جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

صرف البلل من العضو الآخر إليها ، لما تقدم من أنه لا يكون مستعملا إلا بعد الانفصال عن تمام البدن ، وفي المنتهى الذي ينبغي على مذهب الشيخ عدم الجواز في الجنابة ، فإنه لم يشترط في المستعمل الانفصال ، قلت : وما نقله عنه في غاية الاجمال ، بل في بعض الوجوه يكون في نهاية الاشكال ، والظاهر اختصاص الحكم بالمستعمل في الغسل الصحيح دون الفاسد ، لعدم رفع الحدث به ، كما إذا كان في المكان المغصوب ونحوه ، ولو غسل بعض الأعضاء ثم أعرض عن ذلك أو أفسده بتخلل حدث أكبر أو أصغر ان قلنا به فهل يلحقه حكم الاستعمال أولا؟ وجهان ، أقواهما الثاني ، لأن شرط صحته وتأثيره تعقبه بغسل الباقي ، ولم يحصل ، وقد علم مما تقدم ان فضلة الغسل لا تدخل في المستعمل ، فلذلك جاز أن يغتسل الرجل بفضل غسل المرأة وبالعكس ، كما روي (١) « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اغتسل مع عائشة في إناء واحد »

‌ثم لا فرق في الحدث بين الجنابة ولو من زنا وغيرها ، كما هو الظاهر ممن حرر النزاع ، حيث لم يخص المسألة ، فما وقع في بعض العبارات من باب التمثيل ، نعم الظاهر قصر النزاع على من حكم بحدثه شرعا ، فما يغتسل به للاحتياط الغير اللازم غير داخل ، بل واللازم ، كما لو تيقن الجنابة والاغتسال ولم يعلم السابق منهما فإنه يجب عليه الغسل في كل مشروط به ، إذ الظاهر أنه لا يكفي عند القائلين بالمنع احتمال كونه مستعملا ، بل هو من قبيل المانع مع احتماله ، فيكون كأصل المائية.

وكيف كان فهل يرفع الحدث به ثانيا أصغر كان أو أكبر فيه تردد ينشأ من الأصل والعموم وصدق اسم الماء ، ولأن الطهور ما يتكرر منه الطهارة ، ومن خبر عبد الله بن سنان (٢) « الماء الذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به من الجنابة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١٣ مع اختلاف يسير.

٣٦١

لا يتوضأ به وأشباهه » ‌وما يشعر به خبر ابن مسكان (١) قال : حدثني صاحب لي ثقة أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد أن يغتسل ، وليس معه إناء ، والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : ينضح بكف بين يديه ، وكفا من خلفه ، وكفا عن يمينه ، وكفا عن شماله ، ثم يغتسل » ‌والمحقق رواه من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن ابن إدريس أنه نقله في آخر السرائر من كتاب نوادر البزنطي عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر ، وغيره من الأخبار الآمرة (٢) بنضح أربع أكف خلفه وأمامه ويمينه وشماله ، فإنه حكي في سبب ذلك قولان ، ( أحدهما ) أن المراد منها رش الأرض لتجتمع أجزاءها ، فلا ينحدر ما ينفصل من بدنه إلى الماء ، ( وثانيهما ) أن المراد به بل جسده قبل الاغتسال ليتعجل قبل ان ينحدر ما ينفصل منه ويعود الى الماء ، وعلى كل منهما فالإشعار متجه ، ومن النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام (٣) المعللة لذلك باغتسال الجنب وغيره ، وقول أحدهما عليهما‌السلام في خبر محمد بن مسلم (٤) قال : سألته « عن ماء الحمام فقال : ادخله بإزار ، ولا تغتسل من ماء آخر ، إلا أن يكون فيه جنب أو يكثر أهله ، فلا يدرى فيه جنب أم لا » ‌لا أقل من استفادة الشك ، فيبقى استصحاب الحدث سالما ، ولأن ما شك في شرطيته فهو شرط على وجه.

والأقوى في النظر الأول ، وفاقا للسرائر والقواعد والمنتهى والتحرير والمختلف والذكرى والمدارك وغيرها والمنقول عن السيد وسلار وابني زهرة وسعيد ، وخلافا لما عن الشيخين والصدوقين وابني حمزة والبراج ، بل في الخلاف أن المستعمل في غسل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٥.

٣٦٢

الجنابة أكثر أصحابنا ، قالوا : لا يجوز استعماله في رفع الحدث ، للأصل والعمومات والإطلاقات من الكتاب والسنة ، وما تشعر به الروايات المتقدمة في أول البحث على وجه ، المؤيدة بفتوى كثير من أصحابنا ، بل ظاهر غير واحد منهم أو صريحه الإجماع عليه في باب التيمم عند البحث على استعمال التراب المستعمل ، مع عدم دليل صالح للخروج ، لضعف رواية عبد الله بن سنان غاية الضعف ، مع أن في صدرها « لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل » ‌مع أنها موافقة للعامة ، وما ذكره الشيخ رحمه‌الله من كونه مذهب الأكثر مع انا لم نتحققه لا يصلح لان يكون جابرا ، سيما بعد إعراض كثير من المتأخرين عنها وجملة من القدماء.

وأما خبر ابن مسكان فلا دلالة فيه على المنع ، كباقي الأخبار المتضمنة لذلك ، مع ظهور بعضها في عدم البأس ان لم يفعل ، بل فيه وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه ، فان ذلك يجزيه ، وفي بعضها الأمر بالنضح عن اليمين وعن اليسار وبين اليدين للوضوء ، مع أنك قد عرفت الإجماع على عدم المنع من الماء المستعمل فيه ، مضافا الى اشتمال بعضها على بعض الأحكام الغير المنطبقة على القواعد ، مع أن دعوى الحكمة فيها ما ذكر من القولين لا يخلو من نظر ، وإن أطال في بيان ذلك في الحدائق ، بل ابن إدريس أفسد الأول ، وقال انه شي‌ء لا يلتفت إليه ، لأنه إذا تندت الأرض كان نزول الماء أسرع ، فمن هنا قد يقال : بدلالتها على المطلوب ، كما استدل ببعضها في المختلف ، لما فيها من الاشعار به ، بل لا يخفى على الناظر فيها أن المراد منها الاستحباب كما استظهره جماعة.

وأما أخبار النهي عن غسالة الحمام فهي ـ مع تضمن كثير منها التعليل بغسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم وولد الزنا والزاني والجنب من الحرام ، ومع أن في بعضها ضعفا ، ولذلك قال : في المنتهى أنه لم يصل إلينا غير حديثين ضعيفين يدلان على ذلك ، وأوردهما ، مع أن في الثاني منهما التعليل بغسالة‌

٣٦٣

ولد الزنا ، بل لاشتمالها على التعليل به ذهب بعضهم الى نجاستها ، بل في بعضها إشعار بالكراهة ، كما في خبر علي بن جعفر عليه‌السلام (١) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : « من اغتسل من الماء الذي اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه ، فقلت لأبي الحسن عليه‌السلام : ان أهل المدينة يقولون ان فيه شفاء من العين ، فقال : كذبوا ، يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما وكل من خلق ثم يكون فيه شفاء من العين » ـ لا تنهض على تخصيص تلك الأدلة كما هو واضح ، ( وأما خبر ابن مسلم ) فلا دلالة فيه على ما نحن فيه ، على أنه قد اشتمل على غير معلوم الحال ، ودلالته في المفهوم ، وهي لا تقتضي الأمر ، فظهر حينئذ من ذلك كله أنه لا شك ، مع أن التحقيق عدم شرطية ما شك في شرطيته ، على أن الغسل ليس من المجملات ، بل هو مما وصل إلينا فيه البيان ، وعن الشيخ في الاستبصار أنه حمل بعض أدلة الجواز على الضرورة ، لظهور بعضها فيه ، ولم ينقله كثير منهم مذهبا ، ولعله لكون ذلك منه في مثل هذا الكتاب لا يقضي به ، وظاهر المصنف كما صرح به بعضهم ان النزاع في رفع الحدث به دون الخبث ، لكن عبارة الذكرى قد تعطي الخلاف في ذلك.

وكيف كان فالظاهر الجواز ، كما في السرائر والمعتبر والمنتهى ، بل فيه الإجماع على جواز رفع الخبث بالمستعمل في الجنابة ، كما عن فخر المحققين ، وهو الحجة مع الأصل والعمومات ، وظهور ما ذكر من الأدلة في غيره ، بل الظاهر جواز باقي الاستعمالات به من الأغسال المسنونة وغيرها ، لما تقدم وإن كان بعض الأدلة المتقدمة شاملة لذلك ، ولكن الظاهر من كلام الأصحاب قصر النزاع في رفع الحدث ، أو هو مع رفع الخبث ، وأما باقي الاستعمالات فلا ، كما أن الظاهر منهم كما صرح به بعضهم أن النزاع فيما يرفع به الحدث ، أما الأغسال المسنونة ونحوها فلا كلام في كونها طاهرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

٣٦٤

مطهرة ، بل في الحدائق نفى جملة من المتأخرين الخلاف فيها نعم نقل عن ظاهر المفيد في المقنعة استحباب التنزه عنها ، ولعله لرواية علي بن جعفر عليه‌السلام المتقدمة على وجه ، لشمول الاغتسال فيها للواجب والمندوب ، بل قد يدعى شمولها للماء القليل والكثير ، لكن لم نعثر على قائل به ، إذ الظاهر أن النزاع مخصوص في المستعمل إذا كان قليلا ، أما لو كان كثيرا فلا ، بل قد يظهر من بعضهم أن المستعمل متى بلغ كرا ارتفع المنع منه ، وكأن وجهه‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : « متى بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا » ‌وقد مضى الكلام فيه والأحوط المنع غالبا ، وإلا فقد يكون الاحتياط في عدم المنع.

الطرف ( الثالث في الأسئار )

وكأن جعله قسيما للمطلق والمضاف لاختصاصه ببعض الأحكام ، كالمنع من سؤر مالا يؤكل لحمه ونحوه وإن كان لا يخلو من نظر ، والأمر سهل ، والأسئار جمع سؤر ، والمراد به لغة الفضلة والبقية كما عن القاموس ، أو البقية بعد الشرب ، كما عن الجوهري ، ويقرب منه ما نقله في الحدائق عن مجمع البحرين عن المغرب مع زيادة ، ثم أستعير لبقية الطعام ، ومثله أيضا ما عن المجمع عن الأزهري ، وعن الفيومي في المصباح المنيران السؤر بالهمزة من الفأرة وغيرها كالريق من الإنسان ، وفي كشف اللثام أنه في اللغة البقية من كل شي‌ء ، أو ما يبقيه المتناول من الطعام والشراب ، أو من الماء خاصة ، وعلى كل حال فالقلة مفهومة أيضا ، فلا يقال : على ما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض الكبار إذا شرب منها ، وفي المعتبر أنه بقية المشروب ، وأنت خبير أن ما ذكره الفيومي إما أن يكون معنى آخر ، أو أنه في الأصل لذلك ، أو أن تسمية بقية المشروب سؤرا لما يمازجه من الريق بسبب الشرب ، وعن مجمع البحرين بعد أن نقل عن النهاية‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

٣٦٥

أن سائر مهموز ، ومعناه الباقي ، لأنه اسم فاعل من السؤر ، وهو ما يبقى بعد الشرب ، وهذا مما يغلط فيه الناس ، فيضعونه موضع الجميع ، قال : وقد يقال : في تعريفه ما يباشره جسم حيوان ، وبمعناه رواية ولعله اصطلاح ، وعليه حملت الأسئار ، كسؤر اليهودي والنصراني وغيرهما.

وكيف كان فكلام أهل اللغة لا يخلو من إجمال ، وإن كان الأظهر أنه بقية المشروب ، بل مطلق المستعمل في الفم ، إلا أن الذي ينبغي البحث عنه هنا عدة أمور بتنقيحها يتم المطلوب ، ( الأول ) المبحوث عنه هنا من جهة الطهارة والكراهة وغيرهما انما هو مطلق المباشرة لجسم الحيوان بالفم وبغيره ، وبه صرح في السرائر والذكرى وهو المنقول عن المهذب للقاضي والروض والمسالك وغيرها ، وعن المقنعة « ان أسآر الكفار هو ما فضل في الأواني مما شربوا منه ، أو توضؤوا به ، أو مسوه بأيديهم وأجسادهم ». ( الثاني ) ان ذلك مخصوص بالماء أو مطلق المائع ، صرح جملة منهم بالأول ، وصرح ابن إدريس بالثاني ، وكأن وجه الأول الكلام في المياه ، ووجه الثاني تعميم الحكم من جهة الطهارة والنجاسة وغيرهما للجميع ، ولعله لذا جعله المصنف قسيما للمطلق والمضاف. ( الثالث ) اشتراط القلة في الماء ، كما صرح به جماعة ، أي كونه أنقص من كر دون سائر المائعات ، بناء على دخولها تحت المبحث. ( الرابع ) هل أن ذلك معنى شرعي تحمل خطابات السنة عليه في غير المقام ، أو أنه اصطلاح من المصنفين في خصوص المقام؟ مقتضى تعريف جمع له بأنه شرعا ماء قليل باشره جسم حيوان الأول ، والأظهر العدم ، وقد يحمل قولهم شرعا أي في لسان المتشرعة في خصوص المقام ، نعم يظهر من بعضهم ان السؤر هذا معناه ، لأنه بعد أن ذكر تقسيم الأسئار بالنسبة للطهارة والنجاسة ، وما فيه الشفاء وعدمه قال : « والسؤر عبارة عما شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه من المياه وسائر المائعات » وهو في غاية الإشكال ان أريد به ان لفظ السؤر في أي مكان ورد يحمل على هذا المعنى ، لما عرفت أنه ليس في اللغة ما يقتضيه ،

٣٦٦

ولا في العرف العام ، وإثبات الحقيقة الشرعية بعيد ، نعم لا يبعد في النظر التعميم في كلمات أصحابنا التي هي قرينة على روايات المقام لمطلق المباشرة لجسم الحيوان ، مع احتمال التخصيص بالماء.

وربما يرشد اليه خبر العيص بن القاسم حيث قال عليه‌السلام (١) : « لا تتوضأ من سؤر الحائض ، وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ، ثم تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغتسل هو وعائشة في إناء واحد » ‌الى آخره وأما في غير المقام فالاقتصار على المباشرة بالفهم هو الأظهر ، لما سمعت من كلام أهل اللغة ، بل قد يظهر من بعض الأخبار (٢) عدم اختصاصه بالماء ولا بالمائع كالمروي عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام (٣) « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن أكل سؤر الفأر » وصحيح زرارة (٤) عنه عليه‌السلام أيضا « ان في كتاب علي عليه‌السلام ان الهر سبع ولا بأس بسؤره ، واني لأستحي من الله أن أدع طعاما لأن الهر أكل منه » ‌لكن في المدارك وعن المعالم ان الأظهر في تعريفه في خصوص المقام وان المبحوث عنه فيه ماء قليل باشره فم الحيوان ، بل اعترض في الأول على التعريف بمطلق المباشرة لجسم حيوان بأنه مخالف لنص أهل اللغة والعرف العام ، بل والخاص ، كما يظهر لمن تتبع الأخبار وكلام الأصحاب وذكر بعضهم أحكام غير السؤر في المقام استطرادا ، وكون الغرض بيان الطهارة والنجاسة لا يقتضي هذا التعميم ، لأن حكم ما عدا السؤر يستفاد من مباحث النجاسات ، وأيضا الوجه الذي لأجله جعل السؤر قسيما للمطلق مع كونه قسما منه انما هو وقوع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢ و ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

٣٦٧

الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر العين وكراهة بعض آخر ، وليس في كلام القائلين بذلك دلالة على اعتبار مطلق المباشرة ، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أن مرادهم بالسؤر المعنى الذي ذكرناه خاصة ، وفيه نظر من وجوه يظهر من التأمل في كلامنا السابق وكلامهم فتأمل.

وهي كلها طاهرة عدا سؤر النجس منها ، وهو الكلب والخنزير والكافر ، وفي نجاسة سؤر المسوخ تردد للتردد في نجاستها ، والطهارة فيها عينا وسؤرا أظهر ومن عدا الخوارج والغلاة من أصناف المسلمين طاهر الجسد والسؤر والتأمل في كلام المصنف يرشد إلى أمرين ، ( الأول ) ان كل ما ثبت نجاسته شرعا فسؤره إن كان فيما ينفعل بالنجاسة نجس ، ودليلها ـ مضافا الى ما يقرب الى القطع به من ملاحظة الأخبار ـ الإجماع محصلا ومنقولا ، نعم ربما وقع الخلاف في نجاسة ذي السؤر كالمسوخ وولد الزنا والمجبرة والمجسمة ، بل غير المؤمن والمستضعف واليهود والنصارى ، ويأتي تحقيق القول في ذلك كله ان شاء الله في النجاسات. ( الثاني ) ان كل ما ثبت طهارته شرعا فسؤره طاهر ، وهو المشهور ، بل عليه عامة من تأخر ، بل عن الغنية والخلاف الإجماع عليه ، بل قد يظهر أيضا من المنقول من عبارة الناصريات ، بل في السرائر في باب الأطعمة والأشربة « فأما ما حرم شرعا فجملته من الحيوان ضربان ، طاهر ونجس ، فالنجس الكلب والخنزير ، وما عداهما كله طاهر في حال حياته بدلالة إجماع أصحابنا المنعقد على أنهم أجازوا شرب سؤرها والوضوء منه ، ولم يجوزوه في الكلب والخنزير » الى آخره ، وهو الحجة بعد الأصل والاستصحاب والعموم ، مضافا الى ما تسمعه من الأخبار ، وخالف في ذلك ابن إدريس في السرائر فحكم بنجاسة سؤر ما أمكن التحرز عنه من غير مأكول اللحم من حيوان الحضر غير الطيور ، قال : « ولا بأس بأسآر الفأر والحيات وجميع حشرات الأرض » وقد تعطي عبارة الشيخ‌

٣٦٨

في التهذيب بقرينة ما عن الاستبصار القول بالمنع من الوضوء ، والشرب من سؤر غير مأكول اللحم غير السنور والطير ، إلا أنه أبدل السنور في الاستبصار بالفأرة مع التعليل لها بمشقة التحرز عنها ، فقد يستفاد منه حينئذ التعميم لكل ما يشق التحرز عنه ، وعن المبسوط والمهذب المنع من سؤر مالا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الآدمي والطيور ، إلا ما لا يمكن التحرز عنه كالهر والفأرة.

قلت : يحتمل أن يراد بالمنع من السؤر الحكم بالنجاسة ، فيكون مثل ما نقلناه عنه في السرائر ، كما أنه يحتمل العكس ، بل هو أقوى ، لكون الحكم بنجاسة السؤر مع طهارة ذي السؤر كما هو الفرض من غير دليل يقتضيه ـ مع منافاته للقواعد المسلمة التي لا شك فيها ـ لا معنى له ، وما تسمعه من الدليل لا دلالة فيه على ذلك ، كاحتمال جعله كوقوع الجنب في البئر ، فإنه مع ما فيه قياس لا نقول به ، ولعل الخلاف منحصر في المبسوط والمهذب والسرائر ، لكون عبارة التهذيب غير صريحة فيما نقلناه عنه ، بل ولا ظاهرة ، وكيف وهو يورد فيه من الأخبار ما يقضي بطهارة السباع وغيرها ، مع عدم ذكر لتأويل شي‌ء منها ، وأما الإستبصار فهو لمجرد جمع بين الأخبار.

ولا يخفى عليك ما في دعوى الثلاثة من الاجمال ، بل لم نعثر لهم على ما يقضي بتخصيص ما سمعت من الأصل بل الأصول والعموم وغير ذلك ، سوى قول الصادق عليه‌السلام (١) في الموثق بعد أن سئل عما تشرب منه الحمامة ، فقال : « كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب » ‌وفيه ـ مع ان جماعة من الفطحية في سنده ، وكون دلالته بالمفهوم ، بل على عموم المفهوم ، وقد منعه العلامة هنا في المختلف ، واكتفى في صدق المفهوم بسلب الحكم المنطوقي عن بعض أفراد المفهوم ، وهو يتحقق هنا في الكلب والخنزير وان كان منعه لا يخلو من منع للعرف ، لكنه لا يخلو من وجه ، ومع أن الخارج أضعاف الداخل بمراتب كثيرة على تقدير أخذه مستندا لما في السرائر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

٣٦٩

والمهذب والمبسوط ، بل لا دلالة فيه على النجاسة ، كما ادعاه ابن إدريس ، ولا منع سائر الاستعمال على دعوى غيره ، مضافا الى أن غير المأكول من المسؤول عنه خارج ، وهو الطيور على دعوى التهذيب وغيره ، فكيف يراد به ضابطا في المفهوم والمنطوق ـ معارض بغيره مما هو معتضد بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا ، بل سمعت حكايته عن بعضهم ، وهو صحيح البقباق (١) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش فلم أترك شيئا إلا سألته عنه؟ فقال : لا بأس به ، حتى انتهيت إلى الكلب ، فقال : رجس نجس » ‌الى آخره. ومرسل الوشاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) « أنه كان يكره سؤر كل شي‌ء لا يؤكل لحمه » وخبر ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : سألته « عن الوضوء مما ولغ فيه الكلب أو السنور ، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال : نعم ، إلا أن تجد غيره فتنزه عنه » ‌واشتماله على الكلب لا يخرجه عن التمسك بغير ذلك ، كما هو محرر في محله ، مع احتمال حمل الكلب فيه على السبع غير النابح والخنزير ، لأنه في الأصل لكل سبع عقور غلب على هذا النابح كما عن صاحب القاموس ، مع معارضته أيضا على دعوى التهذيب بما دل (٤) على نفي البأس عن سؤر السباع ، بل بما دل (٥) على نفي البأس عن الوضوء بما وقعت فيه الحية والعظاية والوزغ والفأرة ، وبها فيما عدا الفأرة يرد على دعواه في الاستبصار إن لم نقل بشمول تعليله ، بل بأخبار السؤر أيضا الى غير ذلك ، والقصور في السند والدلالة على تقدير وجوده منجبر بما سمعت من الشهرة ، ولا يخفى عليك إمكان الرد ببعض ما ذكرنا أخيرا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ـ ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ـ ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

٣٧٠

على دعوى المبسوط والمهذب ، فالمسألة سليمة الاشكال بحمد الله ، ويأتي الكلام فيما اختلف في طهارته ونجاسته في النجاسات ان شاء الله.

ويكره سؤر الجلال من كل حيوان ، والمراد به على ما قيل المتغذي بعذرة الإنسان محضا الى أن نبت عليه لحمه واشتد عظمه ، فلا يدخل المتغذي بغيرها من النجاسات ، ولا المتنجسات ولو بعذرة الإنسان ، بل ولا من تغذى بها وبغيرها ، ولتحقيق البحث فيه مقام آخر ، وكيف كان فالحكم بالطهارة لطهارة ذي السؤر لما علمت سابقا من الملازمة بينهما ، مع عموم الروايات الحاكمة بطهارة سؤر الطيور والسنور والدواب والسباع ونحو ذلك من غير تفصيل فيها بين الجلال وغيره ، وقد اشتمل بعضها على العموم اللغوي ، كقوله عليه‌السلام (١) في خبر عمار : « كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب » ‌وما سمعته من صحيحة البقباق ، فالإطلاق مع ترك الاستفصال في بعض والعموم اللغوي في آخر مع الأصل كاف في إثبات المطلوب ، وكون ذلك فردا نادرا قد يقدح في الأول ، ولا يقدح في الثاني ، على أن الندرة في بعض الحيوانات ممنوعة ، كالفيران الساكنة في الخلاء ونحوها ، مع ورود الأدلة بطهارة سؤرها من غير تفصيل ، فما عن الشيخ في المبسوط كما في المختلف والمرتضى وابن الجنيد من المنع من سؤر الجلال مع الحكم بطهارة ذي السؤر لم يصادف محله. على أن الظاهر من عبارته المحكية عنه على ما في بالي ثبوت البأس ، وهو أعم من المنع ، وكان دليله ما قدمناه سابقا ، وقد عرفت ما فيه.

وكذا ما أكل الجيف لما تقدم أيضا من الأصل وطهارة ذي السؤر والأخبار وغيرها ، فما عن النهاية كما في المختلف من المنع من سؤره لا نعرف له وجها ، والاستدلال عليه بالمفهوم مع أنك قد عرفت ما فيه هناك لا يشمل جميع أفراد المقام ، فإنه قد يكون آكل الجيف مأكول اللحم ، على أن المفهوم ظاهر في كونه من حيث‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

٣٧١

كونه غير مأكول اللحم ، لا من حيث أنه آكل الجيف ، فلا دليل على المنع ، وأضعف من ذلك ما في كشف اللثام من أن كلام القاضي في المهذب يعطي نجاسة السؤرين ، ونجس أبو علي سؤر الجلال ، وفي الإصباح نجاسة سؤر جلال الطيور ، إذ هو كما ترى لا دليل عليه بعد طهارة ذي السؤر ، بل قد اعترف بعضهم بعدم الوقوف على دليل على الكراهة ، فضلا عن المنع ، لكن قد يقال للتسامح فيها بها في الأول من التفصي عن شبهة الخلاف ، وظاهر إجماع حاشية الوسائل الذي ستسمعه مع انجباره بالمحكى من الشهرة ، وما سمعت من مرسلة الوشاء أنه كان يكره سؤر كل شي‌ء لا يؤكل لحمه على فرض إرادة ما لا يؤكل لحمه ولو بالعارض ، ومثله المفهوم المتقدم الذي أخذه الشيخ سندا للمنع ، مضافا الى الأمر بالغسل من عرق الإبل الجلالة ، كما في خبر هشام بن سالم (١) بل قال في حاشية الوسائل مكتوبا في آخرها أنها منه : « استدل علمائنا على كراهة سؤر الجلالة بحديث هشام ، ودلالته بينة ، على أنهم أجمعوا على تساوي حكم العرق والسؤر هنا ، بل في جميع الأفراد ، والفرق إحداث قول ثالث ، وأيضا فإن بدن الحيوان لا يخلو أبدا من العرق إما رطبا وإما جافا ، فيتصل بالسؤر ، فحكمه حكمه ، وعلى كل حال فضعف الدلالة منجبر بأحاديث مالا يؤكل لحمه » انتهى. مع إمكان التأييد بالاعتبار ، سيما إذا كانت المباشرة بالأفواه لأن منشأ رطوباتها من غذاء نجس وفي الثاني من بعض ما تقدم أيضا ، مع أنه نسب الحكم فيه بالكراهة إلى الأصحاب كما في الحدائق ، ويمكن استفادته أيضا مما تسمعه إن شاء الله تعالى في الحائض المتهمة ، بل قد يقال باستفادة كراهة كل متهم بالنجاسة منه ، والفرض هنا أنه باشر الماء مثلا مع عدم اختبار فمه أو منقاره ، ومثله لو اختبر لكن لم نقل بحصول الطهارة بمجرد الزوال ، أو قلنا ولكن قد يبقى أجزاء من النجاسة بحيث لا تراها العين فتأمل.

ومما قدمنا سابقا من مرسلة الوشاء والمفهوم يمكن الحكم بكراهة سؤر كل ما لا يؤكل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

٣٧٢

لحمه ، كما ذكره بعضهم ، بل نسب الى جمهور الأصحاب ، بل قد يومي الى كراهته الحكم بكراهة سؤر مكروه اللحم فتأمل ، نعم يمكن أن يقال باستثناء السنور من آكل الجيف ومما لا يؤكل لحمه ، كما في الصحيح « أني لأستحي من الله أن أدع طعاما لأن الهر أكل منه » ‌وللحكم بأنها من أهل البيت كما في الصحيح الآخر (١) هذا كله إن أريد بآكل الجيف ما من شأنه كما يظهر من بعض ، ويحتمل أن يراد به ما أكل الجيف الذي علم الآن أنه أكل جيفة ، ثم شرب من الماء مثلا ، والثاني هو الظاهر من عبارة المنتهى ، بل هو صريحها.

هذا كله إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة أو المتنجس ، وإلا فينجس الماء ، لكن ظاهر المصنف أنه قيد للأخير ، ويمكن عوده لهما ، وإطلاقه يقضي بالطهارة مع الخلو ولو علم بالمباشرة وان لم يغب عن العين ، وفي المعتبر والمنتهى أنه لو أكلت الهرة ميتة أو فأرة ، ثم شربت لم ينجس الماء ، حكيا ذلك عن الشيخ ، بل في الذكرى سواء غابت عن العين أو لم تغب ، قال في المنتهى في المقام : « يكره سؤر ما أكل الجيف من الطير إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة » وهو قول السيد المرتضى ، ثم استدل بالأخبار العامة في استعمال سؤر الطيور والسباع مع أنها لا تنفك عن تناول ذلك ، إلى أن قال : « وهكذا سؤر الهرة وان أكلت الميتة ثم شربت ، قل الماء أو كثر ، غابت عن العين أو لم تغب » ثم قال : « وعند الشافعية والحنابلة وجهان ، أحدهما مثل قولنا ، والآخر إن لم تغب فالماء نجس ، وان غابت ثم عادت فوجهان ، أحدهما التنجيس ، استصحابا للنجاسة ، والثاني الطهارة ، لأصالة طهارة الماء ، ويمكن أن يكون قد وردت في حال غيوبتها في ماء كثير » وظاهر كلامه أنه ليس لنا إلا وجه واحد وهو الطهارة بزوال العين ، وفي الحدائق أنه المشهور بين الأصحاب ، لكن المنقول عنه في النهاية أنه قوى الوجه الثاني من وجهي الشافعية ، وحكم بالنجاسة مع عدم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١ و ٥.

٣٧٣

الغيبوبة ومعها مع احتمال الولوغ في ماء كثير بالطهارة ، بل ظاهر المنقول عنه أنه يحكم بطهارة الماء استصحابا له ، ولا دلالة فيه على طهارة فمها بالغيبوبة ، مع احتمال الطهارة لعدم التلازم بينهما ، ونقل في الحدائق قولا بالنجاسة من غير فرق بين ما إذا غابت أو لم تغب ، احتمل ولوغها في ماء كثير أولا ، ولم ينقله غيره عن أحد من أصحابنا ، ولعله أراد أحد وجهي الشافعية المتقدم ، وفي المهذب البارع وعن جمع من المتأخرين تعدية الحكم بالطهارة بمجرد الزوال لكل حيوان غير الآدمي ، ولكل نجاسة ومتنجس ، واستحسنه في المدارك.

وكيف كان فأقصى ما يمكن أن يستدل به لذلك إطلاق الروايات (١) بل عمومها لنفي البأس عن أسآر الحيوانات الشاملة لمثل المقام ، سيما الحيوانات التي قل ما ننفك عن مباشرة النجاسات كالهرة ونحوها ، مضافا الى قوله في خبر عمار (٢) : « كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلا أن ترى في منقاره دما ، فإذا رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب » ‌وفي الوسائل زاد في التهذيب (٣) « أنه سئل عن ماء شربت منه الدجاجة قال إن كان في منقارها قذر لم تتوضأ منه ولم تشرب وإن لم تعلم أن في منقارها قذرا فتوضأ منه واشرب » ‌قلت : لم أجد هذه الزيادة في التهذيب الذي حضرني ، وأنت خبير في دلالة الأول على المطلوب ، فإنه لا ريب في تناوله لما كان وزال ، وكان وجه دلالة الزيادة ان مفهوم الشرط أولا يتناول محل النزاع ، لأن المراد بالقذر عينه ، والتصريح بالمفهوم أخيرا لا ينافيه ، بل قد يظهر من قوله عليه‌السلام : إلا أن ترى في منقاره دما الى آخره الظاهر في انه لو لا الاستثناء كان داخلا ان غيره من الأجوبة الدالة على طهارة سؤر الحيوانات شاملة لمثل ذلك ، فإذا قال عليه‌السلام مثلا : لا بأس بسؤر الهرة أو كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره مثلا يكون شاملا لما لو كان عليه نجاسة ، أقصى ما هناك خرج المباشرة بعين النجاسة ، فيبقى الباقي ، فلا يقال :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسئار.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٣.

٣٧٤

حينئذ هذه الإطلاقات انما هي مساقة لبيان أنفس ذوات الأسئار لا لعوارضها (١) مع عدم تمامه في الأحوال الغالبة ، بل قد يقال : ان ذلك بالنسبة إليها تأخير البيان عن وقت الحاجة مضافا الى أن الشهرة المدعاة ، بل يمكن دعوى تحصيلها جابرة لذلك ، كما نقل عن كثير ذكر حكم الهرة إذا أكلت فأرة أو ميتة ولم تغب وباشرت الماء مع حكمهم على الماء بالطهارة ، واحتمال ان ذلك منهم قد يكون خارجا عما نحن فيه ، لأن حكمهم بالطهارة لعدم العلم بنجاسة الفم لا للطهارة بالزوال مع ضعفه لا يجري فيها كلها ، بل ولا في البعض فتأمل.

وفي المدارك بعد أن استحسن التعدية السابقة قال : للأصل ، وعدم ثبوت التعبد بغسل النجاسة عنه ، وعن المعالم انه لو فرضنا عدم دلالة الأخبار على العموم فلا ريب ان الحكم بتوقف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفي قطعا ، والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقف على الدليل ولا دليل ، قلت : لا ريب ان النظر في أخبار النجاسات يقضي بثبوت قاعدتين ، الأولى أنها تنجس كل ما تلاقيه ، ومثلها المتنجسات ، والثانية أن كل متنجس لا يطهر إلا بالغسل بالماء ، بل يكفي في الثانية الاستصحاب ، ولو لا هما لثبت الإشكال في كثير من المقامات ، نعم قد يقال هنا من جهة الإطلاق ، بل العموم المتقدم ، وإطلاقات الإجماعات المنقولة ، مضافا الى الشهرة بين الأصحاب والسيرة القاطعة بين المسلمين مع عموم البلوى ، بل من غسل شيئا من الحيوانات يحكمون أنه من المجانين : ينقدح الشك في شمول القاعدة الأولى للمقام ، فلا يحكم بنجاسة هذه النجاسات لأبدان الحيوانات ، وتكون من قبيل البواطن ، فلا تنفعل بملاقاة النجاسات ، بل إن كانت عين النجاسة موجودة كان الحكم مستندا إليها ، وإلا فلا ، بل في الحقيقة يرجع الى هذا قولهم انها تطهر بزوال العين عند التأمل ، وان‌

__________________

(١) فإذا قال لا بأس بسؤر الهرة فلا يستفاد منه إلا طهارة ذات الهرة ، فلا بأس من حيث كونها هرة ، ولا تعرض فيه لما لو تنجست من خارج. ( منه رحمه‌الله ).

