحة في ذلك ، بل نقل عن الصدوقين ان لهم عبارات أخر في غير المقام الأول حاكمة على ذلك فتأمل جيدا. وكيف كان فالأقوى الأول للأصل بل الأصول‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

٨٥

وما سمعت من الإجماعات المنقولة ، بل يمكن دعوى تحصيله والأخبار الحاكمة بعدم نجاسة الماء بغير التغيير والغلبة وهي كثيرة قد سمعت جملة منها ، ( ومنها ) (١) الدالة على ان ماء الحمام بمنزلة الجاري ، إذ لو كان الجاري يشترط فيه الكرية لم يكن للتشبيه به من جهة الطهارة معنى. ( ومنها ) (٢) الأخبار المتضمنة للمادة المعللة عدم النجاسة بوجود المادة ، وخصوص موردها لا يخصها بذلك ، على انه لو كانت الكرية شرطا لم يكن للتعليل معنى. وربما استدل (٣) بما دل على نفي البأس عن البول في الماء الجاري ولعله لا يخلو من تأمل لكن لا بأس بأخذه مؤيدا سيما مع الانجبار بما سمعت. ( ومنها ) ما دل على عدم نجاسة الجاري كقول أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) فيما روي عنه « الماء الجاري لا ينجسه شي‌ء » ‌وعن دعائم الإسلام (٥) « في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم يتوضأ منه ويشرب وليس ينجسه شي‌ء ما لم تتغير أوصافه طعمه ولونه وريحه » ‌وعن الفقه الرضوي (٦) « اعلموا رحمكم الله ان كل ماء جار لا ينجسه شي‌ء » ‌قلت : ولو كان الجاري يشترط فيه الكرية لم يكن للتعليق عليه بالنسبة إلى النجاسة معنى يعتد به. كل ذا مع انه ليس للعلامة شي‌ء يتمسك به سوى ما دل (٧) على نجاسة القليل من العمومات وغيرها. وفيه انه لا شمول فيها لمثل المقام لعدم العموم اللغوي في شي‌ء منها ، وستعرف المناقشة في دلالة العمدة منها الذي هو المفهوم ، وعلى تقدير العموم فبينهما التعارض من وجه والترجيح للأولى من وجوه كثيرة لا تخفى ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٦) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق.

٨٦

على انا لو تركناها والمعارض وأخذنا نتمسك بالأصول والإجماعات لكفى. فالمسألة من الواضحات التي لا ينبغي إطالة الكلام فيها. وكأنه لمكان استبعاد صدور مثل ذلك من العلامة فسر كشف اللثام اشتراطه للكرية بشي‌ء يقطع الناظر في كلام العلامة بأنه لا يريده ، وقد ذكرناه في باب تطهير الجاري وغيره فراجع وتأمل.

وليعلم ان الشهيد في الدروس قال : ولا يشترط فيه الكرية على الأصح نعم يشترط فيه دوام النبع. وعن الموجز لأبي العباس بن فهد موافقته على ذلك ، وقد سمعت انه استحسنه في التنقيح وقال : عليه الفتوى. قلت : وليته اتضح لنا ما يريده بهذه العبارة فضلا عن الصحة ، فإنها تحتمل وجوها : ( منها ) ان يريد بدوام البيع عدم الانقطاع في زمان دون زمان مثل العيون التي تنقطع بالصيف دون الشتاء أو بالعكس ، فإنه حينئذ يشترط الكرية. وفيه ما لا يخفى بل لا ينبغي ان ينسب مثل ذلك لمثله إذ انقطاعه في بعض الأزمنة لا يخرجه عن حكم الجاري في غير زمان الانقطاع ، ولا يساعده على ذلك شي‌ء من الأخبار ، بل ولا الاعتبار ، على انه كيف يعلم انها من دائم النبع أو منقطعة إذا لم يعلم ، ولعله يتمسك حينئذ باستصحاب بقاء النبع فيصيرها حينئذ من دائمة حتى يعلم. وفيه ما فيه. والحاصل لا ينبغي إطالة الكلام في فساد مثل ذلك. ( ومنها ) ان يراد بدوام النبع اي عند ملاقاة النجس للماء يشترط فيه أن يكون نابعا فإنه متى لم يكن كذلك جرى عليه حكم المحقون. وهذا المعنى وان كان في نفسه صحيحا على بعض الأحوال إلا انه يبعد إرادة الشهيد له ، على ان ذلك ليس فيه زيادة حينئذ على أصل معنى الجاري وكونه مما له مادة ، لكن الأمر في ذلك سهل إذ لعله حينئذ احترز به عما يتوهم من ان الجاري هو الماء النابع وان انقطع النبع ، فأراد رحمه‌الله التنبيه على انه لا ينجس بالملاقاة ونحوها بشرط أن يكون دائم النبع اي نابعا حين الملاقاة. وقد يقال انه احترز به عن بعض أفراد النابع كالقليل الذي يخرج بطرق الرشح فان العلم بوجود المادة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل لانه يترشح آنا فآنا ، فليس له فيما بين‌

