جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

فان قلت : هو كذلك لكن يحتمل أن يكون مقدارا يأتي على جميع ما في البئر ولو بحسب الاتفاق ، فلا يتيقن حصول ذلك المقدار إلا بنزح الجميع فإنه يكتفى به حينئذ ، وان لم يبلغ ذلك المقدار فيدخل فيما لا نص فيه بهذا المعنى لا بالمعنى المعروف ، ويتجه حينئذ قوله انه لا معنى لأصل عدم الأكثر لكونه مقطوعا باستصحاب النجاسة ، ولا معنى لنفي الأكثر بعد تحقق شغل الذمة. قلت : مع أن لنا بحثا في ذلك أن إجماع الغنية والشهرة المنقولة بل والمحصلة يكفيان في بيان ذلك المجمل ، ومما تقدم يظهر لك ما في مناقشة المدارك للمعتبر بأنه لا معنى لجعله للفرس مما لا نص فيه لدخوله تحت اسم الدابة ان قلنا انها لكل ما يدب على الأرض أو ذات القوائم الأربع أو لكل ما يركب ، إذ قد عرفت أن جعلها من غير المنصوص لما ذكرنا من جهة إجمال خبر الدلاء لا من جهة ما ذكر ، وفي المنتهى « وأما البقرة والفرس فقد قال الشيخ والسيد المرتضى والمفيد بمساواتهما للحمار بالكر ، ولم نقف في ذلك على حديث إلا ما روى الشيخ وذكر صحيح الفضلاء المتقدم ، ثم قال بعده : قال صاحب الصحاح : الدابة لكل ما يدب على الأرض والدابة اسم لكل ما يركب ، فنقول لا معنى لحمله على الأول وإلا لعم وهو باطل لما يأتي فيجب حمله على الثاني ، فنقول الألف واللام في الدابة ليست للعهد لعدم سبق معهود ترجع اليه ، فاما أن يكون للعموم كما ذهب إليه الجبائيان أو لتعريف الماهية على المذهب الحق ، وعلى التقديرين يلزم العموم في كل مركوب ، أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأنه تعليق الحكم على الماهية يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها وإلا لم يكن علة هذا خلف ، وإذا ثبت فيه دخل فيه الحمار والفرس والبغل والإبل والبقر نادرا ، غير أن الإبل والثور خرجا بما دل بمنطوقه على نزح الجميع ، فيكون الحكم ثابتا في الباقي. فإن قلت : يلزم التسوية بين ما عدده الامام. قلت : خرج ما استثني لدليل منفصل ، فيبقي الباقي لعدم المعارض ، وأيضا التسوية حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء وان افترقت بالقلة والكثرة ، وذلك شي‌ء لم يتعرضا له عليهما‌السلام إلا ان لقائل أن‌

٢٢١

يقول إن ما ذكرتموه لا يدل على بلوغ الكرية ، ويمكن التمحل بان يحمل الدلاء على ما يبلغ الكر جمعا بين المطلق والمقيد خصوصا مع الإتيان بصيغة جمع الكثرة. لا يقال : ان حمل الجمع على الكثرة استحال إرادة القلة منه ، وإلا لزم الجمع بين إرادتي الحقيقة والمجاز ، وان حمل على القلة فكذلك. لأنا نقول : لا نسلم استحالة الثاني ، سلمناه لكن ان حمل على معناه المجازي وهو مطلق الجمع لم يلزم ما ذكرتم ، على ان لنا في كون الصيغ المذكورة حقائق أو مجازات في الكثرة نظرا ، وبعض المتأخرين استدل بهذه الرواية على وجوب النزح للحمار دون الفرس والبقرة ، وألحقهما بما لم يرد فيه نص ، وقد روى مثل هذه الرواية البقباق عن أبي عبد الله عليه‌السلام » انتهى. ونقلناه برمته لما فيه من الفوائد العظيمة الجليلة النافعة في المقامات المتعددة ، واعترضه في المدارك بثمانية وجوه ، ويمكن للناظر أن يجعل في كل من الثمانية ثمانية من النظر ، قال فيها : « ( الأول ) مقتضى كلامه رحمه‌الله ان الدابة حقيقة فيما يركب حيث حمل النص عليه وهو غير واضح ، وكلام الجوهري لا يدل عليه ، فان الإطلاق أعم من الحقيقة والمجاز ، وقد صرح بعض محققي أهل اللغة بأن أكثر اللغات مجازات ، مع ما قد اشتهر ان الدابة منقولة إلى ذات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير ، وذكر جماعة انها مختصة بالفرس ، سلمنا انها حقيقة فيما يركب ، لكن البقر انما يركب نادرا كما اعترف به ، والألفاظ إنما تحمل على المعنى المتعارف لا النادر الغير المشهور » انتهى. وفيه انه مبني على ما هو الظاهر من كلام الجوهري من ذكره المعنيين للدابة مع التصريح بقوله في الثاني اسم ، ولم يكتف بعطفه على الأول إذ لم يعهد إطلاق لفظ الاسم على المعنى المجازي كأن يقال الأسد اسم للرجل الشجاع ، على أن هذا سد لباب التمسك بقول اللغوي من دون ثبوت من خارج ، وفيه ما لا يخفى ، وأيضا العلامة رحمه‌الله حمله على الثاني بعد أن استدل على نفي الأول ، فلو فرضنا أن المعنى الثاني مجاز لكن ربما يظهر من صاحب الصحاح إنه مجاز معروف مشهور ، فلا يبعد حمله مع تعذر الأول‌