٣٧٥

كان ظاهره لا يخلو من تسامح ، ولعل ما صدر من صاحب المعالم يرجع الى الشك في شمول القاعدة الثانية ، لكنه لا يخلو من إشكال ، لمعارضة الأصل حينئذ بالاستصحاب ، ولعله لما ذكرنا أشار السيد المهدي في منظومته ، فقال :

واجعل زوال العين في الحيوان

طهرا كذا بواطن الإنسان

ثم الظاهر من القائلين بالاكتفاء بالزوال من غير اشتراط للغيبة أنه لا إشكال عندهم في حصول الطهارة بها ، إلا انها ليست شرطا ، لكن لو كانت عين نجاسة على بدن الحيوان ثم غاب وبعد ذلك باشر مائعا فهل يحكم بالنجاسة ، استصحابا بالبقاء العين ، أو الطهارة ، لكون الغيبة من المطهرات لاحتمال المطهر ولو زوال العين الذي اكتفينا به في طهارة الحيوان؟ قد يقال : بالأول ، وظاهر التسالم هنا على الغيبة انما هو بعد الحكم بزوال العين ، وان اختلف في أنه هل يشترط الغيبة لعدم الاكتفاء بالزوال ، أو يكتفى به؟ فلا حاجة إليها ، بل هو الظاهر من اشتراطهم الخلو من عين النجاسة بعد العلم بمباشرته لها ، ويحتمل قويا الثاني ، إذ الظاهر أنه لا إشكال عندهم في كونها من المطهرات في الحيوان وإن وقع الاشكال فيها في الإنسان ، فحينئذ يكتفي باحتمال حصول الطهارة له ، كل على مذهبه فيها ، فمن اكتفى بالزوال يكفي عنده احتماله ، ومن لا يكتفي به لا بد من احتمال غيره.

وكيف كان فلا تلازم بين القول بالطهارة بالزوال وبين الغيبة من المطهرات ، فقد تسلم الأولى ، وتمنع الثانية ، كما لعله الظاهر من بعضهم وإن كان الأقوى خلافه لقيام كثير من الأدلة السابقة على الطهارة بالزوال على حصول الطهارة بالغيبة ، فتأمل جيدا ، فان التحقيق الثاني ، لأن استصحاب بقاء العين لا يقضي بثبوت الإصابة التي هي حكم من الأحكام العرفية ، فالمتجه بقاء الآخر ولو مائعا على الطهارة التي لا يحتاج استصحابها الى حكم آخر ، نعم لو قلنا بتنجس الحيوان بملاقاة النجاسة واعتبرنا في‌

٣٧٦

طهارته زوال العين كما هو مقتضى قولهم تطهر بالزوال اتجه الحكم بالنجاسة لا بملاقاة الحيوان الذي كان عليه نجاسة ولم يعلم زوالها ، ولعل هذا هو الثمرة من قولنا بعدم قبول بدن الحيوان النجاسة كالبواطن وبين القول بها والطهارة بالزوال ، هذا كله من هذه الجهة ، وأما بناء على ظهور النصوص في الحكم بالطهارة لمجرد عدم العلم بملاقاة عين النجاسة وإن كانت موجودة سابقا ولو لاحتمال الزوال وإن لم نعتبره فهو موافق لما ذكرناه من أن التحقيق الثاني ، وعلى كل حال فهل المراد بالزوال ما يشمل الجفاف لمثل ما إذا كانت النجاسة من قبيل الماء وان أفادت خشونة أو ثخنا لما كانت عليه ، أو أن ذلك دليل على بقاء العين ، نعم لو كانت النجاسة من قبيل الدم ونحوه فزوال العين فيه عبارة عن ذهابه؟ وجهان ، بل للشهيد في الذكرى كلام في غير المقام قد يشعر بالخلاف في المسألة ، قال : « فيما لو طارت الذبابة عن النجاسة الى الثوب أو الماء فعند الشيخ عفو ، واختاره الشيخ نجم الدين المحقق في الفتاوى ، لعسر الاحتراز ، ولعدم الجزم ببقائها ، لجفافها في الهواء ، وهو يتم في الثوب دون الماء ، إذ ظاهر قوله وهو يتم الى آخره أنه لا يكتفى بالجفاف في حصول الطهارة ، أو أنه لا يكتفى باحتمال زواله وإن كان الظاهر الأول ، وإلا لم يتأت الفرق بين الثوب والماء ، ولها وجه آخر فتأمل ، فإن التحقيق في أصل المسألة كون المدار على صدق وجود عين النجاسة مع الجفاف وعدمه ، فان كان نجس الملاقي ، وإلا فلا ، وأما الخلاف في الذباب ونحوه فهو من فروع المسألة السابقة التي عرفت كون التحقيق طهارة الجسم الآخر ، من غير فرق بين الماء وغيره من المائعات وبين الثوب ونحوه ، للاستصحاب السالم عن معارضة غيره ، ولظاهر النصوص والسيرة والعسر والحرج وغير ذلك ، وأما الكلام في طهارة الآدمي بالغيبة فيأتي ان شاء الله في المطهرات.

( والحائض ) المحكوم بحيضها التي لا تؤمن على المحافظة عن مباشرة النجاسة ، كما هو الظاهر من عبارة السرائر في الأطعمة والمنقول عن غيره ، لكن الأشهر في التقييد‌

٣٧٧

المتهمة وإن كان ليس في الأخبار ذكر للاتهام ، بل الموجود فيها أنه لا بأس بالوضوء من فضلها إذا كانت مأمونة كما تسمعه ان شاء الله تعالى ، ومن هنا قال في المدارك : « إن ما ذكره المصنف أولى ، لأن النص انما اقتضى انتفاء الكراهة إذا كانت مأمونة ، وهو أخص من كونها غير متهمة ، لتحقق الثاني في ضمن من لا يعلم حالها دون الأول ، الى أن قال : فان المتبادر من المأمونة من ظن تحفظها من النجاسات ، ونقيضها من لم يظن بها ذلك ، وهو أعم من المتهمة والمجهولة ».

