جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

التنجيس بملاقاة النجاسة مع القلة لكونهما ماء واحدا قليلا لاقى نجاسة ، واللازم باطل لعدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى فالملزوم مثله ، لأنا نقول خروج ذلك بالإجماع لا يقضي بعدم الاتحاد ، وإلا لو قضى بذلك لكان اللازم منه عدم سراية النجاسة من العالي الى السافل مع حصول النجاسة إجماعا ، كما في سائر المائعات ، فلو كان عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى العالي دليلا على عدم الاتحاد وعدم شمول قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء » ‌الى آخره ونحوه له لأمكن معارضته بان سرايته من العالي الى السافل دليل على الاتحاد ، وإلا لما حصل نجاسة السافل بنجاسة العالي. على انك قد عرفت سابقا ان مسألة النجاسة ليست مبنية على الاتحاد والتعدد بل المدار فيها على مطلق الملاقاة مع كون الملاقي بالفتح متصلا بعضه ببعض.

لا يقال إن الأخبار الواردة في حكم الكر اشتراطا وكمية ظاهر أكثرها كون الماء مجتمعا وكونه واحدا وكثيرا ، وشمولها لكثير من أفراد المقام محل نظر بل منع. وكيف لا مع انه لا عموم لغوي فيها ، بل عمومها انما هو من جهة الحكمة ونحوها ، ولا ريب أن حملها على الأفراد المعهودة المتعارفة سيما مع تقدم السؤال عن بعضها يكفي في بيان وجه الحكمة ، مع انها هي بنفسها ظاهرة في المياه المجتمعة المتقاربة الأجزاء ، كقوله عليه‌السلام (١) في خبر إسماعيل بن جابر حين سأله عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء فقال : « ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » ‌ونحوها من الأخبار (٢) الدالة على المساحة ، وكذلك مثل خبر صفوان (٣) المتضمن للسؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة حيث سأله : « وكم قدر الماء؟ قال : قلت الى نصف الساق » ‌الى آخره ، مع أن الكر الذي وقع تحديد الماء الذي لا ينفعل به عبارة عن مكيال مخصوص يكال به الطعام. وأيضا فإن اجتماع الأجزاء يورث قوة على قهر النجاسة لتوزعها على الأجزاء بخلاف ما لم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١٢.

١٦١

يكن كذلك ، هذا مع انه المتيقن من الأدلة المعلوم قطعا وما عداه في محل الشك لعدم ظهور الدليل عليه ، والتمسك بأصالة الطهارة لا يجدي وكيف يصح ذلك مع ان الشارع قسم الماء إلى شيئين يمتنع خلو الواقع من واحد منهما وهما إما الكر أو دون الكر ، فلا يمكن الحكم بكونه فردا من هذه الكلية أو من هذه الكلية إلا بالعلم أو ما يقوم مقامه ، وليس عندنا عموم يقضي بان ما شك في كريته شرعا فهو كر.

لأنا نقول لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة في الكر أن أكثرها على خلاف تلك الدعوى ، وما اشتمل منها على السؤال عن بعض الأشياء المخصوصة لا ظهور فيه بالتخصيص بوجه من الوجوه ، وكثير منها انما هو ابتداء خطاب ، مع انه في مقام ضرب القاعدة وإعطاء القانون مع اشتمالها على لفظ الماء الذي هو حقيقة في الطبيعة أينما وجدت ، وليس عمومه من جهة الحكمة ، مع ان أخبار تحديد الكر سيما أخبار المساحة المفهوم منها إرادة الضرب وإرادة التقدير وهو كالصريح في عدم اعتبار هذا الاجتماع ، وإلا لم تكن فائدة عظيمة في إناطة الحكم على الضرب وإرجاع الأمر إلى التقدير بالوزن وجعله مقدارا من غير ملاحظة كيفية من الكيفيات ، على أن الاقتصار على ما يدعى ظهوره من هذه الأخبار من كون الماء مجتمعا في مثل حوض أو مصنع خلاف الإجماع. وأيضا فالتأمل في أخبار القليل (١) يكاد يحصل القطع منه بعدم شمولها لمثل هذا الفرد ، فإن أكثرها متعلق في حكم الإناء وشبهه ، وعمدتها في العموم المفهوم وفي شموله لمثل المقام محل نظر بل منع ، وكيف يسوغ للفقيه أن يدرج هذا الفرد تحت أخبار القليل ولا يدرجه تحت أخبار الكر المبنية على التقدير والضرب ونحوهما الظاهرة في الشمول لجميع الأفراد ، وان ما ذكر في بعضها من السؤال عن الحياض ونحوها لا دلالة فيه على التخصيص ، بل هو ظاهر في كون المقصود معرفة حكم هذا الموضوع وانه مورد لا شرط ، ولذلك أجابه الامام عليه‌السلام بما يشمل المسئول عنه وغيره. وأيضا فإن التنجيس لمثل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب الماء المطلق.

١٦٢

هذا الماء من دون قطع بكونه من أفراد القليل ولا ظن اجتهادي يقوم مقام القطع مما لا ينبغي أن يرتكب ، ودعوى القطع أو الظن في المقام ممنوعة بل أقصى ما يقال بعد التسليم والتنزيل أن المقام محل شك ، ولا ريب أن الأصول والعمومات تقضي بطهارته وعدم نجاسته بشي‌ء من النجاسات ، وعدم إفادة الأصل والعمومات جميع أحكام الكرية التي منها التطهير بمثل هذا الماء من الخبث على نحو التطهر بالكر غير قادح بعد الموافقة في جميع الأحكام إلا هذا ، مع ان العمدة من أحكام الكر انما هو عدم تنجيسه بشي‌ء من ملاقاة النجاسة وهو ثابت بالأصل والعموم. كل ذا مع انك قد عرفت انهم صرحوا بالاتحاد في حق السافل وبعضهم أطلق ذلك كالعلامة في التذكرة وبعضهم قيد ذلك بما إذا كان العالي كثيرا. وعلى كل حال قلنا انه يلزم الاتحاد في حق العالي إذ لا معنى للتفرقة ، وما يقال ان ذلك ليس مبنيا على الاتحاد والتعدد ، بل الحكم فيه مأخوذ من أخبار المادة (١) وأخبار الحمام (٢) فيه مع ما عرفت سابقا ان شمول المادة لمثل ذلك محل منع ، بل هي ظاهرة في الماء الذي أصله منها مع تجدده منها آنا فآنا ، وإطلاق المادة على مادة الحمام مبنى على الاستعارة الظاهرة في الاقتصار على الحمام بل احتمال الاختصاص كاف ، على انك قد عرفت احتمال عدم اشتراط الكرية في الحمام فلا إشكال حينئذ في اختصاص الحكم به. وأيضا قد عرفت ان بعضهم هنا أطلق تقوم السافل بالعالي وان كانت الكرية من المجموع دون العكس ، ولو كان البناء على الأخذ من ماء الحمام لكان ينبغي الاقتصار على الكر بل الأكرار ، كما يدعون انه الغالب في مادة الحمام. وأيضا على تقدير تسليم ذلك فليس في أخبار الحمام ولا غيرها من أخبار المادة ما يقضي باختصاص التقوم بالسافل نعم هو بالنسبة إليه متحقق. وأما العكس فنقول لا ريب في ظهور أخبار الحمام في عصمة المادة لنفسها لأنها إذا عصمت غيرها فلتعصم نفسها بطريق أولى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الماء المطلق.

١٦٣

ولا تقييد في كونها مستوية السطوح أو مختلفتها ، فيثبت المطلوب.

لا يقال إن المادة تصير الماء بحكم الجاري وقد عرفت انه لا يشترط فيه تساوي السطوح ، لأنا نقول بعد تسليم شمول ذلك لمادة الجاري لا نسلم جعل كل ما له مادة من الجاري ، فإن البئر والعيون مما له مادة وليس لها حكم الجاري. ثم انك قد عرفت سابقا أن بعضهم لم يشترط كرية المادة في الحمام بل اكتفى بكرية المجموع أخذا من حكمهم بالغديرين ، وهو متجه ان لم نقل بعدم اشتراط الكرية مطلقا كما قاله المحقق ثم انه على تقدير كرية مادة الحمام فلا ريب ان ما يكون به الاتصال بالحوض مما يجري من المادة تنقص به المادة عن الكرية وجعله متقوما بما فوقه يثبت الاكتفاء بكرية المجموع ويبطل اشتراط كرية العالي المتقوم به السافل. والحاصل أخذ هذا الحكم من أخبار المادة وأخبار الحمام مما لا ينبغي ان يرتكبه فقيه لوجوه كثيرة ، وما هو إلا قياس لا نقول به ، وان قلنا بأخذه منه نقول ان الحمام حينئذ مبني على مسألة الوحدة أيضا وانه لا خصوصية له من غير حاجة الى الروايات ، لا انه ليس يبنى عليها ، وحكم الحمام انما جاء من الأخبار ويلحق به مثل ذلك كما توهمه بعضهم.

فثبت من جميع ما ذكرنا تقوم السافل بالعالي وبالعكس سيما إذا كان السافل أصله من العالي ولم ينقطع منه ، فإنه لا ريب في تحقق الوحدة. نعم هناك بعض أفراد هي محل شك إما للعلو الفاحش فيها أو ضعف ما به الاتصال كالثقب الضيق جدا ونحو ذلك ، وقد عرفت ان مقتضى الأصول الحكم بجريان كثير من أحكام الكر عليها إلا في مسألة التطهر بها على نحو التطهر بالكثير ، على انه يمكن القول به أيضا لأنه ليس لنا ماء لا ينجس بملاقاة المتنجس ومع ذلك لا يطهر المتنجس بالغسل فيه ، بل الحكم بطهارته مع وضع المتنجس فيه وتحقق الغسل كاف في الحكم بالتطهير به فتأمل جيدا. ومما يرشد أيضا الى ما اخترنا من التقوي هو انه من المعلوم ان محل الإشكال في مسألة التقوي‌

١٦٤

انما هو في السائل الجاري لا في مثل المستقر ، فإنه لو فرضنا ان هناك آنية مستطيلة جدا ثم ملئت ماء فإنه لا كلام في تقوي ما في رأسها بما في قعرها ، فنقول حينئذ ان من المستبعد أن مجرد السيلان يغير هذا الحكم ويذهب وحدة الماء ، مثلا لو ثقب تلك الآنية من قعرها فأخذ الماء يسيل ووصل الى الأرض مثلا أو لم يصل بمجرد ذلك ذهبت وحدة الماء وخرج عن مصداق ( إذا كان الماء قدر كر ) الى آخره بعد ان كان داخلا ، ان ذلك من المستبعد جدا فتأمل.

وفصل الخطاب في المسألة ان الشارع لم يعتبر إلا مقدار الكرية في الماء ، والاتحاد والتعدد فيه انما هو باعتبار أحواله ومحاله ، نعم من المعلوم عدم إرادة الماء المتفرق في أماكن متعددة من الخبر ، ضرورة عدم مصداق حينئذ لمفهومه ، أما ما عدا ذلك مما كان الماء فيه متصلا بعضه ببعض بأي طريق كان الاتصال فهو داخل في الخبر المزبور. وكأن منشأ الوهم هو تقدير شي‌ء في الخبر على وجه يكون عنوانا في الحكم ، والفرض خلوه عنه ، بل المراد منه ان العنوان صدق كونه كرا على أي حال كان.

وكيف كان فإذا تنجس المحقون الكر بالتغير إما لجميعه أو لبعضه مع عدم كون الباقي كرا مع تساوي سطوحه فيطهر بما ذكرنا من تطهر القليل النجس من إلقاء كر عليه فان تغير الكر الملقى كله أو بعضه بحيث ينجس به فكر آخر حتى يزول التغيير فان لم يتغير الكر الملقى لم يحتج إلى إلقاء كر آخر بل يكفي الأول إذا موج فأذهب التغيير ، ومثله ما لو بقي من الماء المتنجس بالتغير مقدار كر فإنه لا يحتاج في تطهيره إلى إلقاء كر من خارج بل يكفي الباقي مع زوال التغيير ، لأنه حينئذ يكون معه ماء واحد ، فيتوجه الاستدلال حينئذ بالملازمة السابقة أو بغيرها مما سمعته سابقا والكلام المتقدم هناك في اشتراط الامتزاج وإلقاء الكر ومسألة الدفعة وغير ذلك من المباحث قد تتأنى هنا كلها أو بعضها فلا حاجة الى الإعادة. والتطهر بالجاري وماء المطر على نحو ما تقدم ولا يطهر بزوال التغيير من قبل نفسه ولا بتصفيق الرياح ولا بوقوع أجسام‌

١٦٥

طاهرة فيه تزيل التغيير عنه فضلا عن الأجسام الساترة للتغيير أو المشكوك فيها انها من الساترة أو المزيلة. كل ذلك إذا لم يبق منه مقدار الكر وإلا فقد عرفت انه إذا بقي منه هذا المقدار ثم أزيل التغيير بأحد الأسباب المتقدمة طهر بمجرد زوال التغيير ان اكتفينا بمجرد الاتصال وإلا فبعد الامتزاج ، ومثله لو بقي مقدار الكر ثم قوي بماء قليل حتى زال التغيير. وكذلك لو أزيل التغيير بأحد الأسباب المتقدمة ثم القي عليه كر من خارج.

والحاصل انه لا يشترط زوال التغيير بما يطهر به من الماء كما صرح به بعضهم من غير نقل خلاف فيه ، وقول المصنف وغيره حتى يزول التغيير لا دلالة فيه على ذلك ، بل المقصود منه أنه ان كان زوال التغيير بإلقاء الكثير فليلق حتى يزول التغيير.

ولعل الاكتفاء بما ذكرنا لعموم مطهرية الماء مع عدم ظهور اشتراط ذلك من أحد ، مضافا الى نصهