جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

فيه لو سلم ذلك في الأحكام لم يسلم في الموضوع ، كالجبن المحتمل حرمته ، والعبد المحتمل حريته ، ونحو ذلك.

( فان قلت ) أن ذلك كله يرجع إلى الشبهة الغير المحصورة ، وهي غير واجبة الاجتناب ، بخلاف ما نحن فيه. ( قلت ) أيضا نقول هنا ، فإنه بانكفاء أحد الإنائين رجع الموجود الى كونه شبهة غير محصورة ، لأوله إلى كونه نجسا أو غير نجس ، فلا فرق بينه وبين الجبن المحتمل حرمته. ( فان قلت ) هذا الإناء بنفسه كان واجب الاجتناب إما للمقدمة أو للأصل ، فما الذي أزال هذا الوجوب ، ( قلت ) : الذي أزاله هو زوال ما أوجبه ، وهو اليقين بحصول المكلف به الشخصي ، وقد زال فزال ذلك التكليف تبعا له.

( فان قلت ) كلام الأصحاب متفق على خلاف ما ذكرت قلت : لعلهم أخذوا ذلك من ظاهر أخبار المقام الآمرة بالإراقة الشاملة للاراقة الدفعية والتدريجية ، وبعد ذلك كله فالإنصاف أنه فرق بين ذلك وبين ما ذكرنا من أقسام الشبهة الغير المحصورة ، وذلك لدوران الجبن الخاص بينه وبين سائر الأفراد منه ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنه دائر بين أن يكون هذا النجس أو الذي انكفى ، فهو وإن لم يعلم وجود المكلف به شخصا ، لكن التكليف بالكلي موجود ولا يحصل اليقين بامتثاله إلا بذلك ، ولا عسر ولا حرج فيه ، فيشك أيضا في شمول الأدلة له أيضا ، كما ذكرنا سابقا ، ومن هنا ينقدح طريق آخر في تقرير المقدمة غير الطريقين السابقين ، بان نقول أن الشارع كلفه باجتناب النجس منهما ، وكان مبهما بالنسبة اليه ، ولا يتم اليقين بامتثال هذا التكليف إلا باجتناب الباقي منهما ، ولعله يرشد إلى ذلك الأخبار الآمرة (١) بوجوب غسل الثوب جميعه عند العلم بحصول النجاسة فيه وعدم العلم بمكانها خصوصا ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب النجاسات.

٣٠١

فإنها لم تكتف بغسل بعض يحتمل كونه هو النجس ، مع أنه بذلك ينقطع باب المقدمة ، فتأمل جيدا جدا.

ولعلك بما ذكرنا ينكشف لك الكلام فيما لو اشتبه أحد الإنائين المشتبهين بمتيقن الطهارة ، فإنه صرح العلامة في المنتهى بوجوب الاجتناب فيه ، وما عن صاحب المعالم من الاعتراض عليه من أن ذلك خارج عن النص ومحل الوفاق ، فلا بد له من دليل فيه ما لا يخفى بعد ما سمعت ما تقدم ، وكأنه هذا الكلام منه بناء على ان مسألة الإنائين خارجة بالنص لا من المقدمة ، فلذلك اعترض بما سمعت ، وقد عرفت ما فيه ، ولعله يقرب مما ذكرنا من المسألة أيضا ما لو لاقى أحد الإنائين شيئا آخر كالثوب أو البدن ، والمشهور بين الأصحاب الحكم بطهارة الملاقي ، لاستصحاب طهارته ، وعن العلامة في المختلف وجوب اجتنابه ، وربما بناه بعض المتأخرين على انه يظهر من الأدلة أن المحصور يعامل معاملة النجس وهو بعيد ، نعم لعل ما ذكره رحمه‌الله مبني على ما تقدمت الإشارة منا اليه من جريان المقدمة فيه ، وذلك لأنه يكون حينئذ مكلفا باجتناب النجس ، وهو دائر بين ان يكون هذا الإناء والثوب أو الإناء الآخر والثوب ، أو هذا الإناء وحده أو الآخر وحده ، فيجب ترك الجميع من باب المقدمة ، وبذلك ينقطع الاستصحاب ، كما انقطع الاستصحاب في غيره ، إذ لا معنى للقول بخصوص الحكم فيما إذا كان الاشتباه في الإناءات أي في متحد النوع دون غيره ، فان من اليقين جريان المقدمة فيما لو وقعت في الإناء أو الثوب أو البدن ونحو ذلك ، ولصاحب الحدائق في المقام كلام واضح الفساد ، فراجع وتأمل.

نعم لقائل أن يقول : وهو الأقوى في النظر ، إنك قد عرفت ان العمومات شاملة لجميع ذلك كله ، وبها انقطعت القاعدة ، قصارى ما هناك انه وقع لنا الشك في شمولها للشبهة المحصورة التي يقع الاشتباه فيه من حيث وقوع النجاسة ، لا من أجل ما عرفت من إعراض الأصحاب عن التمسك بتلك العمومات فيها في مقامات متعددة من غير نظر‌

٣٠٢

لخصوص الأخبار ، بل ربما أعرض عن الأخبار الخاصة وبنى عليها ، كما سمعت عن ابن إدريس وغيره في الثوبين ، وعرفت انهم تعدوا لغير موارد الأخبار الخاصة بكثير ، فلذلك حكمنا هذه القاعدة على تلك العمومات ، فينبغي أن نقتصر على ما حصل لنا الشك فيه خاصة ، وهو ما عرفت من نفس أفراد الشبهة المحصورة لا ما لاقاها من الأجسام الطاهرة ، لأنا لم نعثر على كلام لغير العلامة رحمه‌الله ممن تقدمه يقتضي وجوب الاجتناب ، بل المعروف بين المتأخرين والذي عليه مشايخ عصرنا ومن قاربه انما هو العدم ، فتبقى العمومات سالمة عن ما يقتضي الشك في تناولها لذلك ، سيما مع معروفيته من مذاق الشرع بالنسبة للطهارة والنجاسة ، أو يقال : ان اليقين الإجمالي لا يرفع الاستصحاب المنقح موضوعه كما في الفرض. بخلافه في الإنائين اللذين لا ترجيح لأحدهما على الآخر في جريان الاستصحاب ، لما عرفته سابقا ، وتوهم أن الاشتباه الذي كان في الإنائين يلحق الملاقي لأحدهما واضح الفساد ، ولعل هذا أقوى من الأول في الاستدلال ، بل يمكن كونه هو مبنى كلام الأصحاب ، والله العالم ، وهو الذي أفتي به وأعمل عليه إن شاء الله.

