جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كرافع الأكبر؟ قال : بكل قائل ، فعليه حينئذ تكون عشرة ، ويأتي تحقيق القول في ذلك إن شاء الله. (١)

وغاية ما يمكن ان يستدل به للقول بالنجاسة انه ماء قليل لاقى نجاسة فينجس ، وبما رواه (٢) في المعتبر والمنتهى وعن الخلاف عن العيص بن القاصم قال : سألته « عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء ، فقال إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه » ‌وبالحكم في كثير من الأخبار (٣) بإهراق الماء مع إصابة المتنجس له ، وبما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : « الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضأ به وأشباهه » ‌وربما يستدل له بالإجماع المدعى في التحرير ، قال : « متى كان على بدن الجنب أو الحائض نجاسة عينية كان المستعمل نجسا إجماعا » وفي المنتهى متى كان على جسد المجنب أو المغتسل من حيض وشبهه نجاسة عينية فالمستعمل إذا قل عن الكر نجس إجماعا ، بل الحكم بالطهارة مع الخلو عن النجاسة العينية ، وبالنهي (٥) عن استعمال غسالة الحمام.

والكل لا تخلو من نظر ، أما الأول فقد أثبتوا كبراه بالمفهوم من قوله عليه‌السلام (٦) « إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء » ‌وفيه أنه لا دلالة فيه على نجاسة الماء القليل بكل شي‌ء ، وعلى كل حال ، وكأنهم يفهمون ذلك منه لما هو مركوز‌

__________________

(١) وأنت خبير بما في هذا التعداد لهذه الأقوال ، لما عرفت أن الثاني ليس قولا لأحد ، كما أن القول بالطهارة مع عدم اشتراط الورود الذي نسب للشهيد قد عرفت ما فيه ، وغير ذلك فتأمل ( منه رحمه‌الله ).

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١٣ ـ مع اختلاف يسير.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المضاف.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١ و ٢ و ٥ و ٦.

٣٤١

في أذهانهم من نجاسة الماء القليل ، وإلا لو عرضت عليهم نظائر هذا التركيب لأنكروا على من فهم منها ذلك ، فإذا قال القائل مثلا إذا جاءك زيد فلا تكرم أحدا أترى أنه يفهم منه أنه ان لم يجئك زيد فأكرم كل أحد كلا ، ان مدعي ذلك مفتر ، نعم يفهم أنه إن لم يجي‌ء زيد فليس هذا الحكم ، وهو هنا مسلم ، فإنه ان لم يكن الماء قدر كر فليس له هذا الحكم ، وعدم هذا الحكم تارة يكون بالإيجاب الكلي ، وأخرى بالجزئي ، كما اعترف به الفاضل في نظير المقام ، على أن تقدير المفهوم على حسب غيره في المقام يقتضي ان غير الكر ينجسه شي‌ء ، وهو نكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم ، لا يقال : إنا نأخذ ذلك من الحكمة ، فإنه إن لم يحمل على هذا المعنى لزم اللغو في كلام الحكيم ، لأن الحمل على بعض دون بعض ترجيح من غير مرجح ، ولا عهد ، فوجب الحمل على العموم ، وفيه ـ مع فساده في نفسه من وجوه مذكورة في محلها ـ انه ان حكم بذلك فإنما يحكم به بعد العلم بأنه جاء الشارع بهذا الخطاب لإفادة ذلك ، فإنه قد يكون حينئذ قرينة عقلية على ذلك ، ودعوى حصوله في المقام ممنوعة ، إذ لعله جي‌ء به لبيان عموم حكم المنطوق ، كما يظهر من بعض الأخبار (١) المتضمنة للسؤال « عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء فقال : كر » ‌ونحوها غيرها.

ولقد أجاد المقدس البغدادي في محصوله ، حيث أنكر دلالة مثل الشرط الذي يراد العموم من منطوقه على المفهوم ، كقوله‌

« متى تأته تعشو الى ضوء ناره

حيث ما تراه تجده مشغولا »

ونحوهما ، وإن كان هو في بعض المواضع لا يخلو من نظر ، ومع ذلك فالشك كاف في المطلوب ، ومن هنا ظهر لك وجه ما وقع من بعضهم من منع كلية الكبرى في المقام ، مع استدلالهم بالمفهوم على نجاسة الماء القليل ، وذلك لأنه لا كلام في كون هذه الأخبار دالة على التنجيس بغير التغير ، فيستدل بها حينئذ على المنكر لذلك كابن أبي عقيل ، وأما أن التنجيس بكل شي‌ء وعلى أي حال فلا دلالة فيها ، ومن هذه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

٣٤٢

الجهة التجه لهم منع كلية الكبرى. نعم قد يقال أن المتتبع لكثير من الأخبار مضافا الى حكاية الإجماعات هناك على النجاسة يستفيد قاعدة ، وهي ان ماء القليل ينجس بالملاقاة ، لكن ذلك معارض بأنه أيضا يستفاد من تتبع الأخبار وكثير من الإجماعات في غير المقام قاعدة ، هي أن المتنجس لا يطهر ، بل مما دل على نجاسة القليل نفسه ، لأن معناها لا ترفع حدثا ولا تزيل خبثا ، مضافا الى ظهور كون الماء طهورا المراد به الطاهر في نفسه المطهر لغيره في طهارته حال مطهريته ، فتأمل جيدا فإنه دقيق جدا. ودعوى أنه لم يعلم كونها شاملة لمثل المقام ليس بأولى من دعوى أنه لم يعلم شمول القاعدة الأولى له ، على أن القاعدة لا يلاحظ دليلها الدال عليها في خصوص كل مورد ، وإلا لم تكن لها ثمرة ، فما وقع من بعض متأخري المتأخرين من منع شمول عدم تطهير المتنجس لمثل المقام انما المعلوم في المتنجس سابقا ، لا فيما حصل التطهير به ، لعدم حصول الإجماع في المقام ليس في محله ، وليس بأولى من تقريره أيضا في الماء القليل حرفا بحرف ، بعد أن عرفت فساد دلالة المفهوم ، وربما يرشد الى عدم النجاسة بالورود ما في كشف اللثام في المطهرات في شرح قول العلامة ينبغي في الغسل الورود ، فلو عكس نجس الماء ، ولم يطهر المحل ، قال بعد أن نسب اشتراط الورود للمرتضى وابن إدريس : « وانما لا ينفعل مع الورود للحرج والإجماع » انتهى ، اللهم إلا ان يحمل منه ذلك على عدم نجاسة العالي بالسافل ، وفيه بعد أو منع ، أو على أن ماء الغسالة ما انفصل من المغسول دون ما كان فيه ، وقد يقال أيضا : ان الماء المغسول به يتنجس بأول المباشرة ، فهو بالنسبة الى الأجزاء الأخر متنجس سابق ، فتأمل جيدا.

ولا ينافي ما ذكرنا من القاعدة خروج أحجار الاستنجاء ، وإلا لنا في قاعدة القليل خروج ماء الاستنجاء وغيره ، على أن التطهير بأحجار الاستنجاء انما هو يكون المراد بزوال العين بها نحو زوالها مثلا في الحيوان ، وفرق واضح بينه وبين التطهير بالماء ، ومما يرشد أيضا الى كون القاعدة محكمة في غاية الاحكام ، بل هي في الحقيقة بعض‌

٣٤٣

لوازم نجاسة القليل ، والإجماعات عليها في غير المقام أكثر من أن تحصى ، وتحصيلها من تتبع الأخبار واضح ، ان مثل العلامة وغيره ممن أذعن لهم أهل هذا الفن بالتحقيق لم يجسر على إنكارها بعد أن أوردها دليلا للمرتضى ، بل قال إنا نمنع الملازمة فنقول : بطهارة الماء في المحل ، ونجاسته بعد الانفصال ، ومن هنا قال المحقق الثاني : « إن فيه اعترافا بالعجز عن دفع ما استدل به من مكان قريب » وهو في غاية الجودة ، فإن القول بنجاسة القليل الملاقي للنجاسة بعد مفارقتها لا يعقل وجهه ، والتزام الطهارة حينئذ أولى وأولى.

إذا عرفت ذلك فالظاهر أن الترجيح لهذه القاعدة لوجوه إن لم نقل أنها أخص من قاعدة نجاسة الماء القليل ، وإلا كانت محكمة عليها على حسب غيرها ( منها ) ما تقدم في صدر البحث. ( ومنها ) عدم وجود أثر لها هاهنا فيما وصل إلينا من الأخبار بالخصوص مع عموم البلوى والبلية بها ، واشتمالها على كثير من فروعها الدقيقة ، مثل القطرات ويد المباشر ونحوهما ، ولذلك قال : في الذكرى والعجب خلو كلام أكثر القدماء عن الغسالة مع عموم البلوى بها. ( ومنها ) تأيد هذه بأصل البراءة وأصل الإباحة وأصل الطهارة واستصحابها. ( ومنها ) ما قد عرفت من ان ابن إدريس نسب ما قاله المرتضى الى الاستمرار على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب. ( ومنها ) أن هذه القاعدة لم يعثر على تخلفها بالنسبة إلى المياه أبدا ، بخلاف الأولى ، فإنه قد تخلفت في بعض هو محل وفاق ، كالاستنجاء وماء المطر والجاري ، وآخر محل خلاف ، كالحمام ونحوه. ( ومنها ) أن قاعدة ( المتنجس ينجس ) القاضي بتنجيس القليل به في المقام استنباطية ، ولم يعلم شمولها لمثل المقام ، مع تخلفها عندهم هنا ، فان الماء عندهم نجس ، ولا ينجس الثوب مثلا به ، فان كان لم يعلم شمول القاعدة لمثل المقام فلا يعلم شمول قاعدة أن المتنجس ينجس للمقام حتى ينجس الماء بالثوب. ( ومنها ) عسر التحرز عنها في كثير‌

٣٤٤

من المقامات بالنسبة إلى جريانها الى غير محل النجاسة ، وبالنسبة إلى مقدار التقاطر ومقدار المتخلف ونحو ذلك ، والقول بان مدار ذلك على العرف لا أثر له في الأدلة الشرعية ، ولو تأمل الناظر في عمل القائلين بالنجاسة وكيفية عدم تحرزهم عنها لقطع بان عملهم مخالف لما يفتون به ، بل لو اتفق ان بعض الناس صب على فمه وبقي يهز رأسه لقطع ماء الغسالة المتخلف في شعر شاربه ولحيته ومنخره لعدوه من المجانين ، بل من المخالفين لشريعة سيد المرسلين ، بل هؤلاء الحاكمون بالنجاسة لا ينتظرون شيئا من ذلك ، ويبقى يتقاطر على ثيابهم ، بل لعل المتخلف الذي يتساقط عليهم أكثر من الذي انفصل بمراتب شتى. ( ومنها ) ما ورد (١) « عن الثوب يصيبه البول فينفذ الى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو ، قال : اغسل ما أصاب منه ، ومس الجانب الآخر ، فان أصبت شيئا منه فاغسله ، وإلا فانضحه ».( ومنها ) انه من المستبعد جدا أنه ماء واحد المنفصل منه نجس ، والثاني طاهر من غير دليل يقتضيه ، بل قيل أنه غير معقول. ( ومنها ) أنها مؤيدة بأخبار الاستنجاء (٢) فإنه لم يظهر من شي‌ء منها ان ذلك لخصوصية في الاستنجاء ، بل في بعضها (٣) « أوتدري لم صار لا بأس به ، قلت : لا والله ، فقال : إن الماء أكثر من القذر » وفي بعضها (٤) « أستنجي ثم يقع ثوبي فيه وأنا جنب ، فقال : لا بأس به ». ( ومنها ) رواية الذنوب (٥) الى غير ذلك من رواية عبد الله بن سنان (٦) وغيره ، ومن صحيح (٧) ابن مسلم الوارد في غسل الثوب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ٢ مع اختلاف يسير.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٤.

(٥) سنن البيهقي ـ ج ٢ ص ٤٢٨.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١٣.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

٣٤٥

في المركن مرتين ، وتسمعه في آخر المبحث إن شاء الله ، وتعرف انه لا يتم إلا على القول بطهارة الغسالة ، كما اعترف به في الذخيرة ، ضرورة أن المراد بالمركن الإناء الذي يغسل به الثياب ، وبناء على نجاسة الغسالة لا ريب في نجاسة الثوب بالإناء المباشر بماء الغسالة ، بل وبما يخرج من الثوب بالغمز ونحوه ، بل وبغير ذلك مما لا يمكن الالتزام به بناء على نجاسة الغسالة ، بخلاف القول بالطهارة ، فلاحظ وتأمل. ( ومنها ) رواية الصب (١) في بول الصبي. ( ومنها ) ان ارتفاع النجاسة عن هذا الماء من غير رافع لها غير معقول إلا بدليل ، والإطلاقات لا تقتضيه ، إذ قد تكون مبنية على الظهارة ، والحاصل انه مناف لكثير من القواعد الشرعية ، كالتطهير بالمتنجس ، واختلاف أجزاء الماء طهارة ونجاسة ، وحصول الطهارة للنجس بغير مطهر ، وغير ذلك.

