جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

تسامح في تقدير الكر ، إذ كيف يعقل التسامح مع هذا التفاوت.

نعم هنا ( بحث آخر ) وهو ان التحديد بالأشبار أو الوزن على المشهور وغيره هل هو على التحقيق أو التقريب فمتى نقص منه قليل لا يقدح في كونه كرا؟ الظاهر الأول لتعليق الحكم فيه على هذا المقدار فلا تسامح فيه. ودعوى احتمال الصدق مع النقصان يدفعه انه من المسامحات العرفية لا من الحقائق. لا يقال ان هذا التقريب ربما يكون وجه جمع بين رواية أبي بصير التي هي دليل المشهور وبين صحيحة إسماعيل بن جابر ، لأنا نقول على تقدير التقريب لا يتسامح في مثل هذا المقدار فان التفاوت سبعة أشبار إلا ثمن. ومثل الاحتمال المتقدم سابقا احتمال القول بان هذا الاختلاف في الأخبار من جهة اختلاف المياه في الصفا وعدمه فإذا كان الماء صافيا ليس فيه شي‌ء يكون مقدار الكر سبعة وعشرين بخلاف غيره فيقدر بالتقديرين الآخرين للاختلاف شدة وضعفا. وأنت خبير ان ذلك كله تصرف من غير اذن المالك. ثم أنه لو كان هناك ما اختبر بالوزن فبلغ المقدار المعلوم ولكنه بالمساحة لا يبلغ وبالعكس فهل تجري عليه أحكام الكرية أولا؟ والظاهر ان المساحة على المشهور تزيد على الوزن في المشهور فما معنى هذا التقدير؟ وما يصنع بالزيادة؟ على الاستحباب أو غيره؟ والتحقيق في المقام أن يقال قد علمت ان الكر مكيال معروف ، إلا انه لما كان غير موجود في كل وقت ، أو لأنه خشي ان يجهل حاله مع احتياج الناس لمعرفة الكر لكثرة أسفارهم وعوارضهم ، بل هم محتاجون الى ذلك في الحضر أراد الشارع ضبطه بالوزن لكونه الأصل وبالمساحة تسهيلا للخلق. والظاهر انه مبني تقديره بهما على التقريب لا على التحقيق ، وإن كان بعد تقدير التقريب بذلك صار تحقيقا لا ينقص منه شي‌ء ، فيكون تحقيقا في تقريب ، فلا يقدح هذا التفاوت بينهما وحينئذ يكون عدمهما علامة على عدم الكر ، كما ان وجود أحدهما دليل عليها وان خاصية الوزن لما نقص عنه بالوزن والمساحة للمساحة لا المساحة للوزن ولا العكس ، فيكون مفهوم كل من الروايتين معارض بالأخرى فيسقطان فيبقى منطوقهما‌

١٨١

سالما ، ويكفي في تحقق الكر وجود أحدهما. وبعبارة أخرى هنا كران وزني ومساحي فلا ينافي نقصان أحدهما عن الآخر إذ ما نقص في الوزن وبلغ في المساحة كر مساحي لا وزني وبالعكس ، فإن أحدهما غير الآخر ، فليس الزيادة محمولة على الاستحباب. لكن قد يشكل بأنه لا داعي الى هذا التقدير المختلف بعد علمه بنقص الوزن عن المساحة دائما مع القدرة على ضابط بغير ذلك منطبق عليه. ويدفع أولا بأن دعوى علم النبي والأئمة عليهم‌السلام بذلك ممنوعة ، ولا غضاضة لان علمهم عليهم‌السلام ليس كعلم الخالق عز وجل فقد يكون قد روه باذهانهم الشريفة واجرى الله الحكم عليه (١)

__________________

(١) كتب الحجة المحقق السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم في مقدمة كتابه ( مقتل الحسين عليه‌السلام ) فصلا ضافيا عن سعة علم الامام المنصوب من المولى سبحانه علما للعباد وعن إقدام الأئمة عليهم‌السلام على ما فيه الهلكة. قال لقد دلت الآثار المتواترة معنى على ان الله تعالى منح الإمام الحجة الذي أقامه منارا يهتدى به الى السبيل بعد انقضاء أمد الرسالة قوة قدسية عبر عنها في الحديث ( بعمود نور ) يستعلم به الامام ما يقع في الكون من حوادث وملاحم وما تكنه جوانح البشر من خير وشر حتى كأن الأشياء كلها حاضرة لديه على حد تعبير ابى عبد الله عليه‌السلام كما في مختصر البصائر ص ١٠١ إقدارا من لدن حكيم عليم تعالى شأنه.

ولا غلو فيه كما يتوهمه من لا فقه له بإسرار الأحاديث الواردة عنهم عليهم‌السلام ولم يبصر ما تحلت به هذه الشخصيات المتحدة مع الحقيقة ( الاحمدية ) المتكونة من الشعاع الأقدس تعالت نورانيته ، فان المغالاة في شخص عبارة عن إثبات صفة له إما أن يحيلها العقل أو لعدم القابلية لها. والعقل لا يمنع الكرم الإلهي ، وهذه الذوات المطهرة بنص الذكر المجيد ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) قابلة لتحمل الفيض الأقدس بتمام معانيه والشح منزه عنه ( المبدأ الأعلى ) جلت عظمته فالتقى مبدأ فياض وذوات قابلة للافاضة ، إذن لا بدع في كل ما ورد في حقهم عليهم‌السلام من العلم بالمغيبات والوقوف على أعمال العباد وما يحدث في البلدان من خير وشر منحة من مفيض النعم عز شأنه على من ( فتح بهم الوجود وبهم يختم ) اللهم إلا أشياء استأثر بها وحده سبحانه

فالغيب المدعى فيهم غير المختص بالباري تعالى ، فإنه فيه ذاتي وفي النبي والأئمة

١٨٢

وثانيا بأنه لا يمكن ضبط مساحة تنطبق على الوزن دائما أو بالعكس لاختلاف المياه ثقلا وخفة دائما ومن اختبر ذلك وجد ما قلنا ، فتارة يزيد الوزن وأخرى بالعكس. فقد يكون الشارع أخذ مقدارا جامعا وهو هذا التقدير ، والله أعلم بحقيقة الحال. والحوالة‌

__________________

من أبنائه مجعول من الله تعالى ، فبواسطة فيضه ولطفه كانوا يتمكنون من استعلام خواص الطبائع والحوادث وما كان ويكون وهو كائن.

ويشهد له ان أبا جعفر الجواد عليه‌السلام لما أخبر أم الفضل بنت المأمون حينما أدخلت عليه بما فاجأها مما يعتري النساء عند العادة قالت له لا يعلم الغيب الا الله تعالى ، فقال عليه‌السلام وأنا أعلمه من علم الله تعالى.

فالأئمة عليهم‌السلام محتاجون في جميع الآنات الى الفضل الإلهي بتمكينهم من الوقوف على ما كان ويكون بحيث لو لا دوام الاتصال وتتابع الفيوضات لنفد ما عندهم كما نص عليه أبو عبد الله عليه‌السلام ، فإنه قال لو لا انا نزداد في كل ليلة جمعة لنفد ما عندنا ، ومراده عليه‌السلام التعريف بان علمهم مجعول من الباري تعالى وانهم في حاجة الى هذه المنحة المباركة ، والتخصيص بليلة الجمعة من جهة بركتها بنزول الألطاف الرحمانية فيها من أول الليل على العكس من سائر الليالي ، والى هذا يرجع قول ابى الحسن الرضا عليه‌السلام يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم.

وهل يشك من يقرأ في سورة الجن الآية ٢٦ ( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) ان من كان من ربه تعالى قاب قوسين أو أدنى هو الرسول المرتضى حيث لم يفضله احد من الخلق مهما ترقى الى مستوي الفضائل واستقى من منبع الوحي ، وفي ذلك يقول أبو جعفر عليه‌السلام كان والله محمد (ص) ممن ارتضاه الله تعالى.

ولم يبعد الله سبحانه الخلفاء من آل الرسول عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور المحمدي ، وحازوا جميع ما حبا الله به جدهم الأعظم من المئآثر التي لا يدانيها أحد إلا النبوة والأزواج على حد تعبير ابى عبد الله الصادق كما في المحتضر ص ٢٠.

ولما نفى عمرو بن هداب عن الأئمة عليهم‌السلام علم الغيب استنادا الى ظاهر هذه الآية قال له أبو الحسن الرضا عليه‌السلام ان رسول الله هو المرتضى عند الله تعالى ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على الغيب فعلمنا ما كان ويكون الى يوم القيامة.

١٨٣

في الأشبار على المعتاد ، ولا يقدح هذا الاختلاف اليسير في تفاوت الأشبار المعتادة ، ولعله لذلك ارتكب القول بالتقريب قائله. وفيه انه لا يقضي بالتقريب في أصل المقدار أي الثلاثة الأشبار ونصف بحيث يتسامح بالناقص عنها بالشبر المعتاد ، على ان المراد‌

__________________

ومن لم يفقه المراد من علم الغيب المدعى لهذه الشخصيات نخب العوالم وسر الكائنات ولا أدرك كنههم تأخذه الحيرة في الايمان بسعة العلم لهم فيتسارع إلى إنكار ما حباهم المولى سبحانه به ، وإذا كان سليمان يفقه منطق الطير وكلام النملة إقدارا له من المهيمن تعالى شأنه وتمكينا له على ذلك فلا يفوت هذا العلم عمن حاز أرقى صفات الجلال والجمال وتخطى الى أعلى مستوي الفضائل.

وإنكار الصادق عليه‌السلام اطلاعه على هذا العلم مدعيا بأنه لما هم بضرب جاريته وهربت منه لم يعلم بها في أي بيوت الدار ـ لا يكون حجة للمنكرين بعد جهالة رواة الحديث كما في مرآة العقول ، وحضور المجلس من لا قابلية له على تحمل غامض علمهم كداود الرقى ويحيى البزار ، فيكون غرضه من النفي تثبيت عقيدتهم وعدم تزلزلهم ، ويؤيده أن سدير الراوي لهذا الحديث دخل عليه في وقت آخر وذكر له استغراب ما سمعه منه من نفى العلم بالغيب فطمنه أبو عبد الله عليه‌السلام بأنه يعلم ما هو أرقى منه وهو العلم بالكتاب كله ، وما حواه من فنون المعارف وأسرار الكائنات.

مع انه يحتمل ان يريد من نفى العلم بمكان الجارية ( الرؤية بالبصر ) فقوله عليه‌السلام ( ما علمت ) اى ما رأيتها بعيني في أي بيت دخلت والتورية في كلامهم جارية لمصالح يعرفونها ، وإلا فمن يقول في صفة علمه لم يفتني ما سبقني ولم يعزب عنى ما غاب عنى لا يخفى عليه أمر الجارية.

كما ان ما ورد عنهم عليهم‌السلام من ان الامام عليه‌السلام إذا أراد ان يعلم شيئا أعلمه الله لا دلالة فيه على تحديد علمهم بوقت خاص ، بل الحديث يدل على ان إعمال تلك القوة القدسية الثابتة لديهم منذ الولادة موقوف على إرادتهم المتوقفة على وجود المصلحة في إبراز الحقائق المستورة وإظهار ما عندهم من مكنون العلم ، على ان هذا المضمون ورد في أحاديث ثلاثة ردها المجلسي في مرآة العقول بضعف بعض رجالها وجهالة الآخرين.

١٨٤

بالتحقيق الذي ذكرناه انما هو انه لا ينقص عن أقل أفراد المعتاد. ويحتمل القول انه بقدر الشبر المعتاد بتقدير لا يزيد ولا ينقص فيكون تحقيقا في تقريب كأصل المقدار ، إلا انه بعيد كاحتمال القول ان المعتاد لا يزيد ولا ينقص تحقيقا.

ويستوي في هذا الحكم اي عدم نجاسة الكر وغيرها من الأحكام مياه الغدران والأواني والحياض على الأظهر ، بل لا ظهور في غيره على ما هو المشهور شهرة كادت تكون إجماعا ، بل هي كذلك ، ولذا أطلقه بعضهم على عدم نجاسة الكر ، إذ لم ينقل الخلاف فيه إلا عن المفيد في المقنعة وسلار في المراسم ، حيث ذهبا إلى نجاسة ما في‌

__________________

وحكاية الكتاب المجيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) لا تفيد إلا كونه مفتقرا الى الله تعالى في العلم بالمغيبات وانه لم يكن عالما به من تلقاء نفسه ، وهذا لا ريب فيه فان المعتقد ان الله تعالى هو المتلطف على النبي والأئمة من أبنائه بالملكة القدسية التي تمكنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون ، وارادة النفي المطلق باطلة لأنه لا ريب في إخباره ببعض المغيبات ، مع ان السياق يقتضي أن يراد من النفي العلم بالساعة لأن السؤال كان عنها.

فالمتحصل مما ذكرناه ان الله تعالى بمنه ولطفه أفاض على نبيه الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه المعصومين ملكة نورية تمكنوا بواسطتها من استعلام ما يقع من الحوادث وما في الكائنات من الخواص وأسرار الموجودات وما يحدث من خير وشر ، ولا غلو فيه بعد قابليتهم لتحمل هذا الفيض المبارك ، وعدم الشح في عطاء الرب سبحانه ( يهب ما يشاء لمن يشاء ) وصارح الأئمة عليهم‌السلام بهذه الحبوة الإلهية.

وانه غير بعيد فيمن تجرد للطاعة وعجنت طينته بماء البزاهة من الأولياء والصديقين فضلا عمن قبضهم الباري عز شأنه أمناء شرعه وأعلاما لعباده.

وقد اعترف الشيخ المفيد في المقالات ص ـ ٧٧ ـ بان الله سبحانه أكرم الأئمة من آل محمد عليهم‌السلام بمعرفة ضمائر العباد وما يكون قبل كونه لطفا منه سبحانه لهذه الذوات القدسية ، وان لم يجب ذلك عقلا لكنه وجب لهم بالسماع.

وذكر الطبرسي في مجمع البيان عند قوله تعالى في سورة الأنعام الآية ٥٠ ( لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) : انه لم يعلم الغيب من تلقاء نفسه وانما يعلم ما يعلمه الله به وفي مرآة العقول ج ١ ص ١٨٧

١٨٥

الحياض والأواني وان كان كثيرا ، مع ان عبارة المقنعة غير صريحة في ذلك بل تحتمل الحمل على ارادة ما كان دون الكر ، كما لعله يظهر من الشيخ في التهذيب فإنه لم يتعرض في شرحه لهذه العبارة إلى كون ذلك مذهبا للمفيد ، بل ظاهره عند شرح قول المفيد ( والمياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة لم يتوضأ ووجب إهراقها ) انه فهم منه ان مراده مع القلة ، لأنه قال : « يدل على ذلك ما قدمنا ذكره من ان الماء متى نقص عن الكر فإنه ينجس بما يحله من النجاسات » الى آخره لكن التأمل الصادق في عبارة المقنعة وما اشتملت عليه من التفصيل يمنع من احتمال غير ذلك فيها ، بل قد‌

__________________

ان الجمع بين الآيات والروايات انهم : لا يعلمون الغيب من تلقاء أنفسهم بغير تعليمه بوحي أو الهام ، وإلا فظاهر ان عمدة معاجز الأنبياء والأوصياء من هذا القبيل.

وعلى ضوء الأحاديث المتكثرة مشى المحقق الآشتيانى في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري ج ٢ ص ٦٠ فسجل اعتقاده بما ارتئيناه.

ولم يتباعد العلامة الآلوسي عما قررناه من تمكين المولى سبحانه الخلفاء المعصومين من الوقوف على المغيبات ، فإنه قال في تفسيره ( روح المعاني ) ج ٢٠ ص ١١ عند قوله تعالى في سورة النمل الآية ٦٥ ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ ) لعل الحق ان علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص بذاته أي بلا واسطة في ثبوته له ، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شي‌ء ، وانما هو من الواجب عز وجل إفاضة منه عليهم بوجه من الوجوه ، فلا يقال انهم علموا الغيب بذلك المعنى فإنه كفر ، بل يقال إنهم أظهروا واطلعوا على الغيب.

ويقول ابن حجر في الفتاوى الحديثية ص ٢٢٣ إعلام الله تعالى للأنبياء والأولياء ببعض الغيوب ممكن لا يستلزم محالا بوجه ، وإنكار وقوعه عناد ، لأنهم علموا بإعلام الله واطلاعه لهم ، وقد صرح النووي في فتاويه به فقال لا يعلم ذلك استقلالا ، وانما هو بإعلام الله لهم.

ويحكى عبد القادر العيدروس في النور السافر في أعيان القرن العاشر ص ٨٥ ان النيسابوري صاحب التفسير يقول امتناع الكرامة من الأولياء إما لان الله ليس أهلا

١٨٦

يستفاد منها تخصيص الغدير والقليب بحكم الكر ونجاسة ما عداهما وان لم يكن حوضا أو آنية. وعن ظاهر الشيخ في النهاية موافقة المفيد في خصوص الأواني. وكيف كان فلا ريب في ضعفه ولذلك نسبه بعضهم الى الشذوذ بل عن آخر انه لا وجه له ، للأصل وعمومات الطهارة لموافقتها لأكثر أحكام الكرية ، بل جميعها على وجه ، وإطلاق ما دل على حكم الكر ، بل يكاد يقطع الناظر في أخبار الكر وفيما ورد منها بالضبط بالضرب والوزن انه لا خصوصية لمحال الماء ، مضافا الى قوله عليه‌السلام ( نحو حبي‌

__________________

لأن يعطى المؤمن ما يريد ، وإما لأن المؤمن ليس أهلا لذلك ، وكل منهما بعيد ، فان توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده ، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلان لا يبخل بالأدون أولى.

وهؤلاء وان لم يوافقوا الشيعة على ما يعتقدونه في أئمتهم عليهم‌السلام من القدرة على العلم بالحوادث الكائنة والتي تكون ، لاعتقادهم ان هذه السعة مختصة بالباري جل شأنه.

ولكن الملاك الذي قرروه لمعرفة الأنبياء والأولياء ببعض الغيب وهو تمكين المولى سبحانه لهم من الوقوف على المغيبات تفيد ما تعتقده الشيعة من سعة العلم ، فان الميزان للوقوف على الغيب إذا كان بإقدار الله تعالى فمن الجائز ان تكون تلك القوة النورية بالغة أقصى مداها حتى كأن الأشياء كلها حاضرة لديهم على حد تعبير الامام الصادق عليه‌السلام اللهم إلا ما استأثر به الله وحده فإنه لا وقوف لأحد عليه مهما ترقى الى فوق ذروة الكمال.

وعلى هذا الذي سجلناه من سعة علم الامام الشامل لجميع الحوادث وأسرار الكائنات وخواص الطبائع حبوة من مفيض النعم تعالت نعماؤه يتجلى انه عليه‌السلام لم يفته العلم فيما يحد الكر من المساحة المطابقة تحقيقا للوزن ، والاخبار الحاكية عنه تحديدهما مع ما يشاهد فيهما من الاختلاف فبعد غض النظر عما يقال في بعضها يكون العلاج إما بحمل الزائد على كونه علامة على وجود الحد قبله ، وذلك في صورة زيادة الوزن على المساحة بمقدار يتسامح فيه ، وصورة زيادة المساحة على الوزن بمقدار يتسامح فيه ، وهذا نظير ما ورد عنهم عليهم‌السلام من تحديد حد الترخص بخفاء الأذان والجدران مع انهما لا يتطابقان دائما ، فيكون خفاء الجدران علامة على وجود الحد قبله ، وإما بترجيح ما يفيد كون المساحة سبعة وعشرين شبرا فإنها تتفق مع الوزن دائما على الأرطال العراقية كما جربه بعض الأعلام.

١٨٧

هذا (١) وقوله ( لا تشرب من سؤر الكلب إلا ان يكون حوضا كبيرا يستقى منه ) (٢) وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) لما سئل ان حياضنا هذه تردها الكلاب والبهائم : « لها ما أخذت أفواهها ولكم سائر ذلك » وقول أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) لما سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة : « انها تردها الكلاب الى أن قال عليه‌السلام : وكم قدر الماء؟ فقيل الى نصف الساق والى الركبة ، فقال : توضأ منه » ‌هذا مع إطلاق الإجماعات على عدم نجاسة الكر الى غير ذلك. والمناقشة في بعض ما ذكرنا من الأدلة لا تورث شكا في أصل الدعوى وأقصى ما استدل به للمفيد عموم النهي (٥) عن استعمال الأواني بعد مباشرة النجاسة ، والتعارض بينها وبين بعض ما عرفت تعارض العموم من وجه. وفيه انه بعد تسليم ذلك وكونه أخص من الدعوى مرجوحة بالنسبة إلى تلك من وجوه عديدة مع ان الأصل والعمومات كافية في ذلك وأما القسم الثالث اى

( ماء البئر )

وهي كما عن الشهيد « مجمع ماء نابع لا يتعداها غالبا ولا يخرج عن مسماها عرفا » ومن المعلوم ان المقصود من هذا التعريف ضبط المعنى العرفي ، وإلا فلا حقيقة له شرعية قطعا بل ولا متشرعية ، بل ولا لغوية تنافي المعنى العرفي ، فالذي ينبغي ان يؤكل معناه الى العرف كما في غيره من الألفاظ التي بهذه المثابة ، لكن لما شاع إطلاق اسم البئر على ما ليس كذلك كما في آبار المشهد الغروي على مشرفه السلام وآبار أهل الشام ونحو ذلك أراد رحمه‌الله ضبطه العرف حتى لا يقع الاشتباه فقال مجمع ماء نابع الى آخره ، إذ ليست الآبار المتقدمة كذلك بل يجري الماء إليها من عيون خارجة عنها ، إلا ان قوله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٠.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥١ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ١.

١٨٨

رحمه‌الله ( لا يتعداها غالبا ) لا يخلو من إجمال ، لأنه ان أراد بالغالب بحسب الأزمان ورد عليه انه ينبغي حينئذ ان تجري على المتعدي حال التعدي ولو نادرا أحكام البئر إذ يصدق عليه انه لا يتعداها غالبا ، وان أراد بحسب أفراد البئر ورد عليه مثل الأول بالنسبة للفرد النادر. ( فان قلت ) ان ذلك كله يدفعه قوله ولا يخرج عن مسماها عرفا ، قلت هو مغن حينئذ عن قوله لا يتعداها الى آخره ، لكن قد يكون مقصوده أن التعدي إذا كان نادرا لا يخرجها عن البئرية حال عدم التعدي بخلاف ما لو كان التعدي هو الغالب وعدم التعدي هو النادر فإنه لا يلحقها أحكام البئر ، ومثله إذا كانا متساويين لأن الأصل عدم تعلق أحكام البئر فما لم يعلم بئريته لا يحكم بتعلق الأحكام عليه ، الا انه ـ مع انه كيف يعرف المتعدي غالبا من غيره في الآبار المجهولة الحال ، وتنقيح ذلك بالأصول لا يخلو من إشكال ـ لا يخفى ما فيه من الإجمال الذي لا يناسب التعريف ، بل قيل : « قوله ولا يخرج عن مسماها عرفا كذلك أيضا ، لأن العرف الواقع لا يظهر اي عرف هو أعرف زمانه أم زمان غيره ، وعلى الثاني فيراد الأعم أو الأعم منه ومن الخاص ، مع انه يشكل إرادة عرف غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلا لزم تغير الحكم بتغير التسمية فيثبت في العين حكم البئر لو سميت باسمه وبطلانه ظاهر » وفيه ان العرف إذا أطلق ظاهر في إرادة العرف العام وبه تثبت الحقيقة اللغوية ان لم يعلم بمغايرتها ويقدم على اللغوية ان علم ثبوتها على الأصح (١) على ان ما ذكره هذا المتعرض من التشقيق كله لا محل له في المقام إذ ليس للبئر في زمانه معنى غير ما عندنا لا عرفا عاما ولا خاصا. وكأن الذي حداه الى ذلك هو إطلاق لفظ البئر على مثل آبار المشهد الغروي والشامات في لسان أهل العرف وهو‌

__________________

(١) لحصول الظن بعدم حدوث هذا المعنى العرفي العام بعدهم صلوات الله وسلامه عليهم ، بحيث تطابق أهل العرف العام على ذلك وحصل مثل هذا التغير في مثل هذه المدة ، وبذلك ينقطع أصالة تأخر الحادث الذي هو مستند تقديم اللغوية ، ولتحقيق ذلك مقام آخر ( منه رحمه‌الله ).

١٨٩

غير العرف العام السابق فأراد أن ينبه على انه ليس المدار إلا على زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنك تعلم ان هذا الإطلاق لم يكن عند عامة أهل العرف العام ، بل كان إطلاق من أطلق انما كان لمشاركته للبئر من جهة الحفر ووصوله الى حد النبع ونحو ذلك مما يشارك بها البئر النابع ، وقد يشير الى ذلك قولهم بئر جار وبئر نبع فتأمل. والحاصل ان الذي ينبغي النظر الى حال العرف في مثل هذا الزمان ، فما يعلم حدوثه لا يلتفت اليه وما لم يعلم تعلق به الحكم لانه به يستكشف العرف السابق وتثبت اللغة ان لم يعلم مغايرتها وإلا قدم عليها على الأصح ، فمثل الإطلاق في هذا الوقت على مثل آبار المشهد الغروي وغيره مما علم حدوثه لا يلتفت اليه ولا يتعلق به حكم ، وأما غيره فيبقى على القاعدة. واحتمال المناقشة في حدوث هذا الإطلاق بأنه قد يكون البئر سابقا لما هو أعم مما ذكره المعرف لا وجه له لاعتبار النبع فيه قطعا. نعم قد يقال ان الذي يقتضيه المنقول عن كثير من أهل اللغة من تفسير النبع بأنه الخارج من عيون ، بل قد يقتضيه التعليل (١) بان له مادة عدم دخول البئر الذي يكون ماؤها رشيحا لعدم تبادر ذلك من المادة ، ومثل ذلك فيما يكون مادته من الثمد ، مع ان الأصل عدم تعلق أحكام البئر ، بل ينبغي القطع به بالنسبة إلى الثمد لعدم النبع فيه لغة وعرفا لكن الأقوى جريان حكم البئر على الرشيحية لإطلاق اسم البئر عرفا فيقدم على اللغة ، مع أن المنقول عن صاحب الصحاح تفسير النبع بمطلق الخروج وقد تقدم لنا في الجاري ما يظهر منه ترجيح ذلك.

وهل يشترط في اسم البئر دوام النبع بمعنى أنه لا ينقطع عنها النبع كما قد يشعر به التعليل بالمادة أو لا؟ وجهان ، والظاهر دوران الحكم مدار استعدادها للنبع ، فتوقفه على إخراج بعض مائها لا يقدح في صدق اسم البئر. ولو كان لها وقتان تنقطع في أحدهما دون الآخر فالظاهر دوران الحكم مداره وجودا وعدما. ولو شك فيها في هذا الحال لم يبعد التمسك بأصالة عدم الانقطاع ان لم يعلم ان لها حالتين ، وأما بعد العلم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦ و ٧.

١٩٠

لكن لا يعلم أن هذا الحال أيهما ، فمع سبق العلم بحصول أحدهما لم يبعد التمسك باستصحابه ، وأما مع عدم العلم فيحتمل عدم جريان أحكام البئر ، لأن الشك في الشرط شك في المشروط.

ويحتمل القول بالجريان لصدق اسم البئر عليها فتأمل. وينبغي القطع بخروج الحفر التي تحفر قرب الماء فيكون فيه ماء لعدم صدق اسم البئر ، كما أنه ينبغي القطع بخروج العيون لذلك وأيضا قد يستفاد من قوله في التعريف لا يتعداها أن البئر متى أجريت بتصيير نهر لها ولو في باطن الأرض تخرج عن مسمى البئر. وهو كذلك لدخولها تحت الجاري ، نعم يشترط أن يكون جريانا معتدا به. واحتمال عدم منافاة صدق الجاري للبئر مدفوع بظهورها من جعل البئر قسيما للجاري وتخصيصه بأحكام له على حدة. والآبار المتواصلة ان تحقق فيها الجريان جرى عليها حكم الجاري وإلا كانت آبارا متعددة لا بئرا واحدا إن لم تتحد من سافل وأما لو كانت من سافل شيئا واحدا واختلف الحفر إليها من خارج فهل هي بئر واحد أو آبار متعددة؟ وجهان ، وعلى الثاني فهل نزحها بنزح الماء جميعه أو يكفي مقدار ماء بئر؟ لا يبعد الأول ، كما انه لا يبعد ذلك على الأول أيضا لاستصحاب النجاسة حتى ينزح الجميع ، ولو اتصلت بماء جار وان ركد عندها فالظاهر عدم إجراء الحكم البئر عليها اقتصارا على المتيقن لأصالة العدم ، بل وكذا الواقف الكر على اشكال.

وكيف كان فإنه ينجس بتغيره لونا أو طعما أو رائحة حسا بالنجاسة وفي المتنجس ما مر إجماعا مع كون التغير مستوعبا لجميع الماء أو خصوص المتغير ان لم يقطع التغير عمود الماء ، والا فالمتغير ، والسافل ان لم يكن مقدار كر على ما ستسمع من مذهب المتأخرين من ان حكم البئر حكم الجاري بالنسبة للطهارة والنجاسة. وهل ينجس بالملاقاة لأي نجاسة وان كانت أكرارا فيه تردد والأظهر التنجيس للإجماع المنقول في كلام جماعة من الفحول عليه بل في السرائر وعن غيرها نفى الخلاف فيه ، مع التصريح بأنه لا فرق بين قلة الماء وكثرته ، مضافا الى الإجماعات في مقدار النزح ،

١٩١

لكن قد يقال انها مساقة لغير ذلك. ولهذا ربما تقع من القائل بعدم التنجيس. نعم يمكن الاستدلال عليه أيضا بالعمومات أو الإطلاقات الدالة على نجاسة ما تلاقيه هذه النجاسات وما دل (١) على نجاسة القليل متمما بعدم القول بالفصل أو ضعفه ، وب قوله في مكاتبة محمد بن إسماعيل بن بزيع (٢) في الصحيح قال : « كتبت الى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقع عليه‌السلام بخطه في كتابي ينزح منها دلاء » ‌وهو في قوة قوله « يطهرها نزح دلاء منها » ، لوجوب تطابق الجواب السؤال وهو قاض بالنجاسة قبل النزح وبما رواه علي بن يقطين في الصحيح (٣) عن أبي الحسن موسى ابن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن البئر يقع فيها الدجاجة والحمامة أو الفأرة أو الكلب أو الهرة فقال يجزيك ان تنزح منها دلاء ، فان ذلك يطهرها ان شاء الله ». وب قول أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) : « إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد ، فان رب المأرب الصعيد ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم » ‌فان جواز التيمم مشروط بفقد الماء الطاهر مع ظهور إرادة النجاسة من لفظ الإفساد كما اعترف به الخصم ولو لا انه يقبل النجاسة لم يفسد. وربما استدل عليه أيضا بحسنة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير (٥) قالوا : « قلنا بئر يتوضأ منها يجري البول من تحتها أينجسها؟ قالوا : فقال : إن كانت في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢ وليس فيه لفظ ( الفارة ).

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب التيمم ـ حديث ٢.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١. مع اختلاف يسير.

١٩٢

من تحتها وكان ما بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك وان كان أقل من ذلك نجسها ، وان كانت البئر في أسفل الوادي ويمر الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها وما كان أقل من ذلك فلا تتوضأ منه » ‌كما انه قد يستدل عليه بأخبار وجوب النزح التي قيل في حقها أنها متواترة. واحتمال الوجوب التعبدي بعيد ، كل ذلك مع الشهرة العظيمة على النجاسة حتى نقل جماعة منهم السيد أن نقل الإجماع عليه بين القدماء واخرى منهم الشيخ والحلي نفت الخلاف عنه. مع قرب عهدهم وبعد خفاء هذا الحكم على كثرة دورانه عليهم ، مع ان المتأخرين وان خالفوا في ذلك لكنهم لم يذكروا دليلا يحتمل خفاؤه على المتقدمين ، بل العمدة عندهم على أخبار خرجت من أيديهم ومع ذلك أعرضوا عنها وما ذلك إلا لأمور عندهم.

وقيل بالطهارة وعدم حصول النجاسة إلا بالتغير من دون فرق بين القليل والكثير ، وهو المنقول عن ابن أبي عقيل وقيل انه المنقول عن الشيخ الحسين بن عبيد الله الغضائري والشيخ مفيد الدين بن الجهم ، واليه ذهب العلامة وأكثر المتأخرين عنه كما في الذخيرة وهو الأقوى للأصل ، وقوله عليه‌السلام : ( كل ماء طاهر حتى تعلم انه قذر ) وقول الرضا عليه‌السلام (١) في صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا أن يتغير » ‌وأخرى مثلها ، وصحيحته الأخرى عنه عليه‌السلام (٢) قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء الا أن يتغير ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادة » ‌ووجه الدلالة فيه من وجوه ، فإنه عليه‌السلام قد حكم بالسعة لماء البئر ومعناها عدم قبول النجاسة ، إذ هو اللائق لبيانه مع ظهوره في ان ماء البئر وان كان قليلا واسع لكونه ماء بئر ، وأيضا لم يكتف بذلك حتى أردفه بقوله عليه‌السلام : ( لا يفسده شي‌ء ) وشي‌ء نكرة في سياق النفي تفيد العموم على أن الاستثناء منه قرينة على إرادة الاستيعاب ، ولا ريب ان المراد بالإفساد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

١٩٣

الاجتناب من جهة النجاسة لأنه لا معنى لبيانه عليه‌السلام غير ذلك مما يرى ويعرفه كل أحد على انه لا معنى للاستثناء حينئذ. ثم انه عليه‌السلام لم يكتف بذلك حتى ذكر الاستثناء فلا يبقى السامع في وجل من جهة غلبة التخصيص ، وهذا الاستثناء من العام يصيره بمنزلة النص ، لا سيما إذا ذكر الفرد الظاهر المعلوم الحال فإنه يفيد انه لا خارج منه الا هذا الفرد الذي يعلمه كل أحد. ولو كان هناك فرد خفي لكان هو اللائق بالبيان. ثم انه عليه‌السلام لم يكتف بذلك حتى بين ان تطهيره غير محتاج الى مطهر خارجي كما في غيره بل تطهره انما هو بنزحه حتى يذهب الريح ويطيب الطعم. ثم انه عليه‌السلام لم يكتف بذلك كله حتى انه ذكر الاستدلال على ذلك بكونه له مادة ، وهو على كل حال ان كان تعليلا للأول أو الثاني فيه دلالة على المطلوب. فهذه الرواية مع اشتمالها على المؤكدات الكثيرة لا ينبغي المناقشة في دلالتها وأيضا اكتفاؤه عليه‌السلام في الطهارة بالنزح المذهب للتغيير وان لم يبلغ المقدر قاض بذلك إذ على تقدير النجاسة يجب استيفاؤه مع التغيير بطريق أولى كذا قيل ، ولا يخلوا من تأمل لأنه راجع في الحقيقة إلى تعارض ما دل على التقدير ولو نزح الجميع مع هذه الرواية المكتفية بزوال التغيير. ولعل التعارض بينهما من وجه أو يقال بتحكيم ما دل على التقدير لخصوصه على وجه. وكيف كان فلا ينافي القول بالنجاسة ولا دلالة فيه على الطهارة.

وما في الاستبصار من « ان المراد بالرواية انه لا يفسده شي‌ء إفسادا لا يجوز الانتفاع بشي‌ء منه إلا بعد نزح جميعه إلا ما يغيره فأما إذا لم يتغير فإنه ينزح منه مقدار وينتفع بالباقي » غريب أما أو لا ففيه انه لا معنى لتخصيص التغير بالإفساد الذي لا يجوز الانتفاع بشي‌ء منه إلا بعد نزح جميعه ، فان صب الخمر والمنى وأحد الدماء الثلاثة والبعير وغيرها كلها من ذلك القبيل ، كما انه قد يجوز الانتفاع بشي‌ء منه بدون نزح الجميع مع التغير في صورة لا يتوقف زوال التغيير على نزح الجميع بمقتضى هذه الرواية. وأما ثانيا فان هذا التقدير والإضمار المشتمل على التخصيص الذي مآله إلى الألغاز الغير القابل لان يخاطب به من‌

١٩٤

أراد تفهيم السامع مما لا يجوز ارتكابه من غير دليل وقرينة عليه ، نعم ربما يرتكب في مثل بعض الأخبار التي أعرض عنها الأصحاب وقوي فيها المعارض إخراجا عن صورة المخالفة لا في مثل ما نحن فيه ، وقد عرفت ان الرواية قد اشتملت على ضروب من الدلالة ، والطعن فيها بالمكاتبة ضعيف لحجية المكاتبة ولذلك أسنده الى الامام عليه‌السلام فقال : قال : والظاهر ان مراده الامام عليه‌السلام ، على انه نقلت بطريقين أحدهما فيه كتبت الى رجل أسأله ان يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام الى آخره فقد يكون هذا الراوي سمع ذلك تارة مشافهة وأخرى مكاتبة. وما يقال ان هذه الرواية عامة وما دل على النجاسة بالأشياء الخاصة خاص فيقدم عليه ـ في غاية الضعف ، أما أولا فإنه على القول بالنجاسة يكون التخصيص مستغرقا للعام إذ لا شي‌ء من النجاسات لا تنجسه على مختارهم وثانيا أنه ان قصد بما دل على النجاسة أخبار النزح ففيه انه لا دلالة فيه إذ ليس منحصرا وجهه في ذلك ، لاحتمال التعبد كما يدعيه بعضهم ، واحتمال أن يكون ذلك لطيب الماء وزوال النفرة الحاصلة من وقوع تلك الأعيان ، وان أراد غيرها مما قدمنا ذكره في أدلة النجاسة ففيه ان شرط التخصيص المقاومة وهي مفقودة لوجوه لعلك تسمع بعضها ان شاء الله تعالى. وما يقال أيضا ان ظاهر الرواية متروك لحصول النجاسة بالتغير اللوني ـ ففيه انه على تقدير تسليم ان ما في الرواية لا يدل عليه لا يخرجها عن الحجية كما هو مقرر في محله. وصحيحة على بن جعفر عليه‌السلام (١) قال : « سألته عن بئر ماء وقع فيه زبيل من عذرة يابسة أو رطبة أو زبيل من سرقين أيصلح الوضوء منها؟ قال : لا بأس » ‌ووجه الدلالة واضح. وما يقال ان العذرة والسرقين أعم من النجس وبان السؤال وقع عن الزبيل المشتمل عليهما ووقوعه في البئر لا يستلزم إصابتهما الماء وانما المتحقق إصابة الزبيل خاصة ، وبإمكان أن يراد لا بأس بعد نزح الخمسين ففيه ـ بعد إمكان الاستدلال على تقديره بترك الاستفصال ـ ان العذرة لغة وعرفا فضلة الإنسان كما صرح به بعضهم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦ وفي الباب ـ ١٤ ـ حديث ٨.