وقد يقال في التخلص عن وجوب اجتناب الملاقي للمشتبه برجوعه إلى الشبهة الغير المحصورة ، ويكون حاله حال محتمل النجاسة ، فإنه لا إشكال في عدم وجوب اجتنابه ، وإن كان التكليف بالنجس لا يتم إلا به ، لكن لما كانت أفراد النجس غير محصورة لم يجب اجتناب المحتمل ، وهذا كذلك أيضا ، فإن أصابه المشتبه له صيرته محتمل النجاسة ، وكون هذا الاحتمال انما نشأ من إصابة متنجس يجب اجتنابه للمقدمة لا يصير الملاقي كذلك ، وكيف مع أنه لو صدر الاحتمال من وجوب المجتنب على اليقين لما وجب الاجتناب ، فهذا أولى ، مثلا لو كان الإناء آن النجس منهما معلوم ووقعت قطرة لا تعلمها من أي الإنائين فإنه لا شك في عدم نجاسة الثوب بها ، وهو معنى قوله‌

٣٠٣

عليه‌السلام (١) « ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا كنت لا أدري » ‌وما يقال من ان اجتناب النجس لا يتم إلا بذلك فيه أنه جار في محتمل التنجس بنجاسة خاصة معلومة ، كالبول المخصوص ونحوه فتأمل.

( فإن قلت ) انه بناء على ما ذكرت أولا من وجوب الاجتناب ينبغي ان تلتزم في مثل ما إذا وقع الشك في إصابة النجاسة البدن مثلا ، أو الأرض بمعنى قطعة منها وإن كانت متكثرة الأجزاء إذا لو حظ كل جزء منها ، مع أن الأخبار تنادي بفساد ذلك ، وكيف يمكن دعوى انه عند الشك في إصابة النجاسة له يجب عليه تطهير ثيابه أو بدنه واجتناب تلك القطعة من السجود عليها ونحو ذلك ، قلت : ربما التزم به بعضهم ، ولكن الإنصاف انه مستبعد ، نعم يمكن النزاع في ان هذا من الشبهة المحصورة أولا ، وهو مبني على تحقيقها ، أو يقال كما تقدم سابقا من عدم حصول الشك بالنسبة للعمومات في مثل ذلك ، فتبقى شاملة فتأمل.

( ومنها ) ان الظاهر أنه لا تجب الإراقة في جواز التيمم ، ولا ينافي ذلك ظاهر الآية (٢) المتضمن لاشتراط التيمم بعدم وجدان الماء ، لأن المراد منه عدم التمكن من استعماله ولو شرعا ، والأمر في الخبرين بالإراقة لعله كناية عن عدم جواز الاستعمال ، بل هو الظاهر منه ، فما عن المقنعة والنهاية وظاهر الصدوقين من اشتراط جواز التيمم بالإراقة حتى يتحقق شرط التيمم وهو فقدان الماء ضعيف ، لما عرفت ، بل قد تحرم الإراقة عند خوف العطش ونحوه ، ولا يخفى عليك انه بعد ما عرفت من حرمة استعمال الإنائين لا إشكال في عدم صحة الوضوء بهما وإن كرر ذلك بحيث تطهر بأحدهما أولا ، ثم غسل أعضاءه بالآخر ، وتطهر به ثانيا ، فما عن العلامة من احتمال وجوب ذلك عليه تحصيلا للطهارة اليقينية عجيب في المقام ، لما عرفت من الأخبار والإجماع ، وإن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب النجاسات حديث ٥.

(٢) سورة النساء آية ـ ٤٦ ـ وفي سورة المائدة آية ٩.

٣٠٤

سلمنا إمكانه من جهة القاعدة بناء على ان الوضوء بالماء النجس حرمته تشريعية لا ذاتية ، لا يقال : ان حرمة الاستعمال للمقدمة لا يقضي بفساد الوضوء ، لكونها حرمة خارجية عنه ، لأنا نقول : بعد تعليق الحرمة باستعمالهما وإن كان واحد منهما بالأصل والآخر للمقدمة لا يتمكن من نية القربة ، نعم قد يقال : بالصحة في صورة يتصور وقوعها كنسيان الاشتباه ونحوه ، مع إمكان منعه ، لظهور الروايات (١) في انقلاب التكليف ، وانه كالمتضرر باستعمال الماء ، وإن كان الأقوى الأول.

ولو غسل بهما تدريجا نجاسة فقد يتخيل في بادي النظر بقاء تلك النجاسة ، للاستصحاب مع الشك في المزيل ، وفيه انا نقطع بزوال تلك النجاسة ، لأنه إما ان يكون الأول طاهرا ، وقد زالت به حينئذ ، أو الثاني فيزول ما كان من النجاسة الأولى وما جاء من جهة الإناء ، والتمسك باستصحاب مطلق النجاسة معارض بمثله بالنسبة للطهارة ، كأن يقال إن النجاسة قد زالت يقينا ، ولا نعلم عودها ، كما في كل استصحاب للجنس مع عدم معرفة الشخص ، فالمتجه حينئذ عدم الحكم بأحدهما من جهته ، كما لو تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما مع حفظه للحالة السابقة على ذلك ، وكذا الحكم فيما لو أصاب أحدهما شيئا وغسله بالثاني ثم غسله بالأول ، أو غسل شيئا طاهرا بهما على وجه التكرار بحيث يرتفع اليقين بالنجاسة الحاصلة بملاقاة كل منهما مع اشتمال الغسل على شرائط التطهير ، إلا أن التحقيق في الفرق بينهما أنه لا أصل ولا عموم يرجع إليه بالنسبة للحدث والطهارة ، فاتجه وجوب تجديدها لكل ما كانت شرطا فيه ، دون ما كان الحدث مانعا منه ، بخلافه هنا للعمومات القاضية بطهارة كل ما لا يعلم نجاسته ، كقوله عليه‌السلام (٢) « كل شي‌ء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » ‌ونحوه ، فاتجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الماء المطلق والباب ـ ٤ ـ من أبواب التيمم والمستدرك الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات حديث ٤.