وربما أيد القول بالنجاسة ـ مقابل تأييد الطهارة بما عرفت ـ بما دل على تعدد الغسل (٢) وإهراق الغسلة الأولى من الظروف (٣) وفيه أنه لا إشعار بذلك في شي‌ء منهما ، فان تعدد الغسل ليس لإخراج الغسالة ولا الإهراق ، بل هو للتعبد ، والإهراق انما هو ليغسل مرة أخرى ، ولذلك لا نوجب التعدد في كل نجاسة حكمية كانت أو عينية ، وإلا فالثاني أيضا ماء غسالة ، وهكذا وهو لا معنى له ، نعم قد يؤيد القول بالنجاسة بما ورد من وجوب العصر ، فإنه يستبعد ان يكون للتعبد ، بل الظاهر منه انما هو لإخراج الغسالة ، لكن فيه أيضا أنه قد يكون لإخراج عين النجاسة لا الغسالة ، وقد يكون لدخوله في مفهوم الغسل ، ويأتيك تحقيق القول فيه إن شاء الله.

وربما أيد بالاحتياط ، وفيه أن الاحتياط تارة يكون فيه ، وأخرى بالطهارة ، لا يقال : ان النجاسة مؤيدة بفتوى المشهور ، وهي أرجح من جميع ما ذكرت من المؤيدات ، لأنا نقول : لم تثبت شهرة على الإطلاق ، بل هي بين المتأخرين ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب النجاسات وغير ذلك من أبوابها.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب النجاسات وغير ذلك من أبوابها.

٣٤٦

بل قد عرفت ان المنقول عن أكثر المتقدمين خلافه ، ومع ذلك فهي معروفة المستند ، ولا أقل من تصادم جميع ما ذكرنا ، ويبقى أصل الطهارة واستصحاب طهارة الملاقي وغيرهما سالما ، ولذا اعترف في الذكرى بأنه لم يبق دليل سوى الاحتياط ، كالمحقق الثاني حيث قال : والعمل على المشهور بين المتأخرين ، وقوفا مع الشهرة والاحتياط ، هذا. وأنت خبير ان قضية ما ذكرنا من القاعدة تخصيص الطهارة بالغسلة التي يحصل الطهارة للمحل بها ، لأنها هي المورثة للمحل طهارة ، فلا تكون نجسة وأما ما تقدمها حيث تكون لا تفيد المحل طهارة فلا تجري فيها القاعدة ، فيكون من قال : بالطهارة مطلقا بل طهارة مطلق الوارد وإن كان في غير مقام التطهير لهذه القاعدة غير متجه ، لعدم اقتضاءها ذلك ، فتكون أخص من الدعوى ، بل يظهر من المنتهى ان محل النزاع فيما ذكرنا من الغسلة التي تحصل طهارة المحل بها ، فيمكن حينئذ إرجاع كلام الشيخ في الخلاف على ما نقل عنه من نجاسة الغسالة الأولى دون الثانية اليه ، ولعل وجه من قال بطهارة الجميع أنه الذي أفاد طهارة المحل لا الأخير فقط ، كما يظهر من استدلال الشيخ المنقول عنه في الخلاف للحكم بطهارة غسالة إناء الولوغ من غير فرق بين الأولى والثانية والثالثة مضافا الى ما ذكرنا من أصل الطهارة ، وتسمع إن شاء الله تمام الكلام.

( وأما الدليل الثاني ) وهو رواية العيص (١) فهي ـ مع كونها مضمرة ومقطوعة ، ورواية المعتبر له مع حكمه بضعفها لا تورثها شيئا ، وأما رواية المنتهى لها فمن المقطوع انه تبع بها الشيخ ، وكون الشيخ يروي عن العيص في بعض كتبه بطريق حسن لا يقضي بروايته عنه في غيره كذلك ، واحتمال أنه أخذها من كتابه مع كونه معتمدا عنده بطريق معتبر معارض باحتمال عدمه ، مع احتمال إرادة الوضوء ما كان متعارفا من أحوال بعض المرضى انه يؤتى له بطشت فيبول فيه ويتغوط ويستنجي فيه ، فقد يكون إنما أمره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١٤.

٣٤٧

لذلك ـ غير دالة على تمام المدعى حتى تنافي ما ستسمعه مما نختاره إن شاء الله ، بل قد تكون شاهدا لنا.

( وأما الثالث ) فلأن القائل بالطهارة يشترط ورود المطهر ، بل والقائل بالنجاسة ، نعم يظهر من الشهيد في الذكرى خلاف ذلك ، ولعله يقول حينئذ بنجاسة الغسالة وإن ظهر منه الميل إلى الطهارة هنا ، لكن يخص ذلك بورود المطهر لا العكس ، فيحكم حينئذ بطهارة الأجمع ، ونجاسة الماء للأمر بالإهراق ، والتحقيق أن الورود شرط كما يأتي إن شاء الله ، على أن هذه الأخبار محتملة لأن يكون أصابها عين القذر من غير تحقق للغسل ، وأما إجماع المنتهى والتحرير فلا يدلان على تمام المطلوب ، بل هما خاصان بالنجاسة العينية ، وهما غير منافيين لما ستسمعه من المختار ، وأما رواية عبد الله بن سنان فهي إن لم يكن فيها إشعار بالعدم فلا دلالة فيها على الدعوى ، وأما النهي عن غسالة الحمام ففيه ـ مع معارضته ببعض الأخبار المتضمنة لنفي البأس ـ ان كثيرا منها نهت عن الاغتسال فيها معللة ذلك بأنه اغتسال الجنب والناصب وولد الزنا واليهودي والنصراني ونحو ذلك ، بل قد يشعر من عدم ذكر التعليل في شي‌ء منها بغسل النجاسات بعكس الدعوى ، وقد بان لك من جميع ما ذكرنا حجة القول بالطهارة مطلقا ، وحجة القول بطهارة الغسلة الأخيرة التي تحصل طهارة المحل بعدها ، والمنقول عن الشيخ من التفصيل بطهارة غسالة إناء الولوغ ، لما ذكرنا من أدلة الطهارة ، ونجاسة الأولى من غسالة الثوب ، لخبر العيص ونحوه من أدلة النجاسة ، وطهارة الثانية للأصل ، فتأمل.

