جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

كما عن بعض النسخ كان الخلاف في صورة التساوي ، فإنه عليه تكون داخلة في الخمس ، وعلى كلام المشهور داخلة في السبع ، وعن التلخيص يستحب تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع مع الرخاوة والتحتية ، وإلا فخمس ، وهي كنسخة الإرشاد الأخيرة ، وفي السرائر يستحب أن يكون بين البئر التي يستقى منها وبين البالوعة سبعة أذرع إذا كانت البئر تحت البالوعة وكانت الأرض سهلة ، وخمسة أذرع إذا كانت فوقها والأرض أيضا سهلة ، فإن كانت الأرض صلبة فليكن بينها وبين البئر خمسة أذرع من جميع جوانبها ، وظاهره أيضا عدم دخول صورة التساوي ، إلا أنه على عبارة الإرشاد يكون داخلة في الخمس ، وعلى ظاهره تكون مسكوتا عنها ، ولعل ذلك لندرة التساوي ، أو لم يستظهر الدليل عليها كما ستسمع ، وعن الصدوق انه اقتصر في الفقيه والمقنع على اعتبار الصلابة والرخاوة ، فجعل الخمس مع الأولى ، والسبع مع الثانية ، بل عن المقنع أنه ذكر خبر الديلمي الآتي ، وأفتى به قبل ما ذكرناه عنه من اعتبار الصلابة والرخاوة ، وظاهره حينئذ الفرق بين البالوعة والكنيف ، لتضمن خبر الديلمي الكنيف ، وما ذكره من اعتبار الصلابة والرخاوة في البالوعة وان احتمل أنه لا يفرق بينهما ، إلا أنه اعتبر الصلابة والرخاوة ، ثم اعتبر فوقية الجهة ، كما في خبر الديلمي ، بل لعله الأقوى ، لما عن الفقيه من جعل موضوع المسألة البالوعة والكنيف من غير فرق بينهما والمعروف من نقل الخلاف في المسألة عن ابن الجنيد في المختصر الأحمدي قال : ما صورته لا استحب الطهارة من بئر يكون بئر النجاسة التي يستقر فيها من أعلاها في مجرى الوادي ، إلا إذا كان بينهما في الأرض الرخوة اثني عشر ذراعا ، وفي الأرض الصلبة سبع أذرع ، فإن كان تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ، وإن كانت محاذيتها في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبعة أذرع فلا بأس ، تسليما لما رواه ابن يحيى (١) عن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام انتهى. وكلامه ظاهر في اعتبار الاثنى عشر بشرطين ، الأول علو البالوعة الكائنة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

٢٨١

في مجرى الوادي ، والثاني كون الأرض رخوة ، وأما حيث تكون البئر أعلى فلا بأس ، وإذا كانت الأرض صلبة فسبع ، وكذلك في صورة المحاذاة في سمت القبلة ، فإنه يكتفى بالسبع حتى لو كانت الأرض رخوة ، والمراد بالعلو في كلامه علو الجهة لا علو القرار ، مع احتمال إرادته ، لكنه بعيد ، سيما بعد الاستناد الى خبر الديلمي ، كما ستسمع إن شاء الله.

وكيف كان فحجة المشهور الجمع بين قول الصادق عليه‌السلام في مرسلة قدامة ابن أبي يزيد الجماز (١) قال : سألته « كم أدنى ما يكون بين البئر بئر الماء والبالوعة؟ فقال : إن كان سهلا فسبع أذرع ، وان كان جبلا فخمس أذرع ، ثم قال : إن الماء يجري إلى القبلة ، إلى يمين ، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، ويجري عن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، ولا يجري من يمين القبلة إلى دبر القبلة ». وقول الصادق عليه‌السلام (٢) في خبر الحسن بن رباط سألته « عن البالوعة تكون فوق البئر؟ قال : إذا كانت فوق البئر فسبعة أذرع ، وإذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع من كل ناحية وذلك كثير » ‌ووجه الاستدلال ان في كل من الروايتين إطلاقا من وجه وتقييدا من آخر ، فجمع بينهما بحمل مطلقهما على مقيدهما ، بمعنى أن مورد السبعة في الرواية الأولى مقيدة بمورد الخمسة في الرواية الثانية ، والسبعة التي في الرواية الثانية مقيدة بالخمسة التي في الرواية الأولى ، ولا يخفى عدم جريان مثل ذلك على القواعد ، بل المستفاد من مجموع الروايتين ان السبعة لها سببان ، السهولية وفوقية البالوعة ، والخمسة أيضا لها سببان ، الجبلية وأسفلية البالوعة ، ويحصل التعارض عند تعارض الأسباب ، كما إذا كانت الأرض سهلة والبالوعة أسفل من البئر ، فلا بد من مرجح خارجي حينئذ ، وكذلك لو كانت الأرض جبلا والبالوعة فوق البئر ، ولعله بالنسبة إلينا تكفي الشهرة في المرجح ، فيكون‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

٢٨٢

تحكم كل منهما على الآخر بمعونتها ، وبالنسبة إليهم لا نعلم المرجح ، ولعله دليل خارجي ، أو أن سهولة الأرض لا تؤثر مع أسفلية البالوعة ، كما أنه لا يؤثر علوها عليه مع جبلية الأرض ، وعلى كل حال فصورة التساوي يمكن دخولها تحت قوله إن كانت الأرض سهلة فسبع ، لأنها غاية ما قيدت بما لم تكن البئر فوق البالوعة ، فتبقى الصورتان داخلتين ، وهما صورة فوقية البالوعة وتساوي القرار ، وهو الذي حكم به المشهور وأما الجبلية في الرواية الأولى فهي غير مقيدة بشي‌ء ، فلا معنى حينئذ للإشكال في صورة التساوي بعد تسليم ما ذكروه من الجمع ، نعم تتجه المناقشة في هذا الجمع بعدم جريانه على القواعد ، والظاهر أن المراد بالفوقية في الرواية فوقية القرار ، لأنها هي المتبادر من لفظ الفوق ، لا فوقية الجهة ، وهو الذي فهمه كثير منهم ، وحملوا عليه كلامهم ، فان فيه لفظ الفوق كما في الأخبار ، وليس له تعرض لفوقية القرار أو فوقية الجهة.

