جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المقدر بما إذا لم يكن في البئر غير تلك النجاسة ، بل هو تقدير له من حيث نفسه وغيره يبقى على مقتضى الدليل فيه.

فان قلت : بناء على القول بان النزح للتطهير لا معنى للقول بعدم التداخل ، وذلك لأنه على تقديره حيث ينزح لأحدهما دون الآخر يكون البئر طاهرا نجسا ، مثلا إذا وقع في البئر بول وعذرة مذابة مثلا ، ثم نزح أربعون يكون قد طهر من هذه الجهة ، وهو نجس من الجهة الثانية ، وهو غير معقول بالنسبة للطهارة والنجاسة ، ومن هنا التجأوا للقول بالتداخل في سائر النجاسات على الثوب أو على البدن سواء تعدد الغسل لبعضها كالبول أولا ، وأيضا لو كان وقوع النجاسة متعاقبا فلا ريب في عدم تأثير الثاني النجاسة ، لكونه تحصيل حاصل وهو محال ، وإذا كان لم يؤثر نجاسة لا معنى لان ينزح له ، فان معنى ما دل على وجوب النزح له ظاهر في كونه من جهة أنه ينجس البئر ، فلا يشمل مثل ذلك. قلت : لا مانع من ارتفاع النجاسة من جهة دون أخرى ، كارتفاع الحدث من جهة الجنابة مثلا دون المس ، وما ذكره في حال النجاسات على البدن ونحوه حالها حال ما نحن فيه ، إلا أن يدل دليل على خلافه ، والظاهر تحققه فيها دونه ، وليس المقتضى للقول بالتداخل فيها هو ما ذكره ، بل من جهة انهم فهموا من الأدلة هناك أن المراد غسل النجاسة ، وأيضا بعد وقوع أنواع النجاسة يكون في الحقيقة المقدر لها مجموع التقادير ، فتكون حينئذ كالنجاسة المتحدة التي لها مقدر ، فالطهارة لا تحصل إلا بالتمام فلا يكون طاهرا من جهة نجسا من أخرى ، وأما ما ذكره أخيرا ففيه أنه نفي للتداخل من رأس ، ويقين النزح للواقع أولا دون الأخير سواء كان المقدر له أولا أقل أو أكثر أو مساو ، وقد عرفت أن الدليل شامل بإطلاقه للنزح المقدر سواء كان هناك شي‌ء آخر واقع قبله أولا.

فإن قلت : إذا كانت النية غير معتبرة فحينئذ بما يتشخص النزح للمنزوح له حتى يقال أنه ترتفع النجاسة من جهته ويبقى الآخر ، مثلا إذا وقع في البئر أرنب وثعلب‌

٢٦١

ثم نزح منها أربعون لم يشخصها لأحدهما ، ولا معنى للقول بارتفاع النجاسة من أحدهما على الاجمال لابهامه ، فلا يصلح لان يكون متعلقا للحكم. قلت : هذا يؤيد ما ذكرنا سابقا من أن النجاسة المختلفة بمنزلة الواحدة التي مقدرها مجموع التقديرين ، ففي المثال مثلا صار مقدرة ثمانين ، فلا تطهر إلا بها ، ولا نقول : أنه طهر من هذه الجهة دون الأخرى ، فتأمل جيدا.

وفي تضاعفه مع التماثل كالثعالب والأرانب ونحو ذلك تردد ، أحوطه التضعيف لا ينبغي التردد في عدم التضعيف في المتماثلات بعد فرض تناول دليلها للقليل منها والكثير ، كما إذا وقع في البئر عذرة مذابة مرات متعددة ، فإنه لا إشكال في الاكتفاء بنزح الخمسين ، لشمول الدليل ، ومثله الدم الكثير. لا يقال أنه بالوقوع الأول قد اشتغلت الذمة بنزح الخمسين ، والوقوع الثاني لا يخلو إما أن يشغل الذمة بالأول ، أولا يشغلها بشي‌ء ، أو يشغلها بأمر آخر غير الأول ، لا معنى للأول ، لكونه تحصيل حاصل ، ولا للثاني ، لشمول الدليل له ، والثالث خلاف المقصود ، لأنا نقول الدليل لما دل على أن العذرة المذابة ينزح لها خمسون ، وكانت العذرة المذابة ماهية صادقة على القليل والكثير ، وشغل الذمة بالوقوع الأول لمكان صدق الماهية وجاء الوقوع الثاني انقلب الفرد الأول الى الثاني وصار مصداقا واحدا للماهية ، وهكذا كلما يزداد يدخل تحت قول العذرة المذابة ، ينزح لها خمسون ، وليس هذا إلا كتعدد النوع الواحد من الحدث الأصغر أو الأكبر كالبول مرات والجنابة مرات ، فتأمل جيدا فإنه دقيق. وأما إذا لم يكن الدليل شاملا للقليل والكثير فالظاهر عدم التداخل ، للاستصحاب والأصل المتقدم ، وما يقال النجاسة من النجس الواحد لا تتزايد إذ النجاسة الكلبية والبولية موجودة في كل جزء ، فلا تتحقق زيادة توجب زيادة النزح ، فيه مع مخالفته للأصلين السابقين انا نمنع كون النجاسة من الجنس الواحد لا تتزايد ، لأن كثرة الواقع تزيد مقدار النجاسة ، فيزيد شيوعها في الماء ، فيناسبه زيادة النزح ، نعم يمكن‌

٢٦٢

أن يقال انا نستظهر من الأدلة أن النزح لماهية الكلب مثلا ، ووقوعه منكرا في بعض الروايات لا يراد منه مع قيد الوحدة ، بل المقصود الجنسية ، فيكون حاله كسائر النجاسات الواقعة على البدن أو الثوب من البول والغائط وغيرها ، ولعله لذا أو لما تقدم تردد المصنف ، وان كان الأقوى ما ذكرنا ، وعدم ظهور إرادة الوحدة من التنكير لا يقضي بظهور إرادة الجنس ، والاستصحاب محكم ، ومع ذلك كله لا يخلو القول بالاكتفاء من قرب ، لان الاستصحاب موقوف على تحقق المستصحب أولا ، والكلام فيه ، وأصالة عدم التداخل فرع تعدد الأسباب ، والكلام فيه ، وقال في جامع المقاصد بعد أن اختار عدم التداخل مطلقا : « ويستثنى من ذلك اختلاف النجاسة الواقع بالكم ، فان الدم الواقع إذا كان قليلا فوقع بعده ما يخرجه من القلة إلى حد الكثرة وجب منزوح الأكثر خاصة » ومثله في المسالك ، وهو متجه ان قلنا بحصول الكثرة بالدفعات ، لكنه لا يخلو من نظر ، وعليه حينئذ لا تداخل فيما إذا وقع دم قليل ثم وقع دم كثير بعده ، لتعدد السببين ، وكذلك العكس ، بخلافه على ما ذكراه ، فإنه يلزمهما ذلك.