٣٠٥

حينئذ الحكم بالطهارة من الخبث في جميع ما ذكرنا ، اللهم إلا أن يقال : انه باعتبار اعتوار الطهارة والنجاسة عليه يكون من قبيل الشبهة المحصورة بالنظر للوقتين ، فيجب اجتنابه من باب المقدمة ، فيكون حينئذ كالحيوان الذي اعتراه الجلل وضده ولم يعلم الآن اتصافه بأيهما ، لكنه كما ترى ، إذ عد مثل ذلك من الشبهة المحصورة فيه ما لا يخفى ، بل هو أشبه شي‌ء بالشي‌ء المتحد الذي لا يعلم حله ولا حرمته ولا طهارته ولا نجاسته ، كالجبن واللبن ونحوهما فتأمل جيدا. ويتفرع على ما ذكرنا أنه لو كان عنده ثوب نجس لا غير وليس عنده إلا إناء مشتبه أمكن القول بوجوب غسله فيهما حتى يكون غير معلوم النجاسة ، فيندرج تحت العمومات السابقة ، ويحكم بطهارته ، ويتعين عليه حينئذ الدخول به في الصلاة ، ولعل ذلك الذي أشار إليه السيد شيخ مشايخنا في منظومته ، فقال في الإنائين المشتبهين.

ولو تعاقبا على رفع الحدث

لم يرتفع وليس هكذا الخبث.

( ومنها ) أنه لو انكفى أحد الإنائين المشتبه أحدهما بالمضاف فهل ينتقل فرضه الى التيمم أو يجب عليه الوضوء والتيمم؟ الأقوى الثاني ، تحصيلا لليقين ، واحتمل الأول ، لأنه يصدق عليه أنه غير واجد للماء ، وفيه أنه ممنوع بل لا يحكم عليه بكونه واجدا ولا غير واجد ، فان قلت : عدم علمه بكونه ماء يكفي في عدم وجدانه ، قلت : هو أول البحث ، وله مزيد بحث ذكرناه في التيمم ، وفي المدارك قد يقال : ان الماء الذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم كونه ماء مطلقا فالمتجه الاجتزاء بالتيمم كما هو الظاهر ، وان كان هو ما لم يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء ، فالجمع بين الطهارتين غير واضح وفيه أن هناك قسما ثالثا ، وهو وجوب الوضوء بما كان ماء واقعا ، ولما كان هذا غير معلوم المائية حصل عندنا يقين بالخطاب بالطهارة ، ولا نعلم أنها مائية أو ترابية ، وقد عرفت أنه ليس مجرد عدم العلم بالمائية يكفي في الامتثال للتيمم ، فلا بد من الإتيان بهما جميعا ، تحصيلا ليقين البراءة ، ومثل ذلك الصلاة بالثوب المشتبه بعد تلف أحدهما ، فإنه يجمع بين الصلاة فيه وعاريا ، مع احتمال تعين كونه‌

٣٠٦

عاريا ، واحتمال الاكتفاء بالصلاة في الثوب الواحد ، لأصالة الطهارة ، كما ذكرناه في مسألة انكفاء أحد الإنائين ، ولا يحتمل ذلك في المشتبه بالمضاف ، للشك في كونه ماء ، نعم نظير مسألتنا ما لو اشتبه ما يؤكل بما لا يؤكل لحمه ثم تلف أحدهما ، فإن الظاهر أنه إما أن يتعين الصلاة عاريا كاحتمال تعين التيمم ، أو فيه وعاريا كالتيمم والوضوء به ، وهو الأقوى كما عرفت.

( ومنها ) لو كان الإناء مشتبها بالمغصوب لو تطهر بهما فالظاهر كما عرفت عدم حصول الطهارة ، نعم لو غسل بأحدهما النجاسة ارتفعت ، لعدم اشتراطها بالقربة.

( ومنها ) لو اشتبه المضاف بالمطلق وكان عنده ماء مطلق غيرهما لا يكفي للوضوء مثلا ولكن يمكن مزجه بمضاف بحيث لا يخرج المطلق عن الإطلاق فالظاهر وجوب المزج ، لأنه حينئذ يكون متمكنا من ماء غير مشتبه ، ومعه لا يجوز الوضوء الترديدي ، لأنه انما جاز من جهة الاحتياط لعدم التمكن من غيره ، ويحتمل العدم ، بناء على ما نقل عن الشيخ رحمه‌الله في مسألة التيمم من أنه لو وجد عنده ماء مطلق قليل وماء مضاف وأمكن تكثيره بالمضاف بحيث لا يخرجه عن الإطلاق لم يجب عليه المزج ويتيمم ، وان كان لو مزج لوجب عليه الوضوء ، لأصالة البراءة ، ولانه يصدق عليه أنه غير واجد للماء وان أردنا به عدم التمكن ، لظهور أن المراد عدم التمكن من الماء الموجود في الخارج لا عدم التمكن من إيجاد حقيقة الماء ، ولظهور عدم وجوب تكميل القليل بما لا يخرجه عن المائية من أبوال الدواب ونحوها ، لكن الأقوى مع احتمال الفرق بين المقامين خلاف ما ذكره الشيخ رحمه‌الله في مسألة التيمم ، للأوامر المطلقة بالوضوء والغسل ، نعم قيدت بالعقل بصورة عدم التمكن عقلا أو شرعا ، ولا ريب أن العقل هنا حاكم بالتمكن ، وما تقدم من الاستعباد بالنسبة إلى أبوال الدواب لعله من جهة بعد الفرض ، لأن القليل منه لا يفيد ، والكثير منه يخرج عن الإطلاق ، أو يقال إن ذلك يعد من غير‌

٣٠٧

المتمكن عرفا ، بخلاف الأول فتأمل جيدا ، فان كلام الشيخ رحمه‌الله لا يخلو من وجه.