٢٢٢

على الثاني ، على أنه نقل عن القاموس أنه قال : الدابة ما دب من الحيوان وغلب على ما يركب ، وهو ظاهر في كونه حقيقة عرفية لا أقل من كونه مجازا مشهورا ، فبعد انتفاء إرادة الأول يتعين إرادة الثاني ، ومن ذلك ظهر لك ما في قوله أن الإطلاق أعم من الحقيقة فإنه ليس من باب الإطلاق ، وقوله مع أنه قد اشتهر أن الدابة فيه أنه ممنوع أولا ، وثانيا قد يكون معنى حادث لا يحمل عليه الخطابات الشرعية ، ولذلك لم يذكره أهل اللغة ، وأيضا قد يكون رأي مثل العلامة رحمه‌الله تقديم اللغة على العرف كما ذهب اليه المعترض ، بل نقل أنه مذهب كثير من الفقهاء ، ولا عيب فيه عليه ، قوله لكن البقر انما يركب نادرا فيه أن قوله في الصحاح انها اسم لكل ما يركب قد يدعى عمومه حتى للفرد النادر لوقوعه في سياق كل كالدابة فإنها اسم لكل ما يدب على الأرض لا ما يدب متعارفا ، وقال : « ( الثاني ) قوله في الاستدلال على إفادة المعرف باللام العموم على التقدير الثاني ان تعليق الحكم على الماهية يستدعي وجوده في جميع صور وجودها وإلا لم يكن علة. قلنا : تعليق الحكم على الماهية لا يقتضي كونها علة فيه ، على انه لو تم ما ذكره لاقتضي إفادة المعرف المحلى بلام الجنس العموم مطلقا ، وهو لا يقول به » انتهى. وفيه ان ما أشار إليه العلامة رحمه‌الله هو التحقيق في إفادة المعرف باللام العموم ، وذلك لانه قد تبين في الأصول فساد مذهب الجبائيين وغيرهم ، وان الحق كون الالف واللام للتعريف والإشارة إلى مدخولها ، فحيث يكون مدخولها اسم جنس كانت لتعريف الجنس ، وحينئذ ففي وجه استفادة العموم على هذا التقدير خلاف ، فمنهم من ذكر دليل الحكمة ، وقد ذكرنا فساده في الأصول ، ومنهم من ذكر هذا الطريق وهو التحقيق ، وذلك حيث يكون متعلقا لحكم شرعي يرجع في الحقيقة إلى وصف الطبيعة من حيث هي هي مثلا إذا قال الشارع البيع حلال كان وصف الحلية لا حقا لطبيعة البيع ، فمتى وجدت وجد وصفها معها وإلا لم يكن وصفا للطبيعة ، فيستفاد عموم الحلية لجميع أنواع البيع ، ولا يكفي في كونه وصفا للطبيعة وجوده في بعض البيع لان ذلك يكون في الحقيقة وصفا للفرد دون‌

٢٢٣

الطبيعة. فإن قلت : ان ما قضت به الأدلة من تحريم بعض أنواع البيع ينافي كون الحلية وصفا للطبيعة. قلت : قد يقال أولا أن ما ذكرنا مدلول ظاهري لا ينافيه التخصيص ، وثانيا ان ما قضت به الأدلة ليس أن طبيعة البيع حرام ، إنما التحريم للفرد وهو لا ينافي حكم الطبيعة ، وذلك من قبيل أن يقال الرجل خير من المرأة الذي لا ينافيه وجود أفراد من النساء خيرا من الرجال. فلا ريب في كون ذلك هو التحقيق في استفادة العموم ، نعم هو لا يجري في كل مقام إذ من المقطوع به أن السيد إذا قال لعبده بع أو أوجد البيع ونحو ذلك لا يجب عليه استغراق جميع أفراد البيع ، والفرق بينهما ان هذا أمر يحصل امتثاله بالواحد ، وليس وصفا لا حقا للطبيعة من حيث هي هي يدور مدارها وجودا وعدما ، ومن هذه الجهة لم يقل العلامة رحمه‌الله بالعموم في الجميع ، بل في بعض دون بعض ، ولا يخفى ان ما نحن فيه من قوله عليه‌السلام في الجواب عن الدابة حيث تقع في البئر ( ينزح دلاء ) من الأول فإنه في قوة أن يقول نزح دلاء للدابة ، فحيث توجد هذه الطبيعة يوجد هذا التقدير لها وإلا لم يكن تقديرا لهذه الطبيعة ، والتقدير كالتوصيف ، وليس المقصود من هذا الأمر التكليف ليتحقق الامتثال بالواجد ، بل هو من قبيل اغسل ثوبك من البول مثلا فإنه ظاهر في أن طبيعة البول موجبة لذلك ، فحيث توجد يوجد هذا الحكم وكأن هذا المعنى هو مراد العلامة بالعلية أي المناط الذي يوجد بوجودها الشي‌ء فتأمل. ثم قال : « ( الثالث ) قوله : ان الإبل والثور خرجا بما دل بمنطوقه على نزح الجميع ، فيكون الحكم ثابتا في الباقي. قلنا : الذي دل بمنطوقه على حكم الثور دل بمنطوقه على حكم مثله ، فان اقتضى الإخراج في أحدهما اقتضاه في الآخر وإلا فلا » انتهى. قلت : محل الكلام الآن في الفرس والبقر ، أما الأولى فليس نحوه قطعا ، وأما الثاني فللعلامة أن يقول كذلك ، ولذلك لم يعمل به أحد في ذلك المقام ، وأيضا لو أراد ذلك لقال البقر ، وعلى كل حال فنحوه من قبيل المجملات لأنا لا نعلم‌

٢٢٤

ما المراد به ، مع احتمال أن يراد به الثور الوحشي.

« ( الرابع ) قوله : خرج ما استثني بدليل منفصل ، فيبقي الباقي لعدم المعارض. قلنا : الاستثناء والإخراج بدليل انما يكون من الألفاظ العامة أو ما في حكمها لأن إطلاق اللفظ وإرادة بعض مدلوله معنى مجازي يصار إليه بالقرينة ، والأمور المتعددة المدلول على كل منها بالمطابقة إذا تعلق بها حكم واحد ثبت ذلك الحكم لكل منها على انفراده نصا ، فإذا وجد ما ينافي ذلك في بعض المدلولات تعارض الخبران ، ويصار الى الترجيح لامتناع العمل بهما » انتهى. قلت : أما مناقشة الأولى فهي مناقشة لفظية لأن محصلها أنه كيف يطلق لفظ الاستثناء على مثل ذلك مع أنه قد يطلق عليه ، لا سيما بعد وضوح القرينة كما هنا ، وقوله والأمور المتعددة الى آخره لا ينافي ما ذكره العلامة إذ مراده أنه خرج باعتبار رجحان المعارض ، على أنه يمكن صحة الاستثناء هنا في الجواب بان يقال ينزح دلاء إلا للكلب مثلا ، فينزح له أربعون ، وأيضا فالحكم هنا ليس متعلقا بكل واحد بانفراده نصا ، والمطابقة بين السؤال والجواب لا تقتضي أزيد من الظهور ، فلا يمنع من الاستثناء متصلا ومنفصلا.