إلا أن يكون الواقع المتعدد من المتماثل بعضا من جملة لها مقدر ، فلا يزيد حكم أبعاضها عن جملتها لا إشكال في عدم الزيادة ، والظاهر وجوب نزح مقدار الجملة لها وإن لم يدخل تحت اسم الجملة ، لتوقف يقين البراءة عليه ، وفي المدارك عن المحقق الشيخ علي أنه احتمل إلحاقه بغير المنصوص ، لعدم تناول اسم الجملة له ، ثم قال : وهو انما يتم إذا كان منزوح غير المنصوص أقل من منزوح الجملة ، إذ لا يعقل زيادة حكم الجزء على الكل ، ولم أجد هذا الاحتمال في جامع المقاصد بل الموجود منه ما اخترناه من وجوب نزح ما للجملة ، لانتفاء الدليل الدال على الاكتفاء بما دونه ، ولو كان في البئر جزءان مثلا لا يعلم انهما من جملة واحدة أو من متعددة ، فلا يخلو المتعدد إما أن يقوم احتمال التغاير فيه كالكلب والأرنب مثلا أو لا ، فان كان الأول فالظاهر أنه ان علم جزء منهما انه من جملة خاصة وشك في الآخر انه من تلك الجملة أو لا لم يبعد‌

٢٦٣

القول بالاكتفاء بنزح المقدر للجملة التي علم كون الجزء منها ، استصحابا لطهارة البئر من الآخر ، وان لم يعلم بأحد الجزئين لم يبعد القول بنزح مقدر الجميع المحتمل ، استصحابا للنجاسة ، ولانه كما إذا وقع حيوان في البئر فمات فيها ولم يعلم كونه كلبا أو ثعلبا ، فان الظاهر وجوب نزح الجميع للمقدمة ، وان كان الثاني وهو ما إذا علم كون الجزئين مثلا جزئي كلب لكن لم يعلم كونهما من كلب واحد أو كلبين فالظاهر وجوب نزح مقدر واحد ، استصحابا للحال السابق المعلوم في البئر ، فإنه لم يعلم انتقاضه إلا بوقوع كلب واحد ، والأصل عدم تعدد الواقع ، واحتمال القول بالتلفيق أي تلفيق كلب من الأجزاء فينزح حينئذ المقدر للكلب الواحد مثلا وإن كانت الأجزاء مختلفة لا يخلو من وجه ، لكن الأظهر عدمه.

( الثالث ) إذا لم يقدر للنجاسة حيوانا كانت أو غيره منزوح أي لم يعلم من الشارع له مقدر بالخصوص بأحد الأدلة المعتبرة فعلا كانت أو قولا ظاهرا أو نصا نزح جميع ماءها تحقيقا لا يتسامح في شي‌ء منه ، فان تعذر نزحها لكثرة الماء أو غلبته لا لمانع خارجي لم تطهر إلا بالتراوح وقد تقدم كيفيته ، وكأن الحصر إضافي ، لما تقدم من إمكان حصول الطهارة بغير ذلك ، وما اختاره المصنف من وجوب نزح الجميع لفاقد النص هو الأقوى ، استصحابا للنجاسة ، والقول بأن البئر لا ينجس إلا بالنجاسات المذكورة في كلام الشارع التي وجب النزح لها لأن العمدة في النجاسة أوامر النزح لا وجه له ، لما علمت سابقا ان البئر عند أهل هذا القول تنجس بكل شي‌ء ، والعمدة في ذلك الإجماعات المنقولة ، واستفادتهم من هذه الروايات ان البئر قابلة للنجاسة بكل نجاسة.

لا يقال إن أصالة البراءة من وجوب نزح الجميع قاضية بعكس ما ذكرتم ، كما قيل ذلك عند الشك من تعارض الأدلة في وجوب الغسل من البول مثلا مرة أو مرتين أو أزيد.

٢٦٤

لأنا نقول : ( أولا ) الاستصحاب قاطع لأصل البراءة ، وبناء الفقه من أوله الى آخره عليه ، بل الظاهر تحكيمه على العام إذا كان أي الاستصحاب خاصا ، وقد أشار إلى ذلك بعض الفضلاء من علمائنا أن العام وإن كان كتابا يحكم عليه الخاص وإن كان استصحابا ( وثانيا ) لا معنى لخصوص التمسك به هنا ، إذ لا طريق آخر غيره ، والفرق بين ما ذكره وبين ما نحن فيه أن ما ذكره قد تعارضت فيه الأدلة ، فيمكن حينئذ أن يقال الأصل براءة الذمة من الزائد ، ويبقى ما دل على التطهير بالأقل سالما ، وفي الحقيقة هذا نوع من ترجيح دليل الاتحاد من جهة الاعتضاد بأصل البراءة ، فيكون الدليل مع أصالة البراءة قاطعا للاستصحاب ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنه لا أدلة متعارضة ، وأصالة البراءة لا تنبت حكما شرعيا حتى يقال بالتطهير بمقدار مخصوص ، وأما الاكتفاء بالتراوح عند تعذر نزح الجميع فللخبرين المتقدمين.

لا يقال ان ذلك فيما قدر له الجميع لا فيما ينزح له الجميع للمقدمة ، فإنه لا يقطع بحصول الطهارة إلا بنزح الجميع وان احتاج الى أيام ، وإلا تعطلت البئر. لأنا نقول : ( أولا ) الظاهر أنه يفهم من الروايتين السابقتين قيام التراوح مقام نزح الجميع في نفسه ، ولذلك لم يقدح كون المسؤول عنه في الخبر لا ينزح له الجميع ، لأنهم فهموا منه أن ذلك ضابط لما ينزح له الجميع حيث يعسر ، كما نقلوا عليه الاتفاق سابقا فتذكر وتأمل. ( وثانيا ) قد يدعى الأولوية في المقام ، فإنه إذا اكتفي فيما قدر له الجميع بالتراوح فليكتف في غيره مما لم يعلم تقديره به بطريق أولى ، نعم لما كان من المحتمل نزح الجميع أوجبناه للمقدمة ، فليقم التراوح مقامه ، كما لو كان مقطوعا به ، بل هو أولى (١) وقيل ونسبه في كشف اللثام‌

__________________

(١) لا يقال إن نزح الجميع غير مقتضى للقطع بجواز استعمال الماء أيضا ، لعدم ثبوت طهارة البئر نفسه بذلك ، لأنا نقول : ان الإجماع منعقد بحسب الظاهر انه ليس وراء نزح الجميع شي‌ء ، وان ارض البئر تطهر تبعا ، كما تطهر حيث يكون المقدر الجميع ، وبالجملة حاله حال ما قدر له الجميع ( منه رحمه‌الله ).

٢٦٥

الى ابن حمزة والى الشيخ في المبسوط وان احتاط بالجميع بوجوب نزح الأربعين لقولهم عليهم‌السلام (١) : « ينزح منها أربعون وان صارت منجرة » ‌وهي مع عدم العلم بصدرها لا جابر لسندها ، ومجرد ذكر الشيخ لها في المبسوط غير كاف ، إذ لعله وهم فيها ، بل الظاهر أنه كذلك ، لموافقتها لرواية كردويه التي ستسمعها المتضمنة للثلاثين

وربما احتج لهذا القول بالأخبار (٢) الدالة على طهارة البئر بالتغير بنزح ما يزيل التغير خاصة ، وعدم وجوب نزح الماء كله ، فإذا لم يجب نزح الجميع مع التغير فمع عدم التغير بطريق أولى ، فمتى انتفى وجوب نزح الجميع دار الأمر بين القولين الآخرين وهما الثلاثون والأربعون ، ولما كان الجزم لم يحصل بالثلاثين تعين الأربعون ، وفيه منع الأولوية ( أولا ) وإلا لزم أن تحكم هذه الأخبار على سائر ما ذكر على التقدير من الجميع وغيره إذا كان يحصل ما يزول به التغيير بدون التقدير ، وهذا وان ذهب اليه بعضهم فيما تسمع إن شاء الله ، لكن الأقوى خلافه ، ( وثانيا ) هذه الأخبار كلها مبنية على القول بالطهارة في الظاهر ، فلا يتمسك بها في المقام ، وستسمع أن كثيرا من القائلين بالنجاسة حكموا غيرها عليها. ( وثالثا ) ما ادعاه من الانحصار في الأقوال الثلاثة إن كان المقصود منه تحصيل الإجماع المركب منها ففيه لا إجماع في المقام ، ولذلك احتمل بعضهم انه يقدر التغير ، ثم ينزح الى زواله ، وان لم يكن المقصود منه الإجماع فلا يفيده ( ورابعا ) ما ذكره في الاستدلال لهذا القول لا يصلح لأن يكون له دليلا في نفسه ، بل هو متمسك لنا على صحته ، من جهة عدم العلم بدليل قائله ، وإلا فلا معنى لقوله لم يحصل الجزم بالثلاثين فيتعين الأربعون ، وبعد معرفة دليل صاحبه وبطلانه لا معنى لذلك ، والحاصل لا إشكال في أنه على تقدير نجاسة البئر أن هناك نجاسات قدر لها الشارع نزح الجميع ، كالبعير وصب الخمر ، ونجاسات قدر لها الشارع دون ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤ و ٧ و ١١.

٢٦٦

فالنجاسة الغير المنصوصة يحتمل كونها من الأولى ، ويحتمل كونها من الثانية ، فاليقين لا يحصل إلا بنزح الجميع ، وما ادعاه من الأولوية يبطله ما دل على نزح الجميع لتلك مع عدم التغيير. وما يقال أن تلك خرجت بالدليل يدفعه أن الأولوية هنا ليست من اللفظ ، بل في الحقيقة قطع حصل لنا من ملاحظة كلام الشارع ، وبعد فرض أنه قد ورد في الشرع خلافه بطل ذلك القطع ، وكذا ما يقال نحن نقطع قبل وصول شي‌ء إلينا من الشارع في ذلك ، فإذا وصل بطل القطع فيما يصل ، ويبقى غيره ، ضرورة أن هذا الواصل زلزل القطع من أصله في خصوص المقام ، وأظنك بما ذكرنا تكتفي عن بيان فساد احتمال القول بتقدير التغيير ثم النزح لما يزوله مع كون التغيير غير مضبوط فتأمل. وقيل بوجوب نزح الثلاثين ، ونسب إلى العلامة رحمه‌الله في المختلف وفي المدارك حكى عن الشهيد نسبته للبشرى وأنه نفى عنه البأس واحتج عليه برواية كردويه (١) قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول والعذرة وأبوال الدواب وأرواثها وخرء الكلاب قال عليه‌السلام : ينزح منها ثلاثون دلوا ولو منجرة » ‌وعن الشهيد في الشرح أنه وجد بخط الشيخ في الاستبصار بضم الميم وسكون الباء وكسر الخاء ، ومعناه المنتنة ، ويروى بفتح الميم والخاء ، ومعناه موضع النتن ، وفي المدارك أن الاستدلال بها عجيب ، إذ لا دلالة لها على المتنازع بوجه ، فان موردها نجاسات مخصوصة ، والكلام إنما هو في غير المنصوص. قلت : قد يقال : وجهه فهمهم من قوله عليه‌السلام : ولو كانت منجرة أن الثلاثين كافية في كل نجاسة تقع فيها حتى لو بلغت هذا المبلغ ، وهذه عبارة تقال : في مثل هذا المقام فلا يراد منها خصوص ما سئل عنه ، نعم قد يناقش بأن فيها كردويه ، وعن العلامة في المختلف اني لم أعرف حاله ، فان كانت الرواية صحيحة فالقول به متجه ، انتهى. قلت : ولعله كذلك ، إذ لم يذكر بمدح ولا قدح فيما حضرني ، واحتمال أن يقال : لا تقدح جهالة كردويه ، لكون الراوي عنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

٢٦٧

ابن أبي عمير ، وهو من أصحاب الإجماع يدفعه أن الأقوى خلاف ذلك عندنا في أصحاب الإجماع ، كما هو مبين في محله ، فهذه الرواية مع ما في سندها بل وما سمعته في دلالتها واعراض أكثر الأصحاب عنها لا تصلح لأن تكون قاطعة لما ذكرنا ، كاعراضهم عما يستفاد من خبر عمار الساباطي (١) لما سأله عن المذبوح فقال عليه‌السلام : « ينزح منه دلاء هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا ، وما سوى ذلك مما يقع في البئر فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقله العصفور ينزح منها دلو واحد ، وما سوى ذلك فيما بين هذين » ‌من عدم تجاوز السبعين لكل حيوان بينهما ، بل يكون خارجا عن المسألة ، لأن الكلام في غير المنصوص ، فالأقوى حينئذ نزح الجميع ، ثم ان هذه الأقوال لا تجري على القول بان النزح للتعبد الشرعي أو للاستحباب ، مع احتمال جريان القولين الأخيرين دون الأول ، لاستنادهما للروايات بخلافه ، مع احتمال جريان الأول أيضا ، بتقريب أن استقراء ما ورد من الشارع في مقادير النزح حتى ما اتفق انه سئل يوما عن نجاسة إلا وذكر لها مقدرا ، بل غير النجاسة كاغتسال الجنب يفيد أن كل نجاسة لها مقدر ، لكن منه ما وصل ومنه ما لم يصل إلينا ، فالاحتياط حينئذ بناء على الوجوب التعبدي نزح الجميع ، أو بناء على الاستحباب إذا أريد اليقين بامتثال الأمر الاستحبابي ، ودعوى ان الاستقراء ان لم يفد العلم فلا حجة فيه ، لكونه قياسا ، وإفادته العلم ممنوعة يدفعها إنا نمنع عدم حجيته على التقدير الأول ، إذ الظاهر حجية مثله لاستفادته من الأدلة ، بل كثير من القواعد الشرعية مبناها على ذلك ، ولعل الحكم بنجاسته بغير المذكور المقدر له مبني على ذلك لا الإجماعات المنقولة ، لكن ومع ذا لا يخلو من إشكال ، لاحتياجه الى تحرير ليس هذا محله.

( وإذا تغير أحد أوصاف ماءها ) كلا أو بعضا لونا أو طعما أو رائحة قيل ينزح ماؤها أجمع ونسبه في كشف اللثام إلى القائلين بالنجاسة عدا المفيد وبنى زهرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٢٦٨

وإدريس والبراج فان تعذر لغزارته وهر المراد بغلبة الماء الوارد في الخبر (١) لا لغيره تراوح عليها أربعة وهو الأولى كما عن الصدوقين وسلار وابن حمزة من القائلين بنزح الجميع ، وفي المعتبر وعن الدروس اختيار نزح أكثر الأمرين من المقدر وما يزول به التغيير عند تعذر نزح الجميع. وكشف الحال يحصل بذكر أخبار الباب وفتاوى الأصحاب ، فنقول أما الأخبار فمنها صحيح ابن بزيع (٢) عن الصادق عليه‌السلام « قال : ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم لان له مادة » وموثقة سماعة (٣) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال عليه‌السلام : إن أدرك قبل أن ينتن نزح منها سبع دلاء وإن كانت سنورا أو أكبر منها نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا ، وإن أنتن حتى يوجد النتن في الماء نزحت البئر حتى يذهب النتن من الماء » وصحيح الشحام (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في السنور والدجاجة والكلب والطير قال عليه‌السلام : إذا لم يتفسخ أو يتغير طعم الماء فيكفيك خمس دلاء ، وإن تغير الماء فخذ منه حتى يذهب الريح » وخبر زرارة (٥) قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام « بئر قطرت فيها قطرة دم أو خمر قال عليه‌السلام : الدم والخمر والميت ولحم الخنزير في ذلك كله واحد ينزح منه عشرون دلوا ، فان غلب الريح نزحت حتى يطيب » وصحيح معاوية بن عمار (٦) قال : سمعته عليه‌السلام يقول :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦ و ٧ إلا انه روى عن الرضا عليه‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣. وفي الباب ـ ٢١ ـ حديث ٤.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٠.

٢٦٩

لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر » ‌وفي خبر أبي خديجة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل « عن الفأرة تقع في البئر؟ قال عليه‌السلام : إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلوا وإذا انتفخت فيه ونتنت نزح الماء كله » وخبر منهال (٢) قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام « العقرب تخرج من البئر ميتة ، قال عليه‌السلام : استق منه عشرة دلاء ، قال : قلت : فغيرها من الجيف ، قال عليه‌السلام : الجيف كلها سواء إلا جيفة قد أجيفت ، فإن كانت جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو ، فان غلبها الريح بعد مائة دلوا فانزحها كلها ».

وأما الأقوال فالظاهر من القائلين بطهارة البئر وعدم نجاستها إلا بالتغير كما هو المختار وان النزح في المقدرات مستحب أن تطهيرها بالنزح حتى يزول التغيير ، عملا بالأخبار الصحيحة (٣) الصريحة الظاهرة في أن حالها حال الجاري ، وقد عرفت أن طهره بزوال التغيير بأي وجه يكون. أو بما يخرج من المادة متدافعا عليه حتى يزول التغيير ، أو يتكاثر الماء عليه من خارج حتى يزول التغيير أو بغيرهما مما يزيله ، بل لو نزح حتى زال التغير وإن لم يخرج من المادة شي‌ء فالظاهر حصول الطهارة ، عملا بالأخبار ، والتعليل بان له مادة لا يقتضي اشتراط تجدد الخروج ، إذ لعل الاتصال بها كاف ، فتأمل جدا. ولا يعارض ذلك أخبار المقدرات ، لكونها محمولة على الاستحباب عندهم ، بل ولا الأخبار الدالة على نزح الجميع التي قدمناها ، إذ هي بين غير واضح السند وبين غير واضح الدلالة ، فتلك أقوى منها من وجوه عديدة ، فوجب حملها إما على الاستحباب أو على أن التغير لم يذهب إلا بنزح الجميع ، كما أنه ربما يشعر به خبر منهال ، فان ظاهره‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦ و ٧.

٢٧٠

الاكتفاء بالمائة إذا ذهب بها النتن.