الطرف ( الثاني في المضاف )

( وهو كل ماء ) يحتاج في صدق لفظ الماء عليه الى قيد أو ما يصح سلب اسم الماء عنه ، ومنه الذي اعتصر من جسم ، أو مزج به مزجا يسلبه إطلاق الاسم أو صعد ، ولا يخفى أن التعريف في كلام المصنف لفظي ، فلا يقدح فيه كونه أعم من وجه وأخص من آخر ، ولعله أراد ما ذكرنا من التعريف لذكره سابقا في تعريف المطلق ما يستفاد منه تعريف المضاف ، وان ما ذكره هنا من قبيل المثال ، وكيف كان فلا فرق في ذلك بين الإطلاق الحملي وغيره ، نعم هو مع الإشارة يكون قرينة ، وإلا فالمدار على صحة السلب وعدمها ، لكن مع العلم بالحال لا مع الجهل ، وإلا فقد يحكم الجاهل بالمضاف العادم للأوصاف بأنه ماء مطلق ، وكان المصنف أشار بقوله سلبه إطلاق الاسم إلى أنه ان لم يسلبه الإطلاق بل كان يطلق عليه لا يدخل بذلك تحت المضاف ، وتصح الطهارتان به وهو كذلك ، كما سيصرح به فيما يأتي ، بل لا خلاف فيه عندنا على الظاهر ، نعم نقل عن بعض العامة انه لا تجوز الطهارة به حينئذ إلا بعد طرح مقدار ما مازجه من المضاف ، ولا وجه له ، كما أنه لا فرق بحسب الظاهر فيما ذكرنا من مسلوب الاسم وعدمه بين قلة الممزوج وكثرته ومساواته ، لكون المدار على صدق الاسم ، نعم لو مازج المطلق ماء مضاف مسلوب الصفات فعن الشيخ رحمه‌الله انه إن كان المطلق أكثر صح الوضوء به مثلا ، وإن كان المضاف أكثر لم يصح ، وان تساويا فالجواز أيضا للأصل ، وعن ابن البراج المنع للاحتياط ، وعن العلامة رحمه‌الله خلاف قوليهما ، ومراعاة الصدق من غير نظر للقلة والكثرة ، لكنه جعل الدليل على الإطلاق تقدير الصفات في المسلوب ، فان كان بحيث لو كانت موجودة لسلبت إطلاق اسم الماء لم يصح التطهر به ، وإلا فلا وربما نقل عنه تقدير الوسط من الصفات دون الصفات‌

٣٠٨

التي كانت فيه قبل السلب ، وعن الشهيد في الذكرى الجزم به ، والأقوى مراعاة الصدق من غير اعتبار ذلك ، لدخوله به تحت الإطلاقات ، ودعوى توقف الصدق عليه ممنوعة على ما هو المشاهد ، ومع الشك يرجع الى استصحاب الموضوع أو الحكم ، كما ستعرفه ان شاء الله. ودعوى أن القاهر في الحقيقة الكمية ، ولكن الدليل على ذلك الصفات ، فحيث لا توجد تقدر كما ترى ، إذ لعل القاهر الكمية مع الصفات ، بل يمكن القول بجريان الأحكام على المضاف نفسه من غير ممازجته لو سلبت جميع خواصه بحيث صار أهل العرف بعد الوقوف على حاله يطلقون عليه لفظ الماء من غير احتياج إلى إضافة ، اللهم إلا أن يمنع انقلاب المضاف مطلقا بغير الامتزاج المهلك له ، فان المعتصر من جسم أو المصعد منه مضاف دائما ، لا يكون مطلقا أصلا ، وعلى كل حال فقد ظهر لك مما ذكرنا ما في توجيه القول بالتقدير بأن الإخراج عن الاسم سالب للطهورية ، وهذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف ، فنعتبره بغيره ليحصل ما طلبناه ، كما يقدر ذلك في حكومات الجراح ، وبان الحكم لما كان دائر أعلى بقاء اسم الماء مطلقا وهو انما يعلم بالأوصاف وجب تقدير بقائها قطعا ، كما يقدر الحر عبدا في الحكومة ، وأما تقدير الوسط لانه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي وغيرها على حد سواء ، فيجب رعاية الوسط لأنه الأغلب والمتبادر عند الإطلاق ، وانما صار الزائد لا ينظر اليه بعد الزوال لأنه لو كان المضاف في غاية أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك في القدر الناقص ، فكذا لو زالت رأسا ، ولا يخفى عليك ما في ذلك كله.

( أما الأول ) فلأنه لا يلزم من كون الممازج غير مخرج بسبب الموافقة انا نعتبره بغيره ، وأين مسألة الحكومات من المقام ، لكون الأحكام هنا تابعة لموضوع قد تحقق لغة وعرفا.

( وأما الثاني ) ففيه انا نمنع انه انما يعلم بالأوصاف ، بل قد يعلم بدونها ، وهو الصدق ، كما في محل النزاع ، ومنه تعرف ما في وجه تقدير الوسط من الأغلبية ، مع أن‌

٣٠٩

الأغلبية انما تعتبر بعد وجود الفرد على حالة لم تعرف ، وأما مثل المقام فلا مدخلية لها قطعا ، وكيف يمكن دعوى تقدير الوسط فيما إذا كان في السابق دون الوسط ، ضرورة كون المتجه حينئذ تقدير الصفات التي كانت فيه سابقا ، ومع التفاوت فالمتأخرة أقرب حينئذ ، نعم قد يتجه ذلك ما في فاقد الصفات دون سالبها ، لكن مع ملاحظة الصنف ، وإلا فمع فرض عدم وجود صفات للصنف يمتنع التقدير ، إذ احتمال تقدير الانتقال الى نوع آخر ونحوه بعيد ، بل ممنوع.

ثم أنه كما يراعى الوسط في الصفات ينبغي أن يراعى الوسط في الماء كما في الذكرى مع احتمال العدم ، لكون المنقلب انما هو خصوص هذا الماء ، فلا وجه لفرض أنه ماء آخر ، والجميع كما ترى ، وقد مر نظير المسألة في الملاقي للنجاسة المسلوبة الأوصاف أو الفاقدة أو الموافقة للماء ، فلاحظ وتأمل فإنه قد يكون المقام أوضح فسادا من ذلك ، والله العالم.