حجة ابن الجنيد ما أشار إليها في كلامه من رواية سليمان الديلمي (١) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن البئر إلى جنبها الكنيف؟ فقال لي : ان مجرى العيون كلها مع مهب الشمال ، فإذا كانت البئر النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل منها لم يضرها إذا كان بينهما أذرع ، وإن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقل من اثني عشر ذراعا ، وان كانت تجاهها بحذاء القبلة وهما مستويان في مهب الشمال فسبعة أذرع » ‌ومن المعلوم ان هذه الرواية مع ضعف سندها وعدم الجابر لا تفي بجميع ما ادعاه أولا من كون الاثنى عشر مشروطا بأمرين ، السهولة والعلو مع اكتفاء الرواية بالثاني ، على أن دعواه الاكتفاء مع الصلابة بسبع ولم يذكر في الرواية ، ولعله لم يأخذ جميع ما ذكر من هذه الرواية ، بل أخذ الصلابة والرخاوة من الأخبار الأخر ، وعلو الجهة من هذه الرواية ، وجمع بينهما بما ذكر ، وقد عرفت سابقا ان الصدوق في المقنع نقل عنه أنه عمل بهذه الرواية أيضا ، وفي جامع المقاصد كما عن جماعة من الأصحاب اعتبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٦.

٢٨٣

الجهة عند تساوي القرار ، لمكان هذه الرواية.

قال : في جامع المقاصد « وطريق الجمع حمل ما دل على الزيادة على المبالغة في الاستحباب ، وحينئذ فيعتبر الفوقية والتحتية باعتبار المجرى ، فإن جهة الشمال فوق بالنسبة الى ما يقابلها ، كما دلت عليه هذه الرواية ، وانما يظهر أثر ذلك مع التساوي في القرار ، ويضم إلى الفوقية والتحتية باعتبار القرار وإلى صلابة الأرض ورخاوتها ، فيحصل أربع وعشرون صورة » انتهى. وكيفية الانتهاء واضحة لما علمت سابقا أن الصور المتقدمة ست ، وفي المقام صور أربعة ، لأن البئر والبالوعة إما أن يكون امتدادهما بين الشمال والجنوب ، وله صورتان ، كون البئر في الشمال وعكسه ، أو يكون بين المشرق والمغرب ، وله أيضا صورتان ، كون البئر في المشرق وعكسه ، ومعلوم أن ضرب الستة في الأربع تبلغ أربعا وعشرين صورة ، في سبع عشر منها يكتفى بالخمس ، وهو صورة الصلابة بأسرها ، وهي اثنى عشر ، ويضاف إليها صورة فوقية قرار البئر في الأرض السهلة ولها أربع بالنسبة إلى الجهة ، فتكون ستة عشر ، ويضاف صورة تساوي القرارين مع علو البئر في الجهة ، فإنه بمنزلة علو القرار ، فتكمل حينئذ سبعة عشر ، والباقية سبع ، لها سبع ، وأنت خبير انه لا مخالفة بين هذه الصور كلها وبين إطلاق الصور الست المتقدمة ، إلا في صورة واحدة وهي تساوي القرارين وكانت الأرض سهلة والبئر أعلى جهة فإنه على الأول كان بينهما سبع ، وعلى الثاني يكون بينهما خمس ، تنزيلا لعلو الجهة منزلة علو القرار ، ومن المعلوم أن رواية الديلمي وإن أفادت إن مهب الشمال فوق ، لكنها لم تفد تقديره بهذا التقدير ، وكان هذا القائل استفاد منها مجرد كون مهب الشمال فوق ، ثم أدخله في رواية ابن رباط ، فجعل الفوق فيها شاملا لفوقية القرار وفوقية الجهة ، ثم جمع الجمع المتقدم ذكره سابقا بينها وبين رواية الجماز.

إذا عرفت ذلك فلا معنى للتأمل ، كما عن بعضهم بان الاعتبار يقضي بان يكون السبع إما في ثمان أو ست ، لأن فوقية القرار إما ان تعارض فوقية الجهة ويصير‌

٢٨٤

بمنزلة المتساويين أولا ، فإن كان الأول فالأول ، وإن كان الثاني فالثاني. وأما اعتبار الجهة في البئر دون البالوعة فتحكم ، لأنا نقول أما على ( الأول ) يلزم الأول فحق ، لأنه يضاف حينئذ إلى السبع صورة فوقية البئر قرارا وفوقية البالوعة جهة ، فإنه قد ذكرنا ان في هذه خمسا ، وعلى كلام المعترض ينبغي السبع لتعارضهما ، فتكون متساوية ، ولها سبع ، وأما على ( الثاني ) يلزم الثاني فغير مسلم ، فانا نختار عند تعارضهما تقديم فوقية القرار مع سهولة الأرض ، أخذ بإطلاق رواية ابن رباط المتقدمة ، ولا يلزم منه الست ، لأن السبع إنما هي صورة تساوي القرارين ، ومعها ثلاث ، كون البالوعة في جهة الشمال أو المشرق أو المغرب ، وخرجت صورة واحدة ، وهي إذا كانت البئر في مهب الشمال ، فإنها حينئذ تكون بمنزلة علو القرار ، وفي هذه الصور الثلاث لا تعارض ، وصور فوقية قرار البالوعة وتحتها أربع ، والتعارض حينئذ في صورة واحدة ، وهي فيما إذا كانت مع ذلك البئر في مهب الشمال ، وقد قدمنا أنه يقدم فوقية القرار كما هو الفرض على التقدير الثاني ، للإطلاق المتقدم ، وليس هناك اعتبار جهة في البئر دون البالوعة حتى يكون تحكما كما ادعاه المعترض ، فلا وجه لهذا الاشكال ، كما أنه لا وجه للإشكال في أصل الحكم من أنه لا معنى للاستناد في إلحاق الجهة برواية الديلمي ، لأنهم لم يعملوا بها فيما دلت عليه من الأحكام ، فكيف يتم لهم الاستناد إليها في خصوصية هذا الحكم ، لما عرفت سابقا انه لم يعمل بشي‌ء ، نعم قد استفيد منها ان جهة الشمال فوق بالنسبة إلى غيرها ، وإلا فلا عمل بشي‌ء من تقديرها ، وهذا المعنى كما يمكن استفادته منها يمكن استفادته من غيرها ، كرواية أبي يزيد الجماز ، بل يمكن معرفته من قواعد أخر عندهم ، وذلك لان الأرض كروية واقعة في الماء ، قدر منها داخل ، وقدر منها خارج ، وربما قالوا ان ثلثيها داخل ، وثلثها خارج ، ووسطه قبة الخارج محاذي للقطب الشمالي ، وكل عنصر يميل إلى مركزه ، ومركز الماء هو البحر الذي فيه الأرض ، فالماء الذي في الأرض يميل بالطبع إلى الجنوب من كل جانب‌

٢٨٥

من الأرض ، والشمال من الأرض فوق جنوبها ، لأن ابتداء الأرض الخارج من الجنوب متصل بالبحر ، فكلما يتحرك المتحرك من جنوب الأرض إلى شماله يصعد الى أن ينتهي إلى محاذي القطب الشمالي ، وإذا تحرك منه الى الجنوب ينزل ، لما قلنا من أن الأرض كروية.

