جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

في المياه

جمع ماء ، وهو وأمواه دليل إبدال الهمزة عن الهاء. وجمعه باعتبار ما تسمعه من أقسامه المختلفة بالأحكام ، وفيه أطراف وقطع من الكلام الأول في الماء المطلق والظاهر استغناؤه عن التعريف كما في سائر الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، بل هو أولى منها فيدور الحكم مدار صدق اسمه وعدم صحة سلبه ، فمن هنا كان التعريف الواقع من الأصحاب على نحو التعاريف اللغوية من إبدال لفظ مجهول بآخر معلوم ، بل كان الأولى تركه ، لانه لا لفظ أوضح من لفظ الماء ، نعم لما كان امتياز المطلق عن المضاف بالإطلاق والإضافة أراد التنبيه على ذلك فقال وهو كل ما يستحق عرفا إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة وقيد ، ووقوع بعض الافراد منه مضافة كماء البحر وماء البئر لا تنافي استحقاق الإطلاق بدونها ، بخلاف غيرها فلا معنى للإيراد على هذا ونحوه بوقوع لفظ ( كل ) فيه واشتماله على المعرف ونحو ذلك ، لما عرفت انه ليس تعريفا حقيقيا. وإنما لم يعرفوه بتعريفه الحقيقي لأنه لا غرض يتعلق للفقيه بذلك لانحصار غرضه بالحكم الشرعي الدائر مدار صدق الاسم عرفا. وربما زاد بعضهم على ما ذكره المصنف ويمتنع سلبه عنه ، وكأنه مستغنى عنه. واحتمال القول انه ذكره لانه قد يطلق لفظ الماء مطلقا على المضاف في حال الحمل فيقال لماء الورد ونحوه انه ماء لكنه يصح سلبه عنه. فيه ان هذا الإطلاق بدون قرينة ممنوع ومعها خروج عن البحث ، فان المراد بالإضافة والقيد ونحو ذلك الواقعة في كلامهم عدم الاحتياج إلى قرينة موجودة أو مقدرة فتأمل. وليعلم انه لا ينافي دوران الحكم مدار الصدق وقوع الاشتباه في بعض المقامات ، فإنه قد يصدق لفظ الماء على ما ليس بماء في الواقع لو علم بحاله ، بل هو بول مثلا كما في سائر الموضوعات. ولو شك في الصدق فان كان لعروض عارض جرى عليه حكم معلوم الصدق بناء على صحة استصحاب الموضوع فيه وفي نظائره من الألفاظ‌

٦١

العرفية. وإلا جاز شربه وسائر استعماله في كل ما لم يشترط فيه المائية ، اما ما كان كذلك كإزالة الخبث أو الحدث فلا للأصل في المقامين. وكله سواء نبع من الأرض أو نزل من السماء أو اذيب من ثلج مع بقائه على أصل خلقته من دون عارض يعرض له من نجاسة أو استعمال على بعض الأقوال طاهر مزيل للحدث والخبث كتابا وسنة كادت تكون متواترة ، وإجماعا محصلا ومنقولا نقلا مستفيضا بل متواترا ، فما عن سعيد بن المسيب من عدم جواز الوضوء بماء البحر وما عن عبد الله بن عمر من أن التيمم أحب إليه ـ لا يلتفت اليه ، على ان الثاني غير متحقق الخلاف ، بل لا يبعد أن يكون الأول قد أنكر ضروريا من ضروريات الدين. والمراد بالحدث إما نفس الأمور المؤثرة الموجبة لفعل الطهارة ، ويراد حينئذ بالإزالة له الإزالة لحكمه ، وإما الأثر الحاصل منها. والمراد بالخبث النجاسة. والفرق بينهما ان الأول محتاج رفعه إلى النية دون الثاني. وربما فرق بأن الأول لا يدرك بالحس والثاني ما يدرك.

وكيف كان فمما يدل على كون الماء مزيلا للحدث والخبث من الكتاب قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (١) فان المراد من الطهور هنا المطهر فيوافق قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (٢) وقد وقع استعمال طهور في هذا المعنى في جملة من الأخبار المعتبرة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من أمتي أراد الصلاة فلم يجد ماء ووجد الأرض لقد جعلت له مسجدا وطهورا » ‌و « طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ان يغسله سبعا » (٤) و « التراب طهور المسلم » (٥) و « التوبة طهور‌

__________________

(١) سورة الفرقان ـ آية ٥٠.

(٢) سورة الأنفال ـ آية ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ٣.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب النجاسات والأواني حديث ٣ و ٤ مع تغيير في اللفظ.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب التيمم حديث ٣ مع الاختلاف في اللفظ.

٦٢

للمذنب » (١) و‌ « النورة طهور » (٢) ‌و‌ « النورة نشرة وطهور للجسد » (٣) و‌ « اطل فإنه طهور » (٤) ‌و‌ « غسل الثياب يذهب الهم والحزن وهو طهور للصلاة » (٥) و‌قوله عليه‌السلام (٦) وقد سئل عن الوضوء بماء البحر : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » و‌قال الصادق عليه‌السلام (٧) : « كان بنوا إسرائيل إذا أصابهم قطرة من بول قرضوا لحومهم بالمقاريض وقد وسع الله عليكم بما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا فانظروا كيف تكونون » ‌الى غير ذلك. وقد يكون منه قوله : « عذاب الثنايا ريقهن طهور » ‌فإنه أنسب من الطاهر فقط. وكذلك قوله تعالى ( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) (٨) بمعنى المنظف لانه ينظف عما أكل فيخرج عن جلده رشحا على ما قيل ، أو لأنه يطهر شاربه عن الميل الى غير الحسنات أو الالتفات الى ما سوى الحق تعالى ، بل في الذخيرة انه قيل قد روى مثل ذلك (٩) عن الصادق عليه‌السلام.

فظهر أن من أنكر استعمال طهور بهذا المعنى مكابر وكيف وقد نسبه الشيخ في التهذيب إلى لغة العرب ، وانهم لا يفرقون بين قول القائل ماء طهور وماء مطهر وفي الخلاف عندنا أن الطهور هو المطهر للحدث والنجاسة ، واختاره في المعتبر ، ونقله عن الشيخ وعلم الهدى في المصباح ، وهو المنقول عن الترمذي من أكابر أهل اللغة ،

__________________

(١) البحار باب ـ التوبة المجلد ـ ٣ ـ وفيه‌ « التوبة مطهرة للذنب » ولم نجد في الاخبار‌ « التوبة طهور للمذنب ».