والأقوى في النظر الحكم بطهارة الغسالة مطلقا ، من غير فرق بين الأولى والثانية نعم يشترط أن لا يكون الغسلة التي فيها زوال عين النجاسة ، بناء على عدم مدخليتها بالتطهر حتى يلتزم بطهارتها ، لما سمعته من القاعدة المنجبرة بما عرفت. لا يقال : ان مقتضى ما ذكرت من القاعدة أن تخص الطهارة بالأخيرة فقط ، لأنها هي التي حصلت الطهارة بها ، لأن الظاهر ان كل جزء منها سبب والطهارة تحصل بالمجموع ، وما يقال :

٣٤٨

ان النجاسة إن كانت عينية ثم غسلتها مرة واحدة فإن الظاهر الطهارة ، مع ان مقتضى التقييد السابق العدم يدفعه إمكان دعوى عدم حصول الطهارة حتى تزال العين ويتعقبه غسل ولو بالاستمرار ، فحينئذ المطهر الغسل المتعقب وذاك الذي نلتزم بطهارته ، ولعله لذا جعل المنتهى محل النزاع الغسلة التي يحصل طهارة المحل بعدها دون غسلة الإزالة ، بل لعل إجماع التحرير والمنتهى المتقدم شاهد على ذلك ، كما يومي تقييدهما محله بالنجاسة العينية بل ربما يحمل خبر العيص على ذلك أيضا ، بل لعل كلام ابن إدريس المتقدم في مسألة الولوغ يرجع إليه أيضا ، بل وكلام الشيخ في الخلاف في تطهير الثياب.

فحاصل الكلام بناء على ذلك ان الغسل الذي يفيد المحل طهارة انما هو المتأخر عن إزالة النجاسة ولو بالاستمرار ، فالملتزم طهارته فقط ، لأن التطهير انما حصل به ، دون الغسل الذي أزال العين ، فإنه لا مدخلية له فيه ولذلك لا يتوقف زوال العين عليه ، بل يحصل بالبصاق والمضاف ونحوهما ، فلو فرض حينئذ غسل أي إجراء واحد من غير تعقب لآخر لا باستمرار ولا بغيره وكانت النجاسة عينية فالظاهر انا لا نلتزم بطهارة المحل ، بل نقول ببقاء النجاسة إلى حصول غسل آخر ولو باستمرار الصب ، نعم لو قلنا بالاجتزاء بما ذكرت لكان لا بد من الالتزام بطهارة ذلك ، مع أنه لا بأس بالتزامه إذا فرض استهلاكه لعين النجاسة ، بل وإن لم يستهلك نحو ماء الاستنجاء ، بل الظاهر لزومه لكن من قال : بطهارة الغسالة. لا يقال : انه قد ينفصل الماء متغيرا بلون النجاسة ومع ذا تحقق اسم الغسل به ، والتزام طهارته هنا حينئذ خرق للإجماع فطهر المحل حينئذ مع نجاسة غسالته ، لأنا نقول : نمنع حصول طهارة المحل بذلك ، بل لا بد من تحقق غسل آخر بعده بغيره ولو بالاستمرار ، نعم لو فرض تغيره بعد تحقق مسمى الغسل به كان لا بأس بالتزام نجاسته ، وطهارة المحل به قبل التغير ، فتأمل جيدا فإنه دقيق ، ويأتي له في غسل النجاسات تتمة إن شاء الله تعالى.

فان قلت : لم لم نلتزم بما التزم العلامة من الحكم بالطهارة ما دام في المحل فإذا انفصل‌

٣٤٩

نجس ، قلت : هو مع كونه منافيا للاستصحاب مستلزم لتخلف المعلوم عن العلة ، ووجوده بدونها ، وذلك لأنه عند حصول سبب النجاسة وهي الملاقاة للمتنجس لا ينجس ، وعند عدمها ينجس ، ودعوى أن الملاقاة الأولى تؤثر تنجيسا في الحال والاستمرار ارتفع الأثر في الحال لمانع ، فيبقى الباقي لا يخفى ما فيها من السخافة ، كاحتمال أن ماء الغسالة لا يظهر أثر نجاسته إلا إذا انفصل ، فما دام غير منفصل ليس بنجس ، فيكون حاله كحال ما في البواطن أما أولا فلأن الشي‌ء تلاحظ طهارته ونجاسته بالنسبة إلى نفسه ، وإلا لجرى ما قال في المباشر للثوب النجس من الماء المضاف ونحوه ، وأما ثانيا فلأن من جملة آثار نجاسته عدم حصول التطهير به للمغسول ، وحصوله على تقدير الطهارة عند من ذهب الى ذلك ، بل مما يمكن أن يلزم به القائلون بالنجاسة أن الأخبار قد دلت على حصول الطهارة بمجرد حصول الغسل المتحقق قبل حصول الانقطاع ، فان كان هذه الأوامر أفادت طهارة المتخلف فلتفد الطهارة قبل تحقق الانقطاع ، لتحقق مسمى الغسل القاضي بطهارة المغسول الذي يلزمه عندهم طهارة ما معه ، فتأمل. وأظنك تكتف بما ذكرنا بالنسبة الى هذه المسألة ، والله أعلم بحقيقة الحال ، وانظر الى ما قيل ولا تنظر الى من قال ، وطريق الاحتياط غير خفي.

