جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الغائط مثلا ، وهو وان كان يؤيده ما ذكرنا من الأخبار المطلقة في نقض البول والغائط والريح فجميع ما تقدم فيهما جار فيه ، لكن الأقوى في النظر الفرق بينهما ، لكونه من المعلوم انه لا يراد بالريح أي ريح تكون ، فان الجشاء ونحوه لا ينقض إجماعا ، بل المراد المسماة بالضرطة والفسوة ، فمتى حصل ذلك قلنا به ، وإلا فلا ، بخلاف البول والغائط ، فإن الحكم معلق على البولية والغائطية ، نعم الظاهر صدق الضرطة والفسوة على ما لو اتفق انه خلق الله مخرجه على غير النحو المعتاد ، بل ويحتمل إلحاق منسد الطبيعي مع انفتاح غيره به ، بل لعل قول العلامة في المنتهى : « لو اتفق المخرج في غير الموضع المعتاد خلقة انتقضت الطهارة بخروج الحدث منه إجماعا ، لأنه مما أنعم به ، وكذا لو انسد المعتاد وانفتح غيره » يشهد له ، ومن ذلك يعرف الحال فيما ذكره ابن إدريس من الخارج من فرج المرأة ، فما يظهر من بعضهم من الفرق بينه وبين ذكر الرجل بان للفرج منفذا للجوف دون الذكر في غير محله ، إذ قد عرفت ان الضابط ليس ذلك ، بل ما تقدم ، وهو غير صادق على الخارج منهما.

فان قلت : ان قوله عليه‌السلام : لا ينقض إلا ما خرج من طرفيك قاض بأن الأصل فيما يخرج من الطرفين أن يكون ناقضا ، سيما مثل الأمور الثلاثة ، فينبغي ان يفرق بين الطرفين وغيرهما في هذا الحكم ، قلت : فيه ( أولا ) منع هذا الأصل إذ لقائل أن يقول : انها لا تفيد إلا حصر الناقض في الخارج ، لا حصر الخارج في الناقض ، ( وثانيا ) أنه ظاهر في أن الطرفين كل لما أعدا للخروج منه ، ( وثالثا ) تعليق الحكم على الضرطة والفسوة حاكم على ذلك ولو اتفق انه يخرج من فمه ، كما يتفق في بعض الأمراض ، فبناء على نقض الريح الخارجة منه كيف يفرق بينه وبين الجشاء فهل يتمسك بالأصل فلا ينقض حتى يعلم ، أولا؟ الظاهر الأول.

ثم أنه لا ينبغي الشك لفقيه في أن هذا النزاع في الخارج من غير المعتاد بالنسبة للحدث فقط ، وإلا فلا إشكال في النجاسة الخبثية ، فما يظهر من بعض المتأخرين من‌

٤٠١

التأمل فيه قائلا اني لم أعثر على نص للأصحاب في ذلك ليس على ما ينبغي ، ولا حاجة الى نص الأصحاب على ذلك بعد قولهم ان الغائط من النجاسات ، وفرق بينه وبين الحدث من جهة تعليق حكم الحدث على الخروج الظاهر في الموضع المعتاد دون الخبث ،

وأما الخنثى المشكل فعلى كلام ابن إدريس بل وعلى كلام الشيخ لكونه تحت المعدة يتجه النقض ، كما أنه لا إشكال فيها لو خرج منهما معا ، لكون أحدهما مخرجا طبيعيا قطعا ، وأما مع عدم الاعتياد في أحدهما فالظاهر انه لا نقض عندهم حتى يصير معتادا ، وأما الممسوح فالظاهر ان الثقب الذي يكون في موضع الذكر هو من الطبيعي ، لكونه أعد للخروج ، والله العالم.

ولو اتفق المخرج أي الدبر في غير الموضع المعتاد نقض بلا خلاف أجده فيه ، بل في المنتهى الإجماع عليه ، كما في المدارك أنه موضع وفاق ، بل يستفاد منهما ان بحكمه ما لو انسد الطبيعي وانفتح غيره ، بل لا يحتاج عندهم فيه حينئذ إلى الاعتياد ، بل يكون كالمخرج الطبيعي ، ولعله لقوله عليه‌السلام طرفيك اللذين أنعم الله بهما عليك ، إذ ليس بلازم كونهما أسفلين. وكذا لو خرج الحدث من جرح ثم صار معتادا أما إذا انسد الطبيعي فقد عرفت ما في المنتهى والمدارك ، وأما إذا لم ينسد فهو من المسألة السابقة والنوم الغالب على إدراك الحاستين حاستي السمع والبصر ، والوصف بالغلبة ليس تخصيصا ، بل هو لتحقيق ماهية النوم ، وبذلك قيده جماعة من الأصحاب ، لكن الأخبار فيه مختلفة ، ( فمنها ) (١) ما قيدته بذهاب العقل ، ( ومنها ) (٢) بنوم الاذن والعين والقلب ، مع الحكم فيها انه قد تنام العين ولا تنام الأذن والقلب ، ( ومنها ) (٣) بخفاء الصوت ، ( ومنها ) (٤) بنوم الأذنين‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨.

٤٠٢

والعينين كالأصحاب ، مع الحكم فيها بأنه قد تنام العينان ولا تنام الأذنان ، وربما علل بأنهما أقوى الحواس إدراكا فمتى بطلا بطل غيرهما بطريق أولى ، لكن في المدارك وغيرها أن فيه نظرا ، وقال بعضهم وجه النظر منع كونهما أقوى إدراكا ، بل اللمس والذوق أقوى منهما ، ولعله لذا استحسن بعضهم التعليق على ذهاب العقل ، قلت : قد يحتمل أن يكون اختلاف هذه الأخبار للإشارة إلى أنه لا يحتاج الى تعرف ، كما يشير اليه صحيح زيد الشحام (١) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الخفقة والخفقتين؟ فقال : ما أدري ما الخفقة والخفقتين ، ان الله تعالى يقول (٢) ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إن عليا عليه‌السلام كان يقول : من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا وجب عليه الوضوء ».

وما يقال إن ذلك ينافيه ما ذكره بعض الأصحاب وصرحت به بعض الأخبار من تحقق الشك في النوم ، وحكمت حينئذ ببقاء الطهارة حتى يستيقن يدفعه أنها محمولة على عدم وجدان طعم النوم ، إذ لو وجد لما شك ، ولذا حكمت ببقاء الطهارة ، كما أنه يحتمل ان يكون المدار العقل ، ولكن معرفة ذهابه تحتاج الى معرف ، إذ مراتب ذهابه متفاوتة ، فأول مرتبته الغلبة على البصر ، وآخر مرتبته شرعا الغلبة على السمع ، فإنه ربما يغلب عليه ومع ذلك يمشي في الطريق ، بل في سكة الطريق ، بل قد يكون راكبا على فرس أو حمار وهو في غاية ضبط النفس من الوقوع ، بل الميل ، بل قد يبقى اللجام في اليد ، والرجل في الركاب على وجه الاستحكام ، والعمامة على الرأس ، إلى غير ذلك ، فظهر أنه لا بد من معرف شرعي للذهاب المعتبر شرعا ، ولا يكتفى بذكر ذهاب العقل ، ولذا قيد الجماعة بالغلبة على السمع والبصر ، لكن فيه ما لا يخفى ، فإن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ـ ٨ ـ وفي الوسائل ( من وجد طعم النوم فإنما أوجب عليه الوضوء.

(٢) سورة القيامة ـ آية ١٤.

٤٠٣

مرتبة ذهاب العقل النومي إن كانت مشتبهة لم يكشف عنها الغلبة على السمع والبصر ، ومن هنا يحصل الشك ، وما تقدم من المحافظة ليس من جهة بقاء العقل ، بل عادة بعض الناس الاستمرار في النوم على ما كانوا عليه في حال اليقظة ، نعم يحتمل قويا كما يظهر من الأخبار (١) ان العقل والسمع في الغلبة متلازمان ، فمتى غلب على العقل غلب على السمع ، وبالعكس بخلاف العين ، فإنه قد يغلب عليها ولا يغلب عليهما ، بل صرحت به بعض الأخبار (٢) لكن اللائق في التعبير حينئذ الاكتفاء بالغلبة على السمع ، أو تقديم البصر وتأخير السمع ، والأمر سهل وإن كان الأقوى ما ذكرته أولا ، وللمحافظة على هذا الطريق صرح بعضهم ان الفاقد لهما أي الحاستين يقدرهما ، قلت : وكذلك الفاقد لأحدهما ، إلا إذا قلنا ان مع وجود السمع لا يحتاج الى البصر ، لكن لا يخفى ما في الإيكال الى هذا التقدير من الاجمال.

وكيف كان فلا كلام في ناقضية النوم ، بل الأخبار به متواترة ، كالإجماعات المنقولة البالغة كثرة الى حد يمكن دعوى تحصيل الإجماع من نقلتها ، وما وقع من بعض القدماء من عدم عده في النواقض ، بل مع حصر النواقض فيما يخرج من الطرفين من الأشياء الخاصة ، كما عن علي بن بابويه والمقنع والهداية ليس خلافا ، بل المقصود بالحصر إخراج بعض الأشياء ، كالمذي والوذي والقي‌ء والرعاف والحجامة ونحو ذلك ، بل هو الظاهر من المنقول عن المقنع والهداية ، فلاحظ وتأمل ، وإلا فكيف يحتمل ذلك مع نقل الشيخ في التهذيب إجماع المسلمين على الناقضية ، بل الصدوق نفسه نسبه الى دين الإمامية ، ولو كان مخالفا أو والده لما قال ذلك ، إذ والده من رؤساء الإمامية عند سائر العلماء فضلا عنه نفسه ، كما يظهر لمن لاحظ الفقيه من الحكم بصحة الرسالة وكونها حجة بينه وبين ربه ، واحتمال خفاء مذهب والده عليه في غاية البعد ، بل هو في مثل هذه المسألة ممنوع ، نعم ربما احتمل بعضهم الخلاف منه في الفقيه في بعض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

٤٠٤

أحوال النوم لكونه أورد روايتين مخالفتين ، مع قوله فيه اني لا أورد فيه إلا ما أفتي به ، وتسمع الكلام فيهما إن شاء الله ، ومن المعلوم انه حدث بنفسه ، لا لتجويزه ان يقع منه حدث ، وإن كان لا ثمرة في هذا النزاع بعد الحكم من الشارع انه متى تحققت ماهية النوم حكم بالنقض ، إما له أو للتجويز ، على انه يدل عليه بعد الإجماع ظواهر الأخبار (١) من نسبة النقض اليه وعده في سلك الأحداث والحكم فيها ان النوم حدث كما تسمعه ان شاء الله ، وقول موسى بن جعفر عليهما‌السلام (٢) في بعض الأخبار : « انه لا وضوء على الراقد ما دام قاعدا ما لم ينفرج » كقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) : « كان أبي يقول : إذا نام الرجل وهو مجتمع فليس عليه وضوء ، فإذا نام مضطجعا فعليه الوضوء » ‌لا دلالة فيهما على الاستلزام المذكور ، سيما الأخيرة ، إذ لعل المراد منها تخصيص النقض بالنوم المتعارف ، فيحمل حينئذ على ضرب من التأويل ، وحملهما على التقية أولى من غيره ، كما يشعر بذلك قول الصادق عليه‌السلام ( كان أبي يقول ) نعم قول أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) « عن الرجل يخفق وهو في الصلاة إن كان لا يحفظ حدثا منه إن كان فعليه الوضوء وإعادة الصلاة ، وإن كان يستيقن أنه لم يحدث فليس عليه وضوء ولا إعادة » ‌فيه دلالة على ذلك ، لكن قد يراد منه أن النوم لم يغلب على عقله ، بل بقي ضابطا لنفسه عارفا لما يقع منه ، فيرجع حينئذ إلى التقييد بذهاب العقل أيضا (٥).

وعلى كل حال فالمنقول عن الفقيه الخلاف في إطلاق ناقضية النوم ، لأنه أورد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٦.

(٥) وقد يكون ذلك من باب الحكم لا من باب العلل كما هو متعارف التعليل بذلك ، وعلى ذلك تحمل رواية العلل فتأمل ( منه رحمه‌الله ).

٤٠٥

فيه روايتين ، الأولى (١) قال : سأله سماعة بن مهران « عن الرجل يخفق رأسه وهو في الصلاة قائما أو راكعا فقال : ليس عليه وضوء » والثانية (٢) قال وسئل موسى بن جعفر عليهما‌السلام « عن الرجل يرقد وهو قاعد هل عليه وضوء؟ فقال لا وضوء عليه ما دام قاعدا ما لم ينفرج » ‌فان كان هاتان الروايتان مذهبا له كان مخالفا مع إرادة النوم من خفق الرأس ، ويبطله ـ مضافا الى إطلاق الأخبار التي منها (٣) ان « النوم حدث » ‌والإجماعات ـ التصريح به في إجماع الانتصار والخلاف وعن الناصريات والغنية ، بل في التنقيح بعد نقل كلام الصدوق انعقد الإجماع على خلافه ، وانه ناقض في جميع الحالات ، إلى غير ذلك من الأخبار الخاصة ، كقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) في خبر عبد الحميد بن عواض « من نام وهو راكع أو ساجد أو ماش على أي الحالات فعليه الوضوء » ‌وقول موسى بن جعفر عليهما‌السلام (٥) في خبر علي أخيه على ما عن قرب الاسناد بعد أن سأله « عن رجل يتكئ في المسجد فلا يدري نام أم لا هل عليه وضوء؟ : إذا شك فليس عليه وضوء » ‌بل ربما يدل عليه خبر معمر بن خلاد (٦) قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن رجل به علة لا يقدر على الاضطجاع ، والوضوء يشتد عليه وهو قاعد مستند بالوسائد ، فربما أغفى وهو قاعد على تلك الحال؟ قال : يتوضأ ، قلت له : إن الوضوء يشتد عليه ، فقال : إذا خفي عنه الصوت فقد وجب الوضوء عليه » ‌على تقدير أن يراد بالاغفاء النوم كما عن الصحاح والقاموس ، مضافا الى صحيح زيد الشحام (٧) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الخفقة والخفقتين؟

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨.

٤٠٦

فقال ما أدري ما الخفقة والخفقتين ، ان الله تعالى يقول ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إن عليا كان يقول من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فإنما أوجب عليه الوضوء » ‌وهو مع غيره أيضا معارض لما ذكر من خفقان الرأس في الصلاة ، وجعله من باب الإطلاق والتقييد فيختص الحكم في الصلاة لا يخفى ما فيه من عدم المقاومة من وجوه ، ومثله القول بالتقييد بخبر القعود ، فان تلك المطلقات التي هي كالصريحة في المطلوب كما لا يخفى على من لاحظها المعتضدة بصريح الإجماعات السالفة والأخبار المتقدمة لا يحكم عليها مثل ذلك ، بل لا يرتكبه فقيه ماهر ، وكيف والخبران مع الطعن في سنديهما الأول منهما موافق لقول أبي حنيفة من عدم نقض النوم الوضوء في الصلاة ، والثاني موافق لقول الشافعي من عدم نقض النوم قاعدا ممكنا مقعدته من الأرض ، بل وأبي حنيفة بدون قيد التمكين ، ومن هنا وجب طرحهما ، أو حملهما على عدم حصول النوم الغالب على الحاستين ، فلا يكون الصدوق حينئذ مخالفا ، كما يشهد له ما نقل عنه من ذكره في أول الباب صحيحة زرارة (١) المشتملة على ناقضية النوم ، بل يحتمل إرادة من لم يعده من النواقض أنه داخل في زوال العقل الذي هو من النواقض إجماعا ، فيصح حينئذ أن يقال ان النوم ليس من النواقض ، بل هو مستلزم للناقض الذي هو زوال العقل وإن كان هذا الاستلزام انما دل عليه الشرع ، بل لعله يحمل عليه بعض الأخبار الدالة على ان النوم ليس بناقض ، وعلى كل حال فالمسألة بحمد الله من الواضحات ، لكن وقع من بعضهم الاستدلال على ناقضية النوم بصحيحة إسحاق بن عبد الله الأشعري عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « لا ينقض الوضوء إلا حدث ، والنوم حدث » ‌ويشكل بأنه لا تنطبق على شي‌ء من الأشكال المنطقية ، وذلك لكونها مشتملة على عقدي إيجاب وسلب ، ولفظ الحدث نكرة في سياق الإثبات لا تفيد عموما ، فيكون المعنى حينئذ لا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

٤٠٧

ينقض الوضوء غير حدث من الأحداث ، والنوم حدث ، فلو رتب الشكل بان النوم حدث ، وحدث ينقض الوضوء ، ليكون على صورة الشكل الأول لم ينتج لعدم كلية الكبرى ، ولو رتب على طريق الشكل الثاني فيقال الناقض حدث ، والنوم حدث لا إنتاج أيضا لعدم اختلاف المقدمتين في الكيف ، ولو رتب على طريق الشكل الرابع فيقال حدث ناقض والنوم حدث لا إنتاج أيضا ، لعدم كلية الصغرى ، والشكل الثالث غير محتاج فساده الى بيان ، إلا أنه قد يجاب بأن يقال ان لفظ حدث في قوله لا ينقض الوضوء ليس المراد منه نكرة حتى لا يفيد العموم ، بل المراد منه الطبيعة ، وتنوينه للتمكين ، كما في قوله‌ « أسد علي وفي الحروب نعامة » وحينئذ يفيد ان النقض لاحق لطبيعة الحدث ، فيتحقق عند تحققها ، فيكفي حينئذ في إثبات المطلوب بيان كون هذا الشي‌ء حدثا ، بل قد يؤيده أنه لا معنى لإرادة حدث مخصوص فيه ، كما لا معنى لحمله على حدث من الأحداث ، فتعين حمله على ما ذكرنا ، أو على العموم ، أو يقال ان المفهوم من هذا الخطاب حدث ناقض ، سيما إذا وقع من مثلهم ، إذ ليس شأنهم بيان اللغة ولا بيان ما لا نفع له في الدنيا والدين ، كلا ان ذلك ينزه عنه نواب سيد المرسلين ، أو يقال ان الغرض المطلوب من هذه الرواية إما الرد على العامة المثبتين للنقض بما ليس بحدث ، ولما كان الحدث غير واضح الصدق بالنسبة إلى النوم‌ قال عليه‌السلام : النوم حدث ، أو بيان ان ناقضية النوم لحدثيته في نفسه ، لا لاحتماله الحدث ، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح الأمر.

وفي معنى النوم نقضا كل ما أزال العقل أو غطاه من جنون أو إغماء أو سكر أو غير ذلك ولو لشدة المرض أو الخوف أو نحوهما بلا خلاف أجده ، بل في المدارك الإجماع عليه ، بل عن التهذيب إجماع المسلمين ، كما في المنتهى لا نعرف خلافا فيه بين أهل العلم ، وهو الحجة في المسألة ، وإلا فمع قطع النظر عنه لم يسد غيره‌

٤٠٨

مسده ، وان وقع في كلام بعضهم الاستناد إلى صحيحة معمر بن خلاد (١) قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن رجل به علة لا يقدر على الاضطجاع ، والوضوء يشتد عليه ، وهو قاعد مستند بالوسائد ، فربما أغفى وهو قاعد على تلك الحال؟ قال : يتوضأ ، قلت له : إن الوضوء يشتد عليه ، قال : إذا خفي عنه الصوت فقد وجب عليه الوضوء » ‌لكن عن بعض أهل اللغة ان الإغفاء النوم ، وإن أمكن دفعه بأنه لا يقيد قوله عليه‌السلام إذا خفي عنه الصوت ، مع أن التدبر والتأمل في الرواية يقضي بأن المراد بالاغفاء الإغماء ، كما أنه وقع من آخر الاستدلال بما يفهم من أخبار ناقضية النوم من جهة تعليق الحكم فيها على ذهاب العقل المشعر بان السبب في النقض زوال العقل ، بل قيل ان النقض في مثل الإغماء والجنون ونحوهما يستفاد من باب الأولوية ، لكونهما أولى من النوم استيلاء ، وعن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام (٢) « ان الوضوء لا يجب إلا من حدث ، وان المرء إذا توضأ صلى بوضوئه ذلك ما شاء من الصلاة ما لم يحدث أو ينم أو يجامع أو يغم عليه ، أو يكون منه ما يجب إعادة الوضوء ».

لكن الكل لا يخلو من نظر ، أما الأول فلظهور إعادة الضمير في قوله خفي عنه الى الرجل المتقدم ، فيكون الخفاء عنه بالسبب المتقدم ، وهو ان سلمنا أنه الإغماء ، وإلا فقد نقل عن الصحاح والقاموس أن المراد بالاغفاء النوم ، فلا تدل على تمام الدعوى من نسبة النقض الى مزيل العقل ، والتمسك بعدم القول بالفصل رجوع الى كلام الأصحاب ، ومثل ذلك الكلام في الرواية الأخيرة ، على أنها ضعيفة السند ، بل قيل ان هذا الكتاب غير معتمد ، وأما الاستدلال بما وقع في أخبار النوم من ذهاب العقل ففيه أنه وقع ذلك على جهة التقدير للنوم الذي يتحقق به النقض ، كما قدر بالغلبة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

٤٠٩

على السمع والبصر ونحو ذلك ، وأين هو من التعليق المشعر بالعلية ، نعم لا بأس بأخذ ما تقدم ذكره مؤيدا الكلام الأصحاب ، أو يكون هو الجابر للسند والدلالة.

ومما لا يوجب إلا الوضوء خاصة في كل حال الاستحاضة القليلة التي لا تثقب الكرسف إجماعا ، إلا من ابن أبي عقيل كما في المعتبر ، فلم يوجب وضوء ولا غسلا ، وابن الجنيد فأوجب بها غسلا واحدا في اليوم والليلة ، ومثله غيره في عدم نقل الخلاف عن غيرهما ، فلعل ما نقل من بعض عبارات القدماء كالهداية والمقنع الحاصرة لنواقض الوضوء في غيرها لم يفهموا منها الخلاف ، ول قول الصادق عليه‌السلام (١) في خبر معاوية بن عمار : « وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء » وقول الباقر عليه‌السلام (٢) في خبر زرارة سألته « عن الطامث تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال : تستظهر بيوم أو يومين ، ثم هي مستحاضة ، فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم ، فإذا نفذ اغتسلت وصلت » ‌وغيرهما من الأخبار الآتية في محلها ، وبذلك مع ضميمة الإجماع ممن عداهما بل بعض الإجماعات المنقولة في غير المقام على ناقضية الوضوء بأشياء منها الاستحاضة ينقطع متمسك الأول من الأصل ، وتتخصص الأخبار الحاصرة موجبات الوضوء في غيرها ، كما أنه تحمل بعض الأخبار الآمرة لها بالصلاة مع الاستثفار بثوب حتى يخرج الدم من وراء الثوب على إرادة الوضوء ، ولم نقف للثاني على مستمسك سوى ظواهر بعض الأخبار الآمرة (٣) بالغسل ان لم يجز الدم الكرسف ، ويأتي إن شاء الله أن المراد منها المتوسطة أي التي تثقب الكرسف ، ولا يتجاوزه ، والأمر سهل.

لكن عن الشهيد الإيراد على نظير العبارة بأنه إن أريد الموجبات ليس إلا فينبغي ذكر المتوسطة فيما عدا الصبح ، إذ لا توجب إلا الوضوء ، وان أريد ما يوجب الوضوء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الاستحاضة ـ حديث ٥.

٤١٠

في الجملة فينبغي ذكر الموجبات الأحد عشر ، إلا أنك خبير بان المراد الأول ، لكن بمعنى عدم إيجاب غير الوضوء في كل حال ، وهو منخرم في المتوسطة ، بل قد يقال بمدخلية الغسل للصبح في سائر الصلوات ، ولذا لو تركته في الصبح لزمها الغسل في البواقي ، على إشكال يأتي البحث فيه ان شاء الله ، كما أنه يأتي التعرض لأحكام تتعلق بهذا الوضوء من وجوب تجديده لكل صلاة ، كما تضمنه الخبران المتقدمان ، وتجديده عند الانقطاع للبري‌ء قبل الدخول في الصلاة ، وعدم جواز تقديمه على وقت الصلاة ، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة به وبمستدام الحدث.

( ولا ينقض الطهارة مذي ) وهو ما يخرج عند الملاعبة والتقبيل ونحوهما ، كما عن الصحاح والقاموس ومجمع البحرين ، ويرجع اليه ما عن الهروي من أنه أرق ما يكون من النطفة عند الممازجة والتقبيل ، وما عن ابن الأثير من أنه البلل اللزج الذي يخرج من الذكر عند ملاعبة النساء ، وفي مرسلة ابن رباط (١) عن الصادق عليه‌السلام قال : « يخرج من الإحليل المني والوذي والمذي والودي ، فأما المني فهو الذي يسترخي منه العظام ، ويفتر منه الجسد ، وفيه الغسل ، وأما المذي فهو يخرج من الشهوة ، ولا شي‌ء فيه » ‌الى آخره. وعن الشهيد الثاني بأنه ماء رقيق لزج يخرج عقيب الشهوة ، وفي الحدائق أنه نظم ذلك بعض متأخري علمائنا ، فقال :

المذي ماء رقيق أصفر لزج

خروجه بعد تفخيذ وتقبيل

والحجة على عدم النقض به ـ بعد الأصل بل الأصول مع كونه مما تعم به البلوى والإجماع المنقول في الخلاف والمنتهى وعن الغنية والتذكرة ونهاية الأحكام ، بل لعله محصل لما تسمعه من ضعف خلاف ابن الجنيد ، والأخبار الحاصرة موجب الوضوء بالغائط والبول والريح ـ الأخبار الخاصة فيما نحن فيه المستفيضة جدا ، بل كادت تكون متواترة ، ( منها ) قول أحدهما عليهما‌السلام (٢) في الحسن كالصحيح بعد أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

٤١١

سئل عن المذي : « لا ينقض الوضوء ولا يغسل منه ثوب ولا جسد ، إنما هو بمنزلة المخاط » وقول الصادق عليه‌السلام في الحسن (١) كالصحيح أيضا : « ان سال من ذكرك شي‌ء من مذي أو ودي وأنت في الصلاة فلا تغسله ، ولا تقطع له الصلاة ، ولا تنقض له الوضوء وإن بلغ عقبيك » ‌الحديث ، الى غير ذلك من الأخبار التي تبلغ تقريبا الى ما يزيد على عشرة ، وفي كثير منها التعليل بأنه بمنزلة المخاط والبصاق والنخامة ، وترك الاستفصال في بعضها ، والإطلاق بل العموم في آخر يقضي بأنه لا فرق فيه بين ما يخرج بشهوة وبدون شهوة ، مع انك قد عرفت من نص أهل اللغة وغيرهم من الأصحاب ومرسلة ابن رباط أن المذي هو الذي يخرج من شهوة وإن لم يكن ذلك حصر فيه ، وما كان ليكون فلا ريب في إفادته أنه الفرد الغالب المتعارف المتيقن دخوله ، مضافا إلى قول الصادق عليه‌السلام (٢) فيما أرسله ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا « ليس في المذي من الشهوة ، ولا من الإنعاظ ، ولا من القبلة ، ولا من مس الفرج ، ولا من المضاجعة وضوء ، ولا يغسل منه الثوب ، ولا الجسد » ‌وهو مع كون المرسل ابن أبي عمير يشعر قوله عن غير واحد من أصحابنا بكون الرواية مستفيضة ، وما تقدم من مرسلة ابن رباط « ان المذي يخرج من الشهوة ولا شي‌ء فيه » ‌وما رواه (٣) في الوسائل عن الشيخ بإسناده عن الحسن بن محبوب في كتاب المشيخة عن عمر بن يزيد قال : « اغتسلت يوم الجمعة بالمدينة ، وتطيبت ، ولبست أثوابي ، فمرت بي وصيفة ، ففخذت بها ، فأمذيت أنا وأمنت هي فدخلني من ذلك ضيق ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك؟ فقال : ليس عليك وضوء ».

وبذلك كله يظهر ضعف المنقول عن ابن الجنيد من التفصيل بين الخارج عن شهوة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٣.

٤١٢

دون غيره ، مع أن المنقول عن حاشية الشيخ علي على الكتاب عن ابن الجنيد ان حكمه بالناقضية من جهة احتمال أن يكون معه شي‌ء ينقض ، فيرجع النزاع معه لفظيا ، ضرورة أنه من قطع أنه ليس معه شي‌ء لا يشمله خلافه ، بل الأخبار المذكورة لا تكون دليلا له إلا على وجه ضعيف ، نعم قد يرجع النزاع معه في أن احتمال الناقض ناقض ، لكن المعروف من خلافه الأول ، ويشهد له خبر أبي بصير (١) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « المذي يخرج من الرجل ، قال : أحد لك فيه حدا ، قال : قلت : نعم جعلت فداك ، قال : فقال : إن خرج منك على شهوة فتوضأ ، وإن خرج منك على غير ذلك فليس عليك وضوء » وصحيح علي بن يقطين (٢) سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن المذي أينقض الوضوء؟ قال : إن كان من شهوة نقض » وخبر الكاهلي (٣) سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن المذي أينقض الوضوء؟ فقال ما كان منه من شهوة فتوضأ منه » ‌وفيه أنها لا تقاوم ما ذكرنا من وجوه عديدة ، فما وقع من بعض المتأخرين من تحكيمها على الأخبار الأول لما بينهما من الإطلاق والتقييد ، ولصحة بعضها ليس في محله ، بل ما نشأ هذا وأمثاله إلا من اختلال الطريقة ، مع أنك قد عرفت أن ما تخيله مطلقا هو ان لم يكن نصا في الخارج من شهوة لما سمعت من تفسيره فهو كالنص فيه ، مضافا الى ما سمعت من الأخبار الناصة عليه بالخصوص ، مع أن المعروف بين العامة ناقضيته للوضوء ، فلعل التفصيل أقرب الى مذهبهم ، بل يؤيده رواية علي بن يقطين لهذا ، وهو من وزراء الخليفة ، مع أن روايات الكاظم عليه‌السلام أقرب الى التقية من روايات الباقر بل الصادق عليهما‌السلام ، فتحمل حينئذ على التقية ، كالأخبار الآمرة بالوضوء منه مطلقا ، كقول أبي الحسن في صحيح يعقوب بن يقطين (٤)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ـ ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ـ ١١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٦.

٤١٣

« عن الرجل يمذي وهو في الصلاة من شهوة أو من غير شهوة ، قال : المذي فيه الوضوء » مع احتمال حمله على التعجب ، و‌صحيح ابن بزيع (١) سألت الرضا عليه‌السلام « عن المذي فأمرني بالوضوء منه ، ثم أعدت عليه سنة أخرى ، فأمرني بالوضوء منه ، ثم أعدت عليه سنة أخرى ، فأمرني بالوضوء منه ، وقال : إن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أمر المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحيا أن يسأله ، فقال : فيه الوضوء » ‌مع أن الشيخ روى هذه الرواية عن خصوص هذا الراوي بزيادة‌ « قلت : فان لم أتوضأ قال : لا بأس به ».

ويمكن حمل هذه الأخبار على الاستحباب ، مع تأكده في الخارج من شهوة ان قلنا بانقسام المذي إلى قسمين ، كما ذكرنا ذلك في مستحبات الوضوء ، وتقدم لنا سابقا الكلام في ترجيح الحمل على التقية ، أو الاستحباب ، وليعلم أن الشيخ رحمه‌الله قال بعد ذكر بعض الأخبار المخالفة : لو صح ذلك كان محمولا على المذي الذي يخرج من شهوة ، ويخرج عن المعهود المعتاد من كثرته ، فقد تعطي عبارته هذه الخلاف ، بل فهمه منه بعضهم ، لكن لعله ذكره في مقام الجمع بين الأخبار ، وإلا فهو محجوج بما سمعت ، فالمسألة خالية عن الاشكال بحمد الله وان قيل انها محل تردد ، لكنه ليس في محله ، والله أعلم.

( ولا ودى ) بالدال المهملة ماء ثخين يخرج عقيب البول ، كما نص عليه جملة من علمائنا ، منهم السيد في مداركه ، بل في مرسلة ابن رباط ، وأما الودي فهو الذي يخرج بعد البول ، فلا اشتباه في موضوعه ، كما أنه لا اشتباه في حكمه ، للأصل بل الأصول ، والإجماعات المنقولة ان لم يكن محصلا ، والأخبار المعتبرة ، وما وقع في بعض الأخبار من الوضوء منه محمول إما على التقية ، أو الاستحباب ، أو على خروجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩ وفي الوسائل جملة ( ثم أعدت عليه سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه ) ليست مكررة.

٤١٤

عقيب البول من غير استبراء ، وبالأخير جمع العلامة والشيخ ، لكن فيه إشكال من جهة ان عدم الاستبراء يجعل البلل المشتبه بحكم البول ، لا المعلوم أنه ودي ، والتعليل لأنه ان لم يستبرئ لا بد وان يخرج معه أجزاء بولية فيه منع ، وعلى تقديره لا نسلم ناقضيتها ، لاستهلاكها بحيث لا تسمى بولا ، فتأمل جيدا ، فإن المسألة لا تخلو من ثمرة ، كما إذا وقع بعد الفراغ من البول بحيث يقطع الإنسان بعدم جفاف المجرى ، ولكنه انقطعت دريرة البول ومع ذلك خرج الودي ، بل يمكن دعوى الطهارة ، لخروجه عن مسمى البولية ، وعدم تنجيسه للودي في الباطن.

وأما الوذي بالذال المعجمة فقد ذكر بعض علمائنا انه الذي يخرج بعد المني ، ولم يحضرني من كتب اللغة ما أتحقق به ذلك ، بل عن شارح الدروس انه لم يقف فيما حضره من كتب اللغة على شي‌ء مناسب له ، لكن في مرسلة ابن رباط انه الذي يخرج من الأدواء ، وهو جمع داء ، فيكون المراد به ما يخرج بسبب الأمراض ، وعن بعض نسخ الاستبصار تبديل الأدواء بالأوداج ، ولعل المراد بها هنا مطلق العروق ، وان كان الودج اسما لعرق في العنق ، وكيف كان فالأمر فيه سهل ، إذ لا يقدح بعد عدم اشتباه حكمه اشتباهه ودورانه بين غير مشتبه ، للإجماع على عدم نقض الثلاثة ، مضافا للأصل بل الأصول والسنة ، بل وعلى المحكي عن ابن الجنيد في المذي الخارج من شهوة ، لأنه حين يخرج من شهوة لا كلام في انه مذي ، لما سمعت من التفسير ، وغير الخارج من شهوة وان اشتبه بالودي والوذي في بعض الأحوال لكنه قد وافق القوم ، نعم قد تظهر ثمرة من جهة ان الظاهر استحباب الوضوء من المذي والودي بالدال المهملة ، وأما الوذي فلم أقف على خبر أمر بالوضوء منه حتى يحمل على الاستحباب ، ولذلك لم نذكره فيما يستحب الوضوء منه سابقا ، فعلى فرض الاشتباه يحصل الإشكال في حصول سبب الاستحباب ، لكن الأمر فيه سهل ، بل يحتمل القول‌

٤١٥

بالاستحباب منه أيضا ، لما في بعض المراسيل (١) « انه كتب اليه هل يجب الوضوء مما خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب نعم » ‌بل هو متجه مع قرب الودي من الوذي في الكتابة ، فقد تكون بعض كلمات الأصحاب وبعض الأخبار في الوذي بالذال المعجمة ، والله أعلم.

( ولا دم ولو خرج من أحد السبيلين ، عدا الدماء الثلاثة ) للأصل بل الأصول والإجماع المنقول بل المحصل ، والأخبار المستفيضة في خصوص المقام ، كالواردة (٢) في الحجامة والرعاف ونحوها ، مضافا الى الأخبار العامة (٣) الحاصرة المتقدمة سابقا ، بل في خبر أبي بصير (٤) عن الصادق عليه‌السلام سألته « عن الرعاف والحجامة وكل دم سائل » ‌إلى غير ذلك من الأخبار ، وفي بعضها (٥) نسبة النقض بالرعاف الى المغيرة بن سعيد مع لعنه ، وما نقل عن ابن الجنيد من الحكم بناقضية الدم الخارج من السبيلين مع الشك في خلوه من النجاسة مع موافقته عند العلم بالعدم ليس خلافا في المسألة مع أنه في غاية الضعف ، ولم نقف على ما يدل عليه ، مع منافاته لقاعدة عدم نقض اليقين بالشك ، ولعل ما في خبر الحسن بن علي بن بنت إلياس (٦) « سمعته يقول : رأيت أبي عليه‌السلام وقد رعف بعد ما توضأ دما سائلا فتوضأ » ‌وما في خبر عبيد ابن زرارة (٧) سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن رجل أصابه دم سائل؟ قال : يتوضأ ويعيد ، قال : وإن لم يكن سائلا توضأ وبنى ، قال : ويصنع ذلك بين الصفا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٢.

٤١٦

والمروة » ‌محمول إما على التقية ، أو على الاستحباب ، أو غير ذلك ، ولعل الحمل على الثاني أولى ، لما تقدم سابقا في استحباب الوضوء.

( ولا قي‌ء ولا نخامة ولا تقليم ظفر ولا حلق شعر ) من غير خلاف أجده ، بل الإجماع منقول عليه ، ويدل عليه ـ مضافا الى ذلك ، وإلى الأصل ، والأخبار العامة ـ الأخبار الخاصة ( منها ) خبر زرارة (١) قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : « الرجل يقلم أظفاره ، ويجز شاربه ، ويأخذ من شعر لحيته ورأسه ، هل ينقض ذلك وضوءه؟ فقال : يا زرارة كل هذه سنة ، والوضوء فريضة ، وليس شي‌ء من السنة ينقض الفريضة ، وإن ذلك ليزيده تطهيرا » ‌( ومنها ) خبر سعيد بن عبد الله الأعرج (٢) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « آخذ من أظفاري ومن شاربي ، وأحلق رأسي ، أفأغتسل؟ قال : لا ، ليس عليك غسل ، قلت : فأتوضأ قال لا ، ليس عليك وضوء ، قلت : فأمسح على أظفاري الماء ، فقال : هو طهور ليس عليك مسح » ‌( ومنها ) خبر أبي هلال (٣) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « أينقض الرعاف والقي‌ء ونتف الإبط الوضوء؟ فقال : وما تصنع بهذا ، هذا قول المغيرة بن سعيد ، لعنه الله المغيرة ، يجزيك من الرعاف والقي‌ء أن تغسله ، ولا تعيد الوضوء » ‌ويدل على عدم نقض النخامة ما تقدم سابقا من عدم ناقضية المذي للوضوء ، لكونه بمنزلة النخامة ، وما يوجد في بعض الأخبار مما يخالف ما ذكرنا محمول على الاستحباب أو التقية ، أو غير ذلك ، وقد تقدم حصر مستحبات الوضوء ، ولعل الحامل للأصحاب على ذكر هذه الأشياء وجودها في الأخبار ، للرد على العامة ، والأمر سهل.

( ولا مس ذكر ولا دبر ولا قبل ) ظاهرا وباطنا بظاهر الكف وباطنها ، محللا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨.

٤١٧

ومحرما ، بشهوة كان أو بغير شهوة ، والحاصل أنه ليس لمس المذكورات نقض مطلقا على ما هو المشهور بين علمائنا شهرة كادت تكون إجماعا ، بل هي إجماع ، وفي الخلاف الإجماع على عدم نقض مس الفرج ، أي الفرجين كان ، سواء كان رجلا أو امرأة ، أو مس أحدهما فرج صاحبه بظاهر الكف أو بباطنه ، وبه قال علي عليه‌السلام (١) وربما سبق بعض الإجماعات على حصر النواقض في الستة المتقدمة ، ويدل عليه ـ مضافا إلى ذلك ، وإلى الأصل بل الأصول ، والأخبار الحاصرة للناقض في الخارج من الطرفين ، والأخبار الحاصرة للناقض في البول والغائط والريح ، وقد تقدمت ، وهي كثيرة معتبرة مستفيضة ، بل متواترة ، بل الظاهر منها إرادة نفي الناقضية بهذه الأشياء ونحوها مما ذهبت إليه العامة ـ خصوص خبر ابن أبي عمير (٢) عن غير واحد من أصحابه عن الصادق عليه‌السلام « أنه ليس من مس الفرج وضوء » وصحيح زرارة عن الباقر عليه‌السلام (٣) « أنه ليس في القبلة ولا المباشرة ولا مس الفرج وضوء » وخبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته « عن رجل مس فرج امرأته؟ قال : ليس عليه شي‌ء ، وإن شاء غسل يده ، والقبلة لا يتوضأ منها » وخبر سماعة عن الصادق عليه‌السلام (٥) « عن الرجل يمس ذكره ، أو فرجه ، أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلي ، يعيد وضوءه ، فقال : لا بأس بذلك ، انما هو من جسده » ‌إلى غير ذلك ، ولا يقدح عدم صراحتها في مس الباطن ، لكونها مطلقة ، مع أن المراد الرد على العامة العمياء ، فلا يلتفت للمنقول عن الصدوق من النقض بمس الرجل باطن دبره ، أو باطن إحليله ، أو فتح إحليله ، وعن ابن الجنيد من النقض بمس ما انضم عليه الثقبتان ، ومس ظاهر الفرج من غيره بشهوة إذا كان محرما ، ومس باطن الفرجين محرما أو محللا.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨.

٤١٨

ويدل على تمام دعوى الصدوق وبعض دعوى ابن الجنيد خبر عمار بن موسى عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : « سئل عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره؟ قال : نقض وضوءه ، وإن مس باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء ، وإن كان في الصلاة قطع الصلاة ، ويتوضأ ويعيد الصلاة ، وإن فتح إحليله أعاد الوضوء وأعاد الصلاة » ‌وربما كان في خبر أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : « إذا قبل الرجل المرأة من شهوة ، أو مس فرجها أعاد الوضوء » ‌دلالة أيضا في الجملة ، وأنت خبير أنه ـ مع الغض عما في السند ، وموافقة العامة ، فإنه نقل القول بمضمونها عن جماعة كثيرة من العامة ـ لا تنهض على معارضة ما ذكرنا من الأدلة المعتضدة بما سمعت ، مع إعراض الأصحاب قديما وحديثا غيرهما ، فالمسألة من الواضحات ، ولم نقف على ما يدل على تمام تفصيل ابن الجنيد ، ولا يبعد حمل الرواية المخالفة على الاستحباب ، ومن الأخبار السابقة يظهر لك عدم النقض بالقبلة أيضا ، مع انه يدل عليها أيضا جميع ما تقدم لنا مكررا ، وتفرد ابن الجنيد بالنقض إذا كان من شهوة ، وكذلك عن لذة المحرم ولعله لما سمعت من خبر أبي بصير مع عدم دلالته على تمام المدعى فيه ما عرفت ، وكذلك تفرده بالنقض بالقهقهة إذا كانت في الصلاة ، وتفرده أيضا بنقض الحقنة ، ويرده في الكل الأصول والسنة والإجماع وظواهر بعض الأخبار الدالة على بعض ما يقول مع معارضتها بمثلها محمولة على وجوه قريبة جدا بل يقطع المتأمل بأنها المراد منها.

ولا لمس امرأة ولا أكل ما مسته النار لم ينقل عن أحد فيه خلاف حتى ابن الجنيد ، والأصول والأخبار (٣) والإجماعات دالة عليه ، فلا نطيل الكلام بذلك.

(و) مثله ( ما يخرج من السبيلين إلا أن يخالطه شي‌ء من النواقض ) وكأنه مستغن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ و ١٥ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

٤١٩

عن الاستثناء ، لكنه أراد أن ينبه عليه لمكان تنبيه الأخبار (١) وعبارات الفقهاء شرح لها ، لكن كان عليه أن يذكر حينئذ بعض ما تضمنت الأخبار عدم ناقضيته كانشاد الشعر (٢) وكلام الفحش والكذب (٣) والغيبة (٤) والقذف وقتل البقة والبرغوث (٥) والقملة (٦) والذباب (٧) ونتف الإبط (٨) ولمس الكلب (٩) ومصافحة المجوسي (١٠) ونحو ذلك ، ولعله ترك ذلك لكثرتها ، واتفاق الأصحاب عليها ، وكان كثرة هذه الأخبار لبيان ذلك لمكان أقوال العامة ، إذ هي مختلفة اختلافا يدل على فساد أصل مذهبهم ، وكان منشأ ذلك القياس والاستحسان ، وبعض الأخبار المختلفة ، وسنقف ويقفون ، ونسأل ويسألون ، وعلى الله التكلان.

وكذلك لا ينقض الوضوء بالردة ، سواء كانت عن فطرة إن ملة مع وجوب القتل وعدمه فيهما ، للأصل بل الأصول ، والأخبار الحاصرة ، والإجماع المنقول وإن كان المتيقن من الأخير غير الفطري المستوجب القتل ، والأول كاف فيه ، وعدم قبول توبته لا تستلزم بطلان طهارته ، كما أن نجاسته الخبثية لا تقضي بفساد طهارته الحدثية ، لعدم الدليل ، بل لدليل العدم ، وكونه بمنزلة الميت بالنسبة للأموال لا يقضي به هنا (١١) والعمدة الأول ولا دليل في قوله تعالى (١٢) ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١ و ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(١٠) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(١١) وقد يقال على بعد أن الموت لم تثبت ناقضيته أيضا ، وكونه أعظم من النوم في زوال العقل مع كونه قياسا ممنوع ( منه رحمه‌الله ).

(١٢) سورة الزمر ـ آية ٦٥.

٤٢٠