جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

والمشروط ، وبعبارة أخرى بين المقيد والمطلق ، وثالثة بين شرط الوجوب وتعليقه وبين صحة الواجب والمأمور به ، والله العالم.

فاتضح لك بذلك كله وجه ما يندفع به ما ذكر سابقا بحذافيره من غير حاجة الى القول بالوجوب النفسي ولا إسقاط وجوب ما لا يتم الواجب الا به ولا إنكار مقدمية الغسل للصوم ، نعم يتجه بناء على ما ذكرنا عدم اختصاص الوجوب بآخر الوقت كما هو ظاهر المصنف (ره) ومن تبعه ، لعدم الدليل ، بل لدليل العدم وهو إطلاق ما دل على وجوب المقدمات من الأمر بذي المقدمة ، بعد فرض العلم باشتراط تقدمها من غير تقييد بوقت كسائر الواجبات المطلقة ، لكنها تتضيق في آخر الليل لمكان انتهاء وقت وجوبها ، ولا ينافي ذلك القول بوجوبها للغير إذا المراد ان العلة في وجوبها الغير ولو تقدمت عليه بل تسرى العلامة الطباطبائي رحمه‌الله حتى قال : « انه لو لا النص والإجماع على تأخير وجوب هذا الغسل عن وقت الصلاة لأمكن القول بمثله هنا أيضا ، فإن الصلاة في أول الوقت متصفة بالوجوب الموسع وهي موقوفة على الطهارة قبل الوقت ، لكن الدليل الشرعي أوجب صرف الوجوب إلى صورة مخصوصة وهي ما إذا صادف المكلف أول الوقت متطهرا ، فتكون الصلاة في أول الوقت واجبا مشروطا ، وأما الغسل للصوم فحيث لم يمكن تأخيره إلى الوقت ولم يضرب له وقت في الشرع وجب ان يكون وقته من حصول السبب ويتضيق وجوبه في آخر الليل كما هو الغالب وربما تضيق في غيره كما إذا علم عدم تمكنه منه في الأخير » انتهى. وكيف كان فقد صار حاصل هذا التخلص أنا نقول بوجوب غسل الجنابة للصوم بمجرد حصول سبب الجنابة موسعا ، ويتضيق إذا بقي من الليل بمقدار زمانه ، وأنه لا مانع من وجوب المقدمة قبل الوقت الذي هو شرط صحة الفعل لا الوجوب ، فهي حينئذ مقدمة واجب مطلق لا مشروط كما أنه لا دليل على تخصيص الوجوب في الآخر ، وما تخيلوه من أنه لا يجب الشرط قبل المشروط مع فساده بما سمعت لا يدفعه دعوى التضيق المذكورة واختاره العلامة الطباطبائي‌

٤١

رحمه‌الله في المصابيح وقال بعد ذكر تحقيقه وتنقيحه : « ومن ثم ذهب جماعة من المحققين منهم المحقق الأردبيلي والسيد الفاضل صاحب الرجال والقاشاني في المفاتيح وشرحه وجميع من عاصرناهم من المشايخ الى عدم اختصاص الوجوب بآخر الوقت وهو ظاهر إطلاق العلامة في الإرشاد والشهيد في جميع كتبه ، بل هو قضية كلام المعظم فإنهم اشترطوا في صحة الصوم تقديم الغسل ولم يعينوا له وقتا مخصوصا والتحديد بآخر الليل لم يعرف لأحد من الفقهاء إلا المحقق في الشرائع وقد وافقه العلامة في أكثر كتبه مع قوله بالوجوب النفسي » انتهى قلت : وهو وإن كان قد أجاد وجاء بما هو فوق المراد ، لكن قد يناقش فيه بعد الإغضاء عما في بعض كلماته مما لا تعلق لها فيما نحن فيه بأن قضيته كما صرح به غير مرة في كلامه أنه يجب غسل الجنابة للصوم بمجرد حصول سببه من غير تقييد في وقت ، وهو يقتضي تحقق معنى الشرطية في غسل الجنابة ولو مع الفصل بين زمان الجنابة وشهر رمضان مثلا بتمام السنة ، فينوي الوجوب فيه حينئذ متى وقع ، وكأنه مما ينبغي القطع بعدمه ، إذ لا يعرف ذلك إلا من القائلين بالوجوب النفسي دون أهل القول بالغيري ، نعم نقل عن بعض من لم يخص الوجوب في حال التضيق أنه ينوي الوجوب فيه من أول الليل بتوهم كون ابتداء الخطاب منه بالصوم فيه ، ولا ريب في فساده ضرورة عدم اختصاص الأمر بالصوم في أول الشهر ، بل الأمر بصوم شهر رمضان مطلق ، وقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (١) يراد منه عدم وجوبه على المسافر كما يراد من نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صوموا لرؤيته » (٢) عدم وجوب صوم يوم الشك.

وكشف الحال أنه قد تقرر في محله كون المراد بالشرط هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، ولا ريب ان الذي هو شرط هنا ومقدمة للصوم‌

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ١٨١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام شهر رمضان حديث ١٧ وفي الوسائل فصوموا.

٤٢

إنما هو الطهارة من الجنابة ، والذي ينطبق عليه معنى الشرط المتقدم إنما هي الطهارة المقارنة لفجر يوم الصوم ، إذ هي التي ينعدم بانعدامها المشروط لا المتقدمة عليه بقليل فضلا عن الكثير ، فالطهارة الحاصلة قبل ذلك لا مدخلية لها في صحة الصوم قطعا ولذلك لا يقدح عدمها فيه ، فمن أجنب حينئذ قبل دخول شهر رمضان بيوم أو يومين واغتسل لم يكن لما حصل عنده من وصف الطهارة حين الغسل مدخلية في صحة الصوم ، نعم ان الذي له مدخلية في ذلك إنما هو حال مثل هذا الحال عند طلوع الفجر ، وهو تارة يحصل بالبقاء والاستمرار على ما حصل له من ذلك وتارة يحصل بإيجاد غسل في وقت الضيق.

لا يقال ان الغسل الأول حينئذ أحد فردي ما يحصل به مقدمة الواجب ، فيجب حينئذ تخييرا إذ لا نشترط في المقدمة انحصارها في فرد واحد لأن المقدمات لا زالت تتعد كأفراد الماهية بالنسبة للأمر بها ، لأنا نقول : أما أولا فبالمنع من استناد الحالة التي قد ذكرنا أنها هي المعتبرة في صحة الصوم أي المقارنة للفجر الى الغسل السابق بناء على عدم استغناء الباقي في بقائه إلى المؤثر ، وأما ثانيا فبعد التسليم بمنع التلازم بين اتفاق حصول شرط الواجب به وبين وجوبه ، إذ لا إشكال عندهم في حصول شرط الصلاة من الطهارة عن الخبث مثلا بالتطهير قبل الوقت واستمرار الطهارة اليه مع عدم صيرورة التطهير بذلك واجبا قبل الوقت ، بل أقصاه أنه سقط وجوب التطهر بعد الوقت لمكان حصول المقدمة التي هي الطهارة كسقوطه بفعل الغير والمطر ونحوهما من الأشياء الغير المقدورة للمكلف ، ولا ينافي ذلك كله مقدميتها إذ المقدمة إنما هو القدر المشترك بين المقدور وغيره وهو الطهارة ، فلا مانع حينئذ أن يقال في المقام ان المقدمة التي هي شرط في صحة الصوم وهي الطهارة من الجنابة مقارنة للفجر بالواجب من الغسل وهو الذي لا يزيد على مقدار زمان ذلك وبالمندوب وهو الحاصل قبل ذلك على معنى سقوط الخطاب بها نحو من لم يجنب أصلا ، بل لعله كذلك قطعا بناء على ما ذكرنا ، إذ كيف يتصور وجوب الغسل لدفع جنابة لا مدخلية لها في صحة الصوم ، لما عرفت أن المانع من صحته إنما هو وصف‌

٤٣

الجنابة المتأخر لا المتقدم ضرورة كون ذلك هو مفاد الخبر المزبور المقتضي فساد الصوم بالإصباح جنبا ، ومن المعلوم أن الزمان تدريجي فلا يتعقل الخطاب وجوبا برفع هذا المانع قبل حصوله وصيرورته مانعا.

فظهر لك من ذلك كله انه لا وجه لدعوى وجوب الغسل للصوم قبل وقت الضيق ، كما أنه لا معنى لإنكاره فيه بعد ما عرفت سابقا من استفادته من الأمر بالصوم بعد ثبوت شرطية تقدمه عليه ، وأنه لا مانع من وجوب المقدمة قبل تحقق وقت أداء ذي المقدمة ، وبه ظهر وجه تخصيص المصنف ومن تابعه بوقت الضيق. ولعله يشير الى بعض ما ذكرنا ما في كشف اللثام من تعليل ذلك بأنه إنما يجب له إذا وجب ، ولذا لا يجب الوضوء للصلاة ما لم تجب ولا يجب إلا إذا دخل وقته ، لكنه لما اشترط الطهارة من أول يوم وجبت قبله ولكن بلا فصل إذ لا وجوب له ولا اشتراط به قبل ذلك ويجب الغسل أيضا لصوم المستحاضة إذا غمس دمها القطنة سال منها أو لم يسل ، فيشمل حينئذ حالتي الوسطى والعليا ، كما هو قضية إطلاق غيره من الأصحاب ، بل في جامع المقاصد وعن حواشي التحرير ومنهج السداد والطالبية والروض الإجماع عليه مع التصريح بالتعميم المتقدم. فما في البيان وعن الجعفرية والجامع من التقييد بالكثرة شاذ أو محمول على ما يقابل القلة ، وربما ظهر ذلك أيضا من النص في هذا الحكم ، وهو صحيح علي بن مهزيار (١) قال : « كتبت إليه امرأة طهرت من حيضها أو من دم نفاسها في أول شهر رمضان ، ثم استحاضت فصلت وصامت شهر رمضان كله ، غير أنها لم تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكل صلاتين ، هل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟ قال : تقضي صومها ولا تقضى صلاتها ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر فاطمة والمؤمنات من نسائه بذلك » ‌لكن ذلك إنما هو في خصوص السؤال فلا منافاة فيه حينئذ لما قدمنا مع انه ترك فيه غسلها للفجر المقطوع باعتباره في الصوم.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الإمساك حديث ١.

٤٤

وكيف كان فلا إشكال في وجوب غسل الاستحاضة وتوقفه عليها في الجملة ، بل في المصابيح أنه موضع نص ووفاق ، نعم هل هو متوقف بالنسبة للكثيرة على جميع أغسالها الليلية والنهارية كما يقتضيه إطلاقهم فساد الصوم باخلالها بما وجب عليها من الغسل ، أو أنه مختص بالنهارية فلا يتوقف على غسل الليلة المستقبلة كما نقل القطع به عن جماعة منهم العلامة والشهيد ، لسبق الانعقاد وامتناع تأخر الشرط عن المشروط وعزاه في المدارك الى المشهور ، قال : « وفي توقفه على غسل الليلة الماضية احتمالات ثالثها ان قدمت غسل الفجر ليلا أجزأها عن غسل العشاءين وإلا بطل الصوم » انتهى. وعن العلامة في نهاية الأحكام احتمال توقفه على غسل الفجر خاصة وهو ضعيف ، ويأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في محله ، لكن ينبغي القطع بتوقفه على غسل الفجر من الأغسال في الكثيرة بل وفي المتوسطة أيضا كما عرفت. نعم يشترط فيه تقدم وجود سبب الغسل على صلاة الفجر سواء كان قبل الفجر أو بعده لعدم وجوب الغسل له لو حدث بعدها ، وعن الروض أنه احتمل الاختصاص بما كان قبل الفجر ، وهو ضعيف لتبعية اشتراط الصوم به لاشتراطه للصلاة ولا إشكال في وجوبه لها وان حدث بعد الفجر ، ولذا قال المحقق الثاني في حواشي التحرير على ما نقل عنه : « قد وقع في الحواشي المنسوبة إلى الشهيد رحمه‌الله على نظير قول المصنف ( وصوم الاستحاضة ) من القواعد ان ذلك ليس على إطلاقه بل هو مقيد بقبلية الفجر أو حصول السيلان » قال : « وظاهره أن الغسل إنما يجب لصوم المستحاضة مع الغمس دون السيلان إذا كان قبل الفجر دون ما بعده ، وهذا يكاد أن يكون مخالفا للإجماع فإني لا أعلم مخالفا بين أصحابنا في أن المستحاضة يشترط في صحة صومها فعل ما يلزمها من الأغسال النهارية سواء الواحد وغيره ، صرح بذلك جملة أصحابنا » قال : « ويمكن أن يقال أنه أراد بالفجر صلاة الفجر وان لفظ الصلاة سقط سهوا من قلم الناسخ أو أن أحد تلامذته تصرف فيها كما‌

٤٥

تصرف في غيرها ، وحينئذ يستقيم هذا القيد لان غمس القطنة لو كان بعد الصلاة لم يجب الغسل للصوم قطعا ، لأن الغسل غير واجب هنا أصلا ورأسا بخلاف ما لو سال بعد الصلاة » انتهى.

ثم أنه قد ظهر لك مما ذكرنا من تبعية اشتراط الصوم به لاشتراطه بالصلاة من غير زيادة لعدم الدليل عليها أنه لا يجب عليها تقديمه على الفجر بل يكتفي بصحة الصوم لو فعل متأخرا عنه وإن كان سببه متقدما. كما هو المحكي عن ظاهر المعظم وصريح البعض ، فما عن الذكرى ومعالم الدين من إيجاب التقديم لكونه حدثا له مدخلية في صحة الصوم فيجب تقدمه كالحائض المنقطع دمها قبل الفجر ضعيف ، كضعف التردد المنقول عن بعضهم فيه من ذلك وما تقدم ، لعدم التلازم بين مدخليته في الصوم ووجوب تقدمه عليه ، وجعله كالحائض لا دليل عليه مع ظهور اختلاف الحال بين الحدثين ، إذ لا إشكال في توقف صحة الصوم على غسل الظهرين مع عدم إمكان تقدمه على الفجر. ثم أنه على تقدير القول بالوجوب فهل يجب التأخير إلى التضيق اقتصارا على ما يحصل به الغرض مع تقليل الحدث ورعاية اتصال الغسل بالصلاة؟ وجهان أوجههما الوجوب. ولو انقطع الدم قبل الفجر فهل يجب به الغسل للصوم أو لا يجب؟ وجهان أيضا ينشآن مما سيأتي في محله إن شاء الله من إيجاب الغسل لانقطاع دم الاستحاضة مع عدم اشتراط وجوبه بحصوله في أوقات الصلاة وعدم ذلك ، أما لو انقطع ثم عاد قبل الصلاة فلا إشكال في وجوب الغسل للصوم كما هو واضح لما عرفت ، أما غسل البرء بناء على وجوبه فلم يحضرني الآن من تعرض لاعتباره في الصوم ولا لكيفية ذلك على تقديره ، والأقوى اعتباره فيه ، والأحوط استقبالها الفجر به على نحو غسل الحيض مع فرض برئها في الليل بعد العشائين أو لم تفعله لهما ولو عصيانا والله العالم.

ثم أن ظاهر المصنف رحمه‌الله هنا كظاهر المبسوط وغيره وجوب الغسل لغيره لا لنفسه سواء كان جنابة أو غيره ، وينبغي القطع به بالنسبة الى غير الجنابة‌

٤٦

بل نفى الخلاف عنه في المصابيح ، كما انه حكى الإجماع عليه المحقق الثاني كما عن الأول والشهيدين والعلامة في نهاية الأحكام أيضا ذلك ، فما عساه تشعر به عبارة الذكرى من وجود المخالف فيه ليس في محله ، كالاحتمال في المنتهى من وجوب غسل الحيض لنفسه. وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في وجوب غير غسل الجنابة لغيره بل وفيه أيضا ، كما انه صريح السرائر والدروس والبيان وجامع المقاصد وغيرهم ، بل نسبه في البيان إلى الأكثر والسرائر إلى محققي هذا الفن ومصنفي كتب الأصول ، وعن الذكرى الى ظاهر كلام الأصحاب ، وعن العزية ان الذي عليه فتوى الأصحاب أن الطهارة وجبت لكونها شرطا في غيرها فوجوبها موقوف على وجوب ذلك المشروط. ومن متأخري الأصحاب من أوجب غسل الجنابة وان لم يكن وصلة الى غيره. والذي عليه متقدمو الأصحاب أن الطهارة بأجمعها لا تجب إلا وصلة إلى ما هي شرط فيه ، وحكاه في المصابيح زيادة على ما سمعت عن المهذب والكافي ومجمع البيان ومسائل ابن إدريس وعزيات المحقق ومنهج السداد والروض والجامعية وشارح النجاة وغيرها ، خلافا لظاهر الوسيلة بل صريحها وصريح المنتهى والتحرير وعن المسائل المدنية والإيضاح وكنز العرفان وكفاية الطالبين ومعالم الدين وغيرها ، وحكاه العلامة عن والده والشهيد عن الراوندي والفاضل الهندي عن ابن شهرآشوب. وربما نقل عن علم الهدى ، وأنكر في السرائر أن يكون ذلك قولا له. بل نقل عنه ما يشعر بموافقة المشهور. ولا ريب أن الأقوى الأول للأصل ولظاهر المنساق من قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) (١) للأذهان الخالية عن التشكيكات الواهية ، وظاهر قوله عليه‌السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (٢) لشمول لفظ الطهور له ، وحسن الكاهلي (٣) أو صحيحه عن الصادق‌

__________________

(١) سورة المائدة ـ آية ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

٤٧

عليه‌السلام قال : « سألته عن المرأة يجامعها زوجها فتحيض وهي في المغتسل تغتسل أو لا تغتسل؟ قال : قد جاءها ما يفسد الصلاة لا تغتسل » ‌لما فيها من الظهور بارتباط الغسل بالصلاة ، فلا يتوقف حينئذ الاستدلال بها على جواز ارتفاع حدث الجنابة حال الحيض كما ظنه في المنتهى ، وخبر سعيد بن يسار (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام المرأة ترى الدم وهي جنب تغتسل عن الجنابة أم غسل الجنابة والحيض واحد؟ قال قد أتاها ما هو أعظم من ذلك ».

وربما استدل عليه أيضا بأمور أخر واهية ، منها وقوع الإجماع على جواز تأخير الغسل الى الصبح لمن أجنب ليلا ، حتى ورد (٢) فعل مثل ذلك عن الامام والنبي عليهما‌السلام. وفيه انه لا ينافي الوجوب الموسع ، نعم يمكن الاستدلال بالأخير بضميمة ما في بعض الأخبار (٣) أنه « لا يبات الامام عليه‌السلام ولله في عنقه حق » ‌فعدم اغتساله عليه‌السلام قاض بعدم وجوبه عليه حينئذ. كل ذا مضافا الى ما تقدم والى ما عساه تشعر به قصة الأنصاري (٤) لما خرج للجهاد جنبا فقتل وهي مشهورة أنا لا نعرف للخصم شيئا يعتد به في إخراج غسل الجنابة عن باقي الطهارات ، إذ هو إن كان ظاهر قوله عليه‌السلام : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وإنما الماء من الماء » ‌(٥) ونحو ذلك فهي مع مساواتها لما ورد بالنسبة للوضوء وغسل الحيض والاستحاضة ومس الأموات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الحيض ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢ وفي الباب ـ ١٣ ـ من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الإمساك ـ حديث ٣.

(٣) المروي في أصول الكافي ـ في باب ان الأرض كلها للإماء عليه‌السلام ـ من كتاب الحجة.

(٤) الفقيه ـ باب غسل الميت ـ حديث ٤٦. وفي سفينة البحار ص ٣١٧ في مادة غسل.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥ ولكن ليس في‌ قول الامام عليه‌السلام « إنما الماء من الماء ».

٤٨

من الأوامر المطلقة ، بل وفي غسل الأخباث من غسل الأواني وتطهير الثياب والبدن ونحو ذلك. لا يخفى على من لاحظها ان المراد منها بيان كون الجنابة سببا للخطاب بالغسل عند حصول ما يتوقف عليه ، لا إرادة الوجوب الفعلي النفسي ، ولذلك استدلوا بها على ثبوت الغسل لمن لم يكن مخاطبا بالغسل حين الفعل كالصبي والمجنون وغيرهما. بل لعل المتبادر من نحو هذه بعد ثبوت الوجوب الغيري المسلم عند الخصم أيضا وان قال بالوجوب النفسي كون المراد منها الوجوب الشرطي سيما بعد ملاحظة ذلك في نظائرها. بل يظهر من المنقول عن العزية ان ذلك حقيقة عرفية في مثل ذلك وقال : إن إخراج غسل الجنابة من بينها تحكم بارد. ويشعر به أيضا مضافا الى ما تقدم عد الجنابة في سلك غيرها مما هو واجب لغيره ، بل ربما جاء بأمر واحد بالغسل للجنابة ولغيرها. فظهر لك أنه لا حاجة حينئذ إلى ارتكاب دعوى وجوب الطهارات بأسرها لغيرها ، وان لم يتحقق وجوب غيرها. فيجب الوضوء مثلا بمجرد تحقق خروج البول وان كان في غير وقت الصلاة أخذا بظاهر تلك الأوامر ، لما عرفت من انصرافها إلى إرادة مطلق التسبيب منها الذي لا ينافي الوجوب الشرطي ، على ان ذلك كأنه مخالف للإجماع بحسب الظاهر على عدم وجوب الطهارة غيريا إلا بعد وجوب ذي المقدمة ، فتأمل.

وان كان لمكان وجوب تقديم غسل الجنابة على الصوم إذ لو كان واجبا لغير ما وجب تقديمه كما استدل به في المنتهى ، فهو مع إمكان إيراد مثله عليه بالنسبة إلى غسل الحيض بناء على ما عرفت سابقا من وجوب تقديمه على الصوم أيضا ، مع عدم الخلاف على الظاهر في وجوبه للغير ، قد عرفت أنه مبني على عدم تعقل وجوب مقدمة الواجب قبل وقت وجوب ذي المقدمة ، وتقدم لك سابقا بيان فساد ذلك ، وأنه لا مانع منه عقلا وعرفا وشرعا ، كما انه تبين لك أيضا انه لا يمكن التخلص عن ذلك بارتكاب القول بالوجوب النفسي ، إذ هو مع ذلك لا ينكر الوجوب الغيري والاشكال من جهته‌

٤٩

وان كان لمكان قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) بدعوى أن الواو للاستيناف أو للعطف على جملة الشرط. فيفيد حينئذ أنه واجب لنفسه ، فهو مع بعده في نفسه لما فيه من ترك بيان ما ينبغي بيانه من الوجوب للصلاة إذ هو المهم المتكرر في كل يوم بخلاف الواجب الموسع الذي لا يتضيق إلا بظن الوفاة ، وما فيه من عدم الاتساق في الجمل فيها لمسبوقيته بالواجب للغير وملحوقيته به من الوضوء والتيمم ، وما فيه من ارتكاب جعل صيغة الأمر بالتيمم لنفسه ولغيره بناء على قيامه مقام الوضوء والغسل ، مع إمكان منعه في خصوص المقام وان جاز ذلك في نفسه بإرادة القدر المشترك أو غيره ، وذلك لأن جملة الأمر بالتيمم إما أن تكون معطوفة على جواب الشرط الأول وهو فاغسلوا أو على الشرط نفسه فعلى الأول يكون واجبا غيريا وعلى الثاني واجبا نفسيا مطلقا ، وحيث بطل الثاني لأنه ثبت كون الوضوء واجبا غيريا فلا يكون بدله واجبا نفسيا ، فتعين الأول وهو يقضي بكون التيمم مطلقا سواء كان عن الوضوء أو الغسل واجبا غيريا ، فيستلزم كون الغسل كذلك حينئذ لمكان بدليته عنه ، الى غير ذلك من المبعدات الكثيرة ـ ليس بأولى من جعل العطف فيها على جواب الشرط الأول أو على شرط محذوف وهو ان كنتم محدثين بالأصغر محافظة على ما هو المنساق من تصدير الآية باشتراط القيام إلى الصلاة ، وتكون الطهارات فيها حينئذ على نمط واحد. فظهر لك حينئذ ان الأولى الاستدلال بالآية على المختار كما ذكرناه. وما يرد عليها على هذا التقدير قد أشرنا إلى دفعه سابقا عند الكلام على وجوب الوضوء لنفسه. ويؤيده وقوع الاستدلال بها حينئذ من غير واحد من الأصحاب حتى من العلامة على الاجتزاء بغسل الجنابة عن الوضوء ، ورواه أيضا محمد بن مسلم (١) عن الباقر عليه‌السلام قال : « قلت إن أهل الكوفة يروون عن علي عليه‌السلام أنه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٥ وفي الوسائل كذبوا على علي عليه‌السلام ما وجدوا ذلك في كتاب علي عليه‌السلام.

٥٠

فقال : كذبوا على علي عليه‌السلام قال الله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) » ‌وهو لا يكون إلا على ذلك ، وإلا فعلى الوجوب النفسي لا تعرض فيها لذلك ، بل قد تدل الآية حينئذ على وجوب الوضوء معه أخذا بعموم الشرط فيها.

لا يقال ان ما ذكرتموه من العطف على الجواب أو على الشرط المقدر مستبعد جدا بل الثاني ممنوع لعدم الدليل على التقدير حتى يصح العطف عليه ، لأنا نقول قد ظهر لك سابقا ما يرفع هذا الاستبعاد بل ما يحقق أقربيته على دعوى الاستئناف أو العطف على الشرط ، واما ما ذكر من عدم الدليل على التقدير ففيه أنه قد نقل عن اتفاق المفسرين ان المراد إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم محدثين بالحدث الأصغر ، لكن يحتمل أن يكون المراد خصوصية النوم كما يدل عليه موثق ابن بكير (١) وغيره ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) ما يعنى بذلك ، قال : إذا قمتم من النوم ، قلت : ينقض النوم الوضوء؟ قال نعم » ‌الى آخره وعلى هذا التقدير يراد حينئذ بالجنابة في قوله وان كنتم جنبا الجنابة الحاصلة بالاحتلام. فيكون المعنى إذا قمتم إلى الصلاة فتوضئوا ان لم يكن احتلام وان كنتم جنبا بحصول الاحتلام في النوم فاغتسلوا. ويستفاد منه حينئذ ان النوم حدث كما أنه يستفاد منه حينئذ الاستغناء بالغسل عن الوضوء لدخول الأصغر الذي هو النوم في ضمن الأكبر الذي هو الجنابة. ولعل هذا التفسير للآية أولى من غيره لما فيه مع موافقته للنص السابق من السلامة عن الحزازات في غيره كالاستغناء عن قوله ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) (٢) بدلالة المضمر عليه وعن قوله ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) بقوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) ، بل قيل وعن قوله ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) بقوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ) لأن ذكر السفر في موجبات التيمم لكونه مظنة فقد الماء فكأنه عبر به عنه وأما المرض فإنما يوجب التيمم لأجل التضرر باستعمال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٧.

(٢) سورة المائدة ـ آية ٨.

٥١

الماء لا لفقده فلا وجه للتقييد به ، ومع ذلك فإنما يستقيم بجعل ( أو ) في قوله ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) بمعنى الواو وهو بعيد جدا بل أنكره كثير من النحاة ، ولا يلزم شي‌ء من ذلك على هذا التفسير إذ عليه يكون قوله تعالى ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) عطفا على ما سمعته من المقدر في قوله ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) ويكون المستفاد من صدر الآية وجوب الوضوء من حدث النوم والغسل من الجنابة المسببة عن الاحتلام مع التمكن من استعمال الماء ، ومن قوله ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ) وجوب التيمم في الحدثين السابقين مع عدم التمكن من استعمال الماء لفقده أو التضرر باستعماله ، ويكون جواب الشرط محذوفا بقرينة اللاحق والوضوء والغسل من الغائط والجنابة داخلان والتيمم منهما يستفاد من منطوق الآية ومفهومها كما ستعرف ، ويحتمل أن يكون قوله ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ ) إلى آخرها عطفا على المقدر في قوله ( كُنْتُمْ مَرْضى ) على معنى وكنتم محدثين بالحدثين السابقين اي النوم والجنابة الاحتلامية ويكون قوله ( فَتَيَمَّمُوا ) جوابا للجميع ، ويستفاد حينئذ من منطوق قوله ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ) الى آخره وجوب التيمم من حدث البول والغائط ومن الجنابة الحاصلة بالملامسة أي الجماع عند عدم وجدان الماء ، ومن مفهومه وجوب الوضوء والغسل من تلك الأحداث عند وجدانه فتأمل جيدا

وكيف كان فلم نجد شيئا يعتد به للقول بالوجوب النفسي ، نعم قد يستدل له بصحيحة عبد الرحمن (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال : ان الله يتوفى الأنفس في منامها ولا يدري ما يطرقه من البلية. إذا فرغ فليغتسل » ‌وفيه أنه لا دلالة على أزيد من الاستحباب إذ الأمر بالاغتسال عند الفراغ محمول عليه قطعا ، حتى على القول بالوجوب النفسي ، لكونه موسعا عندهم. وب خبر معاذ بن مسلم (٢) المروي عن المحاسن للبرقي عن الصادق عليه‌السلام أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ حديث ٣٨.

٥٢

« أنه سأله عن الدين الذي لا يقبل الله من العباد غيره ولا يعذرهم على جهله ، فقال : شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله وصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والغسل من الجنابة وحج البيت والإقرار بما جاء من عند الله جملة والائتمام بأئمة الحق من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ‌وفيه مع الغض عما في سنده أنه لا ينافي الوجوب الغيري كالمروي عن العلل بإسناده (١) عن الحسن بن علي عليهما‌السلام قال : « جاء نفر من اليهود الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله أعلمهم عن مسائل فكان فيما سأل لأي شي‌ء أمر الله بالاغتسال من الجنابة ولم يأمر بالغسل من الغائط والبول ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان آدم عليه‌السلام لما أكل من الشجرة دب ذلك في عروقه وشعره وبشره فإذا جامع الرجل خرج الماء من كل عرق وشعرة في جسده ، فأوجب الله عز وجل على ذريته الاغتسال من الجنابة إلى يوم القيامة ، والبول يخرج من فضلة الشراب الذي يشربه الإنسان والغائط يخرج من فضلة الطعام الذي يأكله الإنسان ، فعليه في ذلك الوضوء » ‌بل يشهد له فيه جعله الوضوء على البول والغائط مع أنه واجب غيري ، وكالمروي (٢) عن الرضا عليه‌السلام في خبر محمد بن سنان : « أنه كتب إليه علة غسل الجنابة النظافة لتطهير الإنسان مما أصابه من أذى وتطهير سائر جسده لأن الجنابة خارجة عن كل جسده ولذلك كان عليه تطهير جسده كله ، وعلة التخفيف في البول والغائط أنه أكثر وأدوم من الجنابة فرضي فيه بالوضوء لكثرته ومشقته ومجيئه بغير إرادة منه ، والجنابة لا تكون إلا بالاستلذاذ منهم والإكراه لأنفسهم » ‌وفيه الشاهد المتقدم أيضا ، وكالمروي عن الاحتجاج (٣) في حديث الزنديق الذي سأل الصادق عليه‌السلام قال : أخبرني عن المجوس كانوا أقرب الى الصواب في دينهم أم العرب في الجاهلية ، فقال عليه‌السلام : « العرب كانت أقرب الى الدين الحنفي من المجوس كانت المجوس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١٤. وفي الوسائل مع زيادة كثيرة.

٥٣

لا تغتسل من الجنابة والعرب تغتسل والاغتسال من خالص شرائع الحنفية قال : فما علة غسل الجنابة وإنما اتى الحلال وليس في الحلال تدنيس؟ قال عليه‌السلام : ان الجنابة بمنزلة الحيض لأن النطفة دم لم يستحكم ولا يكون الجماع إلا بحركة شديدة وشهوة غالبة فإذا فرغ تنفس البدن ووجد الرجل في نفسه رائحة كريهة فوجب الغسل لذلك ، وغسل الجنابة مع ذلك أمانة ائتمن الله تعالى عليها عبيده ليختبرهم بها » ‌وهو كالأخبار السابقة أيضا مع شهادة تنزيله منزلة دم الحيض بذلك.

وربما استدل له أيضا بما ورد (١) أن « علة غسل الميت خروج النطفة منه » ، وبما ورد (٢) في عدة أخبار « إن الجنب إذا مات يغسل غسلا واحدا من غسل الميت والجنابة معا » ، مع التعليل في بعضها « انهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة ». ومن هذا الباب غسل الملائكة للأنصاري (٣) الذي قتل وهو جنب وهي مشهورة ، وب خبر عمار (٤) سأله عن المرأة يواقعها زوجها ثم تحيض قبل أن تغتسل قال : « ان شاءت أن تغتسل فعلت وإن لم تفعل فليس عليها شي‌ء إذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة » وخبر زرعة (٥) عن سماعة سأله عن الجنب يجنب ثم يريد النوم قال : « إن أحب أن يتوضأ فليفعل والغسل أحب إلى وأفضل من ذلك » ‌والجواب عن الجميع واضح سيما الأخير ، بل لعل فيه دلالة على المطلوب لظهوره في إرادة الاستحباب وكذا سابقه فإنه مع ابتنائه على إمكان رفع حدث الجنابة حال الحيض والمشهور منعه لا دلالة فيه على‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب غسل الميت ـ حديث ٣ و ٤ وفي باب ـ ٣ ـ في غالب الأحاديث.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب غسل الميت.

(٣) الفقيه ـ باب غسل الميت ـ حديث ٤٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٦.

٥٤

الوجوب النفسي ، بل لعله في غيره أظهر سيما بعد معارضته بما تقدم من قوله ( لا تغتسل ) المحمول بعد البناء على ذلك على إرادة نفي الوجوب ، فتأمل جيدا.

( والمندوب ) من الغسل ( ما عداه أي ) الواجب كما سيأتي تفصيله ان شاء الله

( والواجب من التيمم )

بدلا عن الوضوء والغسل بحصول أحد مسوغاته ما كان لصلاة واجبة إجماعا محصلا ومنقولا وسنة ، لكن هل هو عند تضيق وقتها مطلقا أو يجوز مع السعة مطلقا أو يفصل بين الرجاء وعدمه؟ أقوال يأتي الكلام فيها. وقد يشعر اقتصار المصنف على الصلاة كالعلامة في المنتهى بعدم وجوبه للطواف الواجب. وهو مما ينبغي القطع بفساده لبدليته عن الوضوء فيه ، بل عن شرح الإرشاد للفخر الإجماع عليه. بل وكذا ينبغي القطع به بالنسبة للغسل أيضا ، وان نقل عن العلامة انه لا يرى التيمم بدلا عنه فيه ، مع انه مناف لإطلاقه الوجوب للصلاة والطواف في القواعد والإرشاد والتحرير مناف لعموم ما دل على بدليته عن الماء بالنسبة للطهارتين (١) كقوله عليه‌السلام : ( ان التيمم أحد الطهورين ) وفي آخر : ( ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا ) (٢) وفي ثالث ( هو بمنزلة الماء ) (٣) الى غير ذلك ، وهو الموافق أيضا لما يأتي في باب التيمم من إطلاق كثير منهم انه يستباح بالترابية ما يستباح بالمائية ، بل عن المصنف في المعتبر انه يجوز التيمم لكل من وجب عليه الغسل إذا عدم الماء ، وكذا كل من وجب عليه الوضوء ، وهو إجماع أهل الإسلام إلا ما حكى عن عمر وابن مسعود إنهما منعا الجنب من التيمم. وقد يستفاد من المنتهى أيضا نفى الخلاف بيننا عن مشروعيته لكل ما اشترط فيه الطهارة المائية. إذ قال فيه في باب التيمم : « التيمم مشروع لكل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ١ وفي الباب ٢٣ ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ٣.

٥٥

ما يشترط الطهارة فيه ولصلاة الجنازة استحبابا » ولم ينقل فيه خلافا من أحد في الأول نعم نقله في الثاني عن بعض العامة ، وقال فيه أيضا : « يجوز التيمم لكل ما يتطهر له من فريضة ونافلة ومس مصحف وقراءة عزائم ودخول مساجد وغيرها. وبه قال عطا ومكحول والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك والشافعي والثوري وأصحاب الرأي ، وقال أبو محرمة : لا يتيمم إلا لمكتوبة ، وكره الأوزاعي أن يمس التيمم المصحف » انتهى ، وهو يعطي ما ذكرنا. ومن ذلك كله يظهر لك انه يجب أيضا بدلا عن الغسل الواجب للصوم وان نفاه في المنتهى صريحا وفي غيره ظاهرا. كما عساه تشعر به عبارة المصنف أيضا واختاره في المدارك بعد ان حكى عن جماعة التعبير ان التيمم يجب لما تجب له الطهارتان. ، قال : « وهو مشكل لانتفاء الدليل عليه ، والأظهر ان التيمم يبيح كل ما يبيحه المائية » واستدل عليه بالأخبار المتقدمة وقال : « فما ثبت توقفه على مطلق الطهارة من العبادات يجب له التيمم وما ثبت توقفه على نوع خاص منها كالغسل في صوم الجنب مثلا فالأظهر عدم وجوب التيمم له مع تعذره إذ لا ملازمة بينهما » انتهى ، وأنت خبير بما فيه بعد الغض عن ظهور الاضطراب والتناقض في كلامه ، لما عرفت من ان المستفاد من الأدلة ان واجد التراب كواجد الماء بالنسبة الى ذلك ، ومن العجيب ذكره لتلك الأخبار التي منها انه بمنزلة الماء ، مع صدور هذا التفصيل منه. ومن المعلوم ان المتبادر من كل ما علق على الغسل أو الوضوء ارادة التعليق على الطهارة. فظهر حينئذ ان الأولى ان التيمم يجب لكل ما تجب له المائية من الغايات كما تعطيه عبارة المبسوط والدروس وجامع المقاصد وغيرها.

( و ) ( يجب أيضا للجنب في أحد المسجدين ليخرج به ) كما أشبعنا به الكلام في باب الجنابة فلاحظ وتأمل ( والمندوب ما عداه ) من الغايات التي تندب فيها الطهارة المائية وضوءا كانت أو غسلا ، سواء كانت شرطا في صحتها كالنافلة مثلا أولا.

٥٦

وظاهر ان المراد المندوب أصالة وإلا فمتى وجبت بالعارض وجب لها التيمم حينئذ ، فلا تدل العبارة حينئذ على عدم وجوب التيمم عند وجوب ما لا يستباح إلا بالطهارة ، فلا منافاة بينها وبين ما سيأتي من أنه يستباح به كل ما يستباح بالمائية ، نعم قد سمعت سابقا ان ظاهرها يقضي بعدم الوجوب لما هو واجب أصلي غير الصلاة وقد مضى بما فيه ، وعن فخر الإسلام في شرح الإرشاد أنه لا يبيح التيمم من الأكبر إلا الصلاة والخروج من المسجدين ناسبا له فيه الى والده ، وعنه في الإيضاح انه استثنى من كلية الاستباحة به ما يستباح بالغسل الجنب لدخول المسجدين واللبث في المساجد ومس كتابة القرآن. وهو ضعيف مخالف للعمومات المتقدمة وغيرها. نعم انما يشكل الحال في قيام التيمم مقام الماء في غير رفع الحدث أو الإباحة كالأغسال المندوبة ووضوء الجنب والحائض ونحوهما ، بل وكذا الوضوءات التي لم يقصد فيها ذلك وان كان لو اتفق معها لرفعته كالتجديد والوضوء من الأسباب المندوبة كالمذي والقي والرعاف ونحوها ، ولم نجد للأصحاب كلاما منقحا في ذلك ، بل قد يظهر من مطاوي كلماتهم المنع كما يشعر به نص التحرير والمنتهى وجامع المقاصد وغيرها في باب الحيض على عدم قيام التيمم مقام وضوءها للذكر ، وقال في جامع المقاصد في المقام : « وهل يستحب التيمم في كل موضوع يستحب فيه الوضوء والغسل؟ لا إشكال في استحبابه إذا كان المبدل رافعا أو مبيحا وإنما الإشكال فيما سوى ذلك. والحق ان ما ورد النص به أو ذكره من يوثق به من الأصحاب كالتيمم بدلا من وضوء الحائض للذكر يصار اليه وما عداه على المنع حتى يثبت بدليل » وفي المدارك : « وهل يستحب التيمم بدلا عن الغسل المستحب مع تعذره؟ فيه وجهان أظهرهما العدم وان قلنا انه رافع لعدم النص ، وجزم جدي قدس‌سره بالاستحباب على هذا التقدير وهو مشكل » انتهى وحكى في كشف اللثام عن المبسوط بدليته عن الغسل للإحرام. وكيف كان فلعل الأقوى الاستحباب أيضا أخذا بما دل من تنزيل التراب منزلة الماء وانه يكفيك (١) عشر سنين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ٧.

٥٧

وغير ذلك ، اللهم إلا أن يدعى أن المنساق منها إرادة الطهارة دون غيرها سيما مع عدم العموم اللغوي في شي‌ء منها. وفيه منع ، فتأمل جيدا وقد تجب الطهارة بالنذر وشبهه من العهد واليمين وغيرهما بعد فرض وجود شرائط كل منهما كالرجحان في المنذور مثلا ، فلو نذر طهارة غير مشروعة كالوضوء مع غسل الجنابة مثلا وكالتيمم الذي هو بدل عن المائية مع القدرة عليها لم ينعقد قطعا حتى لو قلنا بانعقاد النذر على المباح ، لمكان التشريع المحرم فلا إباحة ، اللهم إلا أن يريد مجرد فعل الصورة فيصح حينئذ وتلزمه الكفارة مع المخالفة. ثم انه ان كان متعلق النذر مطلق الطهارة رافعة أو مبيحة من غير تقييد بنوع خاص منها كالوضوء أو الغسل مثلا اكتفي في حصول الامتثال بما هو مسماها شرعا ، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ، أو عرفا لم يكن هناك فرد متبادر ينصرف إليه الإطلاق ، وإلا التزم به إذا لم يقصد التعميم والشمول ، هذا ان لم نقل بكون لفظ الطهارة مشتركا لفظيا وإلا احتمل فساد النذر إلا إذا قصد عموم الاشتراك. وربما احتمل الصحة والرجوع الى التخيير كالأول وان لم يقصده ، لكنه لا يخلو من اشكال. ثم ان لم يقيدها بوقت خاص كان التكليف بها كسائر التكليفات المطلقة لا تتضيق إلا بما تتضيق به ، وان قيدها فيه فلا إشكال في وجوبها عليه حينئذ مع التمكن من الامتثال ، ومع عدمه فالأقوى سقوطه عنه في خارجه لانكشاف فساد النذر حينئذ. نعم قد يشكل فيما لو كان في حال يتمكن من إزالتها فيكون حينئذ مكلفا بالطهارة ، كما لو كان في ذلك الوقت مثلا متطهرا وكان يمكنه إزالة تلك الطهارة بأن يحدث مثلا ، فيكون حينئذ مكلفا بالطهارة النذرية. ومنشأ الاشكال كون ذلك مقدمة واجب مشروط فلا يجب تحصيلها أو مطلق فيجب ، ولعل الأقوى الأول كما عن جماعة لظهور اشتراط كون متعلق النذر راجحا في نفسه وحد ذاته لا أن يصيره المكلف كذلك فلا تشمله حينئذ أدلة الوفاء بالنذر ، ولا يجب عليه حينئذ إراقة الماء لو كان المنذور التيمم ولا إيجاد الجنابة لو كان غسلا فتأمل جيدا.

٥٨

ومن ذلك كله يظهر لك الحال فيما لو كان متعلق النذر نوعا خاصا منها مقيدا بوقت خاص أو لا على حسب ما تقدم. وهل يجتزى بنحو الوضوء الصوري كوضوء الجنب والحائض؟ الظاهر ذلك ، وربما احتمل العدم إما لكون لفظ الوضوء مثلا حقيقة في غيره أو لانصرافه الى غيره وان كان حقيقة فيه ، وهو لا يخلو من قوة بالنسبة للوضوء فتأمل ، نعم لا ينبغي الإشكال في الاجتزاء بالتجديدي. ولو نذره أي التجديدي بخصوصه لكل فريضة وجب ، وفائدته لزوم الكفارة بالمخالفة لا بطلان الصلاة لاستباحتها بالطهارة الأولى. ولو أعاد الصلاة جماعة لم يبعد عدم وجوب التجديدي سواء قلنا باستحباب المعادة أو كون الفرض إحداهما لا بعينها ، مع احتماله على التقدير الثاني. ولو أراد قضاء صلاة منسية التعيين وجب ثلاث صلوات أو خمس على الخلاف ، لكن هل يكفيه تجديد واحد أو يفتقر في كل واحدة إلى تجديد؟ وجهان ينشئان من أن الواجب فعله مع الفرائض وهي هنا واحدة وما عداها وسيلة إلى تحصيلها ، ومن وجوب كل واحدة بعينها فأشبهت الواجبة بالأصالة. والأقوى الأول. ولو نسي صلاتين من يوم وأوجبنا الخمس ، قال في نهاية الأحكام على ما حكاه عنها في كاشف اللثام مع فرض المسألة في نذر تعدد التيمم لكل صلاة : « احتمل تعدد التيمم لكل صلاة والاقتصار على تيممين تجديديين وزاد في عدد الصلاة ، فيصلي بالتيمم الأول الفجر والظهرين والمغرب ، وبالثاني الظهرين والعشاءين ، فيخرج عن العهدة ، لانه صلى الظهر والعصر والمغرب مرتين بتيممين فان كانت الفائتتان من هذه الثلاث فقد تأدت كل واحدة بتيمم ، وإن كانت الفائتتان الفجر والعشاء فقد أدى الفجر بالتيمم الأول والعشاء بالثاني ، وان كانت إحداهما من الثلاث والأخرى من الأخيرتين فكذلك » إلى أن قال : « والضابط أن يزيد في عدد المنسي فيه عددا لا ينقص عما يبقى من المنسي فيه بعد إسقاط المنسي ، وينقسم المجموع صحيحا على المنسي كالمثال ، فان المنسي صلاتان والمنسي فيه خمس زيد عليه ثلاثة لأنها لا تنقص عما يبقى من الخمسة بعد إسقاط‌

٥٩

الاثنين بل تساويه ، والمجموع هو ثمانية ينقسم على الاثنين على صحة » إلى أن قال : « لكن يشترط في خروجه عن العهدة بالعدد المذكور أن يترك في كل مرة ما يبتدئ به في المرة التي قبلها ويأتي في المرة الأخيرة بما تقي من الصلاة ، فلو صلى في المثال بالتيمم الأول الظهرين والعشاءين وبالثاني الغداة والظهرين والمغرب ، فقد أخل بالشرط إذ لم يترك في المرة الثانية ما ابتدأ به في المرة الأولى وإنما ترك ما ختم به في المرة الأولى ، فيجوز أن يكون ما عليه الظهر أو المغرب مع العشاء فبالتيمم الأول صحت تلك الصلاة ولم يصح العشاء بالتيمم وبالثاني لم يصل العشاء فلو صلى العشاء بالتيمم الثاني خرج عن العهدة » ثم أطنب في صور أخر أعرضنا عنها إذ يكفي في تشحيذ الذهن منها ذلك ، لكنه لعله لا يخلو دعوى مشروعية زيادة الصلوات كما ذكر محافظة على التجديد المنذور من تأمل ونظر بل ومنع ، بل المتجه حينئذ تجديد التيمم لكل واحدة من الخمس ، إذ كما أن الصلاتين مترددتان في الخمس فكذا التيممان ، ومع فرض عدم التمكن من ذلك يسقط المتعذر ، فتأمل جيدا.

( وهذا الكتاب ) وما ألحق به من البحث في النجاسات بعد أن ذكرنا البحث عن ماهية الطهارة ( يعتمد على أربعة أركان ) وركن الشي‌ء جانبه الأقوى أو ما يتقوم به ذلك الشي‌ء. وإنما كان الاعتماد على أربعة ، لأن الطهارة إما أن تكون اختيارية أو اضطرارية ، فجعل البحث في كل منهما ركنا ، ولما كان ما تحصل به الاولى معرضا لاحكام كثيرة جعله أيضا ركنا بخلاف ما تحصل به الثانية ، وإذ لم يدخل البحث في النجاسات وأحكامها في شي‌ء من ذلك جعله ركنا أيضا ، ولا يقدح في ذلك كون البحث عنه استطرادا. والحاصل ان الفقيه يبحث في الطهارة عن أمور خمسة : الأول ماهية الطهارة الثاني في أقسامها ، الثالث ما تفعل به ، الرابع ما يبطلها ، الخامس توابعها ، ولما قدم المصنف البحث عن الأول بقيت أربعة أدرج بعضها في بعض وأوردها في أربعة أركان ، فقال‌ ( الركن الأول ) :

٦٠