ولو امتزج المطلق بالمضاف بحيث لا يصدق عليه اسم المطلق ولا اسم المضاف ولم يعلم استهلاك أحدهما بالآخر فالظاهر عدم جواز استعماله في كل ما اشترط بالمائية ، كالطهارة من الأحداث والأخباث ، ويحتمل أن يقال : انه بهذا الامتزاج لم يخرج كل منهما عن حقيقته ، لعدم تداخل الأجسام ، فللمجنب حينئذ ان يرتمس فيه ، ويرتفع عنه الحدث ، وكذلك الوضوء ، إلا انه يشكل من جهة المسح ، لمخلوطية الماء بغيره ، والحاصل كل ما يقطع فيه بجريان الأجسام المائية عليه يجري عليه حكمه ، إلا أن يمنع مانع خارجي ، وربما يؤيده أن الأصل عدم خروج المطلق عن إطلاقه ، كما ان الأصل عدم خروج المضاف عن كونه مضافا ، ولا ريب ان الأول أقوى ، بناء على خروج الماء بالامتزاج المزبور عن الماء المطلق ، أو عن الحكم ولو بصيرورته موضوعا خارجا عن كل منهما ، فهو وإن لم يكن ماء ورد مثلا لكنه بحكمه باعتبار عدم الحكم عليه بكونه ماء مطلقا ، نعم لو قلنا ببقاء كل منهما على حاله إلا ان الامتزاج أفاد الاشتباه اتجه ما ذكره ، فتأمل جيدا.

٣١٠

وأما حيث يكون الممزوج بالمطلق غير المائع من الأجسام مثلا بحيث يقع الشك في كون المطلق هل خرج عن إطلاقه أولا؟ فالظاهر من بعضهم جريان الاستصحاب ، وجريان جميع الأحكام عليه ، وفيه تأمل ، إذ المدار على الإطلاق العرفي ، والفرض فقده ، واحتمال إثباته بالاستصحاب ، كأن يقال انه كان يطلق عليه سابقا ، فليطلق عليه الآن فيه ـ مع الشك في شمول أدلة الاستصحاب لمثله ـ انا نمنع تحقق الإطلاق العرفي من جهته ، وهو المدار هنا ، بل قد يقال : ان ذلك إثبات للموضوع بالاستصحاب لرجوع الحال الى الشك في أنه بعد ما امتزج بما امتزج هل هو فرد لحقيقة الماء أولا؟

والاستصحاب لا يثبت مثل ذلك ، ودعوى استصحاب الأحكام من غير ملاحظة الموضوع فيها ما لا يخفى ، وذلك لكون الأحكام تابعة له وجودا وعدما ، وتسمع لهذا تتمة إن شاء الله تعالى في المطهرات ، ولكن الانصاف عدم خلو القول باستصحاب الحكم من قوة ، بل يمكن القول باستصحاب الموضوع نفسه ، ولا ينافي ذلك الشك في الصدق العرفي ، ضرورة استنباط الحكم في الاستصحاب وضعا متأخرا عن إطلاق اللفظ ، والتبعية وجودا وعدما لا تنافي ثبوت الحكم من جهة الاستصحاب الذي محله الشك ، إذ هو المفروض ، لا العدم الذي هو السلب عرفا فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فهو طاهر بعد طهارة أصله من غير خلاف لكن لا يزيل حدثا أكبر أو أصغر اختيارا واضطرارا إجماعا كما في التحرير وعن الغنية والتذكرة ونهاية الأحكام ، خلافا للصدوق كما نقل عنه ، فإنه أجاز الوضوء بماء الورد وغسل الجنابة ، ولعله الذي أشار إليه في الخلاف عن بعض أصحاب الحديث من جواز الوضوء بماء الورد ، ثم يحتمل أنه يتسرى الى غيرهما تنقيحا للمناط ، كما يحتمل أنه يقتصر عليهما ، لظاهر الرواية (١) التي هي دليله ، وللمنقول عن ابن أبي عقيل فإنه ظاهر في جواز مطلق المضاف في مطلق الطهارة عند عدم غيره ، لقوله « ما سقط في الماء مما ليس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المضاف حديث ١.

٣١١

بنجس ولا محرم فغيّر لونه أو طعمه أو رائحته حتى أضيف إليه مثل ماء الورد وماء الزعفران وماء الخلوق وماء الحمص وماء العصفر فلا يجوز استعماله عند وجود غيره ، وجاز في حال الضرورة عند عدم غيره » وكيف كان فقد سمعت الإجماع في كلام المصنف وغيره ، وفي الذكرى أن قول الصدوق يدفعه سبق الإجماع وتأخره ، ومعارضة الأقوى ، وفي السرائر ولا يرفع به نجاسة حكمية بغير خلاف بين المحصلين ، وفي إزالة النجاسة العينية به خلاف ، ونقل خلاف المرتضى ، والظاهر أن مراده بالنجاسة الحكمية رفع الحدث بقرينة ما ذكره بعده ، وعن المبسوط نفي الخلاف في عدم رفعه الحدث ، وهذه الإجماعات كما هي حجة على الصدوق كذلك إطلاقها حجة على ابن أبي عقيل ، وفي المعتبر بعد أن ذكر خلاف الصدوق في ماء الورد ودليله وإبطاله ، قال : فرع لا يجوز الوضوء بالنبيذ ، ثم ذكر خلاف أبي حنيفة فيه ، ثم أخذ في الاستدلال عليه ، وقال بعد ذلك وعن الصادق عليه‌السلام (١) « إنما هو الماء والصعيد » ‌واتفق الناس جميعا أنه لا يجوز الوضوء بغيره من المائعات ، والظاهر أن مرجع الضمير انما هو النبيذ ، لكنه في الذكرى نقل عنه هذه العبارة بإبدال ضمير غيره بماء الورد ، ومثله في المدارك ، ولعلهما عثرا على غير ما عثرنا عليه ، أو يكون فهما منه ذلك لكونه في معرض الرد على أبي حنيفة.

ويدل على ما ذكرنا ـ مضافا إلى ما تقدم ، والى الاستصحاب وقاعدة الشك في الشرط في وجه ـ قول الصادق عليه‌السلام في خبر أبي بصير بعد أن سأله عن الوضوء باللبن قال : « لا انما هو الماء والصعيد » وفي خبر عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين (٢) « إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضأ باللبن إنما هو الماء والتيمم » ‌والظاهر أن المراد ببعض الصادقين أحد الأئمة عليهم‌السلام ويؤيده أنه في كشف اللثام‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المضاف حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المضاف حديث ١.

٣١٢

أسنده إلى قولهم عليهم‌السلام كل ذلك مع ظاهر قوله تعالى (١) ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) وربما استدل عليه بقوله تعالى (٢) ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) لكونه في معرض الامتنان ولو كان يحصل ذلك بغيره لكان ينبغي الامتنان بالأعم ، وفيه أنه لعل التخصيص لكونه أكثر وجودا وأعم ، لمكان قصر الجواز بغيره على تقديره في أحوال مخصوصة ، على أنه قد يقال : ان جواز ذلك بالمضاف لاشتماله على الماء ، فلا ينافي الامتنان ، وكذا استدل بكثير من الأخبار (٣) الواردة في كيفية الغسل ، لاشتمالها على الغسل بالماء ، فيكون وجوبه متعينا ، وقول أبي جعفر عليه‌السلام (٤) في صحيحة زرارة « إذا مس جلدك الماء فحسبك » وقوله عليه‌السلام : في صحيحة زرارة (٥) « الجنب إذا جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه » وقول أحدهما عليهما‌السلام (٦) في صحيحة ابن مسلم « فما جرى عليه الماء فقد طهره » ‌ولا يخفى ما فيه ، لكن لمكان كونه تأييدا لا استدلالا كان الأمر سهلا ، هذا مع انا لم نقف للصدوق على دليل غير قول أبي الحسن عليه‌السلام (٧) في خبر يونس قلت له : « الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة قال لا بأس بذلك » ‌وهو مع مخالفته لما تقدم ، وعن ابن الوليد انه لا يعتمد على حديث محمد بن عيسى عن يونس ، قال الشيخ في التهذيب : « انه خبر شاذ شديد الشذوذ وإن تكرر في الكتب والأصول ، فإنما أصله يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام ولم يروه غيره ، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره » انتهى.

__________________

(١) سورة المائدة ـ آية ـ ٩ ـ وفي سورة النساء ـ آية ٤٦.

(٢) سورة الفرقان ـ آية ـ ٥٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء ـ حديث ٣.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة ـ حديث ١.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١.

٣١٣

فإذا كان هذا حال الخبر وجب طرحه أو تأويله بإرادة الماء الذي وقع فيه الورد ولم يسلبه الإطلاق ، أو كان مجاورا للورد ، أو يراد بالتوضؤ التحسن والتطيب للصلاة ، لكنه ينافيه قوله يغتسل ، ويمكن أن يراد به الاغتسال لذلك أيضا ، ويحتمل أن يقال الورد بكسر الواو أي ما يورد منه الدواب ، وهو مظنة للسؤال لاحتمال أن الوضوء يحتاج الى ماء خال عن ذلك ، والأمر سهل.

والظاهر أنه يخص هذا الحكم بماء الورد ، لا مطلق المائعات ، ولا مطلق المضاف ، بل قد يقال مراده بماء الورد المصعد به لا المعتصر ، ولذلك قال في المنتهى بعد أن ذكر خلاف ابن بابويه وغيره : « فرع المضاف إذا اعتصر من جسم كماء الورد ، أو خالطه فغير اسمه كالمرق ، أو طبخ فيه كماء الباقلا المغلي لم يجز الوضوء به ولا الغسل في قول عامة أهل العلم ، إلا ما حكي عن ابن أبي ليلى والأصم في المياه المعتصرة ، وللشافعية وجه في ماء الباقلا المغلي إلا النبيذ ، فانا قد بينا الخلاف فيه » انتهى فتأمل جيدا. ولم نعثر لابن أبي عقيل على مستند ، ولعله الرواية المتقدمة تنزيلا لها على الاضطرار ، وفيه ما لا يخفى ، ولعله يستند الى ما رواه عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين (١) فان فيه « إن لم يقدر على الماء وكان نبيذا فاني سمعت حريزا يذكر في حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد توضأ بنبيذ ولم يقدر على الماء » ‌وفيه مع ظهوره في التقية انه لم يعلم من المراد ببعض الصادقين ، وعلى تقدير تسليم كونه أحد الأئمة عليهم‌السلام فلم يظهر منه ما يدل على الجواز ، بل ظاهر نسبته الى حديث ذكره حريز عدمه ، لأن الحديث يطلق على الصدق والكذب ، ولعله أشار بالحديث الى ما رواه بعض (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنه توضأ بالنبيذ » ‌على انه قال الشيخ : « وأجمعت العصابة على أنه لا يجوز الوضوء بالنبيذ » مضافا الى نجاسة النبيذ ، وأنه ليس من الماء المضاف ، بل هو حقيقة أخرى ، ويحتمل أن يراد بالنبيذ الماء الذي ينبذ فيه بعض

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٣.

٣١٤

التميرات ولم تغير اسمه ، كما ورد (١) أنه حلال بهذا المعنى وأن أهل المدينة أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك لما شكوا اليه فساد طبائعهم بان ينبذوا وكان يضعون الكف من التمر فيلقوه في الشن الذي يسع ما بين الأربعين إلى الثمانين رطلا من أرطال العراق ، فكان شربهم منه ، وطهرهم منه.

ولا يزيل خبثا على الأظهر عند أكثر أصحابنا كما في الخلاف ، وهو المشهور نقلا وتحصيلا شهرة كادت تبلغ الإجماع ، بل هي إجماع ، لمعلومية نسب المخالف ان اعتبرناه ، وانقراض خلافهما ، للاستصحاب وتقييد الغسل بالماء في بعض النجاسات ، كقوله عليه‌السلام (٢) : « لا يجزي من البول إلا الماء » وقوله عليه‌السلام (٣) في فضل الكلب : « اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء » وقوله عليه‌السلام (٤) في الرجل الذي أجنب في ثوبه وليس معه ثوب آخر غيره ، قال : « يصلى فيه وإذا وجد الماء غسله » وقوله عليه‌السلام (٥) في بول الصبي : « يصب عليه الماء قليلا ثم يعصره » ‌وفي آخر يصب عليه الماء وقوله عليه‌السلام (٦) فيمن أصاب ثوبا نصفه دم أو كله ، قال : « ان وجد ماء غسله ، وإن لم يجد ماء صلى فيه » وفي آخر (٧) « في رجل ليس عليه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع قال يتيمم ويصلى ، فإذا أصاب ماء غسله » ‌الى غير ذلك من الأخبار ، وهي كثيرة في أماكن متفرقة ، ويتم الاستدلال بها بعدم القول بالفصل ، فيجب حينئذ حمل مطلق الأمر بالغسل الوارد في كثير من الأخبار عليها ، وما يقال انه لا منافاة ، لكون الغسل بالماء أحد الأفراد ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ٥.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ٨.

٣١٥

ولا مفهوم يدفعه ان المنافاة متحققة من غير حاجة الى مراعاة المفهوم ، بل يحكم بذلك وإن كان المقيد لقبا ، نعم إن كان ذلك في العام والخاص متجه ، فإنه لا يحصل التنافي فيه إلا باختلاف حكمي العام والخاص بالأمر والنهي ونحوه ، ولذا لا يحكم بالتخصيص في نحو قوله أكرم الرجال أكرم زيدا ، بخلافه في المطلق والمقيد ، لاتحاد المأمور به في الثاني ، دون الأول فتأمل جيدا.

هذا مع ما في بعضها من الحصر ، كقوله عليه‌السلام لا يجزي فيه إلا الماء ، ومفهوم الشرط في آخر ونحوهما ، بل لا حاجة الى دعوى الإطلاق والتقييد ، بناء على ان الغسل حقيقة شرعية في استعمال الماء ، كما ادعاه في الذكرى ، لكنه في غاية البعد ، كدعوى الحقيقة اللغوية ، لصدق العرف على الغسل مثلا بماء الورد انه غسل حقيقة ، وعدم صحة السلب ، نعم يتجه أن يقال : ان الغسل بالماء هو المتعارض الشائع المتبادر الى الذهن عند الأمر به ، كما اعترف به الخصم ، كما ستسمع إن شاء الله ، بل قد يقال : انه في بعض المائعات لا يعد الإزالة بها غسلا لغة وعرفا وشرعا ، والفرض أن دعوى المرتضى عامة في سائر المائعات ، كما نقل الشيخ في الخلاف عنه ذلك ، ويقتضيه دليله ، على أن هذه المطلقات في كثير من المقامات ما سيقت لبيان ما يغسل به ، والمطلق ليس حجة إلا فيما سيق له.

وقد يستدل على المطلوب أيضا بالإجماع على نجاسة سائر المائعات بملاقاة النجاسة ، فتنجس حينئذ بملاقاتها للثوب ، ولم يثبت هنا كون الانفصال مثلا قاضيا بطهارة ما بقي منها على الثوب ، والماء خرج بالإجماع ونحوه ، وبذلك كله اتضح صحة المختار ، فلا حاجة لأن يؤيد بوقوع لفظ الماء في الكتاب العزيز في معرض الامتنان القاضي بأنه غير موجود في غير الماء. وب قوله عليه‌السلام (١) : « الماء يطهر ولا يطهر » ‌وبأنه ان لم يرفع الحدث فلا يرفع الخبث بطريق أولى ، إذ في الأول ما عرفت ، وفي الثاني أنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣ و ٧.

٣١٦

لا يقتضي ذكره ولا تعريفه في المقام الحصر ، وفي الثالث أنه لا أولوية ، وعند عدمها يكون قياسا ، على أنه ستسمع الفارق في كلام المرتضى ، وعن المرتضى الاحتجاج لقوله بالإجماع والمفيد بالرواية عن الأئمة عليهم‌السلام ، وإطلاق الأمر بالغسل في كثير من الأخبار ، وقوله تعالى (١) ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) وبأن الغرض من التطهير إزالة العين ، وهو حاصل بالمائعات أما الصغرى فل رواية حكم بن الحكيم الصيرفي (٢) قال للصادق عليه‌السلام : « إني أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شي‌ء من البول فأمسحه بالحائط والتراب ، ثم تعرق يدي فأمس وجهي أو بعض جسدي ، أو تصيب ثوبي ، قال : لا بأس » ورواية غياث بن إبراهيم (٣) « لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق » ‌وأما الكبرى فوجدانية ، بل رواية غياث صالحة لأن تكون دليلا مستقلا ، إذ البصاق من جملة المائعات مع عدم القول بالفصل بينه وبين غيره ، وعن المرتضى نفسه رحمه‌الله الاعتراض على الاستدلال بالآية وأوامر الغسل بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء ، وبانصراف إطلاق الأمر بالغسل إلى ما يغسل به في العادة ، ثم الجواب بأن تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة النجاسة عنه ، وقد زالت بغير الماء مشاهدة ، لأن الثوب لا يلحقه عبادة ، وبأنه لو كان كذلك لوجب المنع من غسل الثوب بماء الكبريت والنفط ، ولما جاز ذلك إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة ، وان المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة ، وفي الكل نظر.

( أما الأول ) ففيه ـ بعد ما عرفت من إمكان دعوى الإجماع المحصل على خلافه ، مضافا الى نقل الشيخ أن الأكثر على خلافه ، بل من زمن المرتضى الى يومنا هذا لم يوافقه عليه أحد عدا ما ستسمع من صاحب المفاتيح ، ولم ينقل عن أحد ممن تقدمه عدا المفيد ، ولذا قيل انه لو ادعى الإجماع على خلاف دعواه أمكن ان أريد به إجماع‌

__________________

(١) سورة المدثر آية ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

٣١٧

أكثر الفقهاء ، إذ لم يوافقه على ما ذهب إليه أحد ممن وصل إلينا خلافه ـ أنه غير ثابت النقل ، بل الذي حكي عنهما أنهما أضافا القول بالجواز الى مذهبنا ، مع تعليل المرتضى له بأن من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الأدلة العقلية ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ، ولا ما يوجبها ، ونحن نعلم أنه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة ، بل ربما كان غير الماء أبلغ ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل ، وهو غير صريح في دعوى الإجماع ، بل لو ادعاه لكان هذا الكلام قرينة على إرادته بهذا المعنى الذي ذكره في بيانه ، وأما ما ذكره المفيد من الرواية عن الأئمة عليهم‌السلام فهو ـ مع احتمال إرادة الإطلاقات التي استدل بها المرتضى ، أو رواية البصاق ونحوه ـ رواية مرسلة لا جابر لها ان ألحقنا مثل ذلك بالمراسيل ، واحتمال جبرها بإجماع المرتضى قد عرفت ما فيه ، ومن هنا نقل عن المحقق أنه قال : نمنع دعواه ، ونطالبه بنقل ما ادعاه.