فظهر بما ذكر أن الشمال فوق بالنسبة إلى الجنوب ، فإذا كانت البئر في جهة الشمال مال الماء بالطبع إلى جهة الجنوب ، ولا يصعد من الجنوب الى الشمال إلا بقاسر يقسره ، فلذلك اكتفينا بالخمس ، بخلاف العكس ، فاحتجنا إلى الزيادة.

وربما يشير الى ما ذكرنا قول الصادق عليه‌السلام في رواية ابن يزيد المتقدمة « يجري الماء إلى القبلة إلى يمين ، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، ويجري عن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، ولا يجرى من القبلة إلى دبر القبلة » ‌وذلك لأن قبلة الراوي قبلة العراق ، وهي جهة الجنوب لهم ، فلا يجري الماء من الجنوب الى دبر القبلة أي إلى الشمال ، لأنه دبر القبلة بالنسبة إلى مستقبل القبلة ، وفي كشف اللثام بعد أن ذكر هذه الرواية مؤيدة للحكم بأن جهة الشمال فوق بالنسبة إلى الجنوب « الظاهر أن المراد بالقبلة قبلة بلد الامام ونحوه من البلاد الشمالية ، ويعضده الاعتبار ، لكون معظم المعمورة في الشمال ، وانغمار الجنوبي من الأرض في الماء حتى لم ير العمارة في الجنوبي من قبل بطلموس » انتهى. ولا منافاة فيه لما ذكرنا ، لا يقال أنه لا معنى لجميع ما ذكرتم ، لكون البئر والبالوعة معا في البلاد الشمالية ، فأي معنى لكون البئر في مهب الشمال دون البالوعة وبالعكس ، لأنا نقول المراد به إنما هو القرب إلى ناحية الشمال وعدمه ، فتأمل.

نعم قد يشكل المقام بأنه مع حصول الفوقيتين أي الجهة والقرار لا معنى للاقتصار على السبع الحاصل لأحدهما لو كان ، لأنه يزداد مظنة وصول ماء البالوعة إلى البئر ، وكذلك لا معنى للخمس مع الفوقيتين في البئر ، فإنه يبعد مظنة وصول ماء البالوعة إليها ، ومن هنا يمكن حمل الرواية على ذلك ، فيكون ذكر الاثنى عشر مع علو قرار البالوعة‌

٢٨٦

وجهتها ، ويكون الاكتفاء بالأذرع في كلامه مع علو قرار البئر والجهة أيضا ، فتكفي ولو ثلاثا ، ومع الاستواء فيهما اكتفي بالسبع ، بل لا يبعد في نظري القاصر انه يستفاد من ملاحظة رواية قدامة ورواية ابن رباط ورواية الديلمي وصحيحة الفضلاء (١) قالوا : قلنا له « بئر يتوضأ منها يجري البول قريبا منها أينجسها؟ فقال : إن كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع لم ينجس ذلك بشي‌ء ، وإن كان أقل من ذلك نجسها ، قال وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمر الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها ، وما كان أقل من ذلك فلا يتوضأ منه ، قال زرارة : فقلت له : فان كان مجرى البول يلاقيها وكان لا يثبت على الأرض؟ فقال : ما لم يكن له قرار فليس به بأس ، فإن استقر منه قليل فإنه لا يثبت الأرض ولا قعر له حتى يبلغ البئر ، وليس على البئر منه بأس ، فيتوضأ منه ، إنما ذلك إذا استنقع كله » ‌ومما رواه الحميري (٢) في قرب الإسناد عن محمد بن خالد الطيالسي عن العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته « عن بئر يتوضأ منها القوم وإلى جانبها البالوعة؟ قال : إن كان بينهما عشرة أذرع وكان البئر التي يستقون منها مما يلي الوادي فلا بأس » ‌ان الأمر يختلف باختلاف الآبار والبواليع من قرب القرار وعدمه والجهة وعدمها باختلاف الأراضي والمدار على الاطمئنان بعدم وصول ماء البالوعة إلى البئر ، وقد يحصل ذلك بالثلاثة أذرع ، وقد لا يحصل بالعشرين ، لكثرة ماء البالوعة وشدة نفوذه ، فالمدار حينئذ عليه ، ولا بد من ملاحظة جميع ماله دخل في ذلك من قرب القرار وعدمه وشدة النفوذ وعدمه والجهة وغير ذلك ، فتأمل جيدا.

ومن هنا أمكن أن يدعى في صحيحة الفضلاء أن التقدير بالثلاثة أذرع والتسعة لمكان اجتماع الجهتين ، بل قد يدعى أنه متجه على ما ذكروا ، وذلك لأن فوقية الجهة

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ١ مع الاختلاف.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٨.

٢٨٧

لها ذراعان ، ولذا رجعت صورة التساوي معها إلى الخمسة مع أنها سبعة ، فعلم من ذلك أن الموظف لها ذراعان ، فحيث تجتمع مع مقتضى السبعة ينبغي أن تجعل تسعة ، وحيث تجتمع مع مقتضى الخمسة ينبغي ان يجعل ثلاثة ، لزيادة السبعة في الأول ذراعان ، ونقصان الثاني كذلك ، لا يقال ان رواية الفضلاء لا تدل على علو الجهة ، لأن أعلى الوادي لا يلزم أن يكون في مهب الشمال ، لأنا نقول الظاهر أن المراد ذلك في آبار مكة ، وأعلى الوادي فيها مهب الشمال ، نعم لا بأس بالرجوع لما قدره المشهور عند عدم معرفة حال الأرض بالوجوه المتقدمة حتى يحصل الاطمئنان النفسي ، وهل علو القرار يكفي في الحكم بالخمسة ولو قليلا ، فيكون مبنيا على التحقيق أولا؟ الظاهر أن المدار على صدق ذلك عليه عرفا.

ولا يحكم بنجاسة ماء البئر بمجرد قرب البالوعة ، سواء قلنا إنها لا تنجس إلا بالتغير أو بالملاقاة ، للأصل والإجماع منقولا بل ومحصلا ، ويدل عليه مضافا إلى ذلك خبر محمد بن القاسم (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام « في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع وأقل وأكثر يتوضأ منها ، قال ليس يكره من قرب ولا من بعد ، يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغير الماء » ‌وبهذه الرواية تحمل الأخبار الأول على الاستحباب ، وما تقدم في صحيحة الفضلاء من الدلالة على التنجيس بعدة وجوه من المنطوق والمفهوم على رواية الكافي ، وبالمفهوم فقط على رواية غيره لا بد من تأويله ، لما علمت من الإجماع على عدم التنجيس بذلك ، ويظهر من بعضهم حمل النهي عن الوضوء فيها على الكراهة ، وهو مشكل مع حصول التباعد المذكور عند المشهور ، وذلك لأنه بعد حصول القدر المستحب كيف يكون مكروها ، نعم لو أردنا بقوله فيها وما كان أقل من ذلك فلا تتوضأ منها أي أقل حتى من القدر المستحب أمكن أن يدعى ذلك ، مع ما فيه من أن الظاهر منهم ان هذا التباعد استحبابي ، وانه لا كراهة في عدمه ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٤.

٢٨٨

كما يفهم ذلك من نصهم على الاستحباب ، وعدم تعرضهم للكراهة ، ثم على تقدير الكراهة فهل يشمل سائر الاستعمالات أو يخص الوضوء؟ لا يبعد الثاني ، وثبوت البأس في آخر الرواية لا يقضي بخلافه عند التأمل فيها.

إلا أن يعلم وصول ماء البالوعة إليها فتنجس حينئذ بالملاقاة إن قلنا به ، وإلا فبالتغير ، وفي كشف اللثام ان من اكتفى بالظن نجسها مع ظن الاتصال ، أما لو تغيرت البئر تغيرا يصلح أن يكون مستندا للبالوعة فالمتجه الطهارة ، ومجرد الصلاحية والمجاورة ما لم تفد العلم لا توجب التنجيس ، واحتاط المصنف في المعتبر بالتطهير هنا ، كما انه احتاط أيضا بالعمل بصحيحة الفضلاء ، لكونها أصح أخبار الباب ، لكن قد عرفت أن الإجماع على خلافها.

( ثم إذا حكم بنجاسة الماء ) بئرا كان أو غيره لم يجز استعماله في الطهارة مطلقا حدثا وخبثا عند الضرورة وعدمها ، وهل المراد بعدم الجواز الإثم أو عدم الاعتداد؟ صرح العلامة في القواعد بالأول ، وعنه في نهاية الأحكام تفسير الحرمة بعدم الاعتداد ، ولا يبعد القول بالأول في خصوص الطهارة الحدثية ، أما حيث يكون تشريعا فواضح ، وأما حيث لا تشريع كما إذا كان عالما بالفساد وليس من ذوي الأتباع وقلنا بعدم حصول التشريع في ذلك فللنواهي الكثيرة عن الوضوء بالماء القذر المفيد حرمة ذاتية المستلزمة للفساد ، بل هو الظاهر منهم في مسألة الإنائين ، بناء على جريانها على القاعدة ، إذ لو كان الحرمة فيه تشريعية لأمكن القول بالاحتياط ، وعنده يسقط التشريع ، ويكون كاشتباه المطلق بالمضاف ، وأما الطهارة الخبثية فالأظهر العدم وإن أمكن للمدعي أن يدعيه أخذا بحقيقة النهي ، وفي كشف اللثام ان استعماله في صورة الطهارة أو الإزالة مع اعتقاد انهما لا يحصلان به لا إثم فيه ، وليس استعمالا له فيهما انتهى. قلت : لا أثر للاعتقاد في المقام ، بل معنى قوله عليه‌السلام لا تتوضأ بالقذر أي لا تأت بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين بعنوان الوضوء ، فإنه يحرم عليك ، ولا يحصل الأثر ، ولا دخل‌

٢٨٩

للاعتقاد فتأمل. نعم لا بأس بالوقوع لا بعنوان الوضوء.

وكذا لا يجوز في الأكل والشرب دون غيرهما من إزالة الأوساخ واللطوخات ونحو ذلك إلا عند الضرورة والمدار على تحققها ، ومنها العسر والحرج والتقية ونحو ذلك.

( ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر )

( وجب الامتناع عنهما )

في الشرب والطهارة وغيرهما مما يشترط فيه طهارة الماء مع فرض الانحصار ، إجماعا محصلا ومنقولا في الخلاف والمعتبر وغيرهما كما عن الغنية والتذكرة ونهاية الأحكام وبغير خلاف كما في السرائر ، فحينئذ إن لم يجد غيرهما تيمم كالنجس المعين ، ويدل عليه مضافا إلى خبر سماعة (١) عن الصادق عليه‌السلام : « في رجل معه إناءان وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما قال يهريقهما ويتيمم » وموثقة عمار (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره قال : يهريقهما جميعا ، ويتيمم » ‌ونسبهما في المعتبر إلى عمل الأصحاب ، وفي المنتهى ان الأصحاب تلقت هذين الحديثين بالقبول ، واستدل له مع ذلك كله في المعتبر بان يقين الطهارة معارض بيقين النجاسة ، ولا رجحان ، فيتحقق المنع ، وعن المختلف الاستدلال له أيضا بأن اجتناب النجس واجب ، ولا يتم إلا باجتنابهما ، وما لا يتم الواجب إلا به واجب ، وهذا منهما قاض بجريان الحكم فيهما على القاعدة من غير احتياج إلى دليل خاص ، فيكون الدليل حينئذ مؤكدا ، وربما ظهر من غيرهما خلافه.

فكان المهم حينئذ تنقيح القاعدة لينتفع بها في غير المقام ، فنقول الإناء الطاهر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

٢٩٠

إما أن يشتبه بإناء معلوم النجاسة سابقا ، أو يشتبه بالنجس من جهة عدم العلم بوقوع النجاسة في أيهما ، ومقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق بين ما يكون معلوم النجاسة واشتبه ، أو وقع الاشتباه من غير سبق علم بالنجاسة ، وعلى كل تقدير فالاجتناب فيهما على القاعدة ، أما الأول فتقرير القاعدة فيه على وجهين ، وإن كان مآلهما إلى واحد.

( الأول ) أن يقال : ان التكليف باجتناب الإناء النجس قد تحقق قطعا ، لكون الفرض معلوميته سابقا ، فاستصحاب بقاء التكليف حينئذ به قاض بوجوده الآن ، ولا طريق لامتثاله إلا باجتنابهما معا ، فهو حينئذ من قبيل قول الشارع لا تضرب أحد الشخصين وكان معينا عنده غير معين عند السامع.

( الثاني ) أن يقال أن الشارع كلفنا باجتناب النجس ، والفرض أن أحدهما نجس ، فنحن مكلفون باجتنابه الآن ، ففي الحقيقة صار التكليف باجتناب فرد واحد منهما معين غير معلوم عندنا ، فيجب حينئذ اجتنابهما لأنه لا طريق لامتثال هذا الخطاب إلا اجتنابهما ، لا يقال : ان أصل البراءة يعارض ما ذكرت ، لأنا نقول إن أريد به التمسك بالبراءة عنهما جميعا بتقريب رده إلى شبهة الحكم فيقال ان هذا موضوع جديد لا نعرف حكمه عند الشارع ، ففيه أنه يرجع الى دعوى أن الاشتباه العارضي للشخص مسقط للتكليف الناشئ عن صفة لاحقة للعين لم يعلم اضمحلالها بالاشتباه ، وهو موقوف على دليل غير أصل البراءة ، لانقطاعه بما دل على بقاء التكليف الأول من الاستصحاب وغيره ، وما يقال : من أنا نمنع حرمته ونجاسته ما لم نعلم حرمته ونجاسته ، إذ اتصاف الأعيان بالحل والحرمة والطهارة والنجاسة إنما يرجع الى ملاحظة فعل المكلف ، وإن كانت الحكمة الباعثة للحكم كامنة في تلك الأعيان فالأعيان وان اتصفت بذاتها من جهة تلك الحكمة بالحرام والنجس مثلا من دون تقييد بالعلم والجهل ، ولكن اتصافها بهما من جهة ملاحظة إضافة فعل المكلف إليها لا يكون إلا في صورة العلم يدفعه انه على تقدير تسليمه ان أريد بالعلم العلم بالخصوص فدعوى توقف الاتصاف بالحرمة بالنسبة‌

٢٩١

الى فعل المكلف عليه ممنوعة ، وان أريد ولو إجمالا مع إمكان الامتثال فهو مسلم ، والمقام منه ، وما يقال بالمعارضة بالمشتبه الغير المحصور فضعيف ، إذ قد عرفت أنه لا مانع منه بعد قيام الدليل عليه ، وقد قام فيه من جهة أدلة العسر والحرج القاضية بعدم مشروعية ما كان فيه ذلك ، وحينئذ يسقط الحكم التكليفي ، ويبقى الحكم الوضعي من الفساد ونحوه ، مع احتمال القول بسقوطه ، لكنه بعيد ، وإن أريد بأصل البراءة انما هو البراءة عن واحد منهما فللمكلف أن يختار أيهما شاء ففيه أنه لا معنى له بعد ما عرفت من بقاء التكليف بالفرد الغير المعين عند المكلف ، للاستصحاب أو شمول الدليل ، مع أن براءة الذمة في واحد منهما كانت منتقضة ، إذ الفرض أنه نجس معلوم سابقا ان أريد بالأصل فيها بمعنى الاستصحاب ، وان أريد به القاعدة أو الظاهر ـ فهما لا يعارضان ما ذكرنا من بقاء التكليف ، وما يقال : انا نتمسك بالاستصحاب أي استصحاب الطهارة إذ الفرض أن أحدهما طاهر يدفعه انه لا معنى للاستصحاب في خصوص المقام ، لأنه إن أريد به استصحاب طهارته على الاجمال فهو حق ولا يفيده ، بل هو غير محتاج اليه ، وإن أريد به التمسك في خصوص كل واحد منهما فهو لا معنى له ، لعدم معرفة حصول الأمر المستصحب فيه حتى يستصحب.

( فان قلت ) : أي مانع من الاستصحاب مع كون الإناء الذي كنت تعلم نجاسته سابقا مسبوقا أيضا بطهارة ، فللمتمسك حينئذ أن يقول في طهارة كل واحد منهما إن هذا كان طاهرا ، ولم أعلم الآن فيه بالنجاسة ، فليكن باقيا على الطهارة الأولى ، ( قلت ) : لا يخفى على من لاحظ أدلة الاستصحاب وموارده ان محله الشي‌ء الذي يعلم حاله سابقا الى آن حصول الشك فيتمسك فيه حينئذ باستصحاب تلك الحالة المعلومة وقت الشك ، وهذا المعنى مفقود ، وذلك لأن الفرض أن الحال الأول الذي كان قبل حصول الاشتباه غير معلوم لنا في كل واحد منهما ، ومعرفة الحال الذي قبل الحال السابق على الاشتباه غير مفيد بعد تخلل هذه الفترة ، فلا يسوغ حينئذ أن يقال :

٢٩٢

هذا كان طاهرا ، لأنه إن أريد به الكون قبل عروض الاشتباه فهو لا معنى له ، إذ ليس معلوما انه طاهر ، وإن أريد به الزمان السابق على ذلك فلا معنى لاستصحابه كما عرفت.

( فان قلت ) إن قوله عليه‌السلام (١) « لا تنقض اليقين إلا بيقين مثله » ‌شامل لمحل النزاع ، فإنك نقضت اليقين وان كان سابقا بغير اليقين ، ( قلت ) لا يخفى أن معنى الحديث أنك لا تنقض اليقين الذي لولا عروض هذا الشك لبقي على هذا المتيقن ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، فإنه لو لا هذا الاشتباه لم يعلم كونه على هذا اليقين ، إذ قد يكون هو النجس ، والحاصل أن المعنى أن تيقن الطهارة مثلا الى حصول الشك لا تنقضه بالشك ، بل أبق على مقتضى اليقين الأول الى أن يجيئك يقين مثله ينقضه ، لا يقال إن ما ذكرت ليس أولى من أن يقال أن معنى الرواية أنه لا ينقض حكم اليقين الأول بسبب الشك ، بل هذا أولى ، إذ ليس المراد نقض اليقين نفسه ، بل المراد نقض حكمه ، ضرورة أن اليقين نفسه يرتفع بالشك ، لأنا نقول ان هذا أيضا لا ينافي ما ذكرنا ، وذلك لأنا لا نريد بعدم نقض اليقين عدم ارتفاع نفس اليقين ، بل هو قد ارتفع قطعا ، بل نريد عدم نقض الأحكام التي تترتب على الموضوع بسببه ، لكن المعنى انك لا تنقض أحكام اليقين بكل ما يزيل اليقين الا بالمزيل الذي هو اليقين بالنقيض ، وأما باقي المزيلات له فلا تنقض أحكامه بها ، وهو ظاهر في أنه لو لا هذا المزيل لكان باقيا ، لأن الفرض أن نقضه إنما كان به ، وهذا المعنى مفقود فيما نحن فيه ، لانه على تقدير فرض نفي الاشتباه لم يعلم أنه الظاهر ، على أنه ربما يدعى ظهور قوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين أبدا بالشك فيما شك في زوال وصفه نفسه ، لا فيما إذا اشتبه بالزائل فتأمل جدا جيدا. على انا ان قلنا بجريان الاستصحاب فيما ذكرنا من بقاء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء حديث ـ ١ ـ وفيه ( ولا تنقض اليقين ابدا بالشك وإنما تنقضه بيقين آخر ).

٢٩٣

التكليف باجتناب النجس هنا أي حال الاشتباه ، فهو قاطع للاستصحاب المذكور ، لأن الخطاب بالجمل مع تيسر الامتثال يقبحون أهل العرف معه تناول أحدهما ، ويعدونه في قسم العصاة وإلا فكل مقدمة لواجب هي مباح في نفسها أو مندوبة أو مكروهة أو غير ذلك ، فلو فرضنا أن المقدمة يعارضها استصحاب أو الإباحة نفسها لم تبق مقدمة لواجب نقول بوجوبها.

ومن هنا تعرف أن القسم الثاني وهو الذي تقع في أحدهما النجاسة ولم يعلم في أيهما وان قلنا بجريان الاستصحاب فيه لكن باب المقدمة فيه فيقطعه ، لكونها من قسم الخطابات ، نعم لا يتم ذلك إلا على القول بعدم الوجوب ، فلا مقدمة حينئذ لكن قد عرفت ما فيه وما في الاستدلال عليه بأصالة البراءة ونحوها ، ومن المعلوم عدم جريان ما ذكرنا من الاستصحاب فيما لو كان أحد الإنائين بولا والآخر ماء.

( فان قلت ) نحن لا نتمسك في شي‌ء من ذلك بالاستصحاب ولا بأصل البراءة ، بل نتمسك فيما يرجع الى الطهارة والنجاسة بقوله عليه‌السلام (١) : « كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر » وقوله عليه‌السلام (٢) : « كل ماء طاهر حتى تعلم أنه نجس » ‌وفيما يرجع الى الحل والحرمة بقوله عليه‌السلام (٣) : « كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام فهو حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » ‌( قلت ) : هو ـ مع كونه ليس جاريا في سائر الأشياء مثل الأنكحة ونحوها مما لا تجري فيه هذه العمومات ، ومناف لما قد عرفت أن لفظ الحرام والنجس يراد بهما الواقع ، لعدم دخول العلم في مفهوم اللفظ ، ولترتب الفساد ونحوه عليه ـ فيه انا نمنع شمولها لمثل المقام ، وذلك لظهور قوله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ٤.

(٢) روى صاحب الوسائل « كل ماء طاهر الا ما علمت أنه قذر » ‌في الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق حديث ـ ٢ ـ ولم نجد « كل ماء طاهر حتى تعلم أنه نجس ».

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يكتسب به حديث ١ ـ من كتاب التجارة.

٢٩٤

عليه‌السلام : « كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام » ‌الى آخره في إرادة أن الشي‌ء الكلي الذي يكون منه حلال وحرام بمعنى أنه لا تحصل الحرمة بمجرد الاحتمال وهو في الشبهة الغير المحصورة ويكشف عن ذلك قوله عليه‌السلام : في رواية مسعدة بن صدقة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حر قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهرا ، أو أمره تحتك وهي أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة » ‌فانظر كيف كشف عليه‌السلام أصل المراد بقول كل شي‌ء الى آخره فيكون مراده حينئذ بيان انه لا معنى لحرمة الأشياء بمجرد الاحتمال ، لا انه إن كان هناك عبدان أحدهما تعلم انه حر والآخر مملوك ، أو ان امرأتين أحدهما أجنبية والأخرى أختك فهو حلال أيضا.

ومنها رواية عبد الله بن سليمان (٢) قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام « عن الجبن فقال : سألتني عن طعام يعجبني ، ثم أعطى الغلام درهما ، فقال : يا غلام اتبع لنا جبنا ، ثم دعى بالغداء فتغدينا ، وأتى الجبن فأكلنا ، فلما فرغنا قلت : ما تقول في الجبن؟ قال : أولم ترني آكله ، قلت : ولكن أحب ان أسمعه منك ، فقال : سأخبرك عن الجبن وغيره ، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه » ‌فإنه ظاهر في إرادة حكم الجبن وغيره مما مثله ، ومقصوده بكون مثل الجبن فيه حلال انه يكون منه حلال ومنه حرام ، لا أن المقصود منه أنه إذا كان جبنان أحدهما تعلم حرمته والآخر حليته فهو حلال ، الى آخره كلا بل هو ظاهر فيما ذكرنا ، ومثل ذلك رواية ضريس (٣) قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام « عن السمن والجبن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يكتسب به حديث ٤ ـ من كتاب التجارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب الأطعمة المباحة حديث ـ ١ ـ مع الاختلاف.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث ١ ـ مع الاختلاف.

٢٩٥

في أرض المشركين والروم أنأكله؟ فقال : ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام » ‌وما نقل عن كتاب المحاسن عن أبي الجارود (١) قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام « عن الجبن فقلت : أخبرني من رآى أنه يجعل فيه الميتة ، فقال من أجل انه كان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت منه أنه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتره وبعه وكله ، والله اني لأعترض السوق فأشتري منه اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البرية وهذا السودان »

‌بل جميع هذه الروايات ظاهرة في المأخوذ من يد المسلمين ، والمشتري من أسواقهم والشبه الغير المحصورة ونحو ذلك فأين هذه الأخبار والاستدلال على نحو المقام ، والظاهر أن روايات الطهارة خارجة هذا المخرج ، أي بمعنى ان الشي‌ء لا ينجس بمجرد احتمال النجاسة ، وهذا كلام يقال : مع عدم حضور الشبهة المحصورة في الذهن ، وخطورها بالبال ، بل المقصود ان الأشياء كلها على الطهارة حتى تعرف عروض النجاسة ، على انه قد يدعى ان مثل ذلك في الشبهة المحصورة نوع من العلم ، فإنه يقال عالم بالنجس وعالم بالحرام بل يقال انه عالم به بعينه وانه لم يدعه ، على انا لنا كلاما في قوله عليه‌السلام كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر في انه هل المراد منها شبهة الحكم أو مستصحب الطهارة ، وعليهما لا تنافي المطلوب ، لعدم الشبهة في الحكم في المقام علي الأول ، ولا تزيد على الاستصحاب على التقدير الثاني ، وقد عرفت عدم جريانه في بعض الصور على وجه ، وأنه لا يعارض باب المقدمة ودعوى ظهور الرواية في مشتبه الموضوع الذي عين مقامنا كالإنائين ونحوهما فيها ما لا يخفى ، واحتمال شمولها للجميع لا يخلو من إشكال ، من جهة انه حينئذ يراد بالعلم بالنسبة إلى مشتبه الحكم وصول الدليل المعتبر شرعا ، وفي غيره اليقين ، أو ما يقوم مقامه ، وإرادة القدر المشترك مجاز محتاج إلى قرينة ، ولنا أيضا في قوله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦١ ـ من أبواب الأطعمة المباحة حديث ٥ ـ مع اختلاف في الألفاظ.

٢٩٦

عليه‌السلام « كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام » ‌كلام ليس هذا محل ذكره.

ويمكن أن يقال ان جريان الاستصحاب والعمومات في كل منهما معارض بجريانه في الآخر ، والعمل به فيهما معا مقطوع بعدمه ، والقول بالتخيير أي تخيير المكلف في واحد منهما لا دليل عليه ، وليس ذلك من قبيل تعارض الروايات ، وبتقرير آخر بأنهما معا مصداق دليل الاستصحاب ، وهو لا تنقض اليقين ، مع القطع بالبطلان في واحد ، ولا دليل أيضا على التخيير ، وكذا العمومات ، فإنه لا شك في صدقها على كل واحد منهما في كل آن حكمي ، مع القطع ببطلانها في واحد ، والقول بالتخيير المذكور سابقا لا دليل عليه ، وكان ما ذكرنا هو الذي أشار إليه المحقق رحمه‌الله في المعتبر بقوله في الاستدلال على المطلوب بان يقين الطهارة معارض بيقين النجاسة ولا رجحان ، فيتحقق المنع ، وقد يظهر ما ذكرنا من غير المحقق رحمه‌الله والحاصل انه لا معنى للتمسك بالعموم والاستصحاب ، للقطع بالبطلان في واحد وهو غير معين ، والقول بالتخيير لا دليل عليه ، والقول بجواز استعمالهما تدريجا ربما يقطع بعدمه ، ولذلك لم يلتزمه المخالف في المقام ، فتأمل جدا جيدا والله أعلم.

وفصل المقام انا نقول إنه من جميع ما ذكرنا ومن النظر في كلام الأصحاب في هذه المسألة وفي مسألة الثوبين الذين اشتبه الطاهر منهما بالآخر ، وفي محل السجود إذا اشتبه الطاهر منه بالنجس يكاد يقطع الناظر في كلامهم أنه لا إشكال عندهم في جريان هذه القاعدة ، وعدم الالتفات لهذه العمومات ، فان الشيخ رحمه‌الله في الخلاف في مسألة الثوبين قرر ان القاعدة تقتضي وجوب الصلاة ، ويظهر منه أن مسألة الإنائين خرجت عن قاعدة وجوب الوضوء بهما مع التكرير بالإجماع ، وابن إدريس في السرائر في مسألة الثوبين لما لم يلتفت الى الأخبار الواردة (١) بنى على الصلاة عريانا ، ولم يتمسك بجواز الصلاة في أحد الثوبين ، تمسكا بهذه العمومات ، ومثله المنقول عن ابن سعيد ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٤ ـ والمستدرك الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب النجاسات.

٢٩٧

وكذلك العلامة والمحقق في كثير من المقامات ، والحاصل انا لم نسمع أحدا تأمل في هذه القاعدة من أصحابنا ، بل يقررونها ، ويذكرون الأخبار الخاصة حيث تكون مؤيدة لها ، وإن وقع لهم كلام في كيفية تقريرها ، ولكنهم مشتركون في الإضراب عن هذه العمومات في الطهارة والحل والحرمة ، بل عن بعضهم الالتجاء إلى أخبار القرعة (١) دونها ، مع كونها بمرأى منهم ومسمع ، بحيث لا يكاد تخفى على أطفالهم فضلا عن علمائهم ، بل لم يذكروا أحدا من العامة احتمالا فضلا عن الخاصة ، بل أوجبوا التحري ونحوه الى أن ظهر مولانا المقدس الأردبيلي رحمه‌الله فأظهر هذا الشك ، كما هي عادته في كثير من المقامات ، وتبعه عليه بعض المتأخرين في بعض المقامات ، وخالف نفسه فيها في آخر ، ولا يمكن الدعوى على الأصحاب أنهم خالفوا هذه العمومات في مقامات خاصة لأدلة فيها ، وكيف مع أنهم ينادون بها ، ويصرحون في مقام الأخبار وغيرها ، ولذلك يتعدون عن غير مورد الأخبار كما في مسألة الإنائين ، فإنه ما ورد فيها إلا قولهم عليهم‌السلام في خصوص بعض الروايات التي لا يعمل عليها بعضهم من جهة ما في سندها ، وكونها أخبارا آحادا عند آخرين : « أنه يهريقهما ويتيمم » ‌ومع ذلك تعدوا إلى سائر الاستعمالات ، وكيف يدعى عليهم ذلك وقد عرفت أن بعضهم يترك العمل بالأخبار الخاصة ، ويلتجئ إليها كابن إدريس في حكم الثوبين ونحوه ، والحاصل السارد لكلام الأصحاب وأخبار الأئمة عليهم‌السلام فإنه ما اتفق أنهم سئلوا يوما عن المحصور وأجابوا بما يوافق هذه العمومات يكاد يقف على مرتبة القطع بعدم جريانها في الشبهة المحصورة ، مع أن بعض متأخري المتأخرين كصاحب الحدائق جعل ذلك قاعدة مستفادة من تتبع الروايات ، لا أقل من أن يكون جميع ما ذكرنا يورث الشك في إرادة هذا الفرد من هذه العمومات ، فتبقى القاعدة سليمة ، فتكون هذه الأخبار جعلت النجس ما علم نجاسته في غير المقام ، ولا ضير في ذلك ، والحاصل المناقشة في هذا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم من كتاب الميراث.