١٩٥

وظهور إرادته بالخصوص هنا لمقابلته بالسرقين ، وعن منتقى الجمان انه ذكر جماعة من أهل اللغة أن العذرة الغائط ، وعن نهاية ابن الأثير انها الغائط الذي يلقيه الإنسان سميت بذلك لأنهم كانوا يلقونها في أفنية الدور ، بل في المدارك وغيرها ان السرقين وان كان أعم من النجس إلا ان المراد به هنا النجس لان الفقيه لا يسأل عن الطاهر. لكن قد يقال انه لا مانع من سؤال الفقيه عن ذلك لا من جهة الطهارة والنجاسة بل لاحتمال ان يكون ماء الوضوء له خصوصية فتأمل. ووقوع الزبيل في البئر يستلزم وصول ما فيه إليها عادة ولا سيما مع كون العذرة رطبة والرطبة أعم من اللينة مع انه لا يناسب حال مثل علي ابن جعفر السؤال عنه. وأما احتماله بعد النزح ففي المدارك انه ممتنع لما فيه من تأخير البيان عن وقت الحاجة بل الألغاز المنافي للحكمة كما هو ظاهر. وفيه ان ذلك من قبيل الإطلاق والتقييد وقد يكون وقت السؤال ليس وقتا للحاجة أو كان السائل عالما بذلك أو كانت قرائن حالية أو مقالية قد انعدمت من جهة تقطيع الأخبار. نعم ينبغي الجواب بان أخبار النزح لا دلالة فيها على النجاسة وليس الحمل على ذلك أولى من حمل تلك على الكراهة واستحباب النزح ، على ان الأخبار المتقدمة هي أرجح لموافقتها للأصول والعمومات وسهولة الملة وسماحتها وغير ذلك فتأمل جيدا.

وصحيحة معاوية بن عمار (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة » ‌وما (٢) يقال من المناقشة في السند من اشتراك حماد بين الثقة والضعيف وبان لفظ البئر يقع على النابعة والمحقون ماؤها لا عن نبع ، فقد يكون السؤال هنا عن الثانية ـ فهو في غاية الضعف ، أما الأولى فلان حماد إذا أطلق فالمتبادر منه انما هو الفرد الكامل المشهور والظاهر انه ابن عيسى ، أو يقال انه يبقى دائرا بينه وبين حماد بن عثمان‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٠.

(٢) في نسخة الأصل ( مما ) بدل ( ما ).

١٩٦

الناب وكل منهما في غاية الوثاقة ، على انه يمكن تعيين الأول برواية الحسين بن سعيد عنه وروايته عن معاوية بن عمار. وأما الثانية فقد عرفت مما تقدم بطلانها وان البئر حقيقة في النابع (١).

وصحيحته الأخرى (٢) عن الصادق عليه‌السلام « في الفأرة تقع في البئر فيتوضأ الرجل منها ويصلي وهو لا يعلم أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ قال : لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه » ‌وهو ظاهر في كون الفارة ميتة في البئر وكون الاستعمال انما وقع بعد وقوعها لعطف الوضوء بالفاء المفيد للترتيب ، فلا معنى للقول بان عدم الإعادة لعدم العلم بالوقوع سابقا فقد تكون انما وقعت بعد ، على ان ترك الاستفصال كاف.

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) « في البئر تقع فيها الميتة ، فقال : ان كان لها ريح ينزح منها عشرون دلوا » ‌والظاهر ان المفهوم هنا انه ان لم يكن له ريح لم ينزح له شي‌ء ، ولذلك قنع السائل وسكت عن الاستفهام عنه مع انه أحد شقي السؤال ، وكيف يرضى الامام عليه‌السلام بعدم الجواب عن ذلك مع حاجة السائل اليه وان غفل.

وموثقة أبان بن عثمان (٤) ـ أو صحيحته كما قيل ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن الفارة تقع في البئر لا يعلم بها إلا بعد ان يتوضأ منها إيعاد الوضوء فقال : لا »

‌__________________

(١) والظاهر ان مدار هذه التأويلات المخالفة للظاهر غاية ونهاية هو انه لما ترجح عندهم أخبار النجاسة وطرحوا أخبار الطهارة أرادوا أن يذكروا لها محامل ولو في غاية الضعف إخراجا لها عن صورة المخالفة ، وإلا ما كان ليخفى عليهم رحمهم‌الله ضعف هذه التأويلات وخروجها عن الظاهر خروجا تمجها الطباع ، نعم يتجه عليهم انه لا معنى لترجيح تلك الروايات بل الترجيح في جانب هذه الروايات لما ستسمع ان شاء الله ( منه رحمه‌الله ).

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٩.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١١.

١٩٧

وهو ظاهر في سبقها على الاستعمال وان تأخر العلم بذلك.

وموثقة أبي أسامة وأبي يوسف يعقوب بن عثيم (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفارة فانزح منها سبع دلاء ، قلنا : فما تقول في صلاتنا ووضوئنا وما أصاب ثيابنا؟ فقال لا بأس به » وموثقة أبي بصير (٢) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بئر يستقى منها ويتوضأ به وغسل منها الثياب وعجن به ثم علم انه كان فيها ميت ، قال : لا بأس ولا يغسل الثوب ولا تعاد منه الصلاة ».

