جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وما عن المقنعة ، بل عن بعضهم التصريح به ، وهو جيد ان لم يكن مثارا للوسواس ، وعلى كل حال لا يبعد إلحاق المستحاضة والنفساء بها ، بل والجنب ، لما سمعت من خبر العيص ، سيما على ما عن الكافي ، هذا كله بعد البناء على الكراهة ، كما هو المتفق عليه في الظاهر ، والعبارة المحكية عن المقنع ليست صريحة في الخلاف ، بل ولا ظاهرة ، إذ ليس فيه إلا قوله : « لا تتوضأ بسؤر الحائض » ‌وهو غير ظاهر في ذلك وإن كان النهي حقيقة في التحريم ، لكن الصدوق في الغالب يعبر عن الحكم بلفظ الرواية ، وأما المحكي عن التهذيب والاستبصار فإنه وإن كان قد اشتمل على قوله لا يجوز الظاهر في الخلاف ، لكن ظاهر كلامه ان هذا ما يقتضيه الجمع بين الأخبار ، ولذلك قال بعده من غير فاصلة : ويجوز أن يكون المراد بها ضربا من الاستحباب ، واستند في ذلك إلى رواية أبي هلال ، لاشتمالها على قوله لا أحب أن أتوضأ منه ، فتأمل ، وكيف كان فهما غير مخالفين ، وعلى تقديره فغير قادحين.

ولا منع في سؤر البغال والحمير إجماعا ، كما في غيرهما من مأكول اللحم ، نعم يكره سؤر البغال والحمير ، كما هو المشهور نقلا وتحصيلا ، كالخيل أيضا ، وربما زيد الدواب ، بل كل ما يكره لحمه ، كما صرح به بعضهم ويظهر من آخرين ، لتعليلهم الكراهة في المقام بكراهة اللحم ، بل يستفاد منه ان ذلك من المسلمات ، وعلى كل حال فلعل الحكم بالكراهة لمكان التسامح في هذا الحكم ، والاحتياط الذي يحسنه العقل ، والشهرة ، مع أن السؤر غالبا انما يكون بالفهم ، وفضلاته تابعة للحم بالكراهة ، كما قيل ، مع إشعار مضمرة سماعة (١) بكراهة غير الإبل والبقر والغنم ، سألته « هل يشرب سؤر شي‌ء من الدواب ويتوضأ منه؟ فقال : أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس » وخبر ابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام (٢) سألته « عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٦.

٣٨١

والسنور ، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك ، أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال نعم ، إلا أن تجد غيره فتنزه عنه » ‌ولا قائل بالفصل هنا بين الوضوء وغيره ، بل قد يستفاد مما دل على كراهة سؤر ما لا يؤكل لحمه ان اللحم له مدخلية في السؤر ، كما يشعر به قوله عليه‌السلام (١) في الإبل الجلالة « لا تأكلوا لحومها ، وإن أصابك من عرقها فاغسله ».

بل قد يقال : بدخول مكروه اللحم فيما لا يؤكل لحمه ان أريد به غير المأكول عادة ، لأن الغالب فيه انه ليس مأكولا عادة ، مضافا الى ظهور أخذ مثل ذلك في الاستدلال من جملة من الأساطين في أنه من المسلمات ، لكن للأصل ، ونفي البأس في صحيح جميل (٢) عن الوضوء والشرب بسؤر الدواب والغنم والبقر ، وقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) في خبر عبد الله بن سنان : « لا بأس أن يتوضأ مما شرب منه ما يؤكل لحمه » ‌وما مر من صحيح البقباق (٤) وقول الصادق عليه‌السلام (٥) في خبر عذافر : « نعم اشرب منه وتوضأ بعد أن سأله عن سؤر السنور والشاة والبقر والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع » ‌الى غير ذلك من الروايات ، بل قد يشعر قوله عليه‌السلام « كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب » ‌بعدم الكراهة لحمل المفهوم فيها على الكراهة ، لا على ما قاله الشيخ ، وكذلك قوله « كان يكره سؤر كل شي‌ء لا يؤكل لحمه » ‌مع ضعف جميع ما سمعته أولا ، سيما مفهوم المضمرة ، مع اشتمالها على البقر الشامل للجاموس مع كراهة لحمه ، بل ولحم غيره في البقر أيضا اختار بعض المتأخرين عدم الكراهة ، بل لعله الظاهر من المقنعة ، لقوله « ولا بأس بالوضوء من فضلة الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم وما شرب منه سائر الطير إلا ما أكل الجيف فإنه يكره الوضوء بفضلة ما شرب منه » فان استثناءه يقتضي بأن مراده بنفي البأس ما يشمل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٦.

٣٨٢

المكروه ، بل قد يدعى ظهوره في نفسه بذلك ، لكونه من قبيل النكرة في سياق النفي ، كما هو مبنى الاستدلال بما سمعت من الروايات المتضمنة لنفي البأس ، بل هو مبنى الاستدلال على الكراهة أيضا بمفهوم مضمرة سماعة المتقدمة ، إلا أنه قد يقال : ان نفي البأس ظاهر في إرادة الإذن الذي لا ينافي الكراهة ، فلا حجة حينئذ فيما سمعت من الأخبار ، بل قد يحمل كلمات بعض المتقدمين غير المفيد على ذلك ، فإنهم اقتصروا على نفي البأس ، بل قد يقال : ان ذلك أولى ، لكون البأس في اللغة كما قيل انما هو العذاب ، فلا دلالة فيه إلا على نفي الحرمة ، وان كان الحق ان موارد استعماله في الأخبار تختلف ، لكن على كل حال لا يصلح لمعارضة ما يدل على الكراهة ، فالأقوى الأول ، ومراد المصنف بالحمير الأهلية دون الوحشية لتبادرها ، مع عدم كراهة الوحشية كما قيل.

ويكره سؤر الفأرة كما في التحرير والقواعد والذكرى وعن الوسيلة والمهذب والجامع ، وهو الأقوى ، خلافا لما يظهر من المقنعة والتهذيب في باب تطهير الثياب ، كما عن النهاية والمبسوط فيه أيضا من وجوب غسل ما تلاقيه برطوبة ، ومثله المنقول عن الفقيه ، مع أن المحكي عن النهاية في المقام « إذا وقعت الفأرة والحية في الإناء وشربتا منها ثم خرجتا لم يكن به بأس ، والأفضل ترك استعمالها » وتقدم سابقا كلامه في المبسوط أيضا « لا بأس فيما لا يمكن التحرز منه من حيوان الحضر ، مثل الهرة والفأرة والحية » واحتمال الفرق بين الموضعين في غاية البعد ، كاحتمال القول بوجوب الغسل خاصة تعبدا ، مع أن المحكي عنه في المبسوط في باب التطهير التعدي الى غير ذلك من وجوب إراقة الماء إذا باشرته ، وان قال بعد ذلك : « وقد رويت رخصة في استعمال ما شربت منه الفأرة في البيوت والوزغ ، أو وقعا فيه وخرجا حيين ، لأنه لا يمكن التحرز من ذلك ».

٣٨٣

وكيف كان فلا ريب أن الأقوى خلاف ما ذكروا ، للأصل ، ول قول الصادق عليه‌السلام (١) في صحيح الأعرج عن الصادق عليه‌السلام : « في الفأرة تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حيا فقال : لا بأس بأكله » وقول الكاظم عليه‌السلام (٢) في صحيح علي بن جعفر حيث سأل « عن فأرة وقعت في حب دهن فأخرجت منه قبل أن تموت أنبيعه من مسلم؟ قال نعم ، ويدهن منه » ‌الى غير ذلك من الأخبار العامة والخاصة التي يأتي ذكرها في النجاسات ان شاء الله تعالى التي منها ما علق الحكم بالاجتناب على ميتتها ، كما تسمع إن شاء الله تعالى مع بيان ضعف ما يعارضها ، وخلافا لما يظهر من المعتبر والمنتهى من نفي الكراهة لقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) : « ان أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن يشرب ويتوضأ منه » ‌ونفي البأس في غيره أيضا ، كما سمعت من الأخبار السابقة ، وهو ـ مع كونه موثقا ومعارضا لما ذكرناه فيما لا يؤكل لحمه ، وعدم صراحته في ذلك ، لما تقدم سابقا في نفي البأس ـ معارض بما رواه (٤) في الوسائل عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي « ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن أكل سؤر الفأرة » ‌وما يشعر به قول الكاظم عليه‌السلام (٥) في صحيح أخيه قال : سألته « عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز أو شماه؟ قال : يطرح ما شماه ، ويؤكل ما بقي » وقوله عليه‌السلام أيضا (٦) في صحيح أخيه الآخر ، قال : سألته « عن الفأرة الرطبة قد وقعت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ٢.

٣٨٤

في الماء تمشي على الثياب ، أيصلى فيها؟ قال اغسل ما رأيت من أثرها » ‌بناء على تنزيل الأمر فيهما على الاستحباب ، وان تركه مكروه ، أو انه يستفاد منه في خصوص المقام ذلك ، سيما من قوله يطرح ، لأنه أمر بالترك ، وهو معنى انتهى عن الفعل ، أو لأنه لا قائل بالاستحباب مع عدم الكراهة ، وفيه أنه الظاهر من عبارة النهاية المتقدمة أو لأن ظاهر كلامهما أي المعتبر والمنتهى نفي الرجحان ، فلاحظ وتأمل ، كل ذلك مع كون الحكم مما يتسامح فيه ، واعتضاد ما سمعت بالشهرة المحكية ، مع أن فيه خروجا من شبهة الخلاف ، وهو مقتضى الجمع بين الأخبار ، كما سمعت وتسمع إن شاء الله تعالى ، والله أعلم.

ولا خلاف فيما أجد في عدم المنع من سؤر الحية بالخصوص مع عدم الموت ، لكن قد تدخل في كلام من منع من سؤر مالا يؤكل لحمه ، وفيه ما عرفت ، مضافا الى ما تسمعه بالخصوص في المقام ، نعم يكره سؤر الحية كما في التحرير والقواعد والإرشاد وظاهر الذكرى وعن الدروس والبيان والروض ، وهو المنقول عن الشيخ وأتباعه ، لكن عبارته المحكية عنه تدل على أفضلية الاجتناب ، ويظهر من المعتبر والمنتهى كصريح المدارك عدم الكراهة وعدم أفضلية الاجتناب ، لنفي البأس في صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام (١) سألته « عن العظاية والحية والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضأ منه للصلاة؟ فقال : لا بأس به » ‌وهو مع عدم صراحته في ذلك كما عرفت معارض بما تقدم سابقا فيما لا يؤكل لحمه ، وب ما رواه أبو بصير (٢) سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن حية دخلت حبا فيه ماء وخرجت منه؟ قال إذا وجد ماء غيره فليهرقه » ‌ولعله للأمر بالإهراق عبر الشيخ في النهاية بأفضلية ترك الاستعمال ، لا بالكراهة لكن قد يقال بمعونة ما ذكرنا فيما لا يؤكل لحمه وفتوى من عرفت هنا : يستفاد منه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٣.

٣٨٥

الكراهة ان لم نقل بظهوره في نفسه في ذلك ، مع أن الحكم مما يتسامح به ، والأمر سهل.

وكذا يكره سؤر ما مات فيه الوزغ والعقرب ولا يمنع على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، خلافا لما يظهر من المقنعة في باب تطهير الثياب حيث أوجب غسل ما يلاقيه الوزغ برطوبة ، كما عن النهاية أيضا فيه وفي المقام ، قال : « كل ما وقع في الإناء ومات فيه مما ليس له نفس سائلة فلا بأس باستعماله ذلك الماء ، إلا الوزغ والعقرب خاصة ، فإنه يجب إهراق ما وقع فيه وغسل الإناء » إلى آخره ، وظاهره فيما إذا مات في الإناء الوزغ والعقرب لا فيما إذا خرجا حيين ، ولعله يستفاد الشمول من مجموع العبارتين ، ولذا نقل عنه في المعتبر والمنتهى أنه منع من استعمال ما وقع فيه الوزغ وان خرج حيا ، كما عن الصدوق حيث قال : « إن وقع وزغ في إناء فيه ماء أهريق ذلك الماء ».

وكيف كان فالأقوى الأول ، للأصل بمعانيه ، وما في صحيح علي بن جعفر المتقدم في الحية وفي خصوص العقرب قول الصادق عليه‌السلام (١) في خبر هارون ابن حمزة الغنوي سألته « عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء ، فيخرج حيا ، هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ منه؟ قال : ليسكب منه ثلاث مرات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثم يشرب منه ويتوضأ منه ، غير الوزغ ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه » وقول الكاظم عليه‌السلام (٢) في خبر أخيه علي بن جعفر عليه‌السلام المروي عن قرب الاسناد سألته « عن العقرب والخنفساء وأشباههم فيموت في الجرة أو الدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا بأس به » ‌وقد يستدل عليهما بقول الصادق عليه‌السلام (٣) في خبر ابن مسكان : « كل شي‌ء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » وقوله عليه‌السلام (٤) أيضا : « لا يفسد الماء إلا ما كانت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٤.

٣٨٦

له نفس سائلة » وقوله أيضا (١) بعد أن سئل « عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه قال : كل ما ليس له دم فلا بأس به » ‌والمراد ما لا نفس له سائلة ، مضافا الى ما سمعته فيما لا يؤكل لحمه ، وإلى ما تسمع من الإجماعات الآتية في المسألة الثانية على أن ما لا نفس له سائلة لا يفسد الماء ولا المائع ، اللهم إلا أن يقال ـ من جهة تقارب ما بين المسألتين مع نقل ناقل الإجماع خلاف الشيخ ـ أن المراد بالإجماع في غير الوزغ والعقرب ، لكن في السرائر في آخر بحث منزوحات البئر فإذا مات فيها عقرب أو وزغة فلا ينجس ، ولا يجب أن ينزح منها شي‌ء بغير خلاف من محصل ، ولا يلتفت الى ما يوجد في سواد الكتب من غير واحد ، أو رواية شاذة ضعيفة مخالفة لأصول المذهب ، وهو أن الإجماع منعقد أن موت ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء ولا المائع بغير خلاف بينهم.

وكيف كان فدليل الشيخ في الوزغ ما سمعت من رواية الغنوي ، بل رواية عمار عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : سئل « عن العظاية تقع في اللبن؟ قال : يحرم ، وقال : ان فيها السم » ‌بناء على أن العظاية من الوزغ ، لكن عن مجمع البحرين أن العظاء ممدودا دويبة أكبر من الوزغ ، الواحدة عظاءة وعظاية ، وعليه يخرج عن محل النزاع ، بل لا أجد قائلا به ، نعم عن المقنع أنه أفتى بمضمونه ، وعلى العقرب ما ورد (٣) من الأمر بالإراقة في خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام سألته « عن الخنفساء تقع في الماء؟ قال : لا بأس به ، قلت : فالعقرب؟ قال : أرقه » وقول الصادق عليه‌السلام (٤) في خبر سماعة بعد أن سأله « عن جرة وجد فيها خنفساء قد مات؟ قال : ألقه ، وتوضأ منه ، وان كان عقربا فأرق الماء ، وتوضأ من‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٦.

٣٨٧

ماء غيره » ‌وفي الجميع ـ بعد الغض عما في السند ، وظهور رواية عمار السابقة في أن المنع من جهة السم لا من جهة النجاسة ، وعليه يحمل الأمر بالإراقة ، مع أنه لا دلالة بالأمر بالإراقة على التنجيس من دون جابر ـ أن المتجه بعد ما عرفت والموافق لأصول المذهب حمل الأمر الوارد في الخبرين على الاستحباب ، وقوله عليه‌السلام : « غير الوزغ فإنه لا ينتفع بما يقع فيه » ‌على الكراهة ، ولعل الأصحاب استفادوا الكراهة في العقرب من الأمر بالإراقة التي تجري مجرى التنجيس ، أو لأن كل أمر بالترك يستفاد منه ذلك ، إذ هو معنى النهي عن الفعل ، أو للبناء على أن ترك المستحب مكروه ، لكن قد يظهر من المصنف اختصاص الكراهة أولا بالموت دون المباشرة مع الحياة ، بل وبالموت في الماء ، أما لو مات خارجا ثم وقع فيه فلا ، والظاهر خلافه فيهما ، لما عرفت من أن قوله غير الوزغ الى آخره ظاهر في الحي ، كما يظهر من صدر الرواية ، مضافا الى ما سمعته سابقا من كراهة كل ما لا يؤكل لحمه ، مع أن فيه أيضا خلوصا عن شبهة الخلاف ، لأن خلاف الشيخ في الوزغ ليس خاصا بالميت ، مع أن خبر أبي بصير في العقرب غير ظاهر الخصوصية بالموت ، نعم قد يستشكل بالنسبة للميت في غير الماء الواقع فيه ، بل لا إشكال فيه ، لكون مع تناول بعض الأدلة له من المعلوم أنه لا خصوصية للحياة ، بل الأمر بالعكس فكان ما يظهر من غير المصنف من تعميم الكراهة في الوزغ أقوى ، وأما العقرب فلم أظفر بمن عبر بغير عبارة المصنف فيه ، والأقوى الكراهة مطلقا أيضا ، لما سمعت من الأدلة على ما لا يؤكل لحمه ، مضافا لما فيه من السم ، وللتخلص من شبهة الخلاف فيه ، فما عن إطلاق بعضهم أقوى ، ثم أن قول الشيخ ومن تابعه بالمنع محتمل أمرين ، الأول الحكم بالنجاسة ، والثاني الوجوب في خصوص ما ذكر تعبدا ، والأول هو الذي فهمه منه بعضهم ، وعلى أي حال فضعفه واضح.

( وينجس الماء ) القابل للانفعال بملاقاة النجاسة ونحوه من المائعات إجماعا بموت الحيوان ذي النفس السائلة أي الدم المجتمع في العروق الخارج مع قطع شي‌ء منها بقوة ودفع ، لا رشحا كالسمك دون ما لا نفس له سائلة ، لما سمعت من‌

٣٨٨

الأخبار الدالة عليه ، وفي المنتهى اتفق علماؤنا على أن ما لا نفس له سائلة من الحيوانات لا ينجس بالموت ، ولا يؤثر في النجاسة ما يلاقيه من الماء وغيره ، وفي المعتبر أنه مذهب علمائنا أجمع ، وقد سمعت ما في السرائر ، ويأتي تمام الكلام في النجاسات إن شاء الله.

وما لا يكاد يدركه الطرف من الدم خاصة دون باقي النجاسات لا ينجس الماء دون باقي المائعات وقيل ينجسه وهو الأحوط بل الأقوى ، وفاقا للمشهور بين الأصحاب شهرة لا تنكر دعوى الإجماع معها ، بل لم يحك الأول إلا عن الشيخ في الاستبصار والمبسوط مع زيادة التعدي إلى سائر النجاسات في الثاني ، وربما ظهر من صاحب الذخيرة موافقته ، ولا ريب في خطائه ، لما سمعت من أدلة نجاسة القليل ، ومن قاعدة تنجيس هذه النجاسات لكل ما تلاقيه ، وخصوص موثقة عمار (١) « كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب » ‌بل قيل وصحيح علي بن جعفر (٢) عن أخيه قال : سألته « عن رجل رعف وهو يتوضأ فقطر قطرة في إنائه ، هل يصح الوضوء منه؟ فقال : لا » ‌لكن قد يمنع شموله لما نحن فيه ، إلا انا في غنية عنه بما تقدم ، وبه ينقطع الأصل ، وله يطرح صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام (٣) سألته « عن رجل رعف فامتخط ، فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضأ منه » ‌كذا عن الكافي ، وعن التهذيب شي‌ء بالرفع ، أو يحمل على إرادة انه أصاب إناءه ، ولم يعلم أنه هل أصاب الماء أولا ، وكون السائل علي بن جعفر ممن لا يناسبه هذا السؤال يدفعه انه لا مانع من ذلك ، نعم لو علم بمكان إصابته من الإناء التي لا يصل إليها الماء لما حسن السؤال ، وأما إذا علم أنه أصاب الإناء ولم يعلم مكان إصابته الإناء فإنه حينئذ يحسن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

٣٨٩

السؤال ، لاحتمال كونه من قبيل الشبهة المحصورة ، فينجس الماء حينئذ بصبه من الإناء ونحوه ، أو يقال : إن إصابة النجاسة الإناء كما تتحقق مع العلم بوقوعها في الماء أو في خارجه كذا تتحقق مع انتفاء العلم بأحد الأمرين ، ومعه يحسن السؤال أيضا ، لاحتمال كونه من الشبهة أيضا.

وقد يشهد له رواية الرفع ، لكن هذا انما يتم إن قلنا بخروج مثله عن الشبهة ، وإلا فالمتجه الجواب بالعدم حينئذ والأحسن حمل الرواية على إصابة الإناء نفسه مع تشخيص المكان ، إلا أنه يحتمل مع ذلك إصابة الماء أيضا ، وحسن السؤال حينئذ لكون إصابة الإناء مظنة إصابة الماء ، فأجابه عليه‌السلام أنه ان كان شيئا بينا وإلا فلا بأس ، لعدم العلم حينئذ ، بل قد يراد بالبين العلم ، هذا كله مما شاة للخصم ، وإلا فلو كانت الرواية نصا لوجب طرحها في مقابل ما ذكرنا ، وأما ما نقل عن المبسوط فلم نعثر له على دليل ، ولعله لإلقاء خصوصية الدم ، أو ما نقل عنه من العسر والحرج من التحرز عنه ، وفيه ما لا يخفى ، إذ التعدي من غير معد ليس من مذهبنا ، ولا حرج ، كما لا يخفى ما في تأييد الذخيرة له بعدم العموم في أدلة القليل ، والعمدة عدم القول بالفصل ، وهو غير متأت هنا ، فيبقى داخلا في أصل الطهارة وعمومها ، ثم ان ظاهر الاستبصار قصر الحكم في الماء ، كما أن ظاهر استناده الى الحرج في المبسوط التعدي إلى غيره ، ولعله هو الذي أشار إليه ابن إدريس ، كما نقل عنه حيث حكى عن بعض الأصحاب انه لا بأس بما يترشش على الثوب والبدن مثل رؤوس الابر من النجاسات ، لكن قد يشعر حكاية الأصحاب له في الماء القليل باختصاص الحكم به ، كما هو الظاهر من المصنف. الركن الثاني في الطهارة المائية وهي وضوء وغسل ، وفي الوضوء فصول‌ الأول.

( في الأحداث الموجبة للوضوء )

وهي جمع حدث ، وهو لغة وعرفا الفعل ، وقد يقال بالاشتراك اللفظي على‌

٣٩٠

الأمور الموجبة لفعل الطهارة وعلى الأثر الحاصل منها ، فتقابله مع الطهارة مقابلة الأضداد ، لا مقابلة العدم والملكة ، فالمخلوق دفعة بالغا كآدم مثلا لا يحكم عليه بأحدهما ، فما كانت الطهارة شرطا فيه تجب ، وما كان الحدث مانعا منه جاز فعله بدونها ، وقد يحتمل أنه يلاحظ في بعض الأحداث معنى الحدثية اللغوية ، فلو أرسل خشبة أو نحوها في المقعدة فأخرج بها شي‌ء من الغائط لا يسمى حدثا ، ولا ينقض به وضوء وان كان الظاهر خلافه كما ستعرف ، والموجبة الثابت عندها الخطاب بالوضوء لو لا المانع ، والموجب في هذا المعنى مرادف للسبب والمقتضي ، كما لا يخفى على المتتبع ، لإطلاق لفظ الموجب في كلامهم ، سواء كان خطابا واجبا أو مستحبا لنفسه أو لغيره ، وعبر في القواعد بالأسباب ، وفي السرائر بالنواقض ، وكان اختلاف التعبير منشؤه الأخبار ، فالتعبير بالموجبات لقوله عليه‌السلام (١) « لا يوجب الوضوء إلا من غائط أو بول » ‌الى آخره والنواقض لقوله عليه‌السلام (٢) : « ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك الأسفلين » ‌الى آخره ، والأسباب لقوله عليه‌السلام (٣) : « انما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم الله بهما عليك ».

لكن قيل ان التعبير بالأسباب أولى ، لكونه أعم منهما مطلقا ، لكون السبب عرفا هو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط الذي دل الدليل على كونه معرفا لإثبات حكم شرعي لذاته ، سواء كان الحكم الشرعي وجوبا أو ندبا ، وقولنا لذاته لإدخال حدث الصبي والمجنون والحائض ، فإن ذاته مقتضية لذلك ، لكن وجود المانع منع من تأثير المقتضي ، وهو لا ينافي السببية عرفا ، ومن هنا وجب الوضوء مثلا عند ارتفاعه ، فحدث المجنون حينئذ في حال جنونه سبب ، وأما الموجب فهو الذي يثبت عنده الخطاب الوجوبي ، والناقض المسبوق بطهارة ، ومن المعلوم أن الحدث أعم من ذلك ، لصدقه عند عدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٥.

٣٩١

وجوب المشروط بالطهارة ، وعدم السبق بطهارة ، فكل ناقض وموجب سبب ، ولا عكس ، وأما بين الناقض والموجب فالعموم من وجه ، لصدقهما على الحدث بعد الطهارة في وقت الوجوب ، وصدق الأول على الحدث بعد الطهارة في غير وقت الوجوب ، وصدق الثاني على الحدث الحاصل في وقت الوجوب مع عدم سبق الطهارة ، لكنك خبير انه على ما ذكرنا من تفسير الموجبة يكون مع السبب مترادفا ، إذ ليس المراد منه الوجوب الشرعي ، بل المراد اللغوي ، فلا يرد شي‌ء مما ذكر فيه كما هو واضح ، مع ظهور أن ما ذكره في الموجب والناقض جهة تسمية لا يجب اطراده ، وما ذكره الشهيد رحمه‌الله كما نقل عنه في بيان وجه النسبة بينهما كأنه لملاحظة المعنى الوضعي لا لبيان أولوية في التعبير ، وإلا فالكل متحد ، مع انه يرد عليه صدق الناقض للوضوء على الجنابة ، مع أنه ليس سببا فيه ، واحتمال كون المقصود سبب الطهارة خلاف الظاهر من كلامه ، وأيضا لا ريب أن المراد بسببيتها انما هو صلوحها للتأثير وان لم يتحقق ، فكذلك الموجب والناقض ، أي الصلاحية للإيجاب والنقض ، ودعوى أن الصلاحية لا تقدح في صدق السببية ، بخلاف الموجب والناقض ، لكون المشتق حقيقة في الحال يدفعها أن صفة الناقضية والموجبية لاحقة لطبيعة الحدث من غير نظر الى أفراده ، بل قد يقال : يمنع السببية في مثل الصغير والمجنون ، والخطاب بالوضوء عند ارتفاعهما انما هو لكونه شرطا في مثل الصلاة ونحوها ، لا لحصول السبب في ذلك ، ومن هنا وقع الشك في إيجاب وطء الصبي الغسل لو بلغ ، ففي المقام أولى ، لظهور الأدلة في التسبيب للمكلف ، لكن الظاهر أن الإجماع منعقد في المقام على كون خطابها من باب الأسباب ، وإن وقع الاشكال منهم في الجنابة ، ولولاه لأمكن ما قلناه فتأمل.

ومنه ينقدح شي‌ء وهو أنه لا معنى لإطلاق الأسباب والموجبات على هذه الأمور ، بل الموجب والسبب انما هو الصلاة مثلا ولذلك يجب الوضوء على فرض‌

٣٩٢

عدم حصول شي‌ء منها لو اتفق ، كما لو خلق الله شخصا بالغ مثل آدم عليه‌السلام ، وكان إطلاق الأسباب والموجبات لمكان العادة ، وربما قيل ان إطلاق الأسباب والموجبات عليها غير مربوط ، وذلك لأن السبب انما هو الصلاة ، والحدث لما كان مانعا من الدخول فيها وجب زواله ، فليست هي أسباب وموجبات ، وفيه أن المراد بسببيتها كونها علامة على الخطاب الشرعي بالوضوء الذي كان سبب الخطاب به الصلاة ، فلا منافاة حينئذ ، وهذه غير المناقشة السابقة منا في سببيتها ، لرجوعها الى حصول الوجوب بدون هذه الأشياء ، وهو منافي للسببية ، وقد يجاب بأنه لا مانع لجعل ذلك من تعدد الأسباب ، فتكون هذه الأحداث أسبابا ، والمشروط بالطهارة سبب فيه أيضا ، لكنه كما ترى ، نعم قد يقال : ان المراد أينما حصلت تعرف الحكم الشرعي ولو بالخطاب الاستحبابي ، بناء على استحباب الوضوء لنفسه فتأمل ، والأمر في ذلك سهل. والوضوء بضم الواو من الوضاءة بالمد النظافة والنضارة ، وهو في الأصل اسم مصدر ، وبالفتح اسم للماء الذي يتوضأ به ، وعن بعضهم أنهما معا بالضم ، كما عن آخر أنهما معا بالفتح.

وهي أي موجبات الوضوء خاصة ستة فلا يرد ما يوجب الوضوء والغسل ، كما أنه لا يرد مثل تيقن الحدث والشك في الطهارة ، وتيقنهما والشك في السابق منهما ، ولا وجدان الماء ، لكون الموجب حقيقة في الجميع هو الحدث خروج البول ونحوه ولو بالحكم به شرعا كالبلل الخارج قبل الاستبراء مثلا والغائط والريح من الموضع المعتاد إجماعا محصلا ومنقولا ، بل قيل لا خلاف فيه بين المسلمين ، وسنة متواترة أو قريبة منه ، والمرجع في هذه الأشياء الى العرف ، وعند الشك يبنى على صحة الوضوء كالشك في أصل الخروج ، ومثلهما الشك في أن الخارج من النوع الناقض أو من غير الناقض ، ولا فرق في ذلك بين الخروج في الأثناء أو بعد تمام الوضوء ، فما يخرج من الدبر صحيحا مثل بزر الخيار والبطيخ ونحو ذلك ممزوجا برطوبة مثلا أو منفردا ليس من الغائط في شي‌ء عرفا ، ومثل بعض الأجزاء مثل قشور الماش وبعض أجزاء‌

٣٩٣

الرطب يحتمل قويا أنها ليست منه أيضا ، لا يقال : انه لو كان كذلك لكان كثير من الغائط ليس منه ، لكونه عبارة عن المأكول ، لكنه تجعله المعدة أجزاء دقاقا ، لأنا نقول المدار على الصدق العرفي ، والتغير له مدخلية ، نعم قد يقال : ذلك في بعض الأشياء التي حد طبخ المعدة لها لا يخرجها عن الحال الأول خروجا تاما ، مع أن الظاهر فيه اعتبار الصدق العرفي أيضا ، وهو مضبوط فيه وان كان عند التدقيق يحصل الاشتباه في بعض الأشياء ، كما في كثير من معاني الألفاظ العرفية حتى في لفظ الماء والأرض ونحوهما ، ولا معنى للإلزام في الصدق العرفي ، إذ العرف قد يطلق على بعض الأشياء أنها من الغائط إن خرجت ممزوجة بمتيقن الغائطية ، ولا يصدق لو خرجت مستقلة مثلا ، والضابط ما ذكرناه فيما تقدم ، وفي مثل بعض أجزاء الحقنة والدواء ، وفاسد المعدة التي لا تطبخ معدته غذاءه ، إلى غير ذلك فتأمل.

ويظهر من جملة من الأخبار (١) تقييد الريح الناقضة بسماع الصوت ووجدان الريح ، ومن المعلوم عدم اشتراط ذلك ، لإطلاق الأدلة من الإجماعات وغيرها ، ومعلومية الإرادة بالقيد دفع الوسوسة التي أشير إليها بالروايات (٢) من « أن الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتى يتخيل أنه قد خرج منه ريح » ، ولذلك قال موسى بن جعفر عليهما‌السلام (٣) في خبر علي أخيه كما عن قرب الاسناد لما سأله عن رجل يكون في الصلاة فيعلم أن ريحا قد خرج فلا يجد ريحها ولا يسمع صوتها : « يعيد الوضوء والصلاة ، ولا يعتد بشي‌ء مما صلى إذا علم ذلك يقينا » ‌وكأن المسألة من الواضحات ، وما في المدارك ـ بعد ذكر خبر زرارة (٤) ومعاوية بن عمار (٥) المشتملين على تقييد الريح بسماع الصوت ووجدان الريح ان مقتضى الرواية ان الريح لا يكون ناقضا إلا مع أحد الوصفين ـ لعله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٣.

٣٩٤

لا يريد الخلاف في ذلك ، وإلا كان ما قدمنا حجة عليه من الإجماع وإطلاق كثير من الأخبار ، مع ظهور القيد فيما ذكرنا ، أو عدم نقض اليقين بالظن ونحوه ، وظاهر إطلاق النص والفتوى عدم اشتراط الاعتياد في المخرج المعتاد الطبيعي ، كما صرح به بعضهم ، بل عن شارح الدروس دعوى الإجماع عليه ، بل يظهر من الرياض أن إجماع المعتبر والمنتهى عليه وإن كان الظاهر أنه اشتباه ، كما أنه يحتمل في عبارة شارح الدروس عدم إرادة الإجماع على ذلك ، فلاحظ وتأمل ، وعليه فلو خرج مرة واحدة وجب الوضوء إذا بلغ مكلفا ، وعن الروض والمسالك أنه لقلة فائدته لم يتعرض له الأكثر ، وفيه أن الغرض كما يتحقق بما ذكرنا يتحقق بمن خرج من أول أمره من غير المعتاد لسائر الناس مع وجوده له حتى نشأ على ذلك ، ثم بعد وضوئه مكلفا به اتفق أنه خرج من الطبيعي شي‌ء ، فلعل ترك الأكثر له لا لما ذكر ، بل لاشتراط اعتياد الخروج ، سيما إذا كان المعتاد غيره من أول أمره ، بل لعل قوله عليه‌السلام (١) في خبر أبي بصير : « انما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم الله بهما عليك » ‌يرشد الى اعتياد الخروج ، وقد يستشكل في شمول الفتوى له أيضا بحمل المعتاد في كلامهم على كونه في الشخص ، لا معتادا بالنسبة إلى أغلب الناس وإن لم يكن معتادا بالنسبة إلى الشخص ، أو على إرادة اعتياد الخروج ، كالإشكال في شمول الأدلة لانصرافها الى المتعارف ، وهو الخروج معتادا من المعتاد فتأمل. لا أقل من الشك في الخارج مرة من الموضع المعتاد لأغلب الناس بعد أن كان خروجه من غيره حتى مضى أكثر عمره على ذلك ، لكن قد يستظهر من الإجماع شموله ، وذلك لنقلهم الإجماع في الخروج من المعتاد من غير تفصيل ، مع التفصيل في غيره بالاعتياد وعدمه ، هذا كله مبني على اختيارهم من الانصراف الى الفرد الشائع ، وإلا فعلى مختار ابن إدريس كما تسمعه فلا فرق ، والظاهر أن المراد بالخروج ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٥.

٣٩٥

المتعارف ، وهو المنفصل ، فلو خرج شي‌ء ثم رجع كالخارج بخروج المقعدة وبدونها فالمتجه عدم النقض ، كما أن الظاهر حصول النقض بخروج الحيوان أو غيره مع تلطخه بالعذرة ولو يسيرا ، للصدق ، ويشهد له قول أبي عبد الله عليه‌السلام (١) في حب القرع أنه : « ان خرج متلطخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء ، وإن كان في صلاته قطع صلاته ، وأعاد الوضوء » ‌وبه يقيد ما دل (٢) على عدم نقض الحيوان الخارج من الدبر ، على أن الظاهر منه عدم النقض من حيث خروجه نفسه ، فهو غير محتاج الى التقييد ، كما يقيد قول الصادق عليه‌السلام (٣) في خبر فضيل « في الرجل يخرج منه مثل حب القرع : عليه وضوء » ‌أو يحمل على التقية ، أو الإنكار ، أو الاستحباب ، أو انه يخرج منه قليل من الغائط بقدر حب القرع.

ولو خرج الغائط أو البول مما دون المعدة نقض في قول وان لم يصر معتادا والأشبه أنه لا ينقض إلا إذا صار معتادا ، لما سيذكره فيما بعد ، وتفصيل البحث ان الغائط والبول إذا خرج من غير المعتاد فمختار المبسوط والخلاف النقض إذا كان مما دون المعدة ، لا ما إذا كان من فوقها ، وهو المنقول عن ابن البراج في الجواهر ، وظاهره عدم الفرق في كل منهما بين صيرورته معتادا وعدمه ، بل هو شامل لما لو انسد المخرج الطبيعي وانفتح غيره وكان فوق المعدة ، مع أنك ستسمع الإجماع على خلافه ، وربما قيد النزاع بما إذا لم ينسد المخرج الطبيعي ، ولا شاهد عليه في الجميع ، بل مقتضى ما تسمع من استدلال الشيخ الشمول لما لو كانت خلقته الخروج مما فوق المعدة ، وقال ابن إدريس بالنقض على كل حال ، من غير فرق بين الاعتياد وعدمه ، وهو مختار التذكرة ، والمشهور بين المتأخرين التفصيل بالاعتياد وعدمه ، فما صار معتادا نقض ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٦ ـ ولكن رواه في الوسائل عن ابن أخي فضيل.

٣٩٦

وإلا فلا ، من غير فرق بما دون المعدة وفوقها ، ويظهر من المنقول عن شارح الدروس اختيار عدم النقض مطلقا حتى إذا صار معتادا ، وهو الذي قواه في الرياض.

حجة الشيخ تناول الأدلة للخارج مما دون المعدة ، لشمول قوله تعالى (١) : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) ثم قال : وانما لم نقل بالخارج مما فوق المعدة لعدم صدق الغائط عليه ، وفيه أنه لا دخل للمخرج في صدق الاسم ، ولاستعباد خفاء مثل ذلك عليه قدس‌سره يحتمل قويا إرادته بما فوق المعدة أي قبل وصول الغذاء إلى حد الغائطية ، لأنه لا يصل إلا بعد أن تطبخه المعدة ، وتأخذ العروق نصيبها منه ، فيبقى التفل ، فينزل ، ويكون تحت ، وبعد ذلك فهو غائط من أينما خرج حتى لو خرج من الفم ، كما نقل أن شخصا كان يتغوط من فمه ، فمراد الشيخ بتحتية المعدة ذلك ، فيتحد حينئذ مع ابن إدريس ، فتكون الآية المتقدمة مع عدم القول بالفصل ، وقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) في خبر زرارة : « لا يوجب الوضوء إلا من غائط ، أو بول ، أو ضرطة تسمع صوتها ، أو فسوة تجد ريحها » وقول الرضا عليه‌السلام (٣) في خبر زكريا بن آدم سأله عن الناصور أينقض الوضوء : « انما ينقض الوضوء ثلاث البول والغائط والريح » ‌كالخبر المنقول عن العيون مسندا (٤) قال : سأل المأمون الرضا عليه‌السلام « عن محض الإسلام ، فكتب إليه في كتاب طويل ولا ينقض الوضوء إلا غائط أو بول أو ريح أو نوم أو جنابة » وفي الوسائل روى الصدوق (٥) بأسانيده عن محمد بن سنان في جواب العلل عن الرضا عليه‌السلام « ان علة التخفيف في البول والغائط لأنه أكثر وأدوم من الجنابة ، فرضي فيه بالوضوء لكثرته‌

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ـ ٤٦ ـ وفي سورة المائدة ـ آية ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٠.

٣٩٧

ومشقته ومجيئه بغير إرادة منهم ولا شهوة » ‌الى آخره وكالمنقول (١) عن العلل والعيون عن الرضا عليه‌السلام أيضا « إنما وجب الوضوء مما خرج من الطرفين خاصة ومن النوم ، دون سائر الأشياء ، لأن الطرفين هما طريق النجاسة ، وليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة من نفسه إلا منهما ، فأمروا بالطهارة عند ما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم » ‌بناء على ظهوره في دوران الحدث على الخارج منهما نجسا دليلا لهما على المطلوب.

لا يقال : هذه الأخبار مقيدة بما جاء في المعتبرة المستفيضة من التقييد بالطرفين ، كقول أحدهما (٢) في خبر زرارة : « لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك أو النوم » وصحيحه (٣) أيضا قال : قلت لأبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : « ما ينقض الوضوء؟ فقالا : ما يخرج من طرفيك الأسفلين من الذكر والدبر من الغائط والبول » ‌الى آخره وقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) في خبر سالم أبي الفضل : « ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك الأسفلين اللذين أنعم الله بهما عليك » ‌إلى غير ذلك من الروايات ، لأنا نقول ( أولا ) انه مفهوم قيد ، والكلام في حجيته معلوم ، ( وثانيا ) انه قد تبين في الأصول أن القيد متى جرى على الغالب خرج عن الحجية ، بل قد تكون حينئذ حجة لنا على وجه ، لبقائها حينئذ مطلقات ، لحصول الظن أو القطع بجريانه مجرى الغالب ، أو يقال : ان الخارج من غير الطرفين يصدق عليه أنه ما يخرج من طرفيك على الشأنية ، أو على إرادة نفس الغائط والبول ، ( وثالثا ) ان المقصود نفي النقض بالقي‌ء والرعاف ونحو ذلك ، كما تقوله العامة العمياء ، كما يشير الى ذلك قول الصادق عليه‌السلام (٥) في خبر أبي بصير بعد أن سأله « عن الرعاف والحجامة وكل دم سائل : ليس في هذا وضوء ، انما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم الله بهما عليك » ‌ومثله في ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ـ ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ـ ٤.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب نواقض الوضوء ـ حديث ١٠.

٣٩٨

غيره ، بل لعل المتأمل في الروايات ـ مع كثرتها وتصريحها بنفي النقض بالقي‌ء والرعاف ونحوهما ، بل نسبة ذلك فيها إلى المغيرة بن سعيد ـ يكاد يقطع أن المراد بالحصر في ذلك نفي النقض بغيرها مما تقدم ، لا أن المراد منه نفي النقض بالخارج من الثلاثة من غير المعتاد.

لا يقال : انا لا نحتاج في تقييد ما ذكرت الى هذه الروايات ، بل التبادر كاف فيه ، فان الآية وجميع ما تقدم من الأخبار المطلقة تنصرف الى الفرد الشائع المتعارف ، وليس هو إلا الخروج من المعتاد ، وهو الذي يجب إضماره فيما تقدم ، إذ ليس فيهما عموم لغوي ، لأنا نقول ( أولا ) ان هذه الندرة ليست ندرة إطلاق ، بل هي ندرة وجود ، فإنه لا ينبغي الشك لعاقل ان الخارج من غير السبيلين خروج بول وغائط ، ( وثانيا ) انه لو نزلت هذه الروايات على المعتاد لوجب أن لا يحكم بنقض من خلق مخرجه على غير المعتاد ، ولا بمن انسد المعتاد منه ثم انفتح آخر ، ولا بمن أصل خلقته له مخرجان ، ولا بمثل مخرج الخنثى والممسوح ونحو ذلك ، بل لا معنى للتفصيل بالاعتياد وعدمه ، لأن اعتياده للخروج من غير السبيلين لا يخرجه عن كونه فردا نادرا بالنسبة إلى عامة الناس ، بل ولا مثل من يخرج من المعتاد لأغلب الناس نادرا ، بل كل من كان مخالفا للمتعارف بوجه من الوجوه ، وهو مما لا يرتكبه من ذاق طعم الفقاهة وعرف إشاراتهم ، واحتمال أن المستند في البعض الإجماع المنقول ضعيف ، إذ الأصل في المستند الأخبار ، على أنه لا يتم في الجميع ، ومما ذكرنا من الأخبار المقيدة مع الأصل حجة المشهور على عدم النقض بغير المعتاد ، كما ان عموم الآية والحديث حجتهم على النقض مع الاعتياد ، مضافا الى قول الصادق عليه‌السلام : « اللذين أنعم الله بهما عليك » ، لتحقق النعمة بهما حينئذ ، وفيه ان الأول إن كان صالحا للتقييد فلا معنى للاستدلال بالآية والحديث ، وان كان غير صالح فلا معنى للاستدلال بها على عدم النقض ، بل يبقى عموم الآية حينئذ شاملا للمعتاد وغيره ، وأيضا قد يقال : ان ذلك ليس من النعمة بل من النقمة إلا ان يراد أصل الخروج نعمة ، فيشمل النادر حينئذ ، على ان قوله : اللذين أنعم الله‌

٣٩٩

الى آخره وصف للطرفين المعتادين المتعارفين ، لا ان الحكم تعلق على النعمة ، إذ ظاهر الإضافة والموصول العهد ، على أن مرادهم بالاعتياد في المقام لا يخلو من إجمال ، فعن بعضهم أنه يتحقق بالمرتين ، فينقض بالثالثة ، وعن آخر انه بالثلاثة ، وينقض بالرابعة ، وعن آخر الرجوع فيه الى العرف ، وان كان أقواها الأخير ، لكنه فيه ان الرجوع في لفظ المعتاد الى العرف مع عدم وجوده في مدرك الحكم غير ظاهر الوجه ، اللهم إلا أن يستفاد من التعليل في خبر العلل والعيون على معنى ان المدار على ما كان طريقا للنجاسة ، ولا يكون كذلك الا مع الاعتياد فتأمل. ولعل الأقوال الأول انما هي في تحقيق المعنى العرفي وان كان عدم التعرض لتحديده حينئذ أولى ، فإنه كما يؤخذ التكرار يؤخذ عدم الانفصال مدة طويلة ، وان يكون الخارج قدرا معتدا به ونحو ذلك ، فتأمل جيدا ، فإنه مما ذكرنا يظهر لك قوة قول ابن إدريس ، لكن لا على وجه الخروج بخرقة ونحوها مثلا ، بل إذا كان بحيث يتغوط ويبول منه على نحو المعتاد ، فان حدثيته بهذا المعنى متحققة وان كنا لم نعتبر نحو ذلك في المخرج المعتاد ، والله العالم.

وكيف كان فلدعوى فساد هذا التفصيل مع تنزيل الأخبار المتقدمة على المتعارف المعتاد والأصل استظهر بعض المتأخرين عدم النقض مطلقا ، وهو الذي قواه في الرياض ، لكنك إذا أحطت خبرا بما قدمنا تعرف ما فيه ، بل قد يدعى الإجماع المركب على نفيه ، وقوله في المنتهى فالأقرب أنه ينقض لا ينافيه ، ثم ان الظاهر من عبارة المصنف وجملة من الأصحاب بل أكثرهم تخصيص النزاع في البول والغائط ، وهما اللذان ذكرهما الشيخ رحمه‌الله في مبسوطة وخلافه وابن إدريس في سرائره وغيرهما ، بل صرح ابن إدريس بأن الريح الغير الخارجة من الدبر على وجه متيقن كالخارجة من فرج المرأة أو مسام البدن ليست ناقضة ، ويظهر من بعضهم جريان النزاع فيه بمعنى انه إن خرجت الريح من غير المعتاد نقضت مع الاعتياد ، وإلا فلا ، من غير فرق لما كان الاعتياد لها نفسها أو لها مع‌

٤٠٠