جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

والتحقيق أن يقال : إنه من المعلوم أن العدد من ثلاثة إلى عشرة مميزه جمع مجرور ، وما زاد عليه مفرد منصوب كما هو مقرر في محله ، وأن التحقيق عدم الفرق بين جمع القلة والكثرة ، بل الجمع يصدق على ثلاثة فصاعدا ، وأن ما ذكره بعض أهل العربية من الفرق بينهما بأن جمع الكثرة لما زاد على العشرة بخلاف جمع القلة وهم بشهادة العرف والاستقراء كما هو المذكور في محله ، وكيف كان فالمتكلم بالجمع تارة يقصد منه مجرد مصداقه ، فيحصل الامتثال بمسماه ولا يقصد منه عدد مخصوص إذ ليس هو داخلا في ماهيته وحقيقته ، وأخرى يلاحظ مقدارا مخصوصا من العدد ، وهذا تارة يحصل التصريح به إما بجعله مميزا لذلك المقدار من العدد المراد أو بغيره ، وتارة يعلم المراد منه ذلك لكنه لم يعلم خصوص العدد المراد ، ولا إشكال في جميع ما تقدم ، إنما الكلام في الأخير ، فنقول حينئذ : إما أن تحصل قرينة دالة على ذلك المقدار أولا ، ولا إشكال فيما إذا حصلت ، ومع عدم حصولها فهل مجرد قابلية التمييز لنوع خاص دون غيره قرينة على إرادة ذلك العدد منه دون الآخر أو لا؟ الظاهر الأول.

فإن قلت : إرادة العدد منه لا تقضي بتقدير العدد قبله بحيث يقع مميزا له ، بل قد يكون حينئذ يقدر بعده أو قبله ما يفيد ذلك ، مثلا إذا قال : أعط زيدا دراهم وعلمنا إرادة العدد منه فقد يكون المراد منه حينئذ دراهم تبلغ مائة أو خمسين أو نحو ذلك وإن لم يصلح لأن يكون مثل هذا اللفظ مميزا له. قلت : إن ذلك محتمل لكن يرجح الأول بما يقتضيه المقام من قلة الإضمار وجريانه مجرى الأعداد ونحوهما ، إذا عرفت ذلك فنقول هنا : أما إرادة مطلق الدلاء من غير إرادة عدد مخصوص بحيث يحصل الامتثال بأقل ما يصدق عليه فمقطوع بعدمه بالإجماع من الأصحاب ، ولذلك لم يعترض به المحقق رحمه‌الله على الشيخ ، فلا كلام حينئذ في إرادة العدد المخصوص ، إنما الكلام في تشخيصه ، وملاحظة كلامهم عليهم‌السلام في بيان المنزوحات من العشرين والثلاثين والأربعين وغير ذلك تقضي بأن لفظ الدلاء الواقع في كلامهم في هذا المقام مقصود منه‌

٢٤١

التميز كما في غيره مما صرح بالتمييزية فيه ، وحينئذ ينحصر ذلك في الثلاثة إلى العشرة لعدم صلاحيته لتميز غيره ، واحتمال أن يقال : إنه قد يراد مثلا عشرون وخمسة دلاء أو مائة وعشر دلاء ونحو ذلك ضعيف لاشتماله على حذف عدد وتمييزه من غير قرينة.

فإن قلت : تعين العشرة حينئذ لا معنى له ، قلت : تعين العشرة ليس بقرينة تدل عليها بالخصوص ، بل إنما هو لباب المقدمة الواجب امتثاله في المقام على تقدير النجاسة أو الوجوب التعبدي ، على أنه يمكن دعوى القرينة الدالة عليها بالخصوص بأن يقال : إن الرواية قد اشتمل سؤالها على العذرة وقليل الدم ، وكان الجواب عنهما بهذا اللفظ ، والغرض أنه علم إرادة العشرة في الأولى بقرينة الأخبار (١) الأخر الدالة على ذلك ، فيقوى الظن إرادة ذلك بالنسبة للقليل من الدم ، وكان مراد المحقق رحمه‌الله من المثال الذي ضربه في رد كلام الشيخ هو أن مميز العدد إن جي‌ء معه بالعدد فلا إشكال ، وإن لم يجي‌ء به فلا يعلم إرادة مقدار منه وإن كان مقصود المتكلم إرادة الخاص منه ، وكونه لا يصلح لأن يقع تمييزا لغيره لا يكون قرينته فإن القائل إذا قال : عندي دراهم لا ينكر عليه في تفسيره لذلك بالزائد على العشرة ، واستوضح ذلك في باب الإقرار.

قلت : هو كلام جيد متجه ، إلا أن مقصود الشيخ أنه باعتبار استقراء الأخبار الواردة في نزح البئر يستفاد قصد جعله مميزا جاريا مجرى تمييز العدد ، فان تم ذلك كان الحق مع الشيخ ، وإلا كان الحق مع المحقق ، والظاهر تمامه ، ومثله يلتزم في باب الإقرار حيث يعلم من قصد المقر جعل ما ذكر تميزا مصطلحا ، كما فرعوا على ذلك فروعا كثيرة من جهة الاعراب والجمعية والافراد ونحوهما ، فمثلا إذا قال القائل : له علي درهما بالافراد والنصب يلتزم بأحد عشر لأنه أقل عدد يصلح لأن يكون هذا مميزا له فلاحظ وتأمل ، إلا أنه قد عرفت من ذلك أنه ليس مقصود المحقق الإطلاق من حيث هو ، فلا يتجه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق.