ورواية محمد بن القاسم (٣) عن أبي الحسن عليه‌السلام « عن البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال : ليس يكره من قرب ولا بعد يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغير الماء » ‌

وما رواه في الفقيه مرسلا عن الصادق عليه‌السلام (٤) « قال : كانت في المدينة بئر وسط مزبلة فكانت الريح تهب فتلقي فيها القذر؟ وكان النبي (ص) يتوضأ منها ». الى غير ذلك من الأخبار وهي كثيرة مثل قوله عليه‌السلام (٥) في صحيح جعفر ابن بشير « عن الفارة تقع في البئر فقال إذا خرجت فلا بأس وان تفسخت فسبع دلاء. وسئل عن الفارة تقع في البئر فلا يعلم أحد إلا بعد ما يتوضأ منها أيعيد الوضوء وصلاته ويغسل ما أصابه ، فقال : لا فقد استقى أهل الدار ورشوا » ‌وربما يظهر من العلة أن تنجيس البئر بالملاقاة ربما يكون سببا للحرج المنفي.

وأنت خبير ان الترجيح لهذه الأخبار لكثرتها وصحة أسانيدها وصراحة دلالة بعضها مع مخالفتها للعامة وموافقتها للأصول وعمومات الطهارة وموافقتها لسهولة الحنيفية‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢٠.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٣ وهي رواية أبي عيينة.

١٩٨

وسماحتها وانه لا حرج فيها ، مضافا الى ما يظهر من أخبار النزح من الأمر بدلاء ودلاء يسيرة ونحو ذلك مما يدل على المسامحة ، وكذا الاختلاف الفاحش في مقادير النزح والجمع بين الطاهر والنجس ، وورود الأمر بالنزح للأمور الطاهرة ، وورود التخيير بين القليل والكثير ، وعدم انضباط الدلو ، مع اشتمال روايات النزح على ما لا يقولون به حتى لم تسلم رواية من ذلك ، ثم الحكم بنجاسة الدلو والرشا وما يسقط منه ثم الطهارة ، على انه من المستبعد جدا ان مقدار الكر من مائها الخارج عنها لا ينجس بالملاقاة وماؤها وإن بلغ ألف كر ينجس بمجرد الملاقاة مع اعتصامه بالمادة دونه ، مع انه فيه من الحرج ما لا يخفى ، وأغرب من ذلك طهارته لو كان كرا مع انقطاع النبع وخروجه عن مسمى البئر ونجاسته لو كان ألف كر مع دوام النبع الذي يزداد به الكمال لا النقص. كل ذلك مع خلو الأخبار عن كيفية النزح بحيث يسلم الدلو من النقوب مع أنه في الغالب لا يسلم من ذلك. وبعض هذه المؤيدات وان أمكن دفعها مثل نجاسة ما يتقاطر من الدلو مع الدلو بان يقال بعدم نجاسة البئر المنزوحة بذلك لما يظهر من الروايات بحصول الطهارة بمجرد النزح المقدر مع انه في العادة يستحيل سلامته من ذلك ، وينبغي ان يستثنى من قولهم بنجاسة البئر مطلقا والظاهر أيضا حصول الطهارة للدلو والحبل وما يتعلق بالنازح وحواشي البئر ونحو ذلك من اللوازم العرفية بتمام النزح. نعم يبقى كلام في ان النازح تطهر ثيابه ونحوها أو خصوص ما يباشر به؟ وهل يعتبر استمراره على النزح الى التمام أو لا؟ فمن جاء في الأثناء حكمه حكم النازح في الابتداء ونحو ذلك من الأحكام الكثيرة والفروع المهمة بناء على التنجيس ، مع انه ليس في الأخبار لها عين وأثر ، حتى ان ما ذكرنا من طهارة الدلو والحبل والنازح وحواشي البئر ونحو ذلك مجرد استظهار ليس في الأخبار له تعرض بل هو شك في شك ، وكل ذلك دليل على عدم التنجيس وإلا لما ترك في هذه الأخبار على كثرتها بيان مثل هذه الأمور المهمة.

وكيف كان فلا ينبغي الشك في أن الترجيح لأخبار الطهارة فوجب حينئذ طرح‌

١٩٩

تلك الأخبار أو حملها على خلاف ظاهرها ، فنقول : أما مكاتبة ابن بزيع (١) فعلى ان المراد من الطهارة مطلق النظافة والنزاهة ، وهو بعيد لان مثل ذلك لا ينحصر الرجوع فيه الى الامام عليه‌السلام بحيث لا يعرفه أحد سواه حتى يكتب له من بلاد الى بلاد ، نعم يحتمل أن يقال انها انما تدل على القول بان النزح تعبد ، وذلك لانه قال فيها « ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة » وكان قوله ( حتى ) إشارة الى ذلك ، لان المعنى حينئذ ما الذي يطهرها طهارة تحل الوضوء منها للصلاة ، فيكون كأن أصل وجود الطهارة عنده محقق لكن إشكاله في الطهارة التي يترتب عليها مثل الوضوء. أو يقال ان ذلك في كلام السائل لا في كلامه عليه‌السلام وكما يمكن تقديره في كلام الإمام بأن يقال يطهرها نزح دلاء كذلك يمكن أن يقال أنه لما سئل عن هذه الأشياء قال ينزح منها دلاء وأضرب عن قول السائل يطهرها ، فيكون حينئذ هذا الخبر كالأخبار الأخر الآمرة بالنزح. ومما يؤيد أن هذه الرواية ليست على ظاهرها هو أن محمد بن إسماعيل بن بزيع راوي هذه الرواية قد روى تلك الرواية الواضحة الدلالة التي لا تقبل التأويل وهي قوله « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا أن يتغير طعمه أو ريحه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادة » (٢) مع انه لم يظهر منه التوقف في الحكم من جهة التناقض والتعارض.

وأما الرواية الثانية وهي قوله : « يجزيك أن تنزح منها دلاء فان ذلك يطهرها ان شاء الله » ‌فقد احتمل فيها أيضا حمل الطهارة على المعنى اللغوي ، وربما أيد هنا بان دلاء أقله ثلاثة ، مع أنه من جملة المسؤول عنه الكلب والهرة ، والفتوى عندهم في ذلك أربعون دلوا ، ولا يبعد حمل هذه الرواية والتي قبلها على إرادة الطهارة مما يكره استعماله ، وذلك لانه لما كان النجس يحرم استعماله وهذا يكره استعماله شارك النجس في ذلك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

٢٠٠