وأما القائلون بالنجاسة فالظاهر أن أقوالهم تنتهي إلى سبعة أو ثمانية بعد الاتفاق على أنه لا يطهر قبل زوال التغير ( الأول ) موافقة القائلين بالطهارة ، فيكتفون بنزح ما يزيل التغير سواء كانت النجاسة منصوصة أو غير منصوصة ، وسواء كان نصها نزح الجميع أو لا ، وسواء ساوى ما زال به التغيير المقدر أو زاد أو نقص ، وهو المنسوب للمفيد ، ونقل عن الشهيد اختياره في البيان وأبى الصلاح ، واختاره العلامة في المنتهى ، للأخبار المتقدمة الدالة على حصول طهر المتغير بنزحه المزيل لتغيره ، مع عدم تفصيلها بين ما له مقدر أو لا وبين ما مقدرة الجميع أولا ، بل في بعضها السؤال عما له مقدر مع الجواب عنه بأنه ان كان لم يغير فكذا ، وان غير فينزح حتى يزول التغيير ، وزاد في المنتهى في الاحتجاج بأن العلة هي التغير بالنص والدوران في الطريقة على مذهبنا ، وقد زال ، فيزول الحكم التابع ، ولانه قبل وقوع المغير طاهر ، فكذا بعده مع زوال التغيير ، والجامع المصلحة الناشئة من الطهارة في الحالين ، وبان نزح الجميع حرج وعسر ، فيكون منفيا ، ولانه لو لم يكن زوال التغيير غاية لزم إما خرق الإجماع ، أو الفرق بين الأمور المتساوية بمجرد التحكم أو إلحاق الأمور المختلفة بعضها ببعض لمعنى غير معتبر شرعا ، والتالي بأقسامه باطل ، فالمقدم مثله ، بيان الملازمة أنه حينئذ إما أن لا يطهر بالنزح ، وهو خرق الإجماع ، أو يطهر فاما بنزح الجميع حالتي الضرورة والاختيار ، وهو خرق الإجماع أيضا ، وإما بنزح الجميع حالة الاختيار ، وبالزوال حالة الضرورة والعجز ، وهو الفرق بين الأمور المتساوية ، ضرورة تساوي الحالين في التنجيس ، أو بالجميع في الاختيار ، وبالتراوح عند الضرورة ، قياسا على الأشياء المعينة لنزح الجميع ، وهو قياس أحد المختلفين على الآخر ، ضرورة عدم النص الدال على الإلحاق ، أو نزح شي‌ء معين ، وهو خرق الإجماع ، ضرورة عدم القائل به من الأصحاب.

٢٧١

لا يقال لا نسلم تساوي حالتي الاختيار والضرورة ، لأنا نقول نعني بالتساوي ههنا اتحادهما في الحكم بالتنجيس ، لسقوط التعليل بالمشقة والحرج في نظر الشرع ، إذ هو حوالة على وصف خفي مضطرب ، ومثل هذا لا يجعله الشارع مناطا للحكم ، ولانه يشبه الجاري بمادته فيشبهه في الحكم ، وقد نص الرضا عليه‌السلام على هذه العلة ، ولا شك ان الجاري يطهر بتواتر جريانه حتى يزول التغيير ، فكذا البئر إذا زال التغيير بالنزح يعلم حصول الجريان من النابع الموجب لزوال التغيير ، وفيه مع انه مناف للأولوية ، إذ من البين أنه إذا نزح له الجميع مثلا مع عدم التغيير ، أو غير ذلك من المقدرات ، فمعه بطريق أولى ، وكيف يعقل ذلك مع أن التغير هو ذلك السبب وزيادة لا أقل من بقاء مقتضي السبب الأول أنه مناف لمقتضى الجمع بين الأدلة ، لأنه في الحقيقة حينئذ تخصيص لتلك الأدلة الدالة على المقدرات بأسرها ، مع أن التعارض بينهما العموم من وجه ، والترجيح والاحتياط بغير ما ذكر ، ولذلك كان المشهور على خلافه ، على أن هذه الأخبار قد عرفت أن القائلين بالنجاسة قد أعرضوا عن بعض ما تضمنته من عدم التنجيس بغير التغيير ، وذلك مما يراعى عند الترجيح بين الأخبار ، وما يقال من إنكار الأولوية ، ومن أن أخبار التقادير مبنية على عدم التغيير لا وجه له ، لمكان ظهور الأولوية ظهورا لا يكاد ينكر ، ولان سلم فلا ريب في تناول قوله عليه‌السلام (١) موت البعير مثلا ينزح له كذا لما نحن فيه وغيره ، مع أن التغيير ببقائه ميتا في البئر لا يرفع السبب الأول ، إذ هو ان لم تكن مؤثرا زائدا على التقدير فلا أقل من أن لا يؤثر. ولا معنى لقوله أن أخبار التقدير مبنية على عدم التغيير ، لعدم دلالة تلك الأخبار على الاشتراط المذكور بوجه من الوجوه ، نعم هي دالة على ان هذا المقدار من النزح واجب وان لم يحصل التغيير ، لا أنه مأخوذ فيها عدم التغير ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

٢٧٢

وما يقال ان بعض الأسئلة قد اشتملت عماله مقدر مع اشتمال الجواب انه ان لم يتغير البئر بها فكذا ، وإن تغير فانزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم ، ففيه كون المقصود منه انه مع التغيير لا يكتفى بالمقدر ، بل لا بد من زواله وإن استوفيته ، فيكون إشارة إلى نزح أكثر الأمرين ، ولعل ذلك من جهة غلبة احتياج ما ذكر في السؤال في زوال التغيير إلى أزيد من المقدر ، كما يومي اليه قوله عليه‌السلام (١) « إذا لم يتغير طعم الماء فيكفيك خمس دلاء وإن تغير فخذ منه حتى يذهب الريح » ‌لظهوره في انه إذا كان كذلك فلا يكفيك خمس دلاء ، بل لا بد من النزح حتى يذهب الريح وإن بلغ المائة ، والانصاف أن الأخبار غير ظاهرة فيما كان زوال التغيير محتاجا الى أنقص من المقدر ، بل إن لم تكن دالة على العدم فلا أقل من عدم الدلالة ، فلا شاهد بها حينئذ ، على انها معارضة بأخبار نزح الجميع وغيرها ، وأما ما ذكره في المنتهى ففي ( الأول ) ان دعوى العلة التغير محل منع ، بل العلة في النجاسة حاصلة قبله ، وكأن ذلك منه مبني على القول بطهارة البئر وعدم نجاستها إلا بالتغير ، والكلام ليس فيه ، بل قد يقال إن استصحاب النجاسة محكم وإن كان منشأها التغيير ، ويكون حاله كحال الماء المحقون البالغ كرا إذا زال التغيير من قبل نفسه ، فإن الأصح بقاء النجاسة للاستصحاب وإن كان فيه بحث ليس هذا محله. وفي ( الثاني ) انه قياس لا نقول به ، وكأنه ذكره رحمه‌الله على لسان العامة ، أو انه اشتباه منه انه ليس بقياس ، أو يكون المراد منه أنه عين الأول لكن بتقرير آخر ، أو غير ذلك ، وفي ( الثالث ) منع أنه عسر وحرج ، ولذلك جاء التعبد به في كثير من مواضع النزح ، وأيضا لو سلمنا كونه عسرا وحرجا فلا يقضي بصحة ما ادعاه ، فان هناك قولا آخر وهو القول بأكثر الأمرين ، بل هو الأقوى كما ستسمع إن شاء الله. وفي ( الرابع ) مع كونه غير جار فيما قويناه من الأكثر أنه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

٢٧٣

لا تساوي عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، ولعل القائل بذلك مستند إلى أخبار زوال التغيير بنفسها ، إلا أنه خرج حالة الاختيار بدليل ، فبقيت حالة الاضطرار داخلة ، وقوله إن القول بالتراوح عند الاضطرار قياس أحد المختلفين إلى آخره فيه ما عرفت أنه ظاهر أخبار التراوح مع فهم الأصحاب جريانه في كل ما ينزح له الجميع وتعذر لغلبته ، ولذلك أجروه فيما لا نص فيه بناء على أنه ينزح له الجميع ، فتأمل. وفي ( الخامس ) أنه لا تشبيه أولا ، وقوله لأن له مادة لا يقضي بذلك ، غايته استفادة المادة للجاري وللبئر منه ، وأين ذلك مما ذكر ، وثانيا انه مبني على القول بطهارة البئر إلا بالتغير ، وفرض كلامنا على تقدير النجاسة ، فتأمل.

( الثاني ) من الأقوال وجوب نزح أكثر الأمرين من المقدر وما يزول به التغيير ، هذا في المنصوص الذي نصه غير نزح الجميع ، وأما فيه وفيما لا نص فيه فينزح الجميع ، ومع التعذر فالتراوح ، كما عن ابني إدريس وزهرة والعلامة في المختلف والشهيد الثاني في الروض ، وهو الأقوى جمعا بين الأدلة ، ضرورة عدم البحث فيه حيث يتساوي المقدر وما به يزول التغيير ، أو إذا زاد ما زال به التغيير ، إنما الكلام فيما إذا زاد المقدر ، والمتجه وجوبه ، لشمول دليله له المعتضد بالأصل ، وحصول التغيير لا يرفعه ، وما دل على الاكتفاء بالنزح حتى يزول التغيير لا يقضي بطهارة البئر من كل جهة ، بل إن قضي فهو بالمفهوم المعارض بما دل على وجوب المقدر الظاهر في توقف الطهارة عليه ، بل ينبغي أن يجب تمام المقدر بعد زوال التغيير ، كما يظهر من بعضهم لو لا ما يظهر من الأخبار أن المقصود زوال التغيير على أي وجه يكون ولو باستيفاء المقدر ، فان قوله انزح حتى يزول التغيير يصدق على نازح المقدر أنه نزح حتى زال التغيير ، والنية غير معتبرة ، فيتجه حينئذ دعوى دخول الأقل هنا في الأكثر ، لأنه ينحل عند التأمل إلى أن موت الكلب في البئر مثلا انزح له أربعين ، وإن تغيرت البئر فأزل التغيير بنزح كائنا ما كان ، فإن أزلت التغيير بنزح المقدر امتثلتهما قطعا ،

٢٧٤

لكن لما كان في الغالب ان التغيير يحتاج إلى نزح أزيد من التقدير علق الحكم على زواله فتأمل. وأما وجوب نزح الجميع فيما لا نص فيه فلأن له مقدرا قطعا قبل حصول التغيير ، وذلك المقدر غير معلوم ، فأوجبنا من باب المقدمة نزح الجميع ، ولا يعارضه أخبار التغيير ، لما عرفت أنها لا تنافي وجوب المقدر الحاصل قبل التغيير ، وأما انه يقوم التراوح مقام نزح الجميع فلما عرفت سابقا.

( الثالث ) نزح ما يزيل التغيير أولا ثم نزح المقدر تماما ان كانت النجاسة مما لها مقدر ، وإلا فالجميع ، فان تعذر فالتراوح ، وكأن مستنده أنها أسباب ، والأصل عدم تداخلها بالنسبة إلى نزح الجميع ، وفيه ما عرفت من فهم التداخل في خصوص المقام.

( الرابع ) الاكتفاء بأكثر الأمرين فيما له مقدر ، وفي غير المنصوص يرجع إلى زوال التغيير ، وكأن مستنده في الأول ما تقدم ، وفي الثاني أخبار التغيير غير معارضة ، لأن الفرض أنه ليس له مقدر منصوص ، فتبقى حينئذ بغير معارض ، واستحسنه في الحدائق ، وقد عرفت ما فيه من أنه قبل حصول التغيير لا بد أن يكون لها مقدر لا يرتفع بحصول التغيير ، ففي الفرض يحتمل استيفاء المقدر ، ويمكن العدم لاحتمال أنه أكثر مما زال به التغيير ، فمن باب المقدمة يجب نزح الجميع ، فتأمل.

( الخامس ) وجوب نزح الجميع ، ولعله المشهور بين القائلين بالتنجيس ، لصحيحة معاوية بن عمار وخبري أبي خديجة ومنهال ، لا أقل من تعارض الروايات وتساقطها ، فيبقى الاستصحاب ونحوه مما يقضي بنزح الجميع من غير معارض ، وروايات التقدير لا تشمل التغيير ، وإلا لا كتفي بها وإن لم يزل ، وهو باطل بالإجماع ، بل قد يقال النجاسة المغيرة لها مقدر في الشرع لا نعرفه ، فبعد تعارض تلك الروايات وتساقطها وجب نزح الجميع للمقدمة ، وإذا ثبت ذلك فيما له مقدر ثبت فيما ليس له مقدر بطريق أولى ، وفيه أن تلك الأخبار أقوى دلالة وسندا وأكثر عددا ، بل خبر منهال ظاهر في الاكتفاء بالمائة ، وخبر أبي خديجة وإن كان ظاهرا لكنه ضعيف السند ، والآخر‌

٢٧٥

وإن كان نقي السند لكنه غير ظاهر الدلالة ، لاحتماله إرادة نزحت حتى يذهب الريح ، لا أقل من أن تكون من العام والخاص ، فإذا كان كذلك وجب حمل رواية أبي خديجة على ضرب من الاستحباب ، أو انه إذا لم يزل التغيير ينزح الماء كله ونحو ذلك.

ثم اعلم أن أهل هذا القول اختلفوا عند التعذر ، فما بين قائل يرجع الى التراوح ، لما عرفت ، وهو الأقوى على تقدير القول بنزح الجميع ، وما بين قائل إلى زوال التغيير ، للجمع بين ما دل على نزح الجميع وما دل على النزح حتى يزول التغيير ، بحمل الأول على صورة الاختيار ، والثانية على التعذر ، ومقتضاه أنه لا فرق في حال التعذر بين النجاسة التي لها مقدر أولا ، وفيه ما لا يخفى من تحكم تلك الأخبار أولا ، ومن حمل هذه الأخبار على التعذر ثانيا ، ومن عدم مراعاة أكثر الأمرين في حال التعذر ثالثا ، وغير ذلك ، وما بين قائل بمراعاة أكثر الأمرين ، وفيه ما تقدم ، إلا الثالث ، فتكون الأقوال حينئذ سبعة ، وقد عرفت الأقوى منها ، والله أعلم ، وكلها يمكن جريانها على القول بالوجوب التعبدي ، وأما على القول بالطهارة واستحباب النزح فبعضها ، فلا يجري جميعها وإن أمكن ذلك في بعضها ، كما هو ظاهر بأدنى تأمل ، ولو زال التغير لنفسه وقلنا بالنجاسة فيحتمل أن يقال بوجوب نزح الجميع ، لاستصحاب النجاسة وذهاب ما قدر الشارع ، لبناء الطهارة بزواله ، ويحتمل القول بأنه يرجع إلى حاله قبل التغير ، فان كانت النجاسة منصوصة وجب مقدرها ، وإلا فالجميع ، ولعله الأقوى ، ويحتمل القول بتقدير التغيير ونزح ما يزيله تقديرا ، وينقدح حينئذ مراعاة أكثر الأمرين وغيره ، ووجه الكل واضح ، وفي كشف اللثام أنه على تقدير وجوب نزح الجميع هنا فان تعذر النزف فلا تراوح هنا ، بل ينزح ما يعلم به نزح الجميع ولو في أيام ، ووجهه واضح ، انتهى. قلت هو غير واضح بعد ما سمعت من قيام التراوح عندهم مقام نزح الجميع ، كما تقدم.

فروع‌ ( الأول ) هل يعتبر فيما قدر فيه النزح‌ تعدد ذلك النزح فلو نزح‌

٢٧٦

مقدار ذلك العدد بآلة تسعه دفعة أو دفعتين سواء كانت تلك الآلة دلوا أو غيره؟ وجهان ، أقواهما عدم الاكتفاء ، للأصل ، مع احتمال أن هذه الكيفية لها تأثير ، فيجب مراعاتها ، ومثل ذلك لو كانت آلة صغيرة تسع نصف دلو ، فهل يكتفي بنزح المقدر فيها حتى يبلغ المقدر ولو بالتكرير أو لا؟ ولو ذهب مقدار المقدر بغير النزح بل إما بغور أو غيره فالظاهر عدم الإجزاء أيضا ، لما ذكرنا ، هذا كله فيما لم يكن المقدر فيه نزح الجميع ، وأما فيه فيحتمل قويا عدم العبرة بكيفية النزح وبخصوص الدلو ، بل المقصود إذهاب الجميع بأي طريق يكون حتى لو غار ماؤها ، ولا يحكم بنجاسة العائد ولا تنجسه بأرض البئر لطهارتها بالنبغ ، وقد تقدم إشارة إلى ذلك سابقا ، نعم ربما يعتبر كثير من ذلك في التراوح كما تقدم.

( الثاني ) هل يطهر آلات النزح وحواشي البئر وأرض البئر ونحو ذلك من الأشياء اللازمة لا مطلق الأشياء الخارجة عن البئر كالخشب الواقع مثلا ونحو ذلك؟ لا يبعد القول بالطهارة ، لحصول العسر والحرج بدونه ، مع أنه لم يؤمر في شي‌ء من الأخبار بتطهير شي‌ء من ذلك ، قال في المنتهى : « الخامس لا ينجس جوانب البئر بما يصيبها من المنزوح ، للمشقة المنفية ، وهو أحد وجهي الشافعية ، والآخر ينجس ، فيغسل لو أريد تطهيرها ، وليس بجيد ، للضرر وعدم إمكان التطهير. ثم قال : السادس لا يجب غسل الدلو بعد الانتهاء ، لعدم الدليل الدال على ذلك ، ولأنه حكم شرعي فكان يجب على الشرع بيانه. ولأنه يستحب زيادة النزح في البعض ، ولو كان نجسا لتعدت نجاسته الى الماء » انتهى. وقد استفيد منه طهارة الدلو وحواشي البئر ، والأقوى ما سمعت من طهارتهما وطهارة غيرهما من الحبل وثياب النازح وبدنه ونحو ذلك ، لما سمعت وغيره ، والله أعلم.

( الثالث ) هل يجب إخراج عين النجاسة أولا ثم ينزح المقدر أو التراوح ، أو لا‌ يتفاوت بين إخراجها أولا أو في الأثناء أو في الآخر؟ الأقوى الأول ، وذلك‌

٢٧٧

لأنه ما دامت في البئر هي مؤثرة ذلك المقدر ، فيقع ذلك النزح عبثا ، وفي كشف اللثام نقل الاتفاق عليه في المنتهى ، والموجود فيه النزح إنما يجب بعد إخراج عين النجاسة ، وهو متفق عليه بين القائلين بالتنجيس ، وكيف كان فقد عرفت أن الأقوى وجوب إخراج عين النجاسة أولا ، فلو كانت النجاسة مثلا شعر نجس العين فإنه يجب النزح حتي يعلم إنه ليس فيها شي‌ء منه ، ولو تعذر لم ينفع التراوح وبقيت معطلة ، ويحتمل أن يقال يمكن التمسك بأصالة عدم زيادتها على ما خرج ، فينزح حينئذ المقدر وتطهر البئر ، وأيضا مقتضى الأخبار حصول الطهارة باستيفاء المقدر مطلقا ، غاية ما قيدت تلك الإطلاقات بما لم يكن شي‌ء من النجاسة خارجا قبل النزح. فيبقى الباقي داخلا ، وفيه أن استصحاب النجاسة وأصالة عدم استيعاب ما فيها من النجاسة قاضية ببقاء النجاسة ، وما ذكرته من الإطلاق إنما هو مقيد بعدم الوجود لا بعدم الوجدان ، والظاهر أن هذا نوع فرع لا يخص القائلين بالنجاسة ، بل القائلين بالتعبد أيضا يأتي الكلام فيه على تأمل.

وربما ظهر من بعضهم أنه يمكن القول بوجوب إخراج النجاسة أولا على القول بالطهارة ، وفيه أنه لا معنى له ، بل ينزح حتى يزول التغيير ، فلا يقدح حينئذ بقاء النجاسة ، ومثل ما ذكرنا في الشعر النجس يجزي في سائر النجاسات إلا المستهلكة ، وعن الشهيد في الذكرى أنه ألحق بالشعر النجس شعر طاهر العين لمجاورته النجس مع الرطوبة ، واحتمل هو أيضا عدم طهارته في أصله ، فتأمل. فظهر مما ذكرنا أنه لا يحتسب شي‌ء مما يخرج به النجاسة من العدد ، لوجوب إخراج عين النجاسة سابقا ، واحتمل في كشف اللثام الاجتزاء بإخراج عين النجاسة في أول دلو واحتساب تلك الدلو من العدد ، لإطلاق النصوص والفتاوى ، والظاهر أن مقصوده استغراق أول دلو عين النجاسة كلها ، لا فيما إذا بقي في البئر شي‌ء ، لكن قد عرفت أن الفتاوى مقيدة بما نقله عن المنتهى ، وأما الأخبار فهي مع ظهورها في أن مقدرها بعد إخراج عين النجاسة قد صرح به بعضها ، كرواية (١)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

٢٧٨

البقباق قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « في البئر يقع فيها الدابة أو الفأرة أو الكلب أو الطير فيموت قال : يخرج ثم ينزح من البئر دلاء » ‌بل قد يقال إن الاستصحاب والنص والفتوى قاضية بعدم الاحتساب ، وما في خبر علي بن حديد (١) عن بعض أصحابنا قال : « كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في طريق مكة ، فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد الله عليه‌السلام دلوا ، فخرج فيه فأرتان ، فقال عليه‌السلام : أرقه ، فاستقى آخر ، فخرج فيه فأرة ، فقال عليه‌السلام : أرقه ، فاستقى الثالث ، فلم يخرج فيه شي‌ء ، فقال صبه في الإناء ، فصبه في الإناء » ‌يجب حمله على القول بالنجاسة على حياة الفيران.

( الرابع ) لا عبرة بما يتساقط من الدلو حال النزح ولو كان أخيرا ، وينبغي استثناء ذلك مما ينجس البئر ، بل قد يقال أنها لا تطهر إلا بعد خروج الدلو من حاشيتها لا بانفصالها عنها ، فحينئذ لا يقدح ما يتساقط من الدلو الأخير لبقائها على النجاسة حكما ، لأنا نقول وإن كان الظاهر طهارتها بانفصاله لتحقق العدد بذلك ، فيكون الدلو معدن النجس ، والبئر معدن الطاهر ، نعم لا يقدح ما يتساقط منه ، للمشقة والعسر والحرج ولظواهر الأخبار ، وعليه حينئذ لو وقع في الأثناء بتمامه فيها أو نصفه فإنه حينئذ ينبغي نزح المقدر ، لأن ذلك فرعه ، فلا يزيد عليه ، ومثله يجري في التراوح ، مع احتمال القول بوجوب نزح الجميع كما يظهر من المنتهى ، لكونه من النجاسة الغير المنصوصة ، والمسألة سيالة في كل تنجس بما له مقدر ، وربما يكون في رواية المطر (٢) إشارة إلى شي‌ء آخر ، فتأمل. بل يحتمل قويا الاجتزاء بإعادة نزحه ، لأنه بوقوعه رجع الى الحال الأول الذي قبل إخراجه ، وإن كان لو وقع في بئر أخرى لأوجبنا له المقدر أو نزح الجميع ، هذا كله لو وقع الدلو الأخير ، أما لو صب الأول أو الوسط فهل لا حكم لذلك بل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣ وفي الباب ـ ١٦ حديث ٣.

٢٧٩

يرجع إلى أنك لم تخرجه ، أو أنه من قبيل تنجس البئر بنجاسة جديدة أخرى؟ الأقوى في النفس الأول ، والأوفق بالضوابط الثاني ، وحينئذ يجب إما نزح الجميع أو مقدر تلك النجاسة.

( الخامس ) لا تجب النية في النزح على القول بالنجاسة ، ولا يشترط وقوعه من مباشر مكلف ، بل يصح من كل أحد ، لأنه من قبيل غسل النجاسة ، كما أن الظاهر بناء على القول بالتعبد أو الاستحباب الاكتفاء بمجرد حصوله في الخارج ، فلا يحتاج الى التجدد إذا وقع ممن لا يصح منه ذلك لو كان عبادة ، نعم لهم كلام في التراوح قد تقدم.

ويستحب أن يكون بين البئر أو مطلق العين على وجه والبالوعة وهي مجمع نجاسات نفاذة كما يظهر من رواية الكنيف (١) لا خصوص ماء النزح خمس أذرع بالذراع الهاشمية التي حدت بها المسافة إن كانت الأرض صلبة جبلا ، أو كانت البئر فوق البالوعة قرارا ، وإن لم يكن كذلك بان كانت البالوعة فوق البئر قرارا أو مساوية أو كانت الأرض سهلة رخوة فسبع كما في المعتبر والمنتهى والقواعد والتحرير وغيرها ، بل في جامع المقاصد والمدارك وكشف اللثام انه المشهور بين الأصحاب ، فتكون حينئذ الصور ستة ، لأن الأرض إما سهلة أو صلبة ، وعلى كل منهما فالبئر أما أعلى قرارا من البالوعة ، أو بالعكس أو متساويان ، فحيث تكون الأرض صلبة فالصور الثلاث خمس ، وإذا كانت سهلة فإن كانت البئر أعلى قرارا فخمس أيضا ، والصورتان الباقيتان سبع ، وفي الإرشاد يستحب تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع إن كانت الأرض سهلة ، أو كانت البالوعة فوقها ، وإلا فخمس ، ولا ريب في مخالفة هذه العبارة للمشهور ، إذ على ظاهرها تنعكس صور المسألة ، فتكون أربعة للسبع ، وصورتان للخمس ، هذا إن جعلنا لفظ أو على ظاهرها ، وإن قلنا أن المراد منه الواو‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

٢٨٠