٢٤٢

رد صاحب المدارك على العلامة ، وكذلك قول العلامة في رده : إن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة لعدم العلم بها فضلا عن التأخير عنها ، والأصول لا تفيد ذلك ، على أنه وارد عليه نفسه لصلاحية كون هذا الجمع مميزا للثلاثة إلى العشرة ، وتعيين ذلك بالمقدمة ليس بأولى من ارتكاب شي‌ء آخر لأجل المقدمة يوافق قول المحقق رحمه‌الله من نزح الجميع أو غيره ، وكان مراد العلامة بالأقل الأكثر كما عن بعض نسخ المنتهى ، وقد عرفت أن أصالة البراءة لا يمكن التمسك بها هنا لوجوب الاحتياط ، فلا يرد حينئذ عليه ما في المدارك ، بل قد يظهر من المنتهى تعيين إرادة العشرة هنا من وجه آخر ، وهو أن لفظ دلاء جمع كثرة وأقل أفراده العشرة فيحصل الامتثال ، كما لعله ظاهر المحكي عنه في المختلف ، وإن عبر بأن أقل أفراده ما زاد على العشرة فإن مقصوده العشرة فما زاد ، لكن فيه ـ مع ما عرفت من أنه لا فرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك ـ أنه موقوف على كون العشرة من أفراده ، فإن الظاهر على ما في بالي من عبارة المصرح بالفرق أن العشرة منتهى أفراد جمع القلة وأنه لا يصدق عليها جمع الكثرة وأن بينهما تباينا لا عموما وخصوصا من وجه ، على أن في كون دلاء جمع كثرة كلاما وإن أمكن تأييده بقوله : يسيرة فتأمل.

وأما ما نقل عن المفيد من الخمس دلاء فلم نعثر له على شاهد كما اعترف به بعضهم وقد يكون أخذه من جهة أن دلاء جمع قلة ومنتهى أفراده العشرة ، وقد قيده الامام عليه‌السلام باليسيرة في ذلك ، والمتيقن من اليسيرة بالنسبة إلى ذلك النصف وهو الخمس ، لكنه كما ترى شك في شك ، كالمحكي عن المرتضى رحمه‌الله من أنه ينزح للدم من دلو واحد إلى العشرين من غير تفصيل إذ هو على احتماله إلا على وجه ضعيف جدا لم نعرف له مستندا ، ولا يوافقه قول الصادق عليه‌السلام (١) في خبر زرارة : « في القطرة من الدم ينزح عشرون » ‌ولمكان كون هذه الرواية مخالفة لما عليه الأصحاب أمكن حملها‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

٢٤٣

على الاستحباب وإن لم نعثر على قائل به ، نعم نقل عن المقنع أنه قال : « وإن قطر في البئر قطرات من دم فاستق منها عشر أدلو ثم إن وقع في البئر قطرة من بول أو دم أو خمر أو ميتة أو لحم خنزير فانزح منها عشرين دلوا » وهو مضمون خبر زرارة ، ولو وقع في البئر قطرات متفرقة في أوقات مختلفة بحيث يبلغ مجموعها حد الكثرة فالظاهر انقلاب الحكم لا تعدد وجوب نزح ما للقليل ، مع احتماله قويا ، بل هو الأقوى في النظر ، وكأن الأصحاب فهموا وجوب نزح هذا المقدار للدم القليل ، فعبروا به وجعلوه عنوانا للحكم مع خلو الأخبار عن هذا اللفظ إنما هو من القطرات وذبح الطير والحمامة ونحو ذلك فتأمل.

ويطهر بنزح سبع لموت الطير كما عن الثلاثة وأتباعهم ، بل في الذكرى نسبته للشهرة وينبغي تقييده بغير العصفور إذ هو وشبهه على وجه يأتي ، ومن هنا فسر الطير هنا بالحمامة والنعامة وما بينهما كما في القواعد وغيرها ، وفي السرائر استثناء العصفور وما في قدر جسمه وما شاكله تقريبا في الجسمية ، وفي كاشف اللثام أن غيرهم أي غير ابن إدريس والمحقق والعلامة اقتصروا على الدجاجة والحمامة كالصدوق ، أو بزيادة ما أشبههما كالشيخين وغيرهما ، وعليه حكى الإجماع في الغنية انتهى.

قلت : لا يبعد إرادة التعميم ، فيكون الحجة إجماع الغنية مع قول الصادق عليه‌السلام (١) في خبر يعقوب بن عيثم : « إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء » ومضمر سماعة (٢) قال : سألته « عن الفأرة تقع في البئر والطير؟ قال عليه‌السلام : إن أدركته قبل أن ينتن نزح منها سبع دلاء » وخبر علي بن أبي حمزة (٣) قال : وسألته « عن الطير والدجاجة تقع في البئر؟ قال عليه‌السلام : سبع دلاء » ‌وفي‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٢٤٤

كشف اللثام (١) عن الرضا عليه‌السلام « إذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنور وما أشبه ذلك فمات فيها ولم يتفسخ نزح منه سبع دلاء من دلاء هجر والدلو أربعون رطلا وإذا تفسخ نزح منها عشرون دلوا » ‌والظاهر أنه نقل ذلك عن الفقه الرضوي ، وهو صالح للتأييد ، فهذه الأخبار مع انجبارها بما سمعت مع الاستصحاب مستند الحكم في المقام ، ولفظ الدلاء في بعض الأخبار يراد منها ذلك ، وما في صحيح أبي أسامة (٢) من نزح الخمس للدجاجة والطير لم نعثر على عامل به ، قال في المعتبر بعد أن ذكر ما دل على السبع وصحيح أبي أسامة : « والأولى يعضدها العمل فهي أولى وإن ضعف سندها ولا استبعد هنا العمل برواية أبي أسامة لرجحانها بسلامة السند لكني لم أر بها عاملا » قلت : بل العمل على خلافها ، كخبر إسحاق بن عمار (٣) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « إن عليا عليه‌السلام كان يقول : الدجاجة ومثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان أو ثلاثة وإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة » ‌لم يعمل به أحد من الأصحاب فيما أعلم ، وما ذكره في الاستبصار من الجمع بينه وبين أخبار السبع تارة بالتفسخ وعدمه ، وأخرى بالجواز والفضل ليس عملا ، بل هو مجرد جمع بين الأخبار ، مع أنه نسبه عند التكلم على الشاة إلى الشذوذ ، فوجب حينئذ طرحه ، لكن قد يقال : إنه في الدجاجة ، والأصحاب ذكروا الطائر ، وفي دخولها تحت اسم الطير إشكال ، بل في الأخبار عطفها على الطير ، وهو قاض بعدمه ، فلا مانع من الجمع بين الروايات بالنسبة للدجاجة بالفضل والاستحباب ، إلا أن الذي يظهر من الأصحاب في المقام دخولها تحت اسم الطائر ، وكيف كان فالعمل على ما ذكرنا ، والظاهر دخول أفراخ الطير تحت اسم الطير وإن لم يطر بالفعل ، وأما أفراخ الدجاجة فإن كان مستند الحكم تضمن الأخبار للدجاجة‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

٢٤٥

فالظاهر عدم الدخول ، وإن كان المستند الدخول تحت اسم الطير فلا يبعد الدخول ، ولا فرق في الطير بين أن يكون مأكول اللحم وغيره للإطلاق.

( والفأرة إذا تفسخت ) كما في السرائر والمعتبر والقواعد ، وعن المقنعة والكافي والمراسم والوسيلة وجامع المقاصد والغنية والصدوق والشيخ والقاضي ، وعن الغنية الإجماع عليه ، وعن مصباح السيد في الفأرة سبع وروي (١) ثلاث ، وعن المقنع إن وقعت فيها فأرة فانزح منها دلوا واحدا ، وأكثر ما روي (٢) في الفأرة إذا تفسخت سبع دلاء ، وفيه أنه روي أزيد من ذلك كما لعلك تسمعه إنشاء الله تعالى.

وكيف كان فالحجة الإجماع المحكي المعتضد بالشهرة ، بل يمكن دعوى تحصيله في حال التفسخ ، وما عن المقنع مع أنه غير صريح في المخالفة غير قادح فيه ، نعم محل البحث في اشتراط ذلك القاضي بالعدم عند العدم ، وقد عرفت أنه المشهور ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، مضافا إلى خبر أبي عيينة (٣) أنه عليه‌السلام سئل عنها فقال : « إذا خرجت كلا فلا بأس وان تفسخت فسبع دلاء » وخبر أبي سعيد المكاري (٤) « إذا وقعت الفأرة في البئر فتفسخت فانزح منها سبع دلاء » ‌قيل : كذا في الاستبصار وأكثر نسخ التهذيب ، وفي بعضها والمعتبر فتسلخت ، والظاهر أنه من أفراده ، وخبر أبي بصير (٥) « أما الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء » ‌ومثله غيره ، مع قوله عليه‌السلام في صحيح الشحام (٦) : « ما تفسخ أو تغير طعم الماء فيكفيك خمس دلاء » ‌وأما ما في خبر عمار (٧) « عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير قال : فينزف كلها » وخبر أبي خديجة (٨)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧ وفي الوسائل ( إذا لم يتفسخ ).

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨.

(٨) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

٢٤٦

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن الفأرة تقع في البئر قال عليه‌السلام : إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلوا وإذا تفسخت فيه ونتنت نزح الماء كله » ‌فهما لم نعثر على أحد من أصحابنا عمل بهما ، فيحمل الأول على وجوه ، منها الحمل على التغير أو الفضل ، وعن الشيخ أنه قال في خبر أبي خديجة هذا محمول على الاستحباب لأن الوجوب في هذا المقدار لم يعتبره أحد من أصحابنا ، ولذلك قال في الذكرى : « في السبع تمام الاحتياط » وكأنه لعدم القائل بالزائد لا لعدم الرواية ، ومن ذلك تعرف الوجه أيضا في المنقول (١) عن مسائل على بن جعفر عليه‌السلام « أنه سأل أخاه عن فأرة وقعت في بئر فأخرجت وقد تقطعت هل يصلح الوضوء من مائها؟ قال عليه‌السلام : تنزح منها عشرون دلوا إذا تقطعت ثم يتوضأ » ‌ومثله ما نقلناه سابقا عن كشف اللثام عن الرضا عليه‌السلام ، ولا يبعد حملهما على الاستحباب باختلاف مراتبه قوة وضعفا ، ومما قدمنا ظهر لك متمسك المرتضى رحمه‌الله من الأخبار المطلقة بنزح السبع ، وقد عرفت أنها منزلة على المقيد ، وفي المعتبر بعد أن ذكر بعض الأخبار المتضمنة للثلاث مطلقا والبعض المتضمن للسبع كذلك ، قال : فتحمل روايات الثلاث على عدم التفسخ ، والسبع عليه ، واستشهد لذلك برواية أبي عيينة وأبي سعيد المكاري ، ثم قال : « وضعف أبي سعيد لا يمنع من العمل بروايته على هذا الوجه لأنها تجري مجرى الأمارة الدالة على الفرق وإن لم يكن حجة في نفسها » انتهى.

وأشار بذلك إلى مسألة ينبغي أن تدون في الأصول ، وهي أن شاهد الجمع يشترط فيه أن يكون معتبرا في نفسه أو لا يشترط فيه ذلك لأنه من قبيل القرائن ، بل قد يقال : إن الشهرة قد تكون صالحة للجمع ، والأقوى في النظر الأول لأن شاهده حاكم على الدليلين معا ، فهو أولى باشتراط كونه معتبرا من الحاكم على الدليل الواحد من المطلق أو العام ، وأما إطلاق المقنع من نزح الدلو الواحد فلم نعثر له على شاهد على كثرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٤.

٢٤٧

أخيار المقام ، بل هي على خلافه كما عرفت.

أو انتفخت كما في القواعد وفي السرائر أن حد التفسخ الانتفاخ ، وغلطه المحقق في المعتبر ، وهو كذلك لظهور تبادر الفرق بينهما ، وما يقال : من أن الانتفاخ يوجب تفرق الأجزاء وإن لم تتقطع في الحس فيه ما لا يخفى ، على أن الاعتبار قد يفرق أيضا بين المنتفخة بلا تفسخ ظاهر والمتفسخة من جهة تأثير النجاسة ، وكيف كان فعطف الانتفاخ على التفسخ هو المنقول عن المقنعة والكافي والمراسم والوسيلة والغنية والجامع ، وعن الغنية الإجماع عليه ، وفي المعتبر أنه لم نقف له على شاهد ، وقد عرفت أنه ليس في الأخبار الانتفاخ إلا في خبر أبي خديجة فإن فيه « وإذا انتفخت فيه وقد نتنت نزح الماء كله » ‌وهو دال على خلاف المقصود ، نعم يمكن التمسك له بإطلاق ما دل على السبع ، والذي علم خروجه غير المتفسخة والمنتفخة ، ومفهوم ما دل على عدم نزح السبع عند عدم التفسخ لا يقوى على تقييد مثل هذا المطلق بعد انجباره بفتوى من عرفت ، وإجماع الغنية مع تأيده بالاستصحاب إذ الظاهر أنه على تقدير عدم السبع ينزح له الأقل لا الجميع لكونه ليس أولى من التفسخ ، فالاحتياط حينئذ مع السبع ، والظاهر أن المراد بالفأرة ما يشمل الجرد ولو كان كبيرا ، والمتبادر من الفأرة كونها تامة الخلقة ، فلو كان نصفها باقيا على الترابية كما عن بعض مشاهديه لم يدخل ، لكن لا يبعد القول بنزح السبع له أيضا للاحتياط ، والظاهر أن المراد بالتفسخ من حيث البقاء في الماء حتى تفسخت ، فلو كان التفسخ لا من حيث ذلك لم يدخل في الحكم.

وبول الصبي الذي لم يبلغ مع كونه يأكل الطعام مستغنيا عن اللبن والرضاع كما قيد به في السرائر ، ولعله هو الظاهر من المصنف بقرينة تقييده الآتي فيما ينزح له دلو واحد الذي منه بول الصبي فإنه رحمه‌الله قيده بالذي لم يتغذ بالطعام ، وكذا القواعد فإنه وإن أطلق لفظ الصبي هنا إلا أنه قيده فيما يأتي بالدلو الواحد بالرضيع قبل اغتذائه‌

٢٤٨

بالطعام ، وفي التحرير ذكر كما ذكر المصنف هنا وفيما يأتي ، وكيف كان فمستند الحكم ما رواه منصور بن حازم (١) عن عدة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : ينزح سبع دلاء إذا بال فيها الصبي أو وقعت فيها فأرة أو نحوها » ‌ولعل قصور سندها ومتنها منجبر بالشهرة بين الأصحاب ، وصحيحة معاوية بن عمار (٢) الدالة على نزح الماء كله لبول الصبي أو صب البول أو الخمر معرض عنها بين الأصحاب في المقام ، مع ما فيها من مخالفة ما دل على نزح الأربعين للرجل ، فلا يبعد حملها على التغير أو نوع من الاستحباب ، وما نقل عن المرتضى من نزح الثلاث لبول الصبي إذا أكل الطعام ونحوه عن ابن بابويه لم نقف له على شاهد ، مع مخالفته للاستصحاب والروايات ، وفي المعتبر أن في رواية ثلاث لم نعثر عليها ، بل في السرائر بعد ذكر المختار ونقل ما ذهب اليه المرتضى وابن بابويه قال : « والأول أحوط وعليه العمل والإجماع » ولو لا احتمال إرادته بالإجماع هنا ما به يحصل يقين الطهارة لأمكن جعله حجة مستقلة ، لكن لا بأس بجعله مؤيدا للعمل بالرواية ، وأما رواية علي بن أبي حمزة (٣) قال : سألته « عن بول الصبي الفطيم يقع في البئر؟ فقال : دلو واحد » ‌فكذلك معرض عنها بين الأصحاب ، فلا مانع من حملها على ما إذا لم يتغذ بالطعام ، وما نقله في الوسائل بعد ذكر هذه الرواية وذكر حمل الشيخ لها المتقدم قال : وقال غيره : « إن الأقل يجزي والأكثر أفضل » لم نتحققه ، وليس في الروايات ما يشمل الصبية ، فينبغي الاقتصار على الصبي ، ولا فرق بين المسلم والكافر لإطلاق النص والفتوى ، وأما الخنثى المشكل فالظاهر إلحاقه بالصبية.

بقي شي‌ء وهو ان الصبي إذا كان غذائه بالطعام والرضاع كما يتفق في كثير من الأطفال فهل يلحق بما نحن فيه أولا؟ لم أعثر على ما يدل على أحدهما ، ويمكن أن يقال بمنع الفرض ، وذلك لأنه متى تغذى بالطعام صار مستغنيا عن اللبن ، وما يرى من ملازمة الأطفال للرضاع وان تغذوا انما ذلك للعادة ، وإلا فقد صار مستغنيا عن الرضاع ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٢٤٩

وفيه تأمل ، ولا يبعد القول بان حكم السبع لاستصحاب النجاسة.

ولاغتسال الجنب لا مطلق مباشرته كما عن بعضهم ، واختاره في المدارك ولا لخصوص ارتماسه كما اختاره في السرائر ، نعم لا فرق في الجنب بين الرجل والمرأة ولا بين كونه محدثا بغير الجنابة معها أو لا ، ولا يلحق به غيره من أقسام الأحداث الكبر بل يعتبر فيه أن لا يكون في بدنه نجاسة أخرى عينية لان الظاهر من الأخبار كون هذا الحكم للجنب من حيث كونه جنبا ، بل الظاهر منها كونه ممن يكون طاهر البدن ، فمتى كان كافرا لم يشمله الحكم كما لا يخفى على المتأمل ، ولا ينافيه ما قدمناه في موت الإنسان من عدم الفرق بين المسلم والكافر لتفاوت المقامين في الطهور ، لكن توقف العلامة في المنتهى في الشرط المذكور ، قال فيه بعد أن نقل عن السرائر اشتراط خلو بدن الجنب من نجاسة عينية : « هذا بناء منه على أن المني يوجب نزح الجميع ، ونحن لما لم يقم عندنا دلالة على وجوب النزح للمني لا جرم توقفنا في هذا الاشتراط » وفيه أنه لا معنى للتوقف في ذلك مع كون النصوص واردة بمجرد دخول الجنب في البئر للاغتسال ، وليس من لوازم الجنابة النجاسة ، خصوصا مع اشتهار وجوب نزح الجميع للمني بين الأصحاب كذا قيل. قلت : الظاهر أن العلامة فهم من ابن إدريس أن المراد بالنجاسة التي يشترط خلو بدن الجنب عنها انما هي المني كما يقتضي به صريح كلامه ، ولعله لظهور ذلك من الجنب ، وحينئذ توقفه في محله لان النزح عنده تعبدي لا لنجاسة البئر ، ولم يقم عنده دليل على نزح مقدر للمني ، فلا معنى للاشتراط حينئذ ، ولا ريب في أنه يشترط عنده خلو بدن الجنب من نجاسة لها مقدر معلوم عنده ، ولذلك جعل مورد الكلام المني ، أما على القول بكون النزح للجنب فلا شبهه في اشتراط خلو بدن الجنب من النجاسة حينئذ ، سواء كان منصوصة أو غير منصوصة لظهور الأدلة في أن هذا الحكم للجنب من حيث الجنابة.

٢٥٠

وكيف كان فالأقوى ما اختاره المصنف ويدل عليه ما رواه‌ أبو بصير (١) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الجنب يدخل البئر فيغتسل منها؟ قال ينزح منها سبع دلاء » ‌فان ظاهر قوله يغتسل منها انه ليس ارتماسا ، ولو لم يكن ظاهرا في ذلك فترك الاستفصال كاف في إفادة المطلوب ، وفي صحيح ابن مسلم (٢) « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء » ‌وفي خبر الحلبي (٣) « وان وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء » ‌وفي رواية عبد الله بن سنان (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ان سقط في البئر دابة صغيرة أو نزل فيها جنب فانزح منها سبع دلاء » ‌ولمكان التعليق في هذه الأخبار على الدخول والنزول والوقوع الشامل لحالتي الاغتسال وعدمه ذهب بعضهم الى تعميم الحكم ، وما أبعد ما بينه وبين ابن إدريس من تخصيص الحكم بالارتماس محتجا بان الحكم مخالف للأصول ، ولو لا الإجماع لما قلنا بالارتماس في ذلك ، فيقتصر عليه ، والأولى ما ذكرنا لظهور هذه الأخبار بقرينة شاهد الحال في إرادة الاغتسال ، بل لعل خبر أبي بصير يكون قرينة على ذلك ، على أن لفظ الوقوع يراد منه الاغتسال ، كما يظهر من خبر ابن أبي يعفور (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد فان رب الماء رب الصعيد ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم » ‌فان الظاهر من قوله عليه‌السلام « ولا تقع في البئر » ‌أن المراد لا تغتسل ، وان احتمل غيره كما تقدم هذا. مع أن الأصول والضوابط قاضية بالعدم ، والمتيقن من الأدلة ما ذكرنا ، على أن نفس نزول الجنب في البئر لا يفيده تنجيسا ، ولا سلب طهورية إذ ليس هو أسوء حالا من الماء القليل والماء المضاف فتأمل.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢٢.

٢٥١

وهل هذا النزح لسلب الطهورية أم لنجاسة البئر أم تعبد شرعي؟ نقل في المدارك عن المعتبر والمختلف الأول ، وصرح في المسالك بالثاني ، ويلوح من بعضهم الثالث ، وكأن الأول مبني على أن المستعمل في الكبرى يسلب الطهورية ، وما يقال إن المصنف صرح في نكت النهاية بأن الماء الذي ينفعل بالاستعمال عند من قال به انما هو القليل غير الجاري ، فلا معنى للحكم بزوال الطهورية ، فيه أنه لعل مقصود المصنف بالحصر انما هو إخراج الجاري ، وإلا فالبئر أسوء حالا من القليل بمراتب ، وأما الثاني فربما يحتج عليه بالأمر بالنزح الظاهر في النجاسة ، وب قوله عليه‌السلام : « لا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم » ‌وفيه ان الأمر بالنزح بمجرده لا يدل على ذلك ، وليس هو كالأمر بالغسل الذي يستفاد منه التنجيس في غير المقام ، وعلى تقدير كونه مثله فيحتاج في فهم ذلك منه الى شهرة تقرب للإجماع أو إجماع كما في الغسل ، فكيف والشهرة المركبة بل البسيطة على خلافه ، ونسبته أي النجاسة في جامع المقاصد الى ظاهر كلام القوم فيه منع لأنهم وان ذكروه مع النجاسات لكن مقصودهم في ذلك ذكر النزح لا النجاسة ، ومما يرشد الى ذلك ان العلامة في المنتهى قال : والعجب ان ابن إدريس القائل بطهارة المستعمل حكم ههنا بنجاسة البئر ولم يوجد في الأحاديث شي‌ء يدل عليه ولا لفظ أصحابنا ، فلم يلتفت الى هذا الاقتران في كلام الأصحاب ، وعدم استبعاد ذلك من جهة ان البئر لها أحكام كثيرة تنفرد بها عن غيرها لا يكون مقتضيا للقول به ، نعم هو كذلك بعد صراحة الدليل به ، وأما قوله عليه‌السلام « لا تفسد على القوم ماءهم » ‌فهو كما يحتمل ذلك يحتمل من جهة سلب الطهورية ، أو من جهة تعلق وجوب النزح ، أو من جهة إثارة ما فيها ، أو من جهة خوف الموت فيها فيفسد عليهم ماؤهم ، وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.

والأقوى القول بالتعبد الشرعي وان قلنا بنجاسة البئر بغير ذلك ، وان كان القول بسلب الطهورية بناء على القول به في المستعمل في الكبرى لا يخلو من قرب‌

٢٥٢

وقوة ، لكن لما كان المختار عندنا عدم ذلك تعين القول بالتعبد الشرعي ، واحتمال القول باختصاص ذلك في البئر لا يخلو من وجه لو وجد له مقتضي ، ومجرد الأمر بالنزح لا يقتضيه إذ لعله من جهة النفرة ، فبناء على المختار يختص حينئذ وجوبه بالجنب خاصة ولا يتعدى إلى غيره لعدم الدليل ، واحتمال الإلحاق قياس لا نقول به ، وكذلك على القول بالتنجيس ، وأما على القول بسلب الطهورية فإن كان القول بذلك في خصوص البئر دون غيره كما احتملناه تعين الاقتصار حينئذ وإلا اتجه القول بالتعدية لغير الجنابة من الأحداث ، وحينئذ هل يكتفى بالمقدر للجنب أو لا بد من نزح الجميع؟ الأقوى الثاني لكونه من غير المنصوص ، فيكون حاله كحال غير المنصوص من النجاسات ، واحتمال القول بالاكتفاء للمقدر للجنب له وجه ، لكن لا يجترئ عليه المتورع في دينه ، والظاهر ارتفاع الحدث بهذا الاغتسال سواء كان اغتساله بالارتماس أو غيره ، أما على ما اخترناه من كون النزح تعبديا فواضح ، وأما على القول بكون النزح لسلب الطهورية وقلنا ان البئر كغيره في ذلك وكان الغسل بالارتماس فكذلك أيضا إذ لا يصير مستعملا في الكبرى حتى يتم الغسل ، فإذا تم سلبت الطهورية ، وأما إن كان الغسل ترتيبيا فلا كلام في صحة غسل الجزء الذي غسله قبل وصول ماء الغسل إلى البئر ، وأما بعد وصوله وقلنا ان هذا الخليط غير قادح وغسل الجزء الثاني حتى اعتقد ان الماء الغير المستعمل أولا قد جرى عليه فلا إشكال في الصحة أيضا ، وأما إذا قلنا بكون مثل هذا الخليط قادحا فيحتمل القول في خصوص المقام بعدم القدح لما يفهم من ترك التعرض في الروايات لفساد الغسل الذي هو أولى بالبيان من وجوب مقدار النزح ، لا سيما في رواية أبي بصير المتضمن سؤالها لخصوص السؤال عن الاغتسال الظاهر في الترتيبي كما تقدم ، وما يقال أنه منهي عن الغسل لقوله عليه‌السلام « لا تقع في البئر » ‌والنهي يقتضي الفساد ، ففيه مع أنه محتمل لغير ذلك أن مقتضى التعليل بالإفساد بناء على أن المراد سلب الطهورية صحة الغسل حتى يتحقق الإفساد ، والحاصل الإفساد‌

٢٥٣

إنما يكون من جهة النجاسة ، وقد بينا فساده ، أو يكون من جهة سلب الطهورية ، وقد عرفت أن ذلك قاض بالصحة ، أو يراد به بعض ما ذكرنا من الاثارة ونحوها ، وحينئذ يكون بمقتضى التعليل به أن يكون هو المنهي عنه حقيقة ، وهو أمر خارج عن الغسل لا يقتضي فساد الغسل ، بل مقتضى التعليل أن يكون الغسل صحيحا ، وإلا لعلل بعدم رفع الحدث به ، وأما على القول بان النزح للنجاسة فإن قلنا ان الموجب للنجاسة تمام الغسل. فحينئذ صح غسله وان تنجس بدنه بعد ذلك ، فيكون المرتمس حينئذ ارتماسة واحدة يرتفع حدثه وينجس بدنه ، وان قلنا أن النجاسة تحصل بمجرد وصول ماء الغسل اتجه القول بالفساد حينئذ ، لكن الأول هو الأقوى ، وفي المدارك أن الحقّ أن إجراء هذه الأخبار على ظاهرها مشكل ، فيجب حملها على نجاسة بدن الجنب أو على التقية لموافقتها لمذهب بعض العامة ، أو على أن الغرض من ذلك مجرد التنظيف من ثوران الحمأة التي نشأت من نزول الجنب إلى البئر ، وزوال النفرة الحاصلة من ذلك ، وهذا أقرب ، والله أعلم ، انتهى. وأنت خبير بأن الحمل الأول في غاية البعد لترك الاستفصال عن النجاسة لاختلاف مقاديرها ، فكيف يكتفى بالسبع ، والثاني أبعد لتظافر الأخبار وفتوى الأصحاب بمضمونها ، على أن جميع أخبار النزح أو أكثرها مختلفة إلا هذا ، فإنها كلها اتفقت على السبع ، نعم الأقرب ما قربه بناء على التحقيق السابق من كون البئر كالجاري ، والله أعلم.

ولوقوع الكلب وخروجه حيا كما في المعتبر والمنتهى والتحرير والذكرى وظاهر المختلف وعن الشيخ في المبسوط والقاضي وابن حمزة ، وعن النهاية والقاضي نسبته الرواية ، وفي الذكرى نسبته للشهرة ، ويدل عليه‌ صحيح أبي مريم (١) قال : حدثنا جعفر قال : كان أبو جعفر عليه‌السلام يقول : « إذا مات الكلب في البئر نزحت وقال عليه‌السلام : إذا وقع فيها ثم خرج منها حيا نزح منها سبع دلاء » ‌واشتمال‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

٢٥٤

هذه الصحيحة على ما لا نقول به من نزح الجميع لموت الكلب لا يخرجها عن الحجية في المقام ، أو محمولة على ضرب مما نقول به بقرينة غيرها من الأخبار ، وما في صحيحة أبي أسامة (١) من الاكتفاء بالخمس لوقوع الكلب والسنور والدجاجة والطير إذا لم يتغير طعم الماء أو تتفسخ ـ مع انا لم نعرف عاملا به في المقام ومع ظهوره في الموت ـ مطلق مقيد بما ذكرنا ، وكونه بالموت لم ينزح له خمس دلاء فلا يبقى للمطلق فرد يحمل عليه لا يعين الأول إذ ليس أولى من العكس ، فالتحقيق انه حينئذ مطلق بالنسبة إلى واحد معارض بالنسبة إلى الآخر ، ويرجح حينئذ بالشهرة وغيرها ، وبعبارة أخرى ان المقيدين معا معارضان له مرجحان عليه فتأمل. وعلى ما ذكرنا يحمل إطلاق لفظ الدلاء الموجود في بعض المعتبرة (٢) وقال ابن إدريس : إنه يجب نزح الأربعين لكونه مما لا نص فيه ، ومع نزح الأربعين للموت فللحي بطريق أولى ، وهو متجه على أصله من عدم العمل بأخبار الآحاد ، ولا فرق في الكلب بين كونه سلوقيا وغيره للإطلاق ، ولا بين الوقوع والنزول ، بل مطلق المباشرة إلغاء لخصوصية الوقوع ، ولان الظاهر منه التمام ، فالاكتفاء به لمطلق المباشرة يمكن أن يكون أولى ، ويدخل فيما ذكرنا الولوغ.

ويطهر بنزح خمس لذرق الدجاجة الجلال كما في السرائر والتحرير وعن الشيخ في جملة من كتبه إطلاق لفظ الدجاج ، ولعله بناء منه على نجاسته ، ويأتي ضعفه ان شاء الله تعالى ، ولذلك قيد المصنف وابن إدريس بالجلال ، وهو المنقول عن سلار والمفيد ، وكيف كان فلم نعثر على دليل له بالخصوص كما اعترف به جماعة من أصحابنا ، واحتمال الإلحاق بعذرة الإنسان الرطبة فيجب خمس ، أو الجامدة فيجب عشرة بعيد ، فجعله من غير المنصوص متجه ، وتحصيل الأولوية في المقام بالنسبة الى بعض النجاسات‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢ و ٥ و ٦.

٢٥٥

في غاية الاشكال ، واحتمل في الذكرى نزح الثلاثين لرواية كردويه (١) وكأنه لكونها عنده تفيد حكم غير المنصوص بالخصوص ، ويأتي ضعفه ، فالمتجه حينئذ ما ذكرنا.

وينزح ثلاث لموت الحية كما في المقنعة والسرائر والتحرير والمنتهى وظاهر المعتبر ، وكذا المختلف عن الشيخ في المبسوط والنهاية وأبي الصلاح وسلار وابن البراج ، بل نسبه في الذكرى الى المشهور ، وفي السرائر نفي الخلاف فيه ، ولم نعثر له على دليل بالخصوص كما اعترف به بعضهم ، والإحالة على الفأرة والدجاجة لكونها لا تزيد على قدر الدجاجة وقد روي انها دلوان أو ثلاثة مأخذ ضعيف جدا ، وفي المعتبر انه يمكن الاستدلال عليه بقول الصادق عليه‌السلام (٢) في خبر الحلبي قال عليه‌السلام : « إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانزح منه دلاء » ‌فينزل على الثلاث لأنه أقل محتملاته ، وهو كما ترى ، مع أنه في رواية ابن سنان (٣) « للدابة الصغيرة سبع » ، وعن علي بن بابويه انه أوجب لها سبعا كما في المختلف ، والمنقول عن رسالته في المعتبر انه أوجب دلوا واحدا للحية كما أنه في المنتهى نقل عنه أيضا ذلك ، وعلى كل حال فيمكن القول بالمشهور أخذا بظاهر الخبر المتقدم لانجباره بالشهرة ونفي الخلاف في السرائر ، وقد عرفت أنه لم ينقل عن أحد الخلاف فيه إلا ما عرفته في المختلف ، عن ابن بابويه ، مع أن المنقول عنه في المعتبر والمنتهى خلاف ذلك ، بل الاكتفاء بدلو واحد ، فيمكن تحصيل الإجماع ، وإلا فالاكتفاء بالسبع مراعاة لما نقله في المختلف واحتمال كونه من غير المنصوص لكن لا ينزح الجميع لما ورد (٤) ان أكثر ما يقع في البئر الإنسان وينزح له سبعون لا يخلو من وجه ، وألحق المفيد بالحية الوزغة ، كما عن الشيخ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٢٥٦

إلحاقها أيضا مع العقرب ، وعن أبي الصلاح إلحاق العقرب حسب ، وفي الوزغة دلو واحد ، والحق عدم إلحاق شي‌ء لعدم نجاستها لكونها لا نفس لها ، ولا دليل معتبر على التعبد إلا في الوزغ ، وهو مع إمكان معارضته بغيره يمكن حمله على الاستحباب ، ولعله لدفع السمية ، وعليه يحمل ما ورد في العقرب (١) ترجيحا لما دل على أنه ما لا دم له لا يفسد (٢) فيمكن حمل ما ورد على الاستحباب كما تسمعه في الفأرة.

والفأرة إذا لم تتفسخ أو تنتفخ على وجه تقدم سابقا ، كما في المقنعة والسرائر والتحرير والمعتبر والذكرى وظاهر المختلف لصحيحة معاوية بن عمار (٣) سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن الفأرة والوزغة تقع في البئر قال : ينزح منها ثلاث » ‌وفي التهذيب عن الحسين عن فضالة عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله ، وما في بعض الأخبار (٤) من إيجاب السبع محمول على التفسخ ، والشاهد خبر أبي سعيد المكاري (٥) وقد تقدم الكلام فيه سابقا ، ولهذا الإطلاق نقل عن بعضهم وجوب السبع مطلقا ، وعن ابن بابويه « انه ينزح لها دلو واحد فان تفسخت فسبع » ولم نعرف له دليلا عليه (٦) وتقدم جملة من الكلام سابقا فلاحظ وتأمل.

وتطهر بنزح دلو لموت العصفور وشبهه تقدم البحث سابقا في شبه العصفور وما المراد به عند البحث على موت الطير ، وأما العصفور فينزح له دلو ، كما في المقنعة والمعتبر والسرائر والتحرير والذكرى وظاهر المنتهى لقول الصادق عليه‌السلام (٧)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ١٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأسئار حديث ١ و ٢ و ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٦) لعل مستنده ما أرسله كاشف اللثام‌ عن الصادق عليه‌السلام « وقد استقى غلامه من بئر فخرج في الدلو فأرتان فقال عليه‌السلام : أرقه وفي الثاني فأرة فقال عليه‌السلام : أرقه ولم يخرج في الثالث فقال : صبه في الإناء » ‌( منه رحمه‌الله ).

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٢٥٧

في خبر عمار : « ان أقل ما يقع في البئر فيموت فيه العصفور ينزح منها دلو واحد » ‌وفي المعالم أن عمارا مشهود له بالثقة بالنقل ، منضما لقبول الأصحاب لروايته هذه وفي المنتهى أن عمارا فطحي والأصحاب قبلوا روايته وشهدوا له بالثقة انتهى. فيكون ذلك مخرجا له مما دل على حكم الطير ، وأما إلحاق الشبه به وان ظهر من جملة من الأصحاب لكنا لم نعثر على ما يقتضيه ، والاعتبار بنفسه لا يعتمد عليه ، ولا حظ ما قدمناه في الطير وتأمل.

وبول الصبي الذي لم يتغذ بالطعام كما في المقنعة والسرائر والتحرير والذكرى وغيرها ، وعن أبي الصلاح وابن زهرة إيجاب الثلاث ، واحتج الشيخ لما في المقنعة بخبر علي بن أبي حمزة (١) قال : سألته « عن بول الصبي الفطيم قال : دلو واحد » ‌وكأن الاستدلال بها مبني على إرادة غير المتغذي من الفطيم لعدم العامل بها في غير ذلك ، أو يتم بالأولوية فيه ، لكن مشكل بعدم العمل بالمنطوق ، فكيف يكون الأولى منه حجة ، وإيجاب نزح الجميع لموت الصبي من غير تفصيل لم نعثر على عامل به ، وما عن أبي الصلاح وابن زهرة ليس في الأخبار ما يدل عليه ، وإطلاق السبع في بعض كما تقدم سابقا ليس له جابر في المقام فتأمل جيدا.

وفي ماء المطر وفيه البول والعذرة وخرء الكلاب ثلاثون دلوا كما في التحرير والذكرى وظاهر المنتهى لخبر كردويه (٢) سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول والعذرة وأبوال الدواب وأرواثها وخرء الكلاب قال عليه‌السلام : ينزح منها ثلاثون دلوا » ‌وفي الوسائل رواه الصدوق بإسناده عن كردويه ، ولعله لرواية مثل هذين الشيخين العظيمين له سوغ العمل به ، وإلا فلا أعرف للعمل به جابرا لمجهولية كردويه ، ولو وجد الجابر له لأمكن الجواب عما أورد عليه ، بأن العذرة وحدها مع الذوبان ينزح لها خمسون ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

٢٥٨

فإذا انضم إليها غيرها من البول وقد روي صحيحا أنه ينزح له الجميع وأبوال الدواب وأرواثها وخرء الكلاب يتضاعف النجاسة فكيف يكتفى بالثلاثين بجواز استناد التخفيف إلى مصاحبة ماء المطر ، ومن نظر الى ما ينفعل به البئر وما يطهر به واشتمالها على جميع المتنافيات كالهر والخنزير وتفريق المتماثلات كالكلب والكافر والثور والبقرة يزول عنه استبعاد حكم هذه النجاسات منفردة عن ماء المطر ومصاحبته له وبجواز كون أعيان النجاسة مستهلكة فيه ثم وقع في البئر ، أو يراد السوال عنه في هذا الحال وان لم تقع هي معه إلى غير ذلك ، وبناء على عدم العمل بهذه الرواية فالمتجه حينئذ نزح المقدر فيما له مقدران قلنا ان المتنجس به يدخل معه في ذلك وإلا فالجميع.

والدلو التي ينزح بها المقدر ما جرت العادة في ذلك الزمان أي زمان صدور الأوامر باستعمالها في النزح عند الأمر به وغيره ، ولا يكتفى بالأنقص من المعتادة ، وأما الزائدة فمع نزح المقدر بها كالناقص فلا كلام في الاكتفاء به ، وهل تقوم الزيادة مقام شي‌ء من العدد حتى لو كانت تسع المقدر دفعة واحدة؟ وجهان ، منشأهما أنه هل المفهوم من الأمر بالنزح إخراج هذا المقدار ولو دفعة أولا؟ لا يبعد الثاني استصحابا للنجاسة مع عدم القطع بما ذكر ، ولا دلالة عرفية ، ومن الوجه الأول ينقدح جريان المسألة في أشياء أخر ، والمدار ما تقدم ، وقد ذكرنا في التراوح جملة من ذلك ، فراجع وتأمل وكيف كان فوجه ما ذكره المصنف هنا والمعتبر والعلامة في التحرير والمنتهى حمل المطلق على المعتاد ، ولأنه هو المتيقن في إزالة النجاسة ، وربما فهم من بعض كلماتهم أن المراد بالاعتياد انما هو الاعتياد بالنسبة إلى تلك البئر صغيرة كانت أو كبيرة ، قال في المعتبر : « الدلو التي ينزح بها هي المعتادة صغيرة كانت أو كبيرة ، لأنه ليس للشرع فيها وضع ، فيجب أن يتقيد بالعرف » انتهى. وقال في المنتهى : « المعتبر من الدلو العادة ، لعدم النص الدال على التقدير له » انتهى. وفي المدارك ينبغي أن يكون المرجع في الدلو الى العرف العام ، فإنه المحكم فيما لم يثبت فيه وضع من‌

٢٥٩

الشارع ، ولا عبرة بما جرت العادة باستعماله في ذلك البئر إذا كان مخالفا له. قلت : كلام من تقدمه قد يظهر منه الإرادة بالعادة العرف العام ، ولا ينافيه قوله في المعتبر صغيرة أو كبيرة ، إذ المراد بعد تناول العرف ، وربما احتمل القول بالاقتصار على المعتاد في ذلك الزمان بعد ثبوته للاستصحاب ، وان لم يثبت يجب الأخذ بالمتيقن ، ولا يخفى عليك ما فيه ، كما أنه لا يخفى عليك شدة اختلاف مقدار النزح قلة وكثرة على الأول من جهة صغر الدلو وكبره بعد صدق العرف ، فالمسألة لا تخلو من إشكال ، وفي المدارك نقل عن بعض المتقدمين ان المراد بالدلو الهجرية التي وزنها ثلاثون رطلا أو أربعون ، وهو ضعيف انتهى. وكأن مجهولية مقدار الدلو مما يرشد الى الاستحباب ، لاختلافه باختلاف الأزمنة والأمكنة وغير ذلك.

فروع ثلاثة‌ ( الأول ) حكم صغير الحيوان حكم كبيره بعد صدق الاسم وتناول الدليل ، فلاحظ وتأمل. ( الثاني ) اختلاف أنواع النجاسة كالعذرة المذابة وبول الرجل مثلا موجب لتضاعف النزح تساوى المقدار أو زاد أحدهما على الآخر ، نعم ينبغي تقييده بما إذا لم يكن فرض أحدهما نزح الجميع ولو كان من جهة غير المنصوص ، لأصالة عدم تداخل الأسباب المستفادة من ظاهر الأوامر والاستصحاب ، خلافا للمنتهى فإنه قرب التداخل ، محتاجا بأنه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين ، فيحصل الاجزاء ، والنية غير معتبرة ، وهو مصادرة ، وكون علل الشرع معرفات وعلامات فلا استحالة في اجتماعها على معلول واحد لا يقتضي ذلك ، لأنا وأن لم نقل أنها علل حقيقية إلا أن الظاهر جريانها مجرى العلل الحقيقية حتى يعلم خلافه ، لا يقال لم لم يكن محل الفرض من غير المنصوص ، فينزح له الجميع لكون النجاسة الحاصلة من الجميع غير النجاسة الحاصلة من كل واحد وحده. لأنا نقول : ـ مع كونه واضح البطلان في المقام وغيره ـ ما دل على نزح المقدر للنجاسة المخصوصة شامل لما إذا كان معها غيرها من النجاسات أو لا ، وليس مشروطا ذلك‌

٢٦٠