( وأما الثاني ) ففيه ـ بعد تسليم كون الغسل شاملا لسائر المائعات ـ أنه يحكم عليه ما سمعت من المقيدات ، بل شيوعه وتبادره الى الذهن عند الأمر بالغسل كاف في تقييده ، لانصراف المطلق إلى الشائع ، وما وقع من بعضهم في المقام من المناقشة في تحكيم المقيدات ، من جهة أنه ليس أولى من حمل الأمر في المقيد على الندب ، وهو مجاز راجح قد تبين فساده في الأصول بما لا مزيد عليه ، والفهم العرفي كاف في رده كالمناقشة الواقعة من المرتضى المتقدمة سابقا في هدم القاعدة الثانية ، بأنه لو تم لاقتضى عدم الغسل بماء الكبريت ، وهو باطل إجماعا ، إذ ما استفاده من الإجماع على جواز الغسل بالماء المذكور من بطلان هذه القاعدة ليس أولى من جعل ذلك الجواز للإجماع ، وتبقى القاعدة على حالها ، هذا إن سلمنا أن الندرة التي ادعاها في مثل ماء الكبريت كالندرة في المقام من كونها ندرة إطلاق ، مع إمكان منعه ، بكون الأولى ندرة وجود بخلاف الثانية ، فتأمل.

٣١٨

( وأما الثالث ) فهو ـ مع احتمال أن يراد بالتطهير التشمير كما تضمنته بعض الأخبار (١) أو التقصير كما اشتمل عليه آخر (٢) وان يراد طهرها عن أن تكون مغصوبة أو محرمة ، أو المراد نفسك فطهر من الرذائل ، وعن ابن عباس أنه قال فطهر أي لا تلبسها على معصية ولا غدرة ، وفي أخرى عنه أيضا من لبسها على معصية كما قال سلامة بن غيلان الثقفي واني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع ، وليس ما ذكرنا مما تضمنته الأخبار من البطون الذي لا يمنع من إرادة الظاهر ، بل هو مجاز قرينته الأخبار كما لا يخفى على من لاحظها ـ لا وجه له إن قلنا بالحقيقة الشرعية ، لعدم العلم بحصول المعنى الشرعي ، وكذلك إن قلنا بالمجاز الشرعي ، والظاهر من هذا اللفظ في هذا المقام عدم خلوه عن أحدهما ، وما قال رحمه‌الله : من أنه تطهير الثوب ليس بأزيد من إزالة النجاسة عنه ، وقد زالت حسا بغير الماء ، لأن الثوب لا يلحقه عبادة لا معنى له ، لأن الكلام في أن هذا الزوال الحسي زوال شرعي أولا ، ولا تلازم بينهما ، وكون الثوب لا يلحقه عبادة غير قاض بما ذكر ، لعدم الفرق بين العبادة وغيرها بالنسبة الى ما ذكرنا عند الشك في حصول المعنى الشرعي الحقيقي أو المجازي ، نعم يتجه استدلاله إن أراد بالتطهير المعنى اللغوي ، وما ورد من الشارع من اشتراط الاستعلاء ونحوه انما هي شرائط خارجية عن المعنى ، ويكون المأمور به حينئذ مطلق التنظيف ، فما ثبت اشتراطه من دليل كورود الماء على النجاسة ونحوه قلنا به ، وإلا فلا ، فلا يتجه الإيراد عليه بما ذكرنا سابقا ولا الإيراد كما وقع من بعض بأنه قد اشترط رحمه‌الله ورود الماء على النجس ، وهو ينافي قوله بحصول الطهارة على أي وجه ، بل ولا ما وقع للمصنف والعلامة في المختلف والذخيرة من الجواب عن الآية أيضا ، والتعرض لنقله يفضي إلى طول من غير فائدة ، فراجع وتأمل. فالصواب في الجواب إما المنع من كون الطهارة بالمعنى اللغوي ، أو يقال : إنها مطلقة تقيد بما ذكرنا من المقيدات السابقة.

__________________

(١) تفسير الصافي ـ سورة المدثر ـ آية ٤.

(٢) تفسير الصافي ـ سورة المدثر ـ آية ٤.

٣١٩

( وأما الرابع ) فبالمنع عن إرادة ذلك على أي حال وبأي شي‌ء حصل ، وما ذكره من رواية حكم وغياث سندا لصغراه لا معنى له ، أما الأول فلكونه مطروحا عندنا وعنده ، فلا معنى لاستفادة ذلك منه ، على أنه لا دلالة فيه على طهارة اليد ، بل عدم نجاسة الوجه ، أو بعض الجسد بالمتنجس على أن نفي البأس لا يدل على الطهارة من غير جابر فتأمل. فتحمل الرواية على إرادة أن المرور ليس حال العرق ، وأما خبر غياث فمع ما قيل أنه بترى ضعيف الرواية لا يعمل بما يتفرد به ، ولم يعلم من المرتضى رحمه‌الله شمول المائع حتى للبصاق ، ومعارض بما دل (١) على أن البصاق لا يزيل إلا الدم ، فلا يكون حينئذ سندا للصغرى ، وقد يكون الدم طاهرا ، أو يراد الاستعانة بالبصاق على غسله ، ومن هنا تعرف الجواب عنها ان أخذت دليلا لا ينبغي أن تسطر في جنب ما ذكرنا.

وفي المقام كلام لصاحب المفاتيح ، محصله « المشهور اشتراط الإطلاق في الإزالة خلافا للسيد وللمفيد ، بل جوز السيد تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث يزول العين ، لزوال العلة ، ولا يخلو من قوة ، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات ، أما وجوب غسلها بالماء عن كل جسم فلا ، فما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهره إلا ما خرج بدليل يقتضي اشتراط الماء ، كالثوب والبدن ، ومن هنا يظهر طهارة البواطن بزوال العين ، وكذا أعضاء الحيوان المتنجسة غير الآدمي ، كما يستفاد من الصحاح » انتهى. وفيه ـ مع كونه أعم من كلام المرتضى من وجه ، بل من وجهين ـ انه إن أراد أن مثل الأجسام الصقيلة لا تنجس بملاقاة النجاسة ولو مع الرطوبة ، كما يظهر من تعليله فهو مخالف للإجماع ، بل الضرورة من الدين ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ١ و ٣.

٣٢٠