٨٧

الزمانين مادة ، وهذا يقتضي الشك في وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط ، فاللازم من ذلك الانفعال حينئذ عملا بعموم ما دل على انفعال القليل. وفيه ان إخراج مثل ذلك عن الجاري بمجرد الفتور في نبعه مما لا يخلو من تأمل ، على انه كيف يحكم بالانفعال مع عدم العلم بالانقطاع وتنقيح ذلك بالأصل مع كون عادة نبعه هكذا فيه ما لا يخفى. مع انه قد يقال ان الأصل يقضي بخلافه. ( ومنها ) ان يقال ان النبع يقع على وجوه : أحدها ان ينبع الماء حتى يبلغ حدا معينا ثم يقف ولا ينبع ثانيا إلا بإخراج بعض الماء. وثانيها أن يكون كذلك لكن لا يخرج إلا بحفر جديد. وثالثها ان ينبع الماء ولا يقف على حد بل يبقى مستمرا على النبع. فلعل مراد الشهيد رحمه‌الله باشتراط دوام النبع إخراج مثل الصورة الثانية فإن إدخالها تحت الجاري محل شك ، فتبقى داخلة تحت ما دل على اشتراط الكرية. وفيه انه لا معنى لذلك ان أراد حتى في حال النبع فان وقوفها الى حد بحيث تحتاج الى حفر جديد لا يخرجها عن اسم الجاري حينه فتأمل جيدا. ( ومنها ) ان يراد بدوام النبع دوام الاتصال بالمادة فمتى انقطع أو قطعه قاطع أو نحو ذلك لم يجر على الماء الموجود حكم الجاري ، بل ان كان كرا عصم نفسه وإلا فلا ، وليس المراد من هذا الشرط انه ينكشف انه ليس بجار عند فقده بل المراد انه يكون حينئذ ليس بجار ، ولعله عند التأمل يرجع هذا الى بعض ما تقدم فتأمل جيدا فإن الأمر في ذلك سهل بعد معرفة الصحيح والفاسد من الوجوه المتقدمة في حد ذاتها.

ثم ليعلم انه قد تبين أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير ، فنقول حينئذ ان التغير لا يخلو اما أن يكون مستوعبا لجميع الماء أولا ، أما الأول فلا إشكال في نجاسة جميعه ، وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون التغيير قاطعا لعمود الماء بمعنى انه مستغرق لحافتي الماء من العرض والعمق أولا. وكيف كان فلا إشكال في نجاسة المتغير منه وأما غيره فان كان التغيير غير قاطع لعمود الماء بل كان غير المتغير متصلا بعضه ببعض فلا نجاسة‌

٨٨

في شي‌ء من ذلك لكونه من الجاري ولا ينجس غير المتغير منه ، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير بناء على الصحيح من عدم اشتراط الكرية. وأما إذا كان التغير قاطعا لعمود الماء فلا إشكال في طهارة ما يلي المادة وان لم يكن كرا على المختار من عدم اشتراط الكرية ، بل ربما قيل وكذا بناء على الاشتراط لأن جهة المادة في الجاري أعلى سطحا من المتنجس وان كانت أسفل حسا والسافل لا ينجس العالي. وفيه منع ظاهر لكون المعتبر العلو والسفل الحسيين فتأمل. واما الماء الذي في جانب المتغير مما لا يلي المادة فإن كان كرا فلا إشكال في الطهارة أيضا ، وأما إذا لم يكن كرا فالمتجه النجاسة لكونه مفصولا عن المادة بفاصل حسي ، فيجري عليه حكم المحقون فينجس حينئذ بالملاقاة ، ولعل بعض الإطلاقات الواقعة من بعض الأصحاب انه متى تغير شي‌ء من الجاري اختص المتغير بالتنجيس منزلة على غير ذلك. واحتمال ان الماء المتغير وان حكمنا بنجاسته لكن لا مانع من كونه سببا لاتصال غير المتغير بالمادة فيصدق عليه حينئذ انه ماء متصل بالمادة فيكون طاهرا ، في غاية الضعف ، لان جعل التغير سببا للاتصال ليس بأولى من جعله سببا للانفصال ، مع ان المعلوم والمتيقن من الاتصال الذي تحصل العصمة بسببه انما هو غير هذا الاتصال ، فيشك في شمول أدلة الجاري له. والمسألة لا تخلو من تأمل ، لأنه يمكن أن يقال إن تغير بعض الجاري لا يخرج البعض الآخر من هذا الإطلاق. وأيضا احتمال الدخول تحت الجاري معارض باحتمال الخروج فيبقى أصل الطهارة سالما فيحكم عليه حينئذ بالطهارة فتأمل جيدا. ثم اعلم ان الحكم بالنجاسة فيما ذكرنا بسبب الملاقاة للمتغير مع تساوي السطوح أو يكون هو السافل وإلا فلو فرض العكس بأن كان المتغير السافل والملاقي له العالي لم ينجس وان لم يكن كرا ، لعدم نجاسة العالي بالسافل ولو كان علو انحدار لا تسنم. نعم قد عرفت ان المعتبر العلو الحسي لا المادي على الأقوى فتأمل جيدا ، كما انه يشترط أن يكون علوا معتدا به بحيث يقال عند أهل العرف ان أحدهما عال والآخر سافل لا متساويين ، بل الحكم كذلك في الجاري عن غير مادة ،

٨٩

بل كل نابع بلا خلاف أجده ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، فضلا عن السيرة القطعية ومحكي الإجماع والأصل وغيره.

( بقي شي‌ء ) وهو أن ما اعتبر من تساوي السطوح في الراكد بالنسبة الى عدم نجاسته بالملاقاة لا يعتبر هنا بالنسبة للجاري فلا ينجس بالملاقاة وان اختلفت سطوحه على ما هو الظاهر من كلام الأصحاب ، لصدق اسم الجاري على الجميع من غير فرق بين السافل والعالي ، بل لعله كذلك حتى على ما يقوله العلامة من اشتراط الكرية وان اعتبر ذلك في الراكد ، لأنه أطلق هنا كإطلاق الأصحاب. ولعله لانه يرى له خصوصية على الواقف وان شاركه في نجاسة القليل ، وذلك لان الغالب في مثله عدم الاستواء فلو اعتبرت فيه المساواة على حد الواقف لزم الحكم بنجاسة الأنهار العظيمة بمجرد ملاقاة النجاسة لأوائلها التي لا تبلغ مقدار الكر. وهو معلوم الانتفاء ، وصدق الجاري عليه عرفا وان اختلفت سطوحه كالوحدة ، مع احتمال ان يقال ان إطلاقه هنا مبني على تفصيله الآتي فتأمل.

ويطهر بكثرة الماء اي يطهر بهذا لا انه لا يطهر بغيره ، وإلا فهو يطهر بزوال التغيير ولو بتصفيق الرياح أو بوضع أجسام طاهرة أو بإلقاء ماء أو نحو ذلك كما ستعرف لاتصاله بالمادة الطاهر عليه متدافعا من المادة حتى يزول تغييره سواء كان كرا أو لا على المختار. ومقتضى اشتراط العلامة الكرية في الجاري ان لا يطهر المتغير منه بما ذكرنا ، بل هو إما بإلقاء كر عليه أو بان يبقى من غير المتغير مما هو متصل بالمادة مقدار كر فيزول تغيره به ونحو ذلك. ومن هنا قال في الروضة : « وجعل العلامة وجماعة الجاري كغيره في انفعاله بمجرد الملاقاة مع قلته وعدم طهره بزوال التغيير مطلقا بل بملاقاة كر. لكن قال في المنتهى : المتغير إما ان يكون جاريا أو واقفا فالجاري انما يطهر بإكثار الماء المتدافع حتى يزول التغيير لان الحكم تابع للوصف فيزول بزواله ولان الطاري لا يقبل النجاسة لجريانه والمتغير مستهلك فيه فيطهر » وهو ظاهر المدافعة لاشتراطه‌

٩٠

الكرية. وتصدى لدفعه في كشف اللثام وقال : « ان ذلك مبني على اعتبار الدفعة في إلقاء الكر المطهر وقد عرفت ان معناها الاتصال وهو متحقق في النابع ، وأما منبع الأنهار الكبار الذي ينبع الكر أو أزيد منه دفعة فلا إشكال فيه. نعم ينبغي التربص في العيون الصغار ريثما ينبع الكر فصاعدا متصلا ، إذ ربما ينقطع في البين فينكشف عدم اتصال الكر ، فاتصال تجدد النبع الى نبع الكر كاشف عن الطهر بأول تجدده ، لا انه إنما يطهر بنبع الكر بتمامه. كما ان الراكد يطهر بأول إلقاء الكر عليه وان لم يلق عليه جميعه ، نعم على اعتبار الممازجة في الطهر لا بد من نبعه بتمامه وممازجته ، كما لا بد في الكر الملقى على الراكد » وفيه مع انه مبني على عدم اعتبار العلو أو المساواة في المطهر فيفترق حينئذ عن الراكد بناء على اشتراطه فيه ، وتقوم العالي بالسافل في بعض الأحوال انه حينئذ لا ينبغي القول بنجاسة ما يخرج من الجاري إذا كان أقل من كر حتى ينتهي جريه. فان انقطع في الأثناء وكان أقل من كر نجس وان لم ينقطع حتى يستكمل كرا فلا نجاسة. وهو مخالف لصريح المنقول عنه سابقا. وأيضا لا حاجة الى خروج كر منه إذا علم ان ما في المادة يزيد على أكرار وخرج منه ما أزال تغيير المتغير ثم قطعه قاطع بسد ونحوه ، اللهم إلا ان يلتزم ذلك فيكون مراده بخروج تمام الكر إنما هو للكشف ، وإلا فما يقال إن هذا الخارج لا يتقوم إلا بما يخرج من المادة دون ما كان فيها يدفعه أنه حينئذ لا بد من القول بنجاسة هذا الخارج ولا ينفعه تكاثره حتى يبلغ كرا ، فإنه كلما يخرج منه شي‌ء ينجس. وعلى كل حال فكلام العلامة مخالف لما هو متفق عليه هنا بحسب الظاهر ، من ان تطهير الجاري بما يخرج من المادة متدافعا عليه حتى يزول تغييره من غير اشتراط لكون الخارج مقدار كر أو لا. وقد سمعت تعليل المنتهى ومثله في المعتبر.

وكيف كان فغاية ما يمكن الاستدلال به في المقام بعد الإجماع على الظاهر‌

٩١

قوله عليه‌السلام (١) : « ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا » ‌وفحوى قوله عليه‌السلام (٢) : « ماء البئر واسع لا يفسده إلا ما غير طعمه أو ريحه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم لان له مادة » ‌وما يظهر من العلامة في القواعد من عدم تطهير الواقف بالماء النابع من تحت ، لعله مخصوص بغير الجاري لظهور الاتفاق عليه في المقام ، قال في الحدائق : انه صرح به الأصحاب من غير خلاف فيه بينهم ، فحينئذ لا ريب في حصول الطهارة إذا تدافع من المادة عليه حتى زال تغييره ، وأما إذا لم يتدافع عليه كما في بعض العيون المتوقف نبع مائها من المادة على إخراج بعض الماء حتى تنبع ، سواء قلنا أنها من الجاري أو بحكمه أو انها جرى ماؤها إلى مكان ثم وقف ، وتوقف الخروج من المادة على أخذ شي‌ء من مائها ، فالظاهر ان الاتصال بالمادة كاف في حصول الطهارة إذا زال تغيره كما أشرنا إليه سابقا. والحصر المستفاد من كلام العلامة في المنتهى المتقدم مبني على الغالب. هذا ان لم نقل انه مع اتصاله بالمادة في كل آن يتجدد ماء لعدم استقرار سطوح الماء ، فإنه في الآن الواحد الحكمي يختلف ظهره وبطنه فليتأمل.

نعم ربما يتجه على ظاهر كلام الشهيد في الدروس من اشتراط دوام النبع في الجاري أو على القول باشتراط الامتزاج عدم القول بالطهارة ، مع احتمال ان يقال ان مراده بدوام النبع ان لا يجف مثلا في وقت دون وقت مثل العيون التي تجف في الصيف دون الشتاء ، فإنها حين جفافها لا يجري عليها حكم الجاري ، أو يكون منقطعا لعارض اتفاقي من سد ونحوه ، أما مثل العيون المذكورة فهي عنده من دائم النبع وتوقف النبع مثلا على إخراج شي‌ء منها لا يخرجها عن ذلك الحكم فليتأمل جيدا. ومما يؤيد ما ذكرنا مضافا الى ما يظهر من التعليل بالمادة الصادق بمجرد الاتصال بها وان لم تنبع فعلا انه يصدق عليه مضمون قوله عليه‌السلام : « ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦ و ٧ مع اختلاف يسير.

٩٢

في بعض الأحوال ، كما لو فرضنا ان هذا الماء المجتمع أجري وان لم يخرج من المادة شي‌ء ثم تنجس السافل بما ينجسه وبقي العالي المتصل بالمادة وكان أقل من كر فجرى عليه وأزال تغيره ، فإنه داخل في مضمون الرواية. وبعد فالمسألة لا تخلو من إشكال لظاهر كلامهم في المقام ، فإنه كالصريح في اشتراط التجدد من المادة ، واحتمال تنزيله على عدم إرادة الحصر كما ذكرنا ، أو أنه ليس شرطا في التطهير ولكنه لزوال التغيير مما لم يقطع به. واستصحاب النجاسة محكم. وهل يعتبر التدافع فلا يجزي ما يخرج من المنابع الدقاق أو لا؟ الظاهر الثاني لعموم الأدلة وكلامهم ، مع انه ليس بإجماع منزل على لغالب ، ومن المعلوم ان هذه الأحكام كلها للمادة الأرضية أو ما نزل منزلتها كما يأتي الكلام عليه ان شاء الله دون غيرها فإنها لا تسمى مادة.

( ويلحق به ) أي بالجاري ( ماء الحمام ) اي ما في حياضه الصغار لقوله عليه‌السلام (١) إذا كانت له مادة. وإيكال معنى الحمام الى العرف أولى من التعرض لتحديده. والظاهر عدم اختصاص الأحكام بالهيئة السابقة الموجودة في ذلك الزمان بحيث لو انتفى شي‌ء منها لم تجر عليه الأحكام ، وان كان قد يتوهم لانتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه ، ولأن أحكام الحمام مخالفة للأصل فيقتصر فيها على المتيقن ، بل إذا شك في كون الموجود الآن كالسابق أو لا لم تجر عليه الأحكام أيضا ، وان أطلق عليه الاسم الآن ، لعدم جريان أصالة عدم التغير هنا ، إذ هي انما تجري حيث يكون المعنى قديما ورأينا اللفظ الأول مستعملا فيه والآن شككنا فيه بالنسبة للزمن السابق فنحكم به كذلك لأصالة عدم التغير ، لا فيما إذا شككنا في كون هذا المعنى موجودا سابقا أولا. وفرق واضح بين المقامين. وأصالة عدم الاشتراك لا يثبت بها وجود المعنى ، إذ غاية ما يمكن إثباته بها نفي الاشتراك بعد فرض وجود المعنى أما انها تثبت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

٩٣

ان هذا الموضوع موجود في السابق فلا. لكن قد يقال مع إمكان المناقشة في بعض ما تقدم : الظاهر ان لفظ الحمام موضوع لقدر مشترك وهو هيئة خاصة يميزها أهل العرف فلا يضر النقيصة والزيادة في الأفراد. نعم الحق ان الحمام له أركان ينتفي بانتفائها ومن ذلك المادة ونحوها ، ولا ينفع هنا لو أطلق الاسم للعلم حينئذ بأنه معنى آخر غير المعنى الأول بل يكون حاله مثل ما سميت الآنية بالحمام فإنه لا تجري عليها الأحكام قطعا فتأمل جيدا.

وأما كون المراد بماء الحمام هو ما في حياضه الصغار فهو الظاهر منهم وقد صرح به جماعة ، وربما يستفاد من قوله عليه‌السلام (١) كما عن الفقه الرضوي : « ان ماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري إذا كان له مادة » ‌فإن الظاهر ان المراد بالمادة انما هي مادة ماء الحمام ، فيعلم حينئذ انها غير ماء الحمام والذي هو غيرها انما هو ما في الحياض ، واحتمال ان المراد بقوله ( إذا ) قيد للجاري فيكون مشبها بالجاري الذي له مادة لا مطلق الجاري فيدخل حينئذ ما في المادة في ماء الحمام بعيد خلاف المتبادر والمنساق ، على ان الظاهر من التشبيه بالجاري وبماء النهر أن يكون المراد ما يخرج من المادة ، لأنه هو الذي فيه صورة الجريان والنهرية ، والحوض الكبير بمنزلة المادة التي يخرج منها الماء. ( فان قلت ) انه كما يستفاد من الأخبار تنزيل ما في الحياض بمنزلة الجاري أيضا يستفاد منها تنزيل مادته منزلة مادة الجاري ( قلت ) حق لكنه لم يثبت هناك أحكام لاحقة للمادة من حيث كونها مادة لتثبت لها هنا ، وأما الأحكام اللاحقة لها لغيرها مثل عصمتها لغيرها ونحو ذلك فهي هنا كذلك ، وفي رواية بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) قال : « ماء الحمام لا بأس به إذا كان له مادة » ‌والتقريب فيها كما تقدم من أن الظاهر ان المراد بالمادة إنما هي الحوض الكبير فيكون المراد بماء الحمام غيرها.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