ثم ان هناك نزاعين آخرين أحدهما بين القائلين بالطهارة ، والآخر بين القائلين بالنجاسة ، ( أما الأول ) فقال في المدارك : « اختلف القائلون بعدم نجاسة الغسالة في أن ذلك هل هو على سبيل العفو بمعنى الطهارة دون الطهورية ، أو تكون باقية على ما كانت عليه من الطهورية ، أو يكون حكمها حكم رافع الحدث الأكبر؟ فقال بكل قائل ، والمراد بالآخر أنه رافع للخبث دون الحدث » انتهى. وكيف كان فالأقوى في النظر عدم جواز رفع الحدث به ، لما رواه عبد الله بن سنان ، وللإجماع في المعتبر والمنتهى ، ويلحق به المبيح وإن لم يرفع حدثا ، وأما رفع الخبث فقد اعترف به بعض القائلين بالطهارة ، لعدم ما يدل على خلافه ، إذ ما عرفت من الإجماع انما هو على رفع الحدث‌

٣٥٠

به ، بل قد يؤيده الاستصحاب ، لكن الأقوى في النظر العدم ، لاستصحاب بقاء الخبث ، وما عساه يظهر من رواية عمار (١) الواردة في كيفية تطهير الإناء والكوز « كيف يغسل ، وكم مرة يغسل؟ قال : يغسل ثلاث مرات ، يصب فيه الماء فيحرك فيه ، ثم يفرغ منه ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ، ثم يفرغ ذلك الماء ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ، ثم يفرغ منه وقد طهر » ‌فإن أمره عليه‌السلام بإفراغه ، وصب ماء آخر فيه غيره يشعر أنه لا يزيل خبثا ، وإلا لأمكن غسل الإناء ثلاث مرات بذلك ، بل من غير إهراقه ، ويتحقق الفصل بين الغسلات بالسكون بينها يسيرا ، ولا ينجس بالسكون ، لأن الغرض الطهارة ، بل قد يدعى أن الأوامر بصب الماء ونحوه لا تشمل الماء المستعمل في إزالة الأخباث ، كما أنه قد يقال ان ذلك نوع جمع بين القاعدتين المتقدمتين ، بل قد يقال : ان القول برفع الخبث به دون الحدث خرق للإجماع المركب ، ومثل هذا النزاع يجري على القول بالنجاسة أيضا في المتخلف من الماء في الثوب والبدن ، ضرورة جريان الاحتمالات الثلاثة ، فيه ، لكن لعل المتجه على مذهبهم القول بأنه طاهر لا يرفع حدثا ولا خبثا ، وذلك لأن القاعدة تقضي بتنجيسه ، لكن لمكان العسر والحرج والمشقة التزم بالطهارة ، مضافا الى الأدلة الحاكمة بها بعد الغسل ، فاللازم الاقتصار على مقدار ما تندفع به الضرورة ، وهو الطهارة دون المطهرية ، ومنه يظهر لك كل من وجهي الاحتمالين الآخرين.

( وأما النزاع الثاني ) وهو على تقدير القول بالنجاسة فهل هي كالمحل قبل الغسل ، أو قبلها أو يكفي فيها مطلق الغسل؟ وجوه بل أقوال ، فعلى الأول يجب التعدد فيما وجب فيه ذلك ولو كان من الأخيرة ، وعلى الثاني تنقص كلما تنقص ، وعلى الثالث يكفي المرة الواحدة ، ولعل وجه الأول أنه نجاسة لم يعرف لها مقدار من الشرع ، فالاستصحاب ثابت ، ولا نتيقن الطهارة إلا بذلك ، واحتمال الزيادة نقطع بعدمه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

٣٥١

لأنها لا تزيد على الأصل ، ولأنها اشتملت على النجاسة التي في المحل ، فلا يزيلها إلا ما يزيلها ، والثاني انه لا ريب بضعف نجاسة المحل في الثانية والثالثة ، ومعنى ضعف النجاسة عدم تعدد الغسل ، وأيضا نجاسة المحل بعد الغسل الأول تنتقل الى مثل النجاسة التي وجب بها غسل واحد ، والفرع لا يزيد على الأصل والثالث أصالة البراءة ، وإطلاق ما دل على غسل النجس ، وخبر العيص ، فإنه أمره بالغسل ، وهو للطبيعة مع ترك الاستفصال ، واشتماله على متعدد الغسل ، وفي الروضة « ان الثاني انما يتم فيما يغسل مرتين لا لخصوص النجاسة ، أما المخصوص كالولوغ فلا لأن الغسالة لا تسمى ولوغا ، ومن ثم لو وقع لعابه في الإناء بغير الولوغ لم يوجب حكمه » انتهى. ومنه ينقدح الاعتراض على الأول ، لا يقال : عليه أن الغسل المتعدد في سائر النجاسات معلق على اسم غير حاصل بالغسالة ، كالبول ونحوه لأنا نقول : الظاهر بقرينة مثاله أن مراده أن تعدد الغسل في الولوغ لمعنى ليس موجودا في الغسالة ، إذ ليس هو اللعاب الموجود فيها ، وانما هو حكم شرعي لمجرد الولوغ ، وهو غير حاصل في الغسالة بخلاف البول وغيره ، فان فيه عينية ، فيتبعها الغسالة.

والحاصل يرجع كلامه الى أن الغسالة لمجرد تعبد شرعي ، لا لوجود عين نجاسة تختص بالاسم الذي تعبد به الشارع ، دون النجاسة العينية فإنها وإن زالت العين لكن الحكم مستند إليها بخلاف الولوغ ، فإنه ليس راجعا لمعين ، لما عرفت من أن تعدد الغسل ليس للعاب ، ويحتمل أن يريد بقوله انما يتم الى آخره ان ذلك يتم على مذهب من يقول بوجوب الغسل مرتين في كل نجاسة ، لا لخصوص نجاسة ، ولا يخفى ما فيه من البعد ، وبما وجهنا به الدليل الأول تعرف دفع ما عساه يورد عليه أن الغسالة لم تكن داخلة تحت اسم ما ورد التعدد فيه ، لما عرفت أنه لم يأخذه من ذلك ، بل مما قدمناه فلا يتجه عليه ما ذكر نعم الظاهر انه إن كان المستند في النجاسة انما هو خبر العيص عندهم فالمتجه الأخير ،

٣٥٢

وإلا كان الأول قويا وإن كان الثاني أقوى في النظر ، ومن هنا تعرف عدم اعتمادهم على خبر العيص ، فإنه لم ينقل الاكتفاء بالمرة إلا عن صاحب المعالم ، ونقل أنه نقله عن بعض المعاصرين ، نعم في مفتاح الكرامة أنه قواه الأستاذ ، وإلا فعن الروض ان الشهيد في جميع كتبه ومن تأخر على الثاني ، ولم ينقل الأول إلا عن العلامة في نهاية الأحكام وظاهر القواعد والإرشاد ، مع أنه لم يظهر لي الاستظهار المذكور ، فلاحظ وتأمل هذا. وفي المنتهى إذا غسل الثوب من البول في إجانة بأن يصب عليه الماء فسد الماء ، وخرج من الثانية طاهرا اتحدت الآنية أو تعددت ، واحتج لذلك بوجهين ، أحدهما انه قد حصل الامتثال بغسله مرتين ، وإلا لم يدل الأمر على الاجزاء ، الثاني ما رواه الشيخ رحمه‌الله في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : سألته « عن الثوب يصيبه البول ، قال : اغسله مرتين في المركن ، فان غسلته في ماء جار فمرة » ‌وفي الذخيرة « أنه قد يستشكل الحكم بطهارة الثوب مع الحكم بفساد الماء المجتمع تحته في الإجانة ، سيما بعد حكمه بنجاسة الماء بانفصاله عن المحل المغسول ، فان الماء بعد انفصاله عن المحل المغسول يلاقيه في الآنية ، فيلزم تنجيسه ، وقد يتكلف في حله بان المراد بالانفصال خروجه عن الثوب والإناء المغسول فيه ، تنزيلا للاتصال الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول ، للحديث المذكور ، ثم قال : ولا يخفى أن بناء هذا الخبر على طهارة الغسالة أولى من ارتكاب هذا التكليف ، فان ذلك انما يصح إذا ثبت دليل واضح على نجاسة الغسالة ، وقد عرفت انتفاءه » قلت : هو في غاية الجودة.

ولا فرق بناء على نجاسة الغسالة بين سائر الغسالات عدا ماء الاستنجاء فإنه طاهر لا ينجس ما يلاقيه إجماعا تحصيلا ومنقولا نصا وظاهرا على لسان جملة من علمائنا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

٣٥٣

ونصوصا معتبرة مستفيضة ، ( منها ) حسنة الأحول (١) قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء ، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به ، فقال : لا بأس » وعن علل الصدوق (٢) أنه روى عن أبيه يسند إلى الأحول فيه إرسال ، أنه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : « الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به ، فقال : لا بأس ، فسكت فقال : أو تدري لم صار لا بأس به ، قال : قلت : لا والله ، فقال : إن الماء أكثر من القذر » ‌( ومنها ) خبر محمد بن النعمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : قلت له : « أستنجي ثم يقع ثوبي فيه وأنا جنب ، فقال : لا بأس » ‌( ومنها ) خبر عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (٤) قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجس ذلك ثوبه؟ فقال : لا » ‌وما في سند البعض منجبر بما سمعت ، والتعدية لغير الثوب بالتنقيح للإجماع ان لم نقل أنه يفهم ذلك من مثله ، أو ان هذه النصوص مؤكدة لما نقول من طهارة الغسالة ، خصوصا بعد عدم الإيماء في شي‌ء منها إلى اختصاص هذا الفرد بالخروج من قاعدة نجاسة القليل ، بل فيها الإيماء إلى خلافه ، كالتعليل المزبور الجاري في أكثر أفراد الغسالة الذي مرجعه الى أن ماء الغسل أكثر من القذر ، والفرض طهارته ، لأنه ماء غسالة ، فإذا وقع الثوب فيه لم يعلم المصاحبة بشي‌ء من أجزاء القذر.

وكيف كان فربما ظهر من الذكرى وغيرها وقوع الخلاف في أنه على سبيل العفو أو هو طاهر؟ قال : « وفي المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة انما هو بالعفو ، وتظهر الثمرة في استعماله ، ولعله أقرب. لتيقن البراءة بغيره » ولعله عثر على غير ما عندنا وعند صاحب المدارك والحدائق من نسخ المعتبر ، أو عثر عليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٥.

٣٥٤

في مقام آخر ، وإلا فالموجود فيما عندنا وأما طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين ، وقال علم الهدى في المصباح : « لا بأس بما ينضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن » وكلامه صريح في العفو ، وليس بصريح في الطهارة ، ويدل على الطهارة ما رواه الأحول ، ثم قال بعد نقلها : ولأن في التفصي عنه عسرا ، فيسوغ العفو دفعا للعسر ، ولا يخفى على المتأمل في أول كلامه أنه قائل بالطهارة ، ولعل تعليله الأخير مبني على ان أصل الطهارة فيه دفعا للعسر ، وكثيرا ما يقع منهم الاستدلال بهذه العبارة لهذا المعنى ، لكن قد يكون الشهيد فهم ذلك لهذا التعليل ، أو لأن المحقق فهم من عبارة المرتضى المتقدمة العفوية حتى قال ما سمعت ، وعبارة الروايات مثلها ، لنفي البأس في حسنة الأحول ، وعدم التنجيس في رواية عبد الكريم بن عتبة فلعل مراده بقوله ويدل على الطهارة ما يشمل العفو ، فتأمل جيدا.

وكيف كان فالظاهر وجود الخلاف في ذلك وان كان في استظهاره من عبارة المرتضى اشكال ، بل يظهر من المنتهى على وجه كصريح الشهيد وظاهر جماعة العفو ، وصريح آخرين الطهارة ، وقد عرفت مما تقدم من الذكرى أنه على تقدير العفو لا يسوغ استعماله ، بخلاف الثاني ، ولعله الظاهر من العفو ، فلا يدخل تحت ما دل على اشتراط الطهارة فيه ، بل أقصاه أنه عفي عن حكم النجاسة بالنسبة للتنجس ونحوه ، لا عن أصل النجاسة حتى يلزمه الطهارة ، فلا يجوز التطهر به حينئذ من حدث أو خبث ، واحتمال أن يراد بالعفو أنه طاهر غير مطهر ، فيجوز استعماله على تقدير العفو في كل ما اشترطت الطهارة فيه ، كالأغسال المسنونة ونحوها ، نعم لا يجوز رفع الحدث والخبث خاصة ، بل تنحصر فائدة الخلاف في رفع الخبث ، للإجماع المنقول على عدم جواز رفع الحدث به في غاية الضعف ، لعدم ظهوره من كلام القائلين بالعفو ، فما ناقش به المحقق الثاني الشهيد غير متوجه ، قال : « اللازم أحد الأمرين ، إما عدم إطلاق المعفو عنه ، أو القول بطهارته ، لأنه إن جاز مباشرته من كل الوجوه لزم الثاني ، لأنه إذا‌

٣٥٥

باشره بيده ثم باشر به ماء قليلا ولم يمنع من الوضوء به كان طاهرا لا محالة ، وإلا وجب المنع من مباشرته نحو ماء الوضوء إذا كان قليلا ، فلا يكون العفو مطلقا ، وهو خلاف ما يظهر من الخبر وكلام الأصحاب » وفيه أنه لا مانع من تفسير العفو بأنه لا ينقض طهارة ما كانت طهارته سابقه ، فيجوز الوضوء بالماء المباشر باليد التي باشرته ، ولا يقضي ذلك بكونه طاهرا مزيلا للحدث رافعا للخبث ، فان كون المتنجس لا ينجس متصور لا يرده عقل بعد مجي‌ء الشرع به ، والحاصل أن معنى العفو يرجع الى أنه نجس عفى الشارع عن بعض أحكامه ، وبقيت الأحكام الأخر ، وليس في العقل ولا في الشرع ما يرد ذلك ، نعم لو خالط بعضه ماء قليلا أمكن عدم جواز الوضوء به ، لا للتنجيس ، بل لعدم اليقين بتحقق الغسل من غيره ، فان حصل قلنا به ، كما انا ان قلنا بتحقق الاستهلاك في مثله صح الوضوء به أيضا ، وان كان لا يخلو من إشكال ، لعدم ثبوت استهلاك القليل مثله ، مع احتمال القول به ، كما يظهر من بعض (١) أخبار المستعمل في غسل الجنابة ان قلنا بعدم جواز رفع الحدث به ، فإن أراد بجواز مباشرته من كل وجه هذا المعنى قلنا به ، وإلا فلا ، وقوله ان ذلك ينافيه كلام الأصحاب والأخبار واضح المنع ، كوضوح الفرق بين ما عفى الشارع عن أصل النجاسة فيه وبين عفو الشارع عن التنجيس به ونحوه ، والأدلة إنما يستفاد منها الثاني ، ومع ذلك كله فالأقوى خلاف ما ذكر الشهيد وان كان هو مقتضى الجمع بناء على نجاسة الغسالة بين ما دل على نجاسة القليل وبين نفي البأس ونحوه عما لاقى ماء الاستنجاء ، ولا ينافيه الاستدلال بالعسر والحرج ونحوهما لارتفاع ذلك بالعفو بالمعنى المتقدم ، لكن ظاهر نفي البأس وعدم التنجيس الطهارة ، كما في غير المقام ، بل هو الظاهر أيضا من إطلاق لفظ الطاهر في كلام كثير من الأصحاب ، بل لعله معقد بعض الإجماعات الصريحة أو الظاهرة ، ولذلك قال في المدارك بعد أن ذكر القولين : الأظهر الأول ، لأنه المستفاد من الأخبار ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف.

٣٥٦

ونقل عليه الإجماع ، وبذلك يخص ما دل على نجاسة القليل ، لكن قد سمعت الإجماع سابقا في ماء الغسالة من المصنف والعلامة أنه لا يجوز رفع الحدث بما يزال به النجاسة ، ويدخل فيه ذلك على إشكال ، فتنحصر الفائدة في غيره من رفع الخبث والأغسال المسنونة ووضوء الجنب والحائض ونحوها ، فما في المدارك من انحصار فائدة الخلاف في الأول لا يخلو من نظر ، وقد يستظهر من إطلاق النص والفتوى كما صرح به بعض عدم الفرق بين المخرجين ، ولا بين الطبيعي وغيره إذا كان معتادا ، ولا بين المتعدي وغيره ما لم يتجاوز بحيث يخرج عن مسمى الاستنجاء ، وما يقال من عدم شمول لفظ الاستنجاء لما يغسل به من البول ممنوع ، كما تقضي به بعض الأخبار في غير المقام ، مع أن الغالب في الاستنجاء من الغائط أن يكون معه استنجاء من البول ، وقل ما ينفك عنه ، فترك التعرض له في الأخبار مشعر بالمساواة في الحكم.

نعم يختص الحكم المذكور بما لم يتغير بالنجاسة على المشهور ، بل عن بعضهم الظاهر انه إجماعي ، لما دل (١) على نجاسة الماء بالتغير ، وليس ماء الاستنجاء أعظم من الكر والجاري ، بل ليس لنا ماء لا يفسد بالتغير ، ولذلك رجحت تلك الأدلة وان كان بينهما عموم من وجه ، وربما ألحق بعضهم بالتغير زيادة الوزن ، بل في سائر الغسالات ، ولعل المراد به وزنه قبل الاستنجاء به وبعده ، فان كان زائدا بعد الاستنجاء فهو نجس ، وهو ـ مع ما فيه من الحرج ، وكونه غير منضبط ـ مناف لإطلاق الأدلة ، أو تلاقيه نجاسة من خارج لظهور الأدلة في أنه لا بأس به من حيث خصوص هذه الإزالة ، كما يقضي بذلك ما اشتملت عليه من السؤال والجواب غير مستقل حتى يتمسك بعمومه أو إطلاقه ، لكن هذا في النجاسة الخارجة ، كالأرض النجسة ونحوها ، أما لو استصحب نجاسة داخلة غير الغائط من دم ونحوه ، أو متنجسا كبعض ما يخرج مع الغائط مما ليس منه مع تنجيس المقعدة بذلك ففيه وجهان ، من غلبة ذلك مع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق.

٣٥٧

عدم الاستفصال عنه ، ومن الاقتصار على المتيقن ، ومنع الغلبة في الأمزجة الصحيحة ، ولعله الأقوى ، ومن ذلك ما لو تنجس أحد المخرجين ببعض الأشياء الطاهرة لو كانت من داخل ، كالوذي الخارج بعد البول وبعض الرطوبات الخارجة من المعدة من مخرج الغائط بعد خروجه ، ولو تعدى ما يخرج منهما عن المحل مع اتصاله بما في المحل فهل يرتفع الحكم أصلا ، أو يكون الذي يرفع ما على المحل داخلا في الحكم وغيره خارجا؟ الظاهر الثاني إن كان الرافع لما على المحل مستقلا ، لدخوله في اسم الاستنجاء مع عدم سريان النجاسة ، وربما اشترط بعضهم زيادة على الشرطين السابقين خلو ماء الاستنجاء عن أجزاء النجاسة المتمايزة ، ولعله لذلك نقل عن الشيخ في الخلاف أنه فصل بين الغسلتين في الاستنجاء ، فحكم بنجاسة الأولى دون الثانية ، وللجمع بين هذه الأخبار وبين خبر العيص المتقدم ، وفيه أنه لا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، خصوصا مع غلبة ذلك في الاستنجاء ، كالمنقول عن بعضهم من اشتراط سبق الماء اليد ، فلو سبقت اليد تنجست ، وكانت كالنجاسة الخارجة ، نعم الظاهر أنه يعفى عن نجاسة اليد من حيث كونها آلة للغسل ، وإلا فلو تنجست بما في المحل لغرض آخر كانت في معنى النجاسة الخارجة ، ولو تنجست يده بإرادة الغسل ثم أعرض عنه لحدوث إيجاب له لا يبعد اللحوق بماء الاستنجاء ، وفي المقام فروع لا تخفى على المتأمل ، ومنها وغيرها يمكن استفادة قوة ما ذكرناه من كون ماء الاستنجاء أحد أفراد ماء الغسالة ، فيكون أخباره مؤكدة لذلك ، لا أنه مختص بالاستثناء منها كي يتجه الاقتصار فيه على المتيقن ، فيشكل الحال في جملة من الفروع على وجه ينافي حكمه الطهارة من الحرج ونحوه ، فلاحظ وتأمل لعل الله يهديك للصواب والله العالم.

( و ) الماء ( المستعمل في الوضوء طاهر ومطهر )

إجماعا محصلا ومنقولا نصا وظاهرا وسنة عموما وخصوصا ، من غير فرق بين المبيح والرافع ، ولا بين ما يستعمل منه في الغسل والمضمضة والاستنشاق وغيرها بشرط‌

٣٥٨

بقاء المائية ، وعن أبي حنيفة الحكم بنجاسته نجاسة ، مغلظة حتى لو كان في الثوب منه أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة به ، وعن أبي يوسف أنه نجاسة مخففة ، فيجوز الصلاة بما تقدم ، وكلام أبي حنيفة هو الأقوى بالنسبة إليهما ، وذكر الشهيد في الذكرى « أنه يستحب التنزه عن المستعمل في الوضوء ، قاله المفيد ، ولا فرق بين الرجل والمرأة ، والنهي عن فضل وضوءها لم يثبت » انتهى. ولعله لمكان كونه مستحبا يمكن أن يكون كما ذكر ، وإلا فلم نعثر على ما يقضي بذلك ، فتأمل.

( وما استعمل في رفع الحدث الأكبر ) حقيقة أو حكما كغسل الاستحاضة ( طاهر ) إجماعا بقسميه ، وسنة عموما وخصوصا ، والمراد به الماء المنفصل من بدن المحدث عند الاغتسال بالماء القليل ، بل لعل الظاهر المراد به المنفصل عن تمام بدنه ، وإلا فلو وقع من عضو الى عضو آخر مثل الرأس والجسد مثلا لا يكون بذلك مستعملا ، كما أن الظاهر انه إذا لم يستهلك بالماء الغير المستعمل ، ول قول أبي عبد الله عليه‌السلام (١) في خبر الفضيل بن يسار « في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء في الإناء : لا بأس ، ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) » ‌وفي خبر شهاب بن عبد ربه (٢) « في الجنب يغتسل ، فيقطر الماء من جسده في الإناء فينتضح الماء من الأرض ، فيصير في الإناء ، انه لا بأس بهذا كله » ‌ومن هنا نقل عن الصدوق انه مع منعه من استعمال المستعمل قال : « وان اغتسل الجنب فنزا الماء ، فوقع من الأرض في الإناء ، أو سال من بدنه في الإناء ، فلا بأس » وعن الشيخ رحمه‌الله أنه ذكر أكثر الروايات الدالة على ذلك ولم يتعرض لردها ولا تأويلها ، مع أنها مخالفة لمذهبه ، فعلم خروج مثل ذلك ، ولا معنى للقول بأنه ليس من المستعمل ، بل هو منه قطعا ، والقول باختصاص المستعمل بالمنفصل بعد تمام الغسل فيكون المنفصل من غسل العضو غير مستعمل حتى يحصل التمام في غاية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٦.

٣٥٩

الضعف ، كالقول باختصاص المستعمل بما يغسل به الجزء الأخير ، لأنه هو الذي يرتفع به الحدث ، بل عليه ترتفع فائدة النزاع حينئذ ، وعلى ما ذكرنا فلو نزا بعد الانفصال على البدن لا يجوز أن يكتفى بالغسل به ، بناء على عدم جواز رفع الحدث به ، ودعوى ظهور الروايتين بمقتضى التعليل في خروج ذلك عن المستعمل ممنوعة ، وعدم اجتناب ما في الإناء لا يقتضيه ، إذ لعله للاستهلاك ، وعدم ثبوت استهلاك القليل لمثله يدفعه أن مدار الاستهلاك على عدم صدق الاسم ، ولا ريب أنه لا يصدق حينئذ عليه أنه ماء استعمل في غسل جنابة ، على أنه لو سلم عدم ثبوت الاستهلاك في مثله فالمتجه العمل بمضمون الأخبار فيه وإن لم يثبت كونه استهلاكا ، لكن قد يقال : حينئذ أنه ليس بأولى من أن يستدل بهذه الأخبار على جواز استعمال المستعمل ، لا أنه خارج عن محل النزاع كما ذكر ، إلا أنه لا يخلو الاستدلال حينئذ عن نظر ، كما أشار إليه كاشف اللثام.

وكيف كان فبناء على ما تقدم لو ارتمس الجنب في ماء قليل وحصلت منه النية بعد اشتمال الماء على تمام بدنه صح غسله ، ويكون مستعملا بالنسبة إلى غيره بعد خروجه قطعا ، ولو ارتمس جنبان كذلك ارتفع حدثهما ، وكان مستعملا بالنسبة إلى غيرهما ، ولو اشتبه التقدم والتأخر فلا يبعد القول بصحة غسل كل واحد منهما في حقه ، للأصل ، ولو تقدم أحدهما بالنية وارتفع حدثه فهل يكون مستعملا حينه أو لا بد من الخروج والانفصال؟ الظاهر الأول ، ولو نوى المرتمس قبل كمال الانغماس فالظاهر أنه لا يكون مستعملا بمجرد الملاقاة ، بل يتوقف على رفع حدثه ، أما لو اغتسل في وسطه ترتيبا فالظاهر عدم ارتفاع حدثه إلا إذا حصل الاستهلاك للمتساقط ، أو قطع بحصول الغسل بغير المستعمل ، فتأمل جيدا.

وعلى ما ذكرنا من كون المستعمل خاصا بالمنفصل لو بقيت لمعة لم يصبها الماء جاز‌

٣٦٠