٢٩٨

الحكم لا سيما إذا كان من جهة أصل البراءة ونحوه يكاد يكون من الخرافات ، والله أعلم. وهناك أمور أخر وقرائن تقضي بما ذكرنا لا يتحملها المقام.

بقي هنا فوائد‌ ( منها ) أنه ينبغي أن يعلم أنه لا إشكال في وجوب المقدمة حيث تكون مباحة أو مكروهة أو مندوبة ، وأما حيث تكون محرمة وواجبة أي يتعارض فيه مقدمة الواجب ومقدمة الحرام كما في مقامنا ونحوه من الشبه المحصورة مع عدم وجود غيرها فإنه من حيث النهي عن الوضوء بالماء النجس يجب اجتناب الفردين ، ومن حيث وجوب الوضوء بالماء الطاهر يجب الوضوء بهما معا ، ومثل ذلك الماء المشتبه بالمضاف والثوب المشتبه بالنجس ، فالظاهر أن المحرم إن كانت حرمته من جهة التشريع كما إذا حكم بها من عدم الأمر بها ، أو من جهة نهي علم فيه إرادة التشريع ، أو نحو ذلك فالذي يقتضيه النظر الحكم بالوجوب ، لارتفاع الحرمة حينئذ بسبب ارتفاع منشأها إذ تصور التشريع فيما جي‌ء به لاحتمال تحقق إرادة السيد غير معقول ، وكيف مع ان أكثر مقامات الاحتياط الذي أمر به في السنة وشهد العقل بحسنه من هذا القبيل ، وأما إذا كانت الحرمة ذاتية فالمتجه فيه عكس الأول فتقدم مراعاة الحرمة على الوجوب كما في نظائره مما تعارض فيه الواجب والمحرم ، ويشهد له التتبع للأخبار وكلام الأصحاب ، بل قد ينتهي به ذلك الى القطع بما قلنا ، لكن الظاهر أن ذلك من حيث الحرمة والوجوب ، وإلا فقد يعرض للواجب من الجهات ما يوجب مراعاته ، ولعل ما ذكره الأصحاب من حرمة استعمال الإنائين الطاهر أحدهما ، ووجوب الوضوء بالانائين المضاف أحدهما لكون الأول حرمته ذاتية ، والآخر تشريعية ، ومثله وجوب الصلاة بالثوبين ، لكون الحرمة فيه تشريعية نعم ربما يقع كلام بينهم في بعض الأشياء ، وكأنه ينحل الى النزاع في أن حرمته تشريعية أو ذاتية. فمن استظهر الأول قدم مراعاة الواجب ، ومن استظهر الثاني قدم مراعاة المحرم ، وقد سلف لك أن الأصل في كل منهي عنه أن يكون محرما ذاتيا ، لا تشريعيا حتى يعلم ، وربما تدخل مسألة الوضوء في ذلك ، لوجود النهي‌

٢٩٩

في الأخبار عن الوضوء بالماء القذر وإن كان للنظر فيه مجال ، وأما ما يقال من وجوب مراعاة جهة الحرمة على كل حال إذا كان الواجب من العبادات ، لعدم التمكن منه ، لأن الجزم بالنية واجب ، ومعه لا جزم ، والمرددة ليست نية ، ومن هنا قال بعضهم في مثل الصلاة بالثوبين انه لا يجوز ، وينتقل فرضه للصلاة عريانا ، وينبغي ان يلتزم به بالنسبة للماء المشتبه بالمضاف ونحوه ، ففيه مع أن مثل ذلك جائز للاحتياط ، أنه متمكن من الجزم بالنية لوجوبهما عليه وإن كان أحدهما أصليا والآخر مقدمة ، فإنه وصف لا دخل له بالنسبة للجزم ، ودعوى وجوب الجزم بخصوص المكلف به ممنوعة ، إذ لا دليل يقتضيه بل الدليل يقتضي عدمه.

( ومنها ) أنه لو انكفى أحد الإنائين فهل يتغير الحكم الأول أو لا؟ والظاهر أن الحكم عندهم كالأول ، ولم أعثر على وجود مخالف من أصحابنا ، ولا نقل عن أحد منهم ، نعم نقل عن بعض العامة انه جوز الطهارة لأصل الطهارة ، ورده في كشف اللثام بأنه لو تم لجاز بأيهما أريد انتهى. ويمكن أن يقال : بالفرق بين المقامين ، وذلك لحصول المكلف به باجتنابه يقينا في الأول ، فيجب الاجتناب للمقدمة ، بخلاف الثاني ، فإنه لا يقين في حصول المكلف به ، لا يقال : انه مكلف باجتناب النجس في الواقع ، ولا يقطع بامتثال هذا التكليف إلا باجتناب هذا الفرد ، قلت : لو تم لوجوب اجتناب جميع ما احتمل حرمته ، ووجب الإتيان بجميع ما احتمل وجوبه ، لأن كل إنسان مكلف بأن يأتي بالواجب ، ويجتنب المحرم ، ولا يتم ذلك إلا بإتيان جميع ما احتمل ذلك ، وهو واضح الفساد ، نعم ان الذي نوجبه من باب المقدمة انما هو بعد شغل الذمة يقينا بفرد الكلى لا التكليف بنفس الكلي الذي يحتمل أن يكون هذا فردا له. وما يقال : إن ما ذكرت خرج بالدليل الدال على أن المراد بفعل الواجب أي ما بلغكم وجوبه ، وباجتناب المحرم أي ما بلغكم حرمته ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنا نقول : مع الغض عما‌

٣٠٠