٩٤

وكيف كان فالذي يدل على إلحاق ماء الحمام بالجاري في الجملة مضافا الى ما تقدم والى الإجماع محصله ومنقوله قول الصادق عليه‌السلام (١) في خبر ابن أبي يعفور حيث قال له أخبرني عن ماء الحمام يغتسل فيه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي ، فقال : « ان ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا » وخبر حنان (٢) قال : « سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله عليه‌السلام اني أدخل الحمام في السحر وفيه الجنب وغير ذلك فأقوم اغتسل فينتضح علي بعد ما أفرغ من مائهم. قال : أليس هو جار؟ قلت : بلى قال : لا بأس » وصحيح دواد بن سرحان (٣) « قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في ماء الحمام؟ قال : بمنزلة الماء الجاري » ‌وما رواه في الوسائل (٤) عن كتاب قرب الاسناد عن إسماعيل بن جابر عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام « قال ابتدأني فقال : ماء الحمام لا ينجسه شي‌ء » ‌الى غير ذلك. وما كان في هذه الروايات من ضعف في السند أو الدلالة فهو منجبر بما سمعت من الإجماع المنقول بل المحصل على ان ماء الحمام أي ما كان في حياضه الصغار سواء كان قليلا أو كثيرا هو بمنزلة الجاري ، لكن يشترط اتصاله بالمادة إجماعا ، مع انه المنساق من أخبار المادة ويشعر به التشبيه بالجاري وماء النهر ، فلا عبرة بما عساه يظهر من خبر حنان ، على انه لا دلالة فيه على نجاسة ذي السؤر. نعم وقع النزاع بينهم في انه هل يشترط في المادة أن تكون كرا أولا؟ والمنقول عن الأكثر اشتراط الكرية ، لكن في كشف اللثام نقل عن الجامع فقط موافقة العلامة على الاشتراط وقال بعد ذكر مذهب المحقق من عدم اشتراط الكرية لإطلاق النصوص والفتاوى : وظاهره ان الفتاوى مطلقة. ولعل مراد من نسبه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧. وفي الوافي والوسائل « يغتسل منه الجنب ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨.

٩٥

إلى الأكثر أنه أراد أكثر المتأخرين عن المحقق رحمه‌الله.

وكيف كان فالذي ذهب اليه المصنف عدم الاشتراط وتبعه عليه بعض متأخري المتأخرين ولعله الظاهر من السرائر أيضا ، قال في المعتبر : « ولا اعتبار بكثرة المادة وقلتها لكن لو تحقق نجاستها لم تطهر بالجريان » انتهى ، وهو لا يخلو من قوة لما سمعته من الروايات فإنها كالصريحة في عدم اشتراط الكرية ، مع ان أقصى ما يمكن ان يستند به للخصم ما في المدارك فإنه بعد ان ذكر مستند الحكم رواية بكر بن حبيب وصحيحة داود بن سرحان قال : « وهما مع ضعف سند الأولى بجهالة بكر بن حبيب وعدم اعتبار المادة في الثانية لا يصلحان لمعارضة ما دل على انفعال القليل بالملاقاة إذ الغالب في مادة الحمام بلوغ الكرية فينزل عليه الإطلاق » وفيه أما أولا ان مضمون رواية بكر مما لا كلام فيه والإجماع منقول بل محصل عليه ، مع ان في سندها صفوان وقد قيل فيه انه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وعن الشيخ في العدة انه قال في حقه لا يروي إلا عن ثقة ، مضافا الى ان المشايخ ذكروها على سبيل الاعتماد والاعتداد ، مع أنها معتضدة بما سمعت من الأخبار وفيها الصحيح وغيره. وأما صحيحة داود بن سرحان فهي وان لم تشتمل على المادة لكنها اشتملت على التشبيه بالجاري ، ومعلوم ان عدم انفعال الجاري إنما هو من جهة المادة فالظاهر من التشبيه ان وجه الشبه ذلك ، مع ان الحمام مما له مادة. ولو سلمنا فنقول ان الإجماع والأخبار الأخر مقيدة لها بما إذا كان له مادة والمعلوم من المقيد إنما هو العاري عن المادة أصلا فيبقى الباقي داخلا سواء كانت كرا أو أقل. وأما ثانيا فأنت خبير ان بين ما دل على انفعال القليل وبين ما نحن فيه تعارض العموم من وجه ، والترجيح مع أخبار الحمام لكثرتها وتعاضدها وعدم وجوه المعارض فيها وكونها منطوقا وتلك أكثرها مفاهيم ، وبعضها قضايا في موارد خاصة. مع معارضتها بكثير من الأخبار كما سيأتي التعرض لها ان شاء الله‌

٩٦

مضافا الى ان أخبار الحمام معتضدة بأصالة البراءة ، لأن النجاسة تكليف بالاجتناب ، وباستصحاب الطهارة وبأصل الطهارة المستفاد من العمومات على وجه ، وبما دل على عدم انفعال الماء إلا بما يغير ريحه أو طعمه أو لونه كما تقدم في الجاري. ودعوى ترجيح أخبار القليل بذهاب الأكثر هنا إلى النجاسة وبان الغالب كون مادة الحمام كرا فينزل الإطلاق عليه ، يدفعها أن الأكثرية لم نتحققها إلا من متأخري المتأخرين ، وقد سمعت ما قاله كاشف اللثام ان الفتاوى مطلقة ، فتكون أخبار الحمام أولى بالترجيح بها. واحتمال ان هذا الإطلاق معارض بإطلاقهم الآخر لنجاسة ماء القليل فيه ان ذلك وان احتمل في الأخبار إلا انه يبعد احتماله في كلام الأصحاب مع ذكرهم الجاري وما في حكمه كماء الحمام وماء الغيث قسما برأسه والمحقون قسما آخر ومنه القليل ، فليتأمل جيدا. وأما الأغلبية المذكورة فأما أو لا فانا نمنع وصولها الى حد بحيث يكون الأقل من كر ولو قليلا من الأفراد النادرة بحيث لا يشمله اللفظ ، وثانيا لو سلمنا الندرة فهي ندرة وجود لا ندرة إطلاق. ولذلك ترى صدق ماء الحمام على مثله من غير استنكار كما هو ظاهر للمنصف المتأمل. على ان غلبة كرية المادة في الابتداء وإلا ففي الأثناء بعد استعمال ما في الحياض وإذهابها من كثرة الاستعمال يبقى غالبا أقل من كر. وأيضا فالتأمل الصادق قاض بفساد القول بأن المادة إن بقيت مقدار كر كانت من الأفراد الشائعة وان نقصت مقدار عشرين مثقالا صارت من الافراد النادرة ان ذلك واضح المكابرة. على ان القول باشتراط الكرية ينافي ما هو كالصريح من الأخبار من ان ماء الحمام له خصوصية على غيره من المياه ، إذ على تقدير الاشتراط يكون حاله كغيره من المياه كما اعترف به الشهيد في الذكرى. واحتمال القول بان أخبار الحمام محمولة على بيان ما هو كائن في غير الحمام أيضا فيكون المراد ان الحمام كالجاري لأن له مادة كثيرة وكل ما كان له مادة كثيرة فهو كذلك ، فلا يكون للحمام حينئذ خصوصية ، بعيد غاية البعد وقد اعترف الخصم بفساده ، كما لا يخفى على من لا خط أخبار الباب وكلمات الأصحاب ، فإنها كالصريحة‌

٩٧

في أن له خصوصية على غيره وهي منتفية على هذا التقدير ، بل قد يقال ان غيره حينئذ أولى منه لأن العلامة وغيره قد صرحوا في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية انه يكفي بلوغ مجموعهما مع الساقية كرا ، ومن هنا رجح بعضهم عدم اشتراط الكرية ولكن يشترط بلوغ مجموع ما في الحياض والمادة كرا ، فيشمله حينئذ قوله عليه‌السلام (١) : « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء » ‌وفيه أيضا انه لم تبق خصوصية لماء الحمام بل يكون مساويا لغيره ، على انه مناف لإطلاقهم اشتراط كرية المادة ، واحتمال تقييده بما لم تكن المادة مساوية للحياض في السطوح كما هو الغالب في الحمامات وإلا فيكفي بلوغ المجموع كرا كالغديرين ويكون كلامهم في الغديرين منزلا على الغالب من استواء السطوح ، أو يقال ان اشتراط الكرية للرفع إذا تنجست الحياض وإلا فبالنسبة للدفع يكفي بلوغ المجموع كرا فلا ينافي كلامهم في الغديرين لأنهم قد ذكروه بالنسبة للدفع لا الرفع ـ بعيد كالقول أن خصوصية الحمام تقوى الأسفل بالأعلى وإن كان متسما لا منحدرا ، بخلاف غيره من المياه فإنه لا يتقوم فيها السافل بالعالي ، فإن فيه مع انه مناف لما هو الظاهر من إطلاقهم اشتراط كرية المادة سواء كانت متساوية أو لا أن حكم الغديرين ذكره بعضهم فلا ينزل عليه كلام الجميع ، مع ان تنزيل الغديرين على متساوي السطوح لا شاهد عليه ، وكيف وقد نقل في المدارك عن العلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى الجزم بتقوي الأسفل بالأعلى في مسألة الغديرين دون العكس ، فكيف ينزل كلامهم فيه على متساوي السطوح. وأيضا على فرض التقييد المذكور فحيث لم تكن المادة مساوية كما هو الغالب في الحمام فهل يتقوى الأسفل بالأعلى أولا؟ فإن قالوا بالتقوى كان يكفي في دفع النجاسة بلوغ المجموع كرا لان الفرض ان السافل يتقوى بالعالي فلا معنى حينئذ لاشتراط كرية المادة ، وان لم يقولوا بتقوي السافل بالعالي فلا تنفعهم كرية المادة مع فرض علوها إذ لا معنى للقول بالتقوى حيث يكون العالي كرا دون غيره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١ و ٢ و ٦.

٩٨

على ما ستعرفه في محله. فان قالوا ان هذا الحكم هو خصوصية الحمام قلنا هذا ليس أولى من القول بأن خصوصية عدم الانفعال وان لم تكن كرا ، بل هذا أولى تحكيما للإطلاق ولانه المنساق من التشبيه بالجاري ومن ذكر المادة. ونظيره وارد على القول بالاكتفاء بكرية المجموع مطلقا إذ يلزم إما القول بعدم الخصوصية ان أجري هذا الحكم في غيره من غير مستوي السطوح مع التسنم أو الحكم بخصوص هذه الخصوصية من غير دليل ، بل لعل إطلاق الأخبار ظاهر في غيرها. وكذا يرد على القول بان اشتراط الكرية إنما هو بالنسبة للرفع دون الدفع ، وإلا فيكفي في الثاني بلوغ المجموع كرا إذ هو مع انه خلاف الظاهر من كلام المشترطين انه إما لازم لعدم الخصوصية إن قالوا ان غيره مثله في هذا الحكم أو للحكم بها من غير دليل. وكذا ما يقال ان الخصوصية فيه تطهير حياضه بما يخرج من المادة وان لم يكن الخارج كرا دفعة بخلاف غيره من الماء المحقون فإنه يشترط فيه إلقاء الكر عليه دفعة كما عن كثير منهم التقييد بها هناك ، ونادر لم يقيد بها إلا انه قد أخذ أيضا إلقاء الكر ، وأما الحمام فلا كلام في تطهر الحياض بما يخرج من المادة وان لم يبلغ الخارج مقدار كر ، نعم اختلفوا في أنها هل تطهير بالاتصال أو لا بد من الامتزاج. قلت أما أولا فهو غير منطبق على مذهب الجميع إذ مقتضى مذهب العلامة رحمه‌الله عدم إمكان تطهيره بما يخرج ان لم يكن كرا إذ لا يزيد على الجاري ، وعنده ان الجاري ينجس بالملاقاة قبل ان يستكمل كرا بناء على ما فهمناه منه ، بل وكذا على ما تقدم من توجيه كاشف اللثام السابق في تطهير الجاري في أحد الوجهين فيه. وأما ثانيا فلان هذه الخصوصية مع ابتنائها على اعتبار الدفعة في غير ماء الحمام وعدم تقوي الأسفل بالأعلى هي مأخوذة من قوله عليه‌السلام : « ماء الحمام كالجاري » (١) و « انه كماء النهر يطهر بعضه بعضا » (٢) وهي كما أنها قاضية بما ذكر قاضية بالمختار ، فلم يلتزم بهذه الخصوصية لمكان هذه الأخبار ولم يلتزم بالأخرى؟

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

٩٩

والحاصل بعد ان علمنا ان للحمام خصوصية على غيره كما صرحوا به ، ولم يظهر من الأخبار بيان خصوصية الخصوصية ، كان العمل بالإطلاق ، وإثبات الجميع له ، وانه يجري على ماء المادة حكم الجاري بشرط جريانها كما أشار إليه‌ قوله عليه‌السلام (١) : « أليس هو جار؟ قلت : بلى ، قال : لا بأس » ‌هو المتجه وأولى من غيره. نعم ربما يقال باختصاص الحكم بما يخرج من المادة لا ما كان فيها ، فتنجس حينئذ بملاقاة النجاسة إذا كانت أقل من كر ، لما علمت ان المراد بماء الحمام ما كان في حياضه الصغار وما يجري إليها من المادة. ومن هنا قد استبعد العلامة رحمه‌الله الحكم بأن المادة إذا كانت أقل من كر فليست لها قوة على ان تعصم نفسها فكيف تعصم غيرها وتفيده حكما ليس لها. ولعل ما استبعده رحمه‌الله يراه الخصم قريبا بعد ما قضت الأدلة به. مع انه يحتمل ان يقال ـ وان بعد ـ بشمول ماء الحمام للجميع حينئذ ، أي ما في المادة والحياض ولا ينجس ما في المادة وان كان أقل من كر ، لكن بشرط جريانه. وقوله عليه‌السلام (٢) في بعض الأخبار « إذا كانت له مادة » ‌لا يقضي صريحا بان ماء الحمام ما عداها ، بل قد يشعر بمساواة مادته لمادة الجاري ، إلا ان الأظهر ما تقدم سابقا من ان ماء الحمام ما عداها فتأمل.

فصار حاصل البحث ان ما في الحياض حاله كحال الماء الخارج من عين الجاري ، والحوض الكبير الذي يأتي منه الماء بمنزلة العين التي ينبع منها الماء فلا يقبل ما في الحياض النجاسة سواء كان ما في الحوض الكبير كرا أو لا ، وسواء كان المجموع مقدار كر أولا ، لكن بشرط اتصالها بالمادة وتجدد الخروج منها. وأما حيث تنجس ما في الحياض إما بالتغيير أو انها انقطعت عنها المادة فتنجست ، فطريق تطهيره كطريق تطهير الجاري بما يخرج من المادة متدافعا عليه حتى يزول تغييره ان كان متغيرا. نعم هناك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

١٠٠