قلت : لكن قد يقال : ان الأمر على خلاف ما ادعاه ، لعدم صدق غير المتهمة على مجهولة الحال ، بل هذه العبارة لا تقال إلا بعد اختبار حالها ومعرفته ، فيصدق عليها حينئذ انها غير متهمة وانها مأمونة ، كما يقال : فلان غير متهم على دينه أي بعد اختباره ، دون من لا يعرف حاله ولو لكونه من بلد أخرى ، كما هو واضح ، فحينئذ متى صدق عليها انها غير متهمة صدق عليها أنها مأمونة ، ومتى صدق عليها أنها غير مأمونة صدق عليها أنها متهمة ، نعم هما لا يصدقان على مجهولة الحال ، وكان عدم التعرض له لأنه قل ما تحصل المساورة مع حائض مجهولة الحال ، بل الغالب عدم معرفة كونها حائضا ، كما ان الغالب معرفة كونها مأمونة أولا مع العلم بحيضها ، لكونها حينئذ زوجة مثلا له ، فيكون أنه لا يعرف أنها حائض ، أو انه إذا عرف حيضها يعرف حالها ، فصار حاصل الرد إما بتسليم ان المأمونة من ظن تحفظها عن النجاسة لكنّا نمنع كون المفهوم شاملا للفردين وإن كان ذلك مقتضي النقيض ، إلا أن الفهم العرفي على إرادة مظنونة العدم دون مجهولة الحال ، أو يقال : انا نمنع أخذ الظن في المأمونة ، بل المراد منها المتحفظة عن النجاسة واقعا ، فتارة يظن ، وتارة يقطع ، وغير المأمونة غير المتحفظة في الواقع.

وعلى كل حال فمجهولة الحال لا يحكم عليها بشي‌ء وإن كان الواقع لا يخلو منهما ، كما يرشد اليه قول ابن إدريس في السرائر ان المتهمة التي لا تتوقى من النجاسات ،

٣٧٨

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام (١) : « ان سؤر الحائض لا بأس ان يتوضأ منه إذا كان تغسل يديها » ‌إذ لا واسطة بينهما قطعا ، مع انه يرجع الى المأمونة وغيرها ، فالمتجه حينئذ أنه لا يحكم على المجهولة بكراهة ولا عدمها بالخصوص ، وما يقال : ان الشارع اشترط في نفي الكراهة كونها مأمونة يدفعه أنه كما اشترط ذلك في المنطوق اشترط في المفهوم كونها غير مأمونة ، نعم قد يقال : ان الروايات قد نهت عن الوضوء بسؤر الحائض مطلقا ، أقصى ما هناك خرجت المأمونة عن هذا الإطلاق ، فيبقى الباقي ، مع أن فيه بحثا ذكرناه في غير المقام وإن كان هو لا يخلو من قوة ، بل قد يقال : بعدم الكراهة في الحكم الظاهري ، لأصالة البراءة ، واستصحابا لحال الماء ، فان احتمال المأمونية كاف في جريانه ، وليس من الاستصحاب المثبت ، إذ ليس المقصود منه إثبات المأمونية ، كما ان كون الشرط لعدم الكراهة أمرا وجودا وهو المأمونة غير قادح في ذلك ، بل يكون حينئذ كاحتمال الكرية في حفظ طهارة ما لا يعلم حاله هل هو كر أو لا فتأمل.

وعن بعضهم كالشيخ في المبسوط وعلم الهدى في المصباح أنهما أطلقا الحكم بكراهة سؤر الحائض من غير تقييد ، وكأنه للأخبار (٢) المعتبرة المستفيضة الناهية عن الوضوء بسؤر الحائض من غير تقييد ، وهي كثيرة ، لكن فيه أنها لا تعارض المقيد ، كما بين في محله ، مثل قول أبي الحسن عليه‌السلام (٣) في خبر علي بن يقطين في الرجل يتوضأ بفضل الحائض : « إذا كانت مأمونة لا بأس » وقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) لما سأله العيص بن القاسم على ما عن رواية الشيخ له عن سؤر الحائض : « توضأ منه وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ، وتغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء » ‌الى آخره والمناقشة باحتمال جعل القيد للأخير ، كما في رواية الكليني مع انه أضبط ، فإن فيها « لا تتوضأ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسئار.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٥.

(٤) الاستبصار ـ الباب ـ ٧ ـ حديث ٢.

٣٧٩

من سؤر الحائض وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة » ‌الى آخره مدفوعة بأنها غير ممكنة ، لاشتمالها على الأمر بالوضوء من سؤر الحائض ، وبدون التقييد لا معنى له.

نعم قد يقال ان رواية الكليني لا رد بها على الشيخ والمرتضى ، بل هي دليل لهما ، إذ هي صريحة أو كالصريحة في عدم اعتبار القيد ، وفيه بعد التسليم انه لا ريب في رجحان الأول ، لأن هذه الرواية مع أن الشيخ قد رواها كما سمعت معارضة بما سمعت من خبر ابن يقطين المعتضد مع الأصل بالشهرة العظيمة بين الأصحاب ، وبما رواه عن الصادق عليه‌السلام « ان سؤر الحائض لا بأس أن يتوضأ منه إذا كانت تغسل يديها » ‌فلا ريب أن الأقوى ما عليه المشهور ، لكن ظاهر الأصحاب أن المكروه من الحائض المتهمة مطلق السؤر الشامل للوضوء وغيره ، والأخبار لا تدل على ذلك ، لنهيها عن الوضوء ، بل قد اشتمل بعضها على الاذن بالشرب منه ، والنهي عن الوضوء به ، كما في رواية عنبسة (١) ورواية الحسين بن أبي العلاء (٢) ورواية علي بن جعفر عليه‌السلام (٣) ورواية أبي هلال (٤) ، ومن هنا استشكل بعض متأخري المتأخرين في ذلك ، ولعل وجهه ـ بعد كونه مكروها يتسامح فيه ، وأنه كالمتفق عليه في المقام ، بل هو كذلك ـ ما يظهر من تعليق الحكم على المأمونية وجودا وعدما من التعليل ، خصوصا مع كونها من الأوصاف المناسبة ، فيتعدى حينئذ لمطلق السؤر ، مع أنه لو كان الحكم خاصا بالوضوء مع الاذن في غيره لجاء الفساد اليه لو كانت المباشرة بأعضاء الوضوء ، واحتمال التعبد بعيد عن الفهم ، والإذن بالشرب في تلك الأخبار مع النهي عن التوضؤ به لا ينافي الكراهة فيه بعد حمل النهي عن التوضؤ على شدة الكراهية ، فهذا مع انجباره بفهم الأصحاب وكون الحكم مما يتسامح فيه كاف في إثبات المطلوب ، بل منه يمكن استفادة الكراهة لكل متهم بمباشرة النجاسة ، كما يظهر من أطعمة السرائر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسئار ـ حديث ٨.

٣٨٠