قال : « ( الخامس ) قوله : وأيضا المساواة حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء. قلنا : هذا الخيال واضح الفساد فإنه لا يكاد يفهم من هذه الإطلاق إلا تساوي الأمور المذكورة في قدر النزح ، فلو كانت مختلفة في ذلك لزم الإغراء بالجهل والخطاب بماله ظاهر مع إرادة خلاف ظاهره ، وقد ثبت امتناعه في الأصول » انتهى. وفيه أن مدار الجمع بين الأخبار إنما هو حمل ما له ظاهر على خلاف ظاهره بعد ترجيح المعارض فمقصوده بهذا التساوي وأنه بعد دلالة الأدلة على حكم تلك الافراد وكانت مختلفة يعلم من ذلك أن مقصود الامام عليه‌السلام بالجواب إنما هو القدر المشترك بين الجميع ، وكان تأخير البيان لمقام آخر أو كانوا عالمين بذلك ، وليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة لعدم العلم بكونه وقت حاجته.

٢٢٥

قال : « ( السادس ) قوله ويمكن التمحل بان يحمل الدلاء على ما يبلغ الكر جمعا بين المطلق والمقيد. قلنا هذا التمحل واضح الفساد أيضا فإن إطلاق لفظ الدلاء وإرادة الكثرة من غير زيادة ولا نقصان يكاد أن يلحق بالهذر والهذيان الى سادات الأنام وأبواب الملك العلام عليهم أفضل الصلاة والسلام ، ومع ذلك كله فالمقيد الذي ادعاه غير موجود ، ولو ثبت وجوده لكان فيه غنية عن هذه التمحلات الواهية والتكلفات الباردة » انتهى.

وأنت خبير بان مثل هذا الكلام لا يناسب في جنب مثل العلامة آية الله في العالمين مع اعترافه بأنه تمحل ، وكان ما ذكره هذا المعترض هو وجه التمحل ، على أنه يمكن أن يقال إن العلامة أراد بالمقيد رواية عمرو بن سعيد بن هلال (١) الواردة في الحمار ، وذلك لانه لما كان الحمار والبغل وغيرهما داخلة في لفظ الدابة في صحيحة الفضلاء ثم أنه بين مقدار الدلاء في فرد من أفراد الدابة فله أن يقول إن هذا الحكم بيان للدلاء التي هي حكم الدابة ، لا سيما مع القطع بعدم إرادة الإطلاق للإجماع ، والحمل على تخصيص لفظ الدابة ليس بأولى مما ذكرنا ، بل هو أولى ، على ان المشهور شهرة كادت تكون إجماعا بل سمعت ما في الغنية من الإجماع على الخيل وشبهها أن الكر ينزح لجميعها ، فبمعونة ذلك يتجه ما تقدم ، أو يمكن فهم التقييد منها بطريق آخر بان يقال إن قوله حتى بلغت الحمار الى آخره يراد به اني بلغت لهذا ونحوه في الجسم من الحيوان ، فيدخل فيه الفرس والبقرة ، وكيف كان فلا ينبغي إساءة الأدب مع مثل العلامة مع اعترافه بالتمحل وإمكان توجيهه بما ذكرنا ، هذا كله مع ان عبارة المعترض لا تخلو من مناقشة واضحة للمتأمل كوضوح فساد ما بقي له من الاعتراضين.

وينزح سبعين دلوا إن مات فيها أي بعد أن وقع فيها ، والمراد به ما يشمل القتل وغيره ، ما صدق عليه إنسان سواء كان كبيرا أو صغيرا رجلا أو امرأة ، نعم مقتضى تقييد المصنف بالموت فيها أنه لا يدخل في هذا الحكم الميت‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٥.

٢٢٦

خارجا عنها ، بل ولا السقط الذي لم تحله الحياة بعد تمام ما يصدق هذا اللفظ معه ان قلنا بنجاسته ، لكن قد يظهر من بعض المتأخرين كالفاضل الهندي دخول الأول حيث قال : « ينزح سبعين دلوا لموت الإنسان فيها أو وقوع ميت فيه لم يغسل ولم يقدم الغسل إن وجب قتله فقتل لذلك وان يمم أو كان شهيدا ان نجسناه خلافا للمشهور » انتهى. وفيه أن خبر عمار (١) المعمول به بين الأصحاب في المقام الذي هو مستند الحكم ، قال فيه : « وما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا » وهو ظاهر في قصر الحكم على الموت فيها ، نعم قد يقال بوجوب نزح السبعين لتحقيق سنذكره.

وكيف كان فمستند الحكم خبر عمار الساباطي المنجبر بما عن الغنية والمنتهى من الإجماع ، بل عن المعتبر ان رواتها ثقات ، وهي معمول عليها بين الأصحاب ، كما في الذكرى للخبر المقبول بين الأصحاب عن الصادق عليه‌السلام مع ما في المدارك من نسبته إلى الأصحاب أيضا ، وما في بعض الأخبار (٢) كخبر زرارة من وجوب نزح العشرين دلوا ، وحسن محمد بن مسلم (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام « في الميتة تقع في البئر إذا كان له ريح نزح منها عشرون دلوا » ‌لا يعارض ما ذكرنا لإعراض الأصحاب عنهما ، كما عن المنتهى ان أصحابنا لم تعمل بالعشرين ، فيكون الاستدلال بهما ساقطا ، ويحتمل العمل بهما في ميت الإنسان الخارج عن البئر لأنه من قبيل التعميم والتخصيص إن كان المفهوم من قوله في خبر عمار فيموت فيها تقييدا ان لم يثبت إجماع على عدم ذلك ، وظاهر النص والفتوى عدم الفرق بين المسلم والكافر ، وخالف في ذلك ابن إدريس وهو المنقول عن أبي علي فأوجب نزح الجميع ، وقد أطال ابن إدريس في الاستناد لذلك ، وحاصله أن الكافر إذا باشر الماء وهو حي وصعد يجب له نزح الجميع لكونه مما لا نص‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ـ ٢.

٢٢٧

فيه ، ويظهر منه نفي الخلاف فيه ، فكيف إذا كان بعد تزوله إليها ومباشرته لمائها بجسمه وهو حي وقد وجب نزح جميعها ، فإذا مات بعد ذلك ينزح له سبعون دلوا وقد طهرت ، وهل هذا إلا تفصيل من قائله وقلة تأمل ، أتراه عند موته انقلب وطهر ، ولا خلاف بيننا ان الموت ينجس الطاهر ويزيد النجس نجاسة ، ويمكن تقريره بوجه آخر وهو أنه قد ثبت نزح الجميع له في حال الحياة لكونه مما لا نص فيه ، فيثبت هنا لان الفرض موته في البئر فيكون قد لاقاها وهو حي ثم مات والموت ان لم يزده لم ينقصه فتأمل.

وبهذا القياس يخص عموم الرواية الشاملة للكافر والمسلم ، وفيه أولا ان أحكام النجاسة تعبدية لا يعرف حكمتها إلا الله ، فلا يمكن أن ينقح العقل بعنوان القطع المساواة فضلا عن الأولوية. وثانيا انا نمنع ما ذكره من وجوب نزح الجميع هنا للحي وان قلنا وجوبه لما لا نص فيه لانه على تقدير تسليم ما ادعاه من الأولوية يعلم مما ذكر في الروايات من تقدير الإنسان الشامل لهما بالسبعين ان الحي لا يزيد على ذلك إذ ببيان حكم الأشد يظهر حكم الأضعف ، وما ذكره من دعوى الإجماع ان أراد به على ما لا نص فيه فمسلم ، وان أراد به في خصوص المقام فممنوع لان المراد بما لا نص فيه ان لا يعلم حكمه من الأخبار بوجه من الوجوه ، ونحن الآن وإن لم نعلم حكمه بالخصوص لكنا نعلم أنه لا يتجاوز السبعين للأولوية التي ادعاها ، على أن ظاهر الرواية موت الإنسان في البئر فعلى تقدير شموله للكافر يكون ظاهرا في ملاقاته له حيا ثم مات ، ومع ذلك اكتفي فيه بالسبعين فبدون موته كذلك بطريق أولى قطعا وأما ثالثا. فلانا ان سلمنا له وجوب نزح الجميع في الحي فإنما هو من جهة فقد نص المظهر لحكمه فهو حينئذ حكم ظاهري من باب المقدمة لا أنه حكم شرعي واقعي ، فلا يستفاد منه أولوية تعارض النص ، ولعل هذا عند التأمل يرجع الى ما سبق ، ومما ذكرنا يمكن تحصيل الحكم السابق وهو حكم الميت الخارج عنها مثلا لانه وإن كان مما لا نص فيه بناء على عدم شمول النص له إلا انه ينزح له سبعون لا الجميع للقطع بان الموت في البئر إما انه أشد أو مساو للموت في الخارج عنها‌

٢٢٨

فلا ينبغي أن يتجاوز السبعين ، فيتجه ما ذكره الفاضل الهندي رحمه‌الله سابقا فتأمل.

وهذه قاعدة تنفعك في كثير مما يأتي ومضى ، فما عن المحقق الثاني والشهيد في روض الجنان من الاكتفاء بالسبعين في الكافر ان وقع في الماء ميتا لعموم النص ، وأوجبا نزح الجميع إن وقع حيا ثم مات لثبوت ذلك قبل الموت والموت لا يزيله مما لا وجه له لكون مورد النص موت الإنسان في البئر ، وهو ظاهر في ملاقاته للماء حيا ، فان سلم شموله للكافر وجب الاكتفاء فيه بالسبعين مطلقا وإلا فالجميع كذلك ، وأما التفصيل فلا وجه له ، ومع ذلك كله فلقائل أن يقول في تأييد كلام ابن إدريس أما أولا ان المعرف بالألف واللام لا يفيد الاستغراق ، وثانيا المتبادر منه المسلم ، وثالثا أن ظاهر الرواية ان نزح السبعين لمكان الموت ، فلا ينافي نزح غير هذا المقدار لمكان نجاسة أخرى ، ولو اقتضى ذلك لاقتضي في جميع التقادير إذ قد ورد (١) أيضا في النزح للجنب مثلا مقدار مخصوص ، مع أنه لا يسوغ أن تقول أنه شامل لما كان مستصحبا للمني وغيره أولا ، واحتمال القول بالتداخل ضعيف ، بل في السرائر انه لا أحد من أصحابنا يقدم فيقول ينزح سبع دلاء لارتماس الجنب أي جنب كان سواء كان كافرا أو مسلما محقا. وفيه مع أن ابن إدريس سلم العموم ان التحقيق إفادته للعموم على الطريقة السابقة ، ودعوى التبادر في المسلم ممنوعة كما لا يخفى على من له خبرة في غير هذا المقام ، وأما الثالث فانا وان لم نقل بالتداخل لظهور الحيثية كما يأتي ، لكن الظاهر في المقام ، دخول النجاسة الكفرية وذلك لانه بعد أن فهم العموم من هذا اللفظ صار بمنزلة المصرح به ، فكأنه قال الكافر إذا وقع فيها ومات ينزح له سبعون ، والفرق بين هذا وما ذكره ان تلك أحوال خارجة عن مسمى اللفظ لم يسق اللفظ لشمولها قطعا بخلافه هنا ، فإنه قد اتى باللفظ لشمول أفراده والفرض أن فيها ما كان نجس العين ولم يذكر له حكما بالخصوص ، وما ذكره ابن إدريس من عدم شمول الجنب للمسلم والكافر لعله حق إما لان المتبادر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق.

٢٢٩

فيه هنا المسلم بقرينة الارتماس ونحوها بخلاف ما نحن فيه أو لغير ذلك.

(و) تطهر بنزح خمسين ان وقع أي صار فيها ولو بغير وقوع تنقيحا للمناط عذرة والمراد بها فضلة الآدمي كما عن الغريبين ومهذب الأسماء وتهذيب اللغة ، ولعلها سميت بذلك لأنهم كانوا يلقونها في العذرات أي الأفنية ، وما عن المعتبر انها والخرء مترادفان يعمان فضلة كل حيوان ضعيف ، وإطلاق الشيخ في التهذيب كما قيل لا يقضي بالوضع ، وفي السرائر « وينزح لعذرة ابن آدم الرطبة أو اليابسة المذابة المقطعة خمسون دلوا ، فان كانت يابسة غير مذابة ولا مقطعة فعشر دلاء بغير خلاف » انتهى. ومنه يظهر وجه قول المصنف فذابت من غير فرق بين كونها رطبة أو يابسة ولكن بقيت فذابت أو ذاب بعضها لعدم الفرق بين قليلها وكثيرها ، وهل مثل الذوبان وقوع اليابسة أجزاء دقاقا؟ وجهان ، والمراد بالذوبان صيرورتها أجزاء دقاقا ، ولعله يرجع اليه التقطع كما عن ظاهر السيد رحمه‌الله بل يرشد الى ذلك جمعه في السرائر بينهما ، وعن صريح المهذب والكافي والغنية والجامع الاكتفاء بالتقطع أو الرطوبة ، ولعل ذكر التقطع يغني عن الرطوبة لملازمتها للتقطع ، وإلا فبدونه لا ينزح ، كما أنه لا يبعد أن يراد بالتقييد بالرطبة فقط كما في القواعد واللمعة وعن النهاية والمبسوط والمراسم والوسيلة والإصباح ما يشمل اليابسة التي تترطب في الماء فذابت ، ويؤيده اشتمال رواية أبي بصير التي هي المستند في المقام على ذلك كما ستسمعه ، ومقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق بين صغير الإنسان وكبيره والمسلم والكافر وغيرهم.

وكيف كان فالحكم بتحتم الخمسين هو المشهور كما في الذكرى وكشف اللثام وهو كذلك ، ولعله يشمله نفي الخلاف المتقدم في عبارة السرائر ، وفي المعتبر اني لم أقف له على شاهد ، قلت : شاهده رواية أبي بصير (١) سألت أبا عبد الله عليه‌السلام « عن العذرة تقع في البئر؟ قال تنزح منه عشر دلاء فإذا ذابت فأربعون أو خمسون » ‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

٢٣٠

لاحتمال أن يكون من كلام الراوي أو لعدم معقولية التخيير بين الأقل والأكثر سيما مقام التطهير إذ احتمال رجوع التشخيص إلى نية المكلف في غاية البعد هنا ، فمن هنا يتعين إرادة الخمسين لاستصحاب النجاسة وعدم حصول اليقين الا بذلك ، ولعل ما ذكرنا مراد العلامة في المختلف حيث قال ويمكن أن يقال إيجاب أحدهما يستلزم إيجاب الأكثر لأنه مع الأقل غير متيقن البراءة ، وانما يعلم الخروج عن العهدة بفعل الأكثر فلا معنى للإيراد عليه حينئذ بأنه غير مستقيم ، فان التخيير بين الأقل والأكثر يقتضي عدم وجوب الزائد عينا وإلا لم يكون للتخيير معنى ، فيجب أن يحصل يقين البراءة بالأقل ويكون الزائد مستحبا ، لما عرفت أن ليس مبنى كلامه التخيير ، بل قد تكون هذه العبارة عنده من الجمل لمصلحة اقتضاها المقام ، فيكون حينئذ التكليف الظاهري وجوب الخمسين ، وقد عرفت أن الرواية منجبرة بالشهرة بين الأصحاب ، بل الظاهر الإجماع على العمل بمضمونها ، فلا يقدح ما في سندها من عبد الله بن بحر ، واشتراك أبي بصير ، مع ان لنا كلاما في اشتراك أبي بصير قد تقدم سابقا ، كما أنه لا يعارضها صحيحة علي بن جعفر عليه‌السلام (١) سأله فيها « عن بئر ماء وقع فيها زبيل من عذرة رطبة أو يابسة أيصلح الوضوء؟ قال : لا بأس » ‌ولا صحيحة ابن بزيع (٢) الدالة على الاكتفاء في طهارة البئر من وقوع العذرة فيها بنزح دلاء بعد إطلاقهما وتقييدها.

والمروي عن الصادق عليه‌السلام أربعون أو خمسون ومراده رواية أبي بصير المتقدمة ، وعن الصدوق أنه قال تطهر بأربعين إلى خمسين ، وفيه مع مخالفته لمنطوق الرواية إشكال التخيير بين الأقل والأكثر.

أو كثير الدم كذبح الشاة أي ينزح له خمسون ، والمرجع في الكثرة إلى العرف ، وحدها ابن إدريس بأن أقلها ما كان كذبح شاة ، ثم نسب ذلك الى رواية أصحابنا ، والأولى ما ذكرنا ، ولعل مراده بالرواية صحيحة علي بن جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢١.

٢٣١

الآتية ، ولا دلالة فيها على ما ذكر ، والظاهر أن مدار الكثيرة بالنسبة إلى الدم نفسه لانه هو المتبادر من الفتوى ، فما قيل ان مدارها هنا بحسب الماء قلة وكثرة فقد يكون الدم كثيرا بالنسبة إلى بئر لقلته قليلا بالنسبة إلى أخرى لسعتها لا وجه له إلا وجه اعتباري لا يصلح لان يكون مستندا لحكم شرعي ، وكيف كان فما ذكره هو المشهور كما في الذكرى وكشف اللثام ، وعن الغنية الإجماع عليه ، وفي السرائر « وينزح لسائر الدماء النجسة من سائر الحيوان سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم نجس العين أو غير نجس العين ما عدا دم الحيض والاستحاضة والنفاس إذا كان الدم كثيرا ، فحد أقل الكثير دم شاة خمسون دلوا ، والقليل منه وحده ما نقص من دم شاة فإن أكثر القليل عشر دلاء بغير خلاف ، إلا من شيخنا المفيد في مقنعته فإنه ذهب الى ان لكثير الدم عشر دلاء ، والقليل خمس دلاء ، والأحوط الأول وعليه العمل » انتهى. وقد فهم منها في كشف اللثام نفي الخلاف عما نحن فيه وهو محتمل ، بل لعله الظاهر ، وعن المرتضى ان للدم ما بين دلو الى عشرين ، وعن الصدوق انه ينزح في دم ذبح الشاة من ثلاثين إلى أربعين ، وهو خيرة المعتبر والمنتهى وعن المختلف واستحسنه في الذكرى ، وفي كاشف اللثام انه أقرب ، والأقوى الأول للإجماع المنقول عن الغنية المعتضد بنفي الخلاف والشهرة التي سمعت نقلها ، فهو أرجح من صحيحة علي بن جعفر (١) عن أخيه موسى عليهما‌السلام « في رجل ذبح شاة فوقعت في بئر وأوداجها تشخب دما قال عليه‌السلام : ينزح منها ما بين ثلاثين إلى أربعين » ‌على أن قوله ما بين ثلاثين الى آخره محتمل وجهين ، الأول التخيير ، والثاني تمام ما بينهما ، لا يقال حينئذ يكتفى بالعشرة كما قاله المفيد ، لأنا نقول إضافة البينية إلى الثلاثين ملحوظة ، ولا تحصل إلا بإحراز الثلاثين ، ومع الغض عن الأرجحية وإعراض الأصحاب عنها مع انها بمنظر منهم يحصل الشك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

٢٣٢

من تصادم الحجتين ، والاحتياط لازم هنا لشغل الذمة واستصحاب النجاسة ، ولا قائل بالزيادة على الخمسين ، فتكون هي طريق اليقين ، وأما ما ذكره المفيد فلا دليل عليه سوى ما ستسمعه في القليل من الدم ، وأما ما ذكره المرتضى فقد يستدل له بخبر زرارة (١) قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام « بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر قال : الدم والخمر والميتة ولحم الخنزير في ذلك سواء ينزح منه عشرون دلوا » ‌وهو ـ مع انه لا دلالة فيه على ما ذهب اليه من الواحد الى العشرين ، ومشتمل على ما لا نقول به ـ مطلق مقيد بما سمعت ، على أنه محتاج الى جابر ، وهو مفقود ، ومقتضى ما سمعته من ابن إدريس وإطلاق غيره أنه لا فرق بين دم نجس العين وغيره ، واستظهر بعضهم العدم جمودا على الرواية ، بل يظهر منه الإشكال في غير دم الشاة ، وقد عرفت عدم انحصار الدليل في الرواية ، بل هو ما تقدم الشامل للجميع ، وغلظ النجاسة لا يصلح لان يكون مقيدا للإطلاق ، والمروي في صحيح علي بن جعفر ما بين ثلاثين إلى أربعين لا من ثلاثين إلى أربعين فكان الأنسب أن يذكر نفس المتن ، واحتمال ترادف العبارتين فيه كلام.

ويطهر بنزح أربعين إن مات فيها ثعلب أو أرنب أو خنزير أو سنور أو كلب وشبهه كما في السرائر بزيادة الشاة والغزال وابن آوى وابن عرس ، قال : « وما أشبه ذلك في مقدار الجسم على التقريب » والظاهر منه إرادة ما أشبه كل واحد منها في مقدار الجسم ، ولعله تحمل عليه عبارة المصنف ، لكنه بعيد فيها لظهورها في إرادة شبه الكلب بل لعله الأولى لكونه المذكور في الرواية التي هي مستند الحكم ، فينبغي الاقتصار عليه ، لكن في المعتبر اقتصر على الكلب وشبهه ، قال : « ونريد بشبهه الخنزير والغزال » وأما السنور ففي أول كلامه اختار الأربعين ، لكنه في الأخير قال : « ولو عمل بالأقل جوازا وبهذه استظهارا جاز » وأشار بهذه إلى الأربعين ، وفي القواعد والتحرير‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

٢٣٣

مثل ما ذكر المصنف ، لكن من دون قوله وشبهه ، وفي الذكرى الكلب وشبهه والسنور ، ثم أنه بعد ذلك أدخل في الشبه الثعلب والأرنب والشاة كما عن المقنعة أيضا مع زيادة الشاة والغزال ، لكنه قال بعد ذكر الثعلب : « وشبهه في قدر جسمه » وقال في كشف اللثام : « يعني شبه كل واحد منها » ونحوه في النهاية والمبسوط والمراسم وكذا الوسيلة والمهذب والإصباح بزيادة النص على ابن آوى وابن عرس ، واقتصر ابن سعيد على الشاة وشبهها.

وكيف كان فالظاهر أن ما ذكره المصنف هو المشهور ، بل ويظهر من السرائر أن نزح الأربعين للكلب من المسلمات ، والذي يصلح سندا في المقام قول أبي الحسن عليه‌السلام في رواية علي (١) : « والسنور عشرون أو ثلاثون أو أربعون دلوا والكلب وشبهه » ‌كالمروي في المعتبر (٢) عن الحسين بن سعيد في كتابه عن القاسم عن علي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته « عن السنور فقال أربعون دلوا وللكلب وشبهه » وقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) في رواية سماعة : « وإن كانت سنورا أو أكبر منها نزحت منها ثلاثين أو أربعين دلوا » ‌وأما رواية أبي مريم (٤) قال : حدثنا جعفر قال : « كان أبو جعفر عليه‌السلام يقول إذا مات الكلب في البئر نزحت » وعمار الساباطي (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير قال : تنزح كلها » ‌ورواها في كشف اللثام بدل ينزح ينزف ، فمع الغض عما في سنديهما ومعارضتهما لقوله عليه‌السلام في خبر عمار (٦) « ان أكبر ذلك الإنسان ينزح‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣ وهو مروي عن ابى عبد الله عليه‌السلام.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٢٣٤

سبعون دلوا » ‌لم أر أحدا عمل بهما ، فهما معرض عنهما بين الأصحاب ، مع عدم صراحة الأولى في نزح الجميع ، والثانية في موت الكلب ، فوجب حملهما على التغيير ، أو حمل الأولى على نزح الأربعين ، والثانية على رفع كل بينزح أو نصبه على الظرفية أو رفعه على الابتداء وحذف الخبر أي كلها كذلك ، والأولى حملها على الاستحباب كما يؤيده خبر أبي بصير (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « فان سقط فيها كلب فقدرت أن تنزح مائها فافعل » ‌واما رواية ابن يقطين (٢) في الكلب والهرة فقال : « يجزيك أن تنزح دلاء فان ذلك يطهرها ان شاء الله » كصحيحة الفضلاء (٣) في الكلب والخنزير وغيرهما « يخرج ثم ينزح من البئر دلاء ثم اشرب » ورواية البقباق (٤) في الكلب وذكر غيره قال : « يخرج ثم ينزح من البئر دلاء ثم يشرب ويتوضأ » ‌فقد تقدم لك سابقا في صحيحة الفضلاء ان المراد بالدلاء قدر مخصوص للإجماع لا الإطلاق ، فحينئذ يكون ذلك من باب المجمل والمبين ، بل لو سلمنا كونه من باب المطلق فالتفصيل المتقدم حاكم عليه ، وضعف السند بعد انجباره بالشهرة غير قادح في صلاحيته التقييد فتأمل ، على أن الأولى غير صريحة في الموت ، وأما الصحيح (٥) « في السنور والدجاجة والكلب والطير قال : إذا لم يتفسخ أو يتغير طعم الماء فيكفيك خمس دلاء ، وان تغير الماء فخذ منه حتى يذهب الريح » ‌فقد قال الشهيد في الذكرى : « انه نادر ولا يعارض المشهور » وعن الشيخ حمله في الكلب على خروجه حيا ، وكيف كان فلم نعثر على عامل به من القدماء وغيرهم فطرحه أو تأويله متجه ، وحديث زرارة المتقدم سابقا لا منافاة فيه لتضمنه لحم الخنزير ، وهو غير ما نحن فيه ، وأما خبر عمرو بن سعيد بن هلال (٦) سأله « عما يقع في البئر ما بين الفارة والسنور إلى الشاة فقال عليه‌السلام : كل ذلك نقول سبع دلاء »

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٥.

٢٣٥

فلا جابر له في المقام ، وان حكي عن الفقيه انه قال : وان وقع فيها سنور نزح منها سبع دلاء لكن ما عنه في المقنع أنه قال : في السنور من ثلاثين إلى أربعين وروي سبع دلاء (١) ظاهر في الاعراض عنها.

نعم يبقى الكلام في دلالة ما ذكرنا من الرواية على المختار ، فنقول أما دلالتها على السنور والكلب فواضحة ، وأما الثعلب والأرنب والخنزير فليس في الروايات تعرض لها بالخصوص ، نعم قد سمعت قوله عليه‌السلام « والكلب وشبهه » وقوله عليه‌السلام « سنورا أو أكبر منها » ‌وعن الشيخ أنه يريد بشبهة في قدر جسمه ، وهذا تدخل فيه الشاة والغزال والثعلب والخنزير وكل ما ذكر يعني المفيد في المقنعة ، والظاهر دخول الأرنب في قوله « سنورا أو أكبر منها » ‌وقد تقدم لك الزيادة والنقيصة في كلامهم ، وكأنه لإجمال الشبه والأكبر في الروايتين ، والأولى الرجوع في الشبه الى العرف ، وليس المدار فيه على مقدار الجسم فقط ، والظاهر دخول ابن آوى فيه ، وأما ابن عرس فقد سمعت أنه ذكره بعضهم ، ولكن لا يخلو من إشكال ، كما ان دخول الشاة في شبه الكلب لا يخلو من إشكال ، سيما بعد قول جعفر عن أبيه عليهما‌السلام في خبر إسحاق بن عمار (٢) « وإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة » ‌وفي خبر عمرو بن سعيد سبع دلاء ، لكن لا يبعد الأول لانجبار ضعف الدلالة بالشهرة على تقدير تحققها ، والاحتياط وكأنه بالأربعين متيقن لعدم القائل بالزيادة ، وأما قوله : في الرواية « عشرون أو ثلاثون أو أربعون » ‌فيحتمل أن يكون من الراوي ، بل قد سمعت أنه ليس في رواية المحقق ترديد ، وأيضا قد بينا عدم جواز التخيير بين الأقل والأكثر ، فيحتمل أن يكون الامام قصد الاجمال ، وحينئذ فالاحتياط لازم لما ذكره المشهور ، وعن الهداية والمقنع في الكلب والسنور من ثلاثين إلى أربعين ، ولعله للترديد الذي في رواية سماعة ، وإلا فالرواية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٠ وفي الباب ١٥ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

٢٣٦

الأخرى وردت بين العشرين والثلاثين والأربعين ، وحينئذ يدخلون الكلب في الأكبر من السنور ، وقد يكون عمل بالروايتين مع طرح قوله عشرين ، والأولى ما قدمنا ، والظاهر عدم الفرق بين الصغير والكبير في ذلك بعد صدق الاسم ، ولا بين الذكر والأنثى لظهور إرادة اسم الجنس ، وهل يعتبر الموت في البئر أو الأعم؟ لا يبعد الثاني ، وتعرف قوته مما تقدم لنا سابقا في موت الإنسان.

وكذا يطهر بنزح الأربعين لبول الرجل كما في المعتبر والقواعد والتحرير والسرائر مع تفسيره بأنه الذكر البالغ ، وعن الغنية الإجماع عليه ، وفي كاشف اللثام انه لا خلاف فيه ، وفي الذكرى نسبته للشهرة ، وفي المعتبر نسبته إلى الخمسة وأتباعهم ، بل نسبه في أثناء كلامه إلى الأصحاب ، وفي السرائر ان الأخبار (١) متواترة من الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام بأنه ينزح لبول الإنسان أربعون دلوا ، ومع ذلك كله ففيه رواية علي بن أبي حمزة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت : « بول الرجل قال : ينزح منه أربعون دلوا » ‌وما في سند هذه الرواية من علي بن أبي حمزة وانه واقفي قد أكل أموال الكاظم عليه‌السلام ظلما وعدوانا منجبر بما سمعت ، مع أنه نقل عن الشيخ الإجماع على العمل بروايته ، وفي المعتبر لا يقال إن عليا واقفي ، لأنا نقول تغيره انما هو في موت موسى عليه‌السلام فلا يقدح فيما قبله ، ولعل غرضه ان عمل الأصحاب بروايته هنا مع عدم اتفاقه على العمل برواية مثله قد يكون لاطلاعهم على تأديه الرواية قبل الوقف ، فلا يرد عليه أن العبرة في حال الأداء لا التحمل فتأمل.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في العمل بهذه الرواية هنا ، وفي المنتهى علي ابن أبي حمزة لا يعول على روايته ، غير أن الأصحاب قبلوها ، وأما رواية معاوية ابن عمار (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في البئر يبول فيها الصبي أو يصب فيها بول أو خمر قال عليه‌السلام : ينزح الماء كله » ‌فهي مع صحة سندها قد أعرض‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

٢٣٧

عنها الأصحاب ، فلا مانع من حملها على التغيير أو الاستحباب أو غير ذلك كرواية كردويه (١) سألت أبا الحسن عليه‌السلام « عن البئر يقع فيها قطرة دم أو نبيذ مسكر أو بول أو خمر قال عليه‌السلام : ينزح ثلاثون دلوا » ‌إذ هي ـ مع عدم التصريح فيها بان البول بول الرجل واشتمالها على ما لا نقول به ـ لا سبيل للعمل بها لعدم الجابر لها لجهالة كردويه كما عن مختلف الفاضل ، وأما صحيحة ابن بزيع (٢) عن الصادق عليه‌السلام « في القطرات من بول أو دم قال : ينزح دلاء » ‌فهي مع عدم التنصيص فيها على بول الرجل لا معارضة فيها لحمل الدلاء على ما تبلغ الأربعين ، ومن العجيب ما في المنتهى بعد ذكر الروايات « والأقرب عندي الأخذ برواية محمد بن بزيع لسلامة سندها وبحمل الدلاء على رواية كردويه فإنها لا بأس بها » انتهى. قلت : رواية علي بن أبي حمزة التي نقل عن الأصحاب قبولها أولى من رواية كردويه ، مع انه نسبها في المعتبر الى الشذوذ.

إذا عرفت ذلك فلا ريب أن العمل بالمشهور أولى مع تأيده بالاحتياط الواجب الاتباع في المقام على تقدير النجاسة أو الوجوب التعبدي ، والظاهر عدم الفرق بين بول المسلم والكافر ، وما يقال من الفرق بالغلظ بمباشرته بدن الكافر لا يصلح لان يكون مدركا للحكم الشرعي ، وألحق ابن إدريس بالرجل المرأة مع نصه على عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة ، ووافقه على ذلك العلامة في التحرير بل عن الغنية والمهذب والإصباح والإشارة ذلك أيضا ، ولعله لا يخلو من قوة لما سمعت من النقل المتواتر عن الأئمة عليهم‌السلام وكفى بمثله ناقلا لذلك ، وعدم الوجدان مع اتحاد الزمان واتحاد المرجع لا يدل على عدم الوجود ، فكيف إذا لم يكن كذلك ، فما في المعتبر لا ريب انه وهم في غير محله ، كما ان ما في المنتهى من أن ابن إدريس لم يفرق بينهما من مأخذ آخر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢ وفي الباب ـ ١٦ ـ حديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦ إلا انه روى عن الرضا عليه‌السلام.

٢٣٨

قال : لأنها إنسان والحكم معلق عليه معرفا باللام الدال على العموم ، ومقدماته كلها فاسدة ، نعم لا فرق في المرأة بين الصغيرة والكبيرة في وجوب الأربعين لا يخلو من نظر إذ قد عرفت أن مقدماته صحيحة ، وكأن قول العلامة رحمه‌الله نعم الى آخره يريد به على تقدير الإلحاق ، وفي المعتبر العمل برواية كردويه في بول المرأة ، وعلى ما عرفت من مختار المنتهى تتجه المساواة بين الرجل والمرأة ، وقد عرفت أن رواية كردويه لا جابر له ، فالأقوى حينئذ العمل بما قاله ابن إدريس ، ولا فرق بحسب الظاهر بين قليل البول وكثيره وبين صبه فيها أو البول فيها ، وستسمع حكم بول الصبي.

وتطهر بنزح عشرة للعذرة الجامدة التي لم تبق في البئر حتى تقطعت أو تقطع بعضها ، وهو أولى من التعبير باليابسة لأن الحكم ليس دائرا مدارها لما عرفت ، ولكون مستند الحكم ما في خبر أبي بصير (١) من « نزح عشرة للعذرة فإن ذابت فأربعون أو خمسون » ‌كرواية علي بن أبي حمزة إذا المراد حينئذ نزح عشرة للعذرة الغير المذابة كما هو مقتضى الفهم العرفي من هذه العبارة ، مع ما في السرائر فإن كانت غير مذابة ولا متقطعة فعشر دلاء بغير خلاف ، وما عن الغنية من الإجماع عليه ، وبذلك كله تقيد رواية عمار (٢) وصحيحة علي بن جعفر عليه‌السلام (٣) المتضمنة لنفي البأس عن الوضوء في البئر بعد وقوع الزنبيل من العذرة اليابسة أو الرطبة.

وكذا ينزح عشر لقليل الدم غير الدماء الثلاثة ، والمراد بالقلة في نفسه لا بالنظر للبئر على الأصح ، وما في السرائر من حد أكثر القليل بأنه ما نقص من دم شاة ونسبته فيها إلى رواية أصحابنا لم نتحققه كما عرفت سابقا كدم الطير والرعاف اليسير وغيرهما من القطرة والقطرتين ، وفي السرائر نفي الخلاف فيه إلا من المفيد فخمس ، وعن الغنية الإجماع عليه ، لكن في صحيح علي بن جعفر عليه‌السلام (٤)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

٢٣٩

بعد أن سأله عن وقوع الشاة المذبوحة التي تشخب أوداجها دما في البئر فقال : « ينزح منها ما بين الثلثين إلى الأربعين قال : وسألته عن رجل ذبح حمامة أو دجاجة فوقعت في بئر هل يصلح أن يتوضأ منها؟ قال : ينزح منها دلاء يسيرة وفي رواية عمار الساباطي (١) قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام « عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟ فقال عليه‌السلام : ينزح دلاء » ‌وفي صحيح ابن بزيع « في البئر تقطر فيها قطرات من بول أو دم فقال عليه‌السلام : ينزح منها دلاء » ‌إلا أنه ينبغي تنزيلها على العشر ، فالمطلق في هذه الأخبار منزل على المقيد لإجماع الغنية المعتضد بنفي الخلاف من ابن إدريس والشهرة في كشف اللثام ، وفيه أيضا انهم حملوا مطلق الخبرين على العشر لأنه أكثر عدد يميز بالجمع ، ولان قيد اليسيرة قد يصلح قرينة على إرادة معنى جمع القلة ، قلت : هذا التوجيه منقول عن الشيخ ، واعترضه في المعتبر بانا لا نسلم انه إذا جرد عن الإضافة كانت حاله كذا إذ لا يعلم من قوله عندي دراهم أنه لم يجز عن زيادة عن عشرة ، ولا إذا قال أعطه دراهم يعلم انه لم يرد أكثر من عشرة فإن دعوى ذلك باطلة ، واعترض المعتبر في المنتهى بأن الإضافة هنا وان جردت لفظا لكنها مقدرة وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ثم قال إذا عرفت هذا فنقول لا بد من إضمار عدد يضاف اليه ، فيحمل على العشرة التي هي أقل ما يصلح إضافته الى هذا الجمع أخذا بالمتيقن وحوالة على الأصل من براءة الذمة ، واعترض المنتهى في المدارك بأنه لا يلزم من عدم تقدير الإضافة هنا تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإنما يلزم لو لم يكن له معنى بدون التقدير ، والحال أن له معنى كسائر صيغ الجموع ، ولو سلم وجوب التقدير لم يتعين العشرة ، وقوله ان أقل ما يصلح الى آخره ممنوع وانما أقله ثلاثة ، فيحمل عليها لأصالة البراءة من الزائد.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

٢٤٠