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب آداب الحمام ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام الملابس من كتاب الصلاة حديث ١١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٨) سورة الدهر آية ٢١.

(٩) مجمع البيان سورة الدهر آية ٢١.

٦٣

قال : إن الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر غيره ، وهو ظاهر التذكرة والمنتهى وصريح الذكرى ونسبه المقداد إلى أصحابنا والشافعية. وهو المنقول عن التبيان ومجمع البيان والمسالك الجوادية لقولهم : ماء طهور اي طاهر مطهر مزيل للأحداث والنجاسات ، وعن نهاية ابن الأثير ان الطهور في الفقه هو الذي يرفع الحدث ويزيل النجس ، لان فعولا من أبنية المبالغة فكأنه تناهى في الطهارة. قال : ومنه حديث ماء البحر الى آخره ، وعن المصباح المنير قال : وطهور قيل هي مبالغة وانه بمعنى طاهر والأكثر انه لوصف زائد ، قال ابن فارس : الطهور ، هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، وقال الأزهري الطهور في اللغة هو الطاهر المطهر وقوله عليه‌السلام هو الطهور ماؤه أي هو الطاهر المطهر ، قاله ابن الأثير ، وفي القاموس ، الطهور المصدر واسم ما يطهر به أو الطاهر المطهر انتهى ، وعن الزمخشري أنه حكاه عن أحمد بن يحيى ، وعن المغرب أنه حكاه عن تغلب ، وفي المصابيح للسيد المهدي أن المشهور بين المفسرين وأصحاب الحديث والفقهاء وأئمة اللغة انه بمعنى المطهر أو الطاهر المطهر انتهى.

فظهر لك من جميع ما ذكرنا انه لا ينبغي الشك في استعمال طهور في ذلك ، فما نقل عن أبي حنيفة والأصم وأصحاب الرأي من إنكار ذلك وجعله بمعنى الطاهر لا غير مستدلين بان فعول الذي للمبالغة لا يكون متعديا وبوروده لهذا المعنى كما في قول الشاعر‌ « ريقهن طهور » وقوله تعالى ( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) غير صحيح ، لما عرفت ، على أن ذلك لا ينافي ما ذكرنا أيضا إذ كما أن استعماله بمعنى فاعل على تقدير تسليمه غير مطرد فإنه لا يقال ثوب طهور وخشب طهور ونحو ذلك فكذا ما نحن فيه فتأمل. نعم قد يقال أنه توقيفي لا يقتضيه القياس من جهة أن فعول الذي هو للمبالغة لا يكون متعديا واسم الفاعل منه غير متعد ولا ريب ان طاهر الا يتعدى ، ومن هنا اعترف في المعتبر وكنز العرفان ان كلام أبي حنيفة موافق لمقتضى القياس اللغوي غير موافق لمقتضى الاستعمال ،

٦٤

لما عرفت. وما في التهذيب بعد ان أورد الدليل لأبي حنيفة من انه لا يكون فعول متعديا والفاعل منه غير متعد ، قال : « انه غلط لأنا وجدنا كثيرا ما يعتبرون في أسماء المبالغة التعدية وان كان اسم الفاعل منه غير متعد ، ألا ترى الى قول الشاعر :

حتى شآها كليل موهنا عمل

باتت طرابا وبات الليل لم ينم

تعدى كليل الى موهنا وكان اسم الفاعل منه غير متعد وهذا كثير في كلام العرب » انتهى : ولعله لا ينافي ما ذكرنا لكون مثل ذلك بعد تسليم انه مما نحن فيه لا يثبت انه قياسي وكيف وهو من المعلوم ان فعولا للمبالغة في مادة فاعل فهو تابع له. نعم هنا مسلك آخر لإفادته التطهير لا من جهة الوضع اللغوي فيقال انه لما كان مثل ذلك موضوعا للمبالغة الحاصلة من التكرار كضروب ، فإنه لا يقال إلا بعد حصول التكرار ، وكانت صفة الطهارة الشرعية غير قابلة للزيادة والنقيصة ، كان معنى المبالغة منصرفا إلى المطهرية حتى يكون لها وجه مناسب. وقد ارتكب هذا الطريق جماعة بل ربما أضافوه الى النقل عن اللغة ، وليس هذا من باب إثبات اللغة بالاستدلال بل هو إثبات المراد باللفظ بواسطة الفهم العرفي من قبيل حمل اللفظ على أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة. قال الزمخشري على ما نقل عنه في الكشاف : « طهورا أي بليغا في طهارته. وعن احمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. فان كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا ويعضده قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (١) وإلا فليس فعول من التفعيل في شي‌ء » انتهى. وقال في المغرب على ما نقل عنه : وما حكي عن تغلب ان الطهور ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره ان كان مراده بيان لنهايته في الطهارة فصواب حسن وإلا فليس فعول من التفعيل في شي‌ء ، وقياس هذا على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كقطوع ومنوع غير‌

__________________

(١) سورة الأنفال ـ آية ١١.

٦٥

سديد » انتهى. وعن الطراز : « ان فعولا ليس من التفعيل في شي‌ء وقياسه على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كمنوع وقطوع غير سديد إلا ان يكون المراد بذلك بيان كونه بليغا في الطهارة فهو حسن صواب إذ كانت الطهارة بنفسها غير قابلة للزيادة فمرجع الزيادة إلى انضمام التطهير لا ان اللازم قد صار متعديا » انتهى. قال السيد المهدي في المصابيح : « فهؤلاء وهم عمدة القائلين بخروج التطهير عن معنى الطهور اعترفوا بدلالته عليه باللزوم من جهة المبالغة ، ولعل غيرهم لا يمنع ذلك فإن الدلالة بهذا الوجه ليس لدخوله في الموضوع له فلا ينافي القول بخروجه عنه » انتهى.

قلت : قد يظهر بعد التأمل في كلام هؤلاء أن مرادهم بعد معرفة كون الماء بهذا الوصف الذي لم يخالف فيه أحد من المسلمين ، بل هو من جملة ضروريات الدين يحمل لفظ الطهور المراد منه المبالغة عليه بعد تعذر المعنى الحقيقي ، لا انه لو لم يعلم كون الماء بهذا الحال وأطلق لفظ الطهور عليه مع عدم تسليم كونه بمعنى المطهر يستفاد منه ذلك من جهة المبالغة التي لا تصح بدونه ، والمفيد تسليمه إنما هو الثاني لا الأول فتأمل جيدا.

وربما ظهر من شيخ الطائفة في التهذيب والخلاف الاستدلال بهذا الطريق قال في الأول : « والطهور هو المطهر في لغة العرب فيجب أن يعتبر كل ما يقع عليه الماء بأنه طاهر مطهر إلا ما قام الدليل عليه على تغيير حكمه ، وليس لأحد أن يقول إن الطهور لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا ، لأن هذا خلاف على أهل اللغة. فإن قال قائل كيف يكون الطهور وهو المطهر واسم الفاعل منه غير متعد وكل فعول ورد في كلام العرب متعديا لم يكن متعديا إلا وفاعله متعد. قيل له هذا كلام من لم يفهم معاني الألفاظ العربية ، وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل النحو أن فعولا موضوع للمبالغة وتكرر الصفة وعدم حصول المبالغة على ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها بوجه آخر ، وهو هنا باعتبار كونه مطهرا » ثم ذكر المنع المتقدم الذي نقلنا عنه سابقا. وقال في الخلاف : « عندنا ان الطهور هو المطهر المزيل للحدث والنجاسة وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة‌

٦٦

والأصم : الطهور والطاهر بمعنى واحد. دليلنا هو أن هذه اللفظة وضعت للمبالغة والمبالغة لا تكون إلا فيما يتكرر فيه الشي‌ء الذي اشتق الاسم منه ، ألا ترى أنهم يقولون فلان ضارب إذا ضرب ضربة واحدة ، ولا يقال ضروب إلا بعد أن يتكرر منه الضرب ، وإذا كان كونه طاهرا مما لا يتكرر ولا يتزايد فينبغي كون طاهرا طهورا لما لا يتزايد (١) والذي يتصور التزايد فيه أن يكون مع كونه طاهرا مطهرا مزيلا للحدث والنجاسة وهو الذي نريده » الى آخره ، انتهى. وربما أورد عليه بعض المتأخرين بأن هذا إثبات اللغة بالاستدلال وهو غير جائز ، وقد يظهر من بعض هؤلاء إنكار استعمال طهور وصفا ، نعم سلم استعماله في اسم الآلة أي لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به والسحور وغير ذلك. وفيه انه قد يكون مراد الشيخ التأييد بذلك ، وإلا فالمعتمد ما نقله أولا عن أهل اللغة ، وان كان ظاهر قوله في الخلاف ( دليلنا ) الى آخره ينافي ذلك أو يكون مراده ما ذكرناه سابقا من الاستناد الى الفهم العرفي بعد تعذر المعنى الحقيقي ، فتأمل جيدا. وأما إنكاره مجي‌ء فعول وصفا فهو كأنه مخالف للمجمع عليه بينهم ، وأبو حنيفة وأصحابه لم ينكروا ذلك بل أنكروا وصفيته بمعنى مطهر لا أصل الوصفية ، ولذلك قال في المصابيح : انه لا خلاف في مجيئه وصفا وإنما الخلاف في تعيين المراد منه حينئذ ، فهل الطاهرية أو هي مع المطهرية.

لا يقال إن وجه المبالغة غير منحصر في ذلك فإن الطهارة قابلة للزيادة والنقصان كالوضوء بالآجن والشمس ، لأنا نقول إن رفع الحدث معنى واحد لا يختلف وكراهة استعمال بعض المياه لا يقتضي نقصا فيها ، نعم قد يقال انه بناء على ان المراد بالطهارة المعنى الذي يحصل في نفس المكلف من القرب الى الله تكون قابلة للزيادة والنقيصة من جهة القرب والأقربية ، وأنت خبير ان العمدة في الاستدلال إنما هو النقل والتبادر لا هذه الوجوه فتأمل جيدا.

__________________

(١) وفي نسخة الخلاف المطبوعة فينبغي ان يكون كونه طهورا لما يتزايد.

٦٧

وربما سلك بعضهم في استفادة التطهير من لفظ طهور في الآية طريقا آخر ، وهو ان الظاهر من قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) إرادة الطاهر منه لكونه واقعا في معرض الامتنان المستلزم لذلك فإنه لا امتنان بالنجس ، فتعين حينئذ طهور لإرادة المطهرية لا استفادة أصل الطهارة بدونه. وهو لا يخلو من وجه ، كاحتمال القول انه يراد المطهرية منه ولو مجازا بقرينة قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ )

والأولى الاستناد في ذلك الى ما ذكرناه أولا من النقل اللغوي والاستعمال. وتذكر المبالغة واستفادة الطاهرية بدونه وقوله تعالى ( لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) وغير ذلك مؤيدات له.

وقد يسلك لاستفادة ذلك طريق آخر مغاير للأول كما وقع من جماعة ، وهو بان يقال ان لفظ الطهور يأتي مصدرا كما عن النهاية والمغرب والقاموس والطراز وعن الزمخشري وابن الأثير حكايته عن سيبويه ، ومنه قولهم تطهرت طهورا حسنا. وهل هو حينئذ بمعنى التطهر أو الطهارة؟ احتمالان : عن المغرب النص على الأول ، كما عن كنز العرفان والكشاف التفسير بالثاني ، وكذا عن الطراز وعنه أيضا أنه مصدر لتطهر على غير القياس ويأتي اسما للآية فيكون معناه ما يتطهر به كالوضوء والغسول والفطور كما نص عليه في الصحاح ، وهو المنقول عن المحيط والأساس والكشاف والغريبين والمغرب والنهاية والطراز. وفي الذخيرة انه قد جاء طهور لما يتطهر به باتفاق من وصل الي كلامه من أهل اللغة وهو بالفتح لا غير بخلافه مصدرا فإنه بالفتح والضم ، وعن النهاية ضبط المصدر بالضم ، ونقل الفتح عن سيبويه. وكيف كان فيقال حينئذ أما حمله على المصدر في المقام بناء على مجيئه مفتوحا فممنوع بناء على جعله نعتا للماء إلا على تأويل ، ولعل تأويله بمطهر حينئذ أولى لوجوه منها موافقة الآية الثانية وكونه أقرب للفعل الذي هو مصدر له على بعض الوجوه ، بل أولى من ذلك بقاؤه على المصدرية وجعله منصوبا على معنى اللام ، فيوافق التعليل في الآية الثانية فتأمل جيدا. وأما حمله على الآلة فقد صرح به هنا جماعة كصاحب الصحاح وغيره ، وربما استشكله بعضهم أنه حينئذ لا يصلح‌

٦٨

أن يكون نعتا للفظ الماء لكونه من قبيل الأسماء الجامدة وان دل على المبدأ إلا على تأويل ، كما يلتزم في الجامد المحض ، ومن هنا لم يلتفت اليه صاحب الكشاف مع اعترافه بأصل المعنى ، ويمكن أن يجاب عن ذلك بحمله على البدلية من لفظ الماء ، أو يراد من طهور حينئذ يتطهر للاستغناء عن الموصوف بلفظ ماء فيكون المعنى وأنزلنا من السماء ماء يتطهر به ، كما عن الهروي فإنه قال ماء طهور أي يتطهر به أو يراد وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ، كما عن النيشابوري. والحاصل ان أمر التأويل في ذلك سهل.

وقد يقال إن من ذكر انه يراد بالطهور المطهر أخذه من هذا المعنى ، لا أن المراد بالطهور المطهر وضعا إذ لا ريب في استفادة المطهرية منه على تقدير كونه اسما للآلة ، وربما يرشد الى ذلك ما ذكره المحقق في المعتبر فإنه قال : « الطهور هو المطهر لغيره قاله الشيخ في الخلاف وعلم الهدى في المصباح ، خلافا لبعض الحنفية. لنا النقل والاستعمال ، أما النقل فما ذكره الترمذي قال : الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر غيره ، وقال الجوهري : الطهور هو ما يتطهر به كالسحور والبرود. وأما الاستعمال » الى آخره ، فان نقله عن الجوهري استشهاد لما ادعاه من كون الطهور هو المطهر ، مع ان الذي ذكره الجوهري إنما هو اسم الآلة إشارة إلى أن المطهرية المرادة من الطهور إنما هي مأخوذة من اسم الآلة ، نعم ما نقله عن الترمذي ليس كذلك لقوله : « من الأسماء المتعدية » مع انه قد يحمل لفظ التعدية في كلامه على معنى آخر فتأمل. وقال العلامة في التذكرة : « والطهور هو المطهر لغيره وهو فعول بمعنى ما يفعل به أى يتطهر به كغسول ، وهو الماء الذي يغتسل به لقوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) ثم قال ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) لأنهم فرقوا بين ضارب وضروب وجعلوا الثاني للمبالغة في المعنى » انتهى. فإنه صريح فيما ذكرنا. وقال في كنز العرفان : « وقالت الشافعية وأصحابنا انه بمعنى المطهر فيكون مأخوذا من الوضع الثاني » انتهى. والوضع الثاني في كلامه انه اسم لما يتطهر به فتأمل جيدا. وقد يؤيده أيضا انه من المستبعد‌

٦٩

جدا كون هذا المعنى أى كونه بمعنى المطهر معروفا عند أهل اللغة حتى ادعي الإجماع عليه ويخفى على مثل الزمخشري والمطرزي وصاحب الطراز وابى حنيفة والأصم وأصحاب الرأي ، ولم يذكره في الصحاح ، بل يظهر من بعضهم أنه غير مذكور في أكثر كتب أهل اللغة ، وقول كثير من أصحابنا أنه يفيد التطهير وبمعنى المطهر ليس صريحا في ذلك ، بل قد يكون من جهة كونه اسما لما يتطهر به فإنه يفيد هذا المعنى أيضا ، وإن كان لا تنطبق عليه كلمات بعضهم. ومن هنا نقل عن بعضهم انه أورد على الزمخشري ان اعترافه بمجي‌ء الطهور لما يتطهر به يرفع أصل النزاع ، لكونه حينئذ مفيدا للمطهرية.

وكيف كان فلا يخلو القول بإنكار كون الطهور بمعنى المطهر وضعا من قوة ، نعم هو يفيده من كونه اسما لما يتطهر به وكثير مما ذكرنا من الأمثلة لا تأبى الحمل عليه ، فتأمل ، وان كان ما ذكرناه أولا هو الأقوى.

وليعلم انه بناء على تسليم الأول فهل بمعنى الطاهر المطهر أو المطهر؟ ربما ظهر من بعضهم الأول كما ظهر من بعض الثاني ولعله هو الأقوى ، وعليه ظاهر إجماع التهذيب والخلاف وكنز العرفان فإنهم ذكروا أنه بمعنى المطهر من دون قولهم الطاهر المطهر ، ولعل من ذكره أراد التصريح بلازم المعنى ، لأنه متى كان مطهرا كان طاهرا والمناقشة في الملازمة كما يظهر من البحث في الغسالة ليست على ما ينبغي لوجوه ليس هذا محل ذكرها.

( بقي شي‌ء ) وهو انه لا ريب في كون حمل الطهور على المطهرية بالمعنى الشرعي ليس معنى لغويا ، بل هو إما أن يكون من باب النقل الشرعي أو المجاز. والظاهر الأول لثبوت الحقيقة الشرعية فيه ، لكن دعوى ان المراد منه حينئذ المطهر من الأحداث والأخباث محل منع ، فإنهم صرحوا ان استعمال لفظ الطهارة في الثاني من باب المجاز فيكون اللفظ مستعملا في حقيقته ومجازه ، وحمله على عموم المجاز لا قرينة عليه.

٧٠

وقد يقال ان وروده في معرض الامتنان مع عدم التشخيص يعين ذلك ، لكنه لا يخلو من نظر. وأورد بعضهم على الاستدلال بالآية ان أقصى ما تدل عليه طهورية ماء السماء لا مطلق الماء ، وبان لفظ ماء نكرة في سياق الإثبات فلا تفيد العموم. والجواب عن الأول أولا بالإجماع المركب ، لا يقال انه خروج عن الاستدلال بالآية حينئذ لأنا نقول ان الإجماع المركب لا يفيد بدونها شيئا ، وثانيا ان المياه كلها أصلها من السماء بدليل قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) (١) وربما أشارت إليه بعض الأخبار ، وعن الثاني بأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم إذا وقعت في معرض الامتنان ، كما في قوله تعالى ( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (٢) مضافا الى الإجماع المزبور ، والأمر سهل.

( بقي شي‌ء ) ينبغي التنبيه عليه ، وهو ان ما دل على طهورية الماء من الكتاب وغيره هل يقضي بشمول المطهرية لسائر المتنجسات أو لا شمول فيه لذلك فما شك في قابليته للطهارة به من دون انقلابه اليه يبقى على أصل النجاسة؟ لا يبعد في النظر الثاني ، وما دل على كونه مخلوقا طاهرا مطهرا لا يستلزم شموله للجميع ، بل يكفي في صدق ذلك تطهيره لكثير من الأشياء ، وان كان الأول لا يخلو من وجه ولعله هو مبنى كلام العلامة في تطهير المضاف من حكمه بطهارته بمجرد اتصاله بالكثير وان بقي على إضافته. وفيه انه لو سلمنا شمول المطهرية لكن لا يكفي ذلك في بيان كيفية التطهير ولا عموم يرجع إليه في الكيفية ، فعمومها حينئذ غير مفيد شيئا لمكان الإجماع في الكيفية المتوقف حصولها على بيان الشارع. فحينئذ على كل حال هذه العمومات لا تثمر للفقيه ثمرة ولا متيقن يرجع اليه ، وربما تسمع فيما يأتي بعض الكلام في ذلك ان شاء الله.

(و)كيف كان فالماء باعتبار وقوع النجاسة فيه وتأثيرها وعدمه ينقسم إلى ثلاثة أقسام جار ومحقون وماء بئر.

__________________

(١) سورة المؤمنون ـ آية ١٨.

(٢) سورة الرحمن ـ آية ٦٨.

٧١

( أما الجاري )

فهو ـ على ما قيل ـ النابع السائل على الأرض ولو في الباطن سيلانا معتدا به وربما عرف بأنه النابع غير البئر ، كما وقع من بعض المتأخرين ، مع التصريح بأنه لا فرق بين جريانه وعدمه. وتسميته حينئذ جاريا اما حقيقة عرفية خاصة أو من باب التغليب لتحقق الجريان في كثير من أفراده ، فمثل العيون التي لا تدخل تحت اسم البئر من الجاري حينئذ. ولا أعلم السبب الذي دعاهم الى ذلك ، مع انه مناف للعرف الذي تثبت به اللغة ، إذ لا يصدق الجاري إلا مع تحقق الجريان ، وليس في الأخبار ولا في كلام الأصحاب ولا غيرهم ما يحقق تلك الدعوى ، بل ربما يشير قولهم في تطهير الجاري « انه يطهر بكثرة الماء الجاري عليه متدافعا حتى يزول التغيير » وما في بعض الأخبار (١) « عن الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم أيتوضأ منه؟ » ‌الى آخره ، الى خلافه ، كما يظهر من بعض العبارات من كون الجاري ما تحقق فيه الجريان. ومن هنا صرح بعض المتأخرين كالفاضل الهندي وغيره باعتبار السيلان في الجاري ، خلافا لما وقع من الشهيد الثاني ومن تبعه من كونه النابع غير البئر ، تعدى أو لم يتعد. ولعله أخذه من حصرهم المياه في الجاري والمحقون وماء البئر. مع استظهاره كون العيون ونحوها لا تدخل في المحقون ولا ماء البئر. أما الثاني فلعدم صدق الاسم وأما الأول فلان لها مادة ، فلم يبق إلا دخولها في الجاري ، ولا يكون ذلك إلا بالتزام أن الجاري هو النابع غير البئر لعدم التعدي فيها. وفيه ان هذا الحصر لم يقع من الجميع بل ولا من الأكثر ، وأيضا لا مانع من إرادة من حصر ذلك الجاري أو ما في حكمه. كما يظهر من إلحاقه ماء الحمام ونحوه كما صنع المصنف ، فتأمل. أو يلتزم دخولها تحت اسم البئر وارتكابه مثل ذلك في لفظ الجاري ليس بأولى من ارتكاب شمول لفظ البئر بل هو أولى. فالتحقيق حينئذ‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٧٢

إدخالها فيه ان ساعد العرف على ذلك ، وإلا كان لها حكم الجاري وان لم تدخل في الاسم

هذا كله في النابع المتعدي وهل يلحق به المتعدي مما يخرج رشحا؟ وجهان ينشئان :

من اعتبار النبع في الجاري كما يظهر من كثير من كلماتهم ، حتى أنه قال في جامع المقاصد : إن الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد يعتبر فيه الكرية اتفاقا ممن عدا ابن أبي عقيل ، بل ربما زاد بعضهم فاعتبر كونه من ينبوع وهي ما يدفق منه الماء كالفتق. وكيف كان فلا يدخل الرشيح فيه ، إذ المراد بالنبع الخروج من عين ، كما في المصباح ، وعن القاموس والمجمع ، وهي ما يشخب منها الماء ، نعم قد تكبر وقد تصغر ، والرشيح ليس كذلك ، بل هو في الحقيقة كالعرق للإنسان. وعن الخليل في العين بعد أن ذكر أن الرشيح اسم للعرق والراشح والرواشح جبال تندي ، فربما اجتمع في أصولها ماء قليل وان كثر سمى واشلا ، وان رأيته كالعرق ويجري خلال الحجارة يسمى راشحا. هذا مع الشك في شمول ذي المادة لمثله ، فينقدح الشك حينئذ في إلحاقه بحكم الجاري ، فضلا عن كونه جاريا ، من غير فرق في ذلك بين المتعدي منه وغيره. ولعله هو الذي يسمى في عرفنا الآن بالنزيز.

ومن صدق اسم الجاري ، ومنع عدم صدق اسم النبع ، سيما على ما فسره في الصحاح من انه مطلق الخروج ، على انه لو سلم ان مثله لا يسمى نبعا نمنع اعتبار النبع في الجاري ، نعم غاية ما علم أن الجاري لا عن مادة ملحق بالراكد ، فيبقى غيره ، كما انا نمنع الشك في شمول ذي المادة له. ومنه يظهر احتمال أنه كالجاري أحكاما وان لم يجر بعد تسليم عدم شمول الجاري لمثله ، سيما بعد جريانه فعلا وصيرورته نهرا كبيرا مثلا. والتزام إجراء حكم المحقون عليه لا يخفى عليك ما فيه. فالأقوى كونه من الجاري مع جريانه ومن ذي المادة مع عدمه.

وأما ( الثمد ) وهو ما يتحقق تحت الرمل من ماء المطر ، كما عن الأصمعي ، على‌

٧٣

ما نقل عن الأساس ، قال : هو ماء المطهر يبقى محقونا تحت رمل فإذا انكشف (١) عنه أدته الأرض. وعن الخليل في العين ان الثمد الماء القليل يبقى في الأرض الجلد ، ولعله هو مراد الصحاح والقاموس والمجمع وشمس العلوم على ما نقل عنهم من انه الماء القليل الذي لا مادة له ، إذ ما كان على وجه الأرض لا يسمى ثمدا قطعا. فالأقوى إلحاقه بالمحقون مطلقا جري أو لم يجر للاستصحاب مع الظن أو القطع بعدم شمول ذي المادة له ، لا أقل من الشك ، فيبقى على حكم المحقون من القليل أو الكثير. اللهم إلا أن يفرض كونه على وجه يصدق ذو المادة عليه ، أو يقال انه مطلقا من ذي المادة أو بحكمه ولو مع الشك كما ستعرف.

فان قلت ما تقول في البئر الذي يخرج ماؤها رشحا فهل تجري عليها أحكام البئر ، قلت الظاهر فيه الوجهان الناشئان من تفسير النبع لما ستعرف ان البئر هي الماء النابع ، على انه قلما يوجد بئر ماؤها رشح ، بل الغالب أن تخرج من منابع ، نعم قد تتفق دفاقا تشتبه بالرشيح فلا تشملها إطلاقات البئر. ويؤيده أيضا أصالة عدم لحوق أحكام البئر ، واليه ينظر ما نقله صاحب الحدائق عن والده من عدم تطهير الآبار التي في بعض البلدان بالنزح بل بإلقاء كر ، لأن ماءها يخرج رشحا ، لكن قد عرفت أن النبع أعم من الرشح بل قيل الغالب في الآبار الرشح. فالتحقيق إجراء حكم البئر عليها مع الصدق عرفا وان كان الخارج رشحا ، أما إذا لم يصدق عرفا لقلة الحفر ونحوه فهو من ذي المادة ان لم يجر وإلا كان جاريا أيضا كما أشرنا الى ذلك سابقا. وقد يقال أن عموم الأدلة في المياه يقتضي كونها طاهرة مطهرة لا تنجس إلا بالتغير ، والتفصيل بالكر وما دونه إنما هو في المياه المعلوم عدم المادة لها كالحياض والغدران ونحوهما ، ولذا كان المشهور عدم اعتبار الكرية في الجاري بل وفي كل ذي مادة. وحينئذ يتجه إلحاق الرشح والنزير بل والثمد بحكم الجاري أو ذي المادة ولو مع الشك للعموم المزبور الذي يمكن أن يؤيد‌

__________________

(١) وفي الأساس ( فإذا كشف ).

٧٤

أيضا بقاعدة الطهارة مع فرض الشك في حكمه ، للشك في اندراجه فيما دل على النجاسة أو التنجيس لمثل الموضوع المزبور فتأمل جيدا. ولكن من الغريب ما عن الشيخين في المقنعة والتهذيب من تسوية الأول بين البئر والغدير ان قصر عن الكر فحكم بنجاستهما بموت الإنسان وطهارتهما بنزح السبعين ، وحمله الشيخ على الغدير الذي له مادة بالنبع من الأرض ، قال : وما هذا سبيله فحكمه حكم الآبار فأما إذا لم يكن له مادة فلا يجوز استعماله إذا وقع فيه ما ينجسه متى نقص عن الكر. ومقتضى ذلك طهارة ذي المادة غير البئر مع الكثرة ولحوقه بالبئر مع القلة ، فيكون حكمه مخالفا لسائر المياه ، لمفارقته الجاري في نجاسة القليل ، والبئر في طهارة الكثير ، والراكد في طهارة قليله بالنزح. بل قيل قد يظهر من كلام الشيخ لحوقه بالبئر مطلقا. وعلى كل حال فهو قول غريب. هذا وربما يأتي لذلك مزيد تحقيق ان شاء الله. ولا فرق فيما ذكرنا من الجاري بين جميع أنواعه من الأنهار والعيون والآبار إذا أجريت وتسمى القناة ، قال في الذكرى : « الآبار المتواصلة ان جرت فكالجاري وإلا فالحكم باق لأنها كبئر واحدة » وقال أيضا : « لو أجريت البئر فالظاهر انها بحكم الجاري لا تنجس بالملاقاة ولو تنجست ثم أجريت ففي الحكم بطهارتها ثلاثة أوجه طهارة الجميع لانه ماء جار تدافع فزال تغيره ولخروجه عن مسمى البئر ، وبقائه على النجاسة لأن المطهر النزح ، وطهارة ما بقي بعد جريان قدر المنزوح إذا يقصر ذلك عن الإخراج بالنزح » قلت وأوجه الوجوه الأول كما هو ظاهر. ولو وقف الجاري لتكاثر مائه بعد تحقق الجري فيه لكن بقي استعداده للجريان فهل يجري عليه حكم الجاري؟ وجهان.

( كيف كان فهو ( لا ينجس ) بشي‌ء من النجاسات ولا المتنجسات إلا باستيلاء عين النجاسة على أحد أوصافه الثلاثة : اللون والطعم والرائحة. أما نجاسة الجاري بذلك بل جميع المياه فلا أعلم فيه خلافا بل عليه الإجماع محصلا ومنقولا كاد يكون متواترا ، بل في المعتبر انه مذهب أهل العلم كافة ، وفي المنتهى أنه قول كل‌

٧٥

من يحفظ عنه العلم. وهو الحجة ، مضافا الى النبوي المشهور (١) المروي عند الطرفين بل في السرائر انه من المتفق على روايته ، وعن ابن أبي عقيل انه تواتر عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : « خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي‌ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه » ‌وفي الذخيرة أنه عمل الأمة بمدلوله وقبلوه ، والأخبار المستفيضة (٢) المروية على ألسنة المشايخ الثلاثة. وهي وان خلت عن التغيير اللوني إلا أن النبوي المتقدم المعتضد بما سمعت كاف في إثباته. مضافا الى ما نقل عن دعائم الإسلام (٣) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم : « يتوضأ منه ويشرب وليس ينجسه شي‌ء ما لم يتغير أوصافه طعمه ولونه وريحه » وعن الصادق عليه‌السلام (٤) « إذا مر الجنب بالماء وفيه الجيفة أو الميتة فإن كان قد تغير لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا تشرب منه ولا تتوضأ ولا تتطهر به » ‌وعن الفقه الرضوي (٥) « كل غدير فيه من الماء أكثر من كر لا ينجسه ما يقع فيه من النجاسات إلا أن يكون فيه الجيف فتغير لونه وطعمه ورائحته فان غيرته لم تشرب منه ولم تتطهر » وخبر العلاء بن الفضيل (٦) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » ‌ويدل عليه أيضا الأخبار (٧) المتضمنة لنجاسة الماء بتغيره بالدم فإنه ظاهر في التغير اللوني ، وكذلك الأخبار (٨) التي أطلق‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١. وفي المستدرك ليس جملة ( وليس ينجسه شي‌ء.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٧) المستدرك ـ الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١ ـ ٣.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق.

٧٦

فيها النجاسة مع التغير فإنه لا ريب في شمولها للتغير اللوني ، بل قد يدعى انه أظهر الأفراد ، كما أشار الى ذلك الصحيح (١) « قلت : فما التغير؟ قال : الصفرة » ‌الى غير ذلك. والضعف والإرسال في بعض ما تقدم غير قادح للاعتضاد بما سمعت. فما وقع من بعض المتأخرين من التشكيك في نجاسة الماء بالتغير اللوني مما لا ينبغي الالتفات اليه ، بل هو من قبيل التشكيك في الضروري ، مع ان هذا المشكك قد استدل بالنبوي المتقدم في غير موضع من كتابه. ويحتمل أن يكون ترك التعرض للتغير اللوني في كثير من الأخبار من جهة لزومه لتغير الريح والطعم لكونه أسرع منه تغيرا.

وهل يشترط في التغير أن يكون الى لون النجاسة وطعمها ورائحتها أو يكفي التغير بها ولو الى غير وصفها؟ المتبادر المتيقن الأول ، وفي المعتبر : نريد باستيلاء النجاسة ريحها على ريح الماء وطعمها على طعمه ولونها على لونه. ويحتمل الثاني للإطلاق الذي هو كالعموم ، مع التأييد بعدم العلم بطعم بعض النجاسات وبقوله عليه‌السلام في جواب السؤال عن التغيير فقال : « هو الصفرة » من غير ذكر له انه لون النجاسة. وعليه فينجس لو حصل للماء لون باجتماع نجاسات متعددة لا يطابق لون أحدها. ولعل الأول هو الأقوى استصحابا للطهارة مع الاقتصار على المتيقن.

وهل يشترط في التغير أن يكون حسيا فلا ينجس الجاري مثلا بمسلوب الصفات من سائر النجاسات ، أو لا يشترط فيكفي التقديري فينجس حينئذ بما تقدم بعد التقدير وحصول التغيير معه؟ قولان صريح أكثر من تأخر عن العلامة كما هو ظاهر من تقدمه الأول لتعبيرهم بالتغير الظاهر في الحسي ، ومن هنا نسبه بعضهم إلى الأكثر والمشهور والمعظم ونحو ذلك. وفي الذكرى وعن الروض نسبته الى ظاهر المذهب وظاهر العلامة وبعض من تأخر عنه كالمحقق الثاني وغيره الثاني. والأقوى في النظر الأول للأصل بل الأصول ، ولتبادر الحسي من التغيير الذي هو مدار النجاسة شرعا ، ولصحة السلب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١١.

٧٧

عن غيره وعدمها فيه ، فيكون حقيقة فيه مجازا في غيره ، فيدخل حينئذ تحت الإجماع المنقول وغيره مما دل على عدم نجاسة غير المتغير ، ولقوله عليه‌السلام في مصحح شهاب المروي عن بصائر الدرجات « قلت فما التغير؟ قال : الصفرة » على ان اعتبار التقدير في مسلوب الصفة يقتضي اعتباره في فاقدها وفي الواجد الضعيف منها ، مع ان الإجماع على عدمه كما عن المصابيح. وأيضا فالتقدير في مسلوب الصفة لا يخلو من إجمال لانه إما ان يراد صفة نوعه أو صفته التي كانت فيه ، ولكل منهما أحوال مختلفة في الشدة والضعف بالنسبة إلى الأزمنة ، فلا يعلم تقدير ايها في المسلوب فهل الحالة المتأخرة ولو كانت ضعيفة أو غيرها؟ ولو فرض تقدير المتوسطة مع ان الحالة المتأخرة الضعيفة لوجب تقدير الضعيف الى المتوسط وهو لا معنى له ، مع ان اعتباره في النجاسة يقتضي اعتباره في الماء ، والظاهر من كلام القائلين اختصاصه بها ، وان احتمله بعض المتأخرين تفريعا على هذا القول. كل ذا مع ضعف الخلاف فيه بل عدمه ، فإن أول من نقل عنه ذلك العلامة وكلامه في القواعد والمنتهى غير صريح فيه ، قال في الأول : « ولو وافقت النجاسة الجاري في الصفات فالوجه عندي الحكم بالنجاسة ان كان يتغير بمثلها على تقدير المخالفة » وقال في الثاني : « الخامس لو وافقت النجاسة الماء في صفاته فالأقرب الحكم بنجاسة الماء ان كان يتغير بمثلها على تقدير المخالفة وإلا فلا ويحتمل عدم التنجيس لانتفاء المقتضى وهو التغير » فإنه يحتمل أن يكون مراده فيما إذا كانت النجاسة غير مسلوبة وكان الماء في صفتها كما إذا كان الماء مصبوغا مثلا بأحمر ووقع فيه دم ، فان الحكم بالنجاسة حينئذ متجه كما أفتى به كل من تعرض لهذه المسألة على ما نقل ، بل في الحدائق انه قطع به متأخرو الأصحاب من غير خلاف معروف في الباب ، وفي جامع المقاصد انه ينبغي القطع به لان التغير هنا على تقديره فهو تحقيقي غاية ما في الباب انه مستور عن الحس وكذلك في المدارك ونحوه عن المعالم ، وعن المصابيح : « أما إذا كانت موافقة في صفته الأصلية كما في المياه الزاجية والكبريتية أو العارضة كما لو وقع في الماء المتغير بطاهر أحمر دم فان الماء‌

٧٨

ينجس قطعا لظهور وصف النجاسة عليه حقيقة » بل قد يقال انه لا بد أن تؤثر النجاسة فيه اشتدادا فيتحقق التغير حسا.

والحاصل الفرق بين المسألتين وانتقال الذهن في الثانية إلى التقدير دون الأولى يكاد ان يكون من الواضحات ، وكذا كل ما كان من هذا القبيل مما منع من ظهور التغيير فيه مانع ، وكأن التقدير هنا كالتقدير فيما لو مزج بالنجاسة ما هو بلونها مثلا ثم تغير الماء بذلك إذ الظاهر أنه لا إشكال في التقدير. وما وقع في الحدائق من التوقف في الفرق بين الصورتين ، والرياض من الجزم بعدم الفرق بينهما كأنه ليس في محله سيما ما في الأخير فإنه يظهر منه انه لا فرق في ذلك عند كثير ممن صرح بعدم وجوب التقدير في المسلوب. وهو وهم على الظاهر ، ولعلهما أخذاه من ظاهر عبارة الذكرى. نعم قد يتم إلحاق نحو ذلك في المسلوب فيما لو فرض وجود المانع عن أصل التغيير لا عن ظهوره لكونه في الحقيقة تقديرا للتغيير كالمسلوب بخلاف ما تقدم. ودعوى إرجاع ذلك اليه محل منع ، ومنهما يظهر الوجه فيما شك فيه فتأمل. وكيف كان فمما يرشد الى ما ذكرنا من الاحتمال في كلام العلامة ان المحقق الثاني في شرحه على القواعد قال بعد أن ذكر عبارتها : « وكان حق العبارة أن يقول لو وقعت نجاسة مسلوبة الصفات لأن موافقة النجاسة الماء في الصفات صادق على نحو الماء المتغير بطاهر أحمر إذا وقع فيه دم فيقتضي ثبوت التردد في تقدير المخالفة وينبغي القطع بوجوب التقدير » الى آخره. قلت : لكن عرفت أنه لا مانع من حمل العبارة على ذلك. ولعل وجه التردد فيه أنه كالتقدير لخلو الماء من الصفة فلا يصدق معه التغير أيضا وإلا لوجب تقدير الصفة في النجاسة المسلوبة ، ولهذا استشكل بعضهم في الفرق بين المسألتين.

وكيف كان فغاية ما استدل به للعلامة أن التغيير الذي هو مناط التنجيس دائر مع الأوصاف فإذا فقدت وجب تقديرها. وفيه مع أنه إعادة للمدعى وجار في الفاقد أيضا أن المراد بدورانه مع الأوصاف هو صدقه وتحققه ولا يحصل بالتقدير.

٧٩

وبان التقدير في المضاف المسلوب الأوصاف إذا امتزج مع المطلق ثابت فيثبت في النجس بطريق أولى. وفيه انه ممنوع هناك أيضا أولا ، وثانيا ان الفرق بينهما واضح ، وذلك لان أمر الإطلاق والإضافة يرجع الى العرف ، فلعل اعتبار التقدير هناك يكشف عن أمر متحقق ثابت وهو الصدق العرفي بخلافه هنا ، فإن أمر النجاسة شرعي وقد أحالها على التغير الذي مدركه الحس. وما يقال أن التقدير هنا كتقدير الحر عبدا بالنسبة إلى الحكومة ومعرفة مقدار أرش الجناية ، فيه ما لا يخفى.

وبان عدم التقدير يفضي الى جواز الاستعمال وان زادت النجاسة على الماء أضعافا مضاعفة. وفيه انه استبعاد لغير البعيد مع بقاء اسم المائية ، وما ذا يقول في الفاقد غير المسلوب وفي الواجد الضعيف.

وبان الماء مقهور فان الماء كلما لم يصر مقهورا بالنجاسة لم يتغير بها على تقدير المخالفة وينعكس بعكس النقيض الى قولنا كلما تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا. وفيه انا نمنع المقهورية وان قلنا بالتغير على تقدير المخالفة. اللهم إلا ان يريد المستدل شيئا آخر وهو ان الوارد في الأخبار ليس مجرد التغير فقط بل علق الحكم تارة عليه واخرى على الغلبة والغلبة وصف متحقق ثابت في الواقع والتغيير علامة وكاشف ، فحيث لم يوجد الكاشف يقدر أو يستكشف بطريق آخر ، والأولى الأول.

ولعل هذا أولى ما يستدل به للعلامة ، وقد أشار إليه في المنتهى قال فيه قبل هذه المسألة : « الرابع بلوغ الكرية حد لعدم قبول التأثير عن الملاقي إلا مع التغير ، من حيث أن التغير قاهر للماء عن قوته المؤثرة في التطهير. وهل التغيير علامة على ذلك والحكم يتبع الغلبة أم هو المعتبر؟ الأولى الأول فلو زال التغير من قبل نفسه لم يزل عنه حكم التنجيس » وهو صريح فيما قلنا. وقد يؤيده حينئذ بأنه لو كان المدار على التغير وليس المدار على الغلبة لكان لا معنى للتقدير في الموافق الذي منع من ظهور التغير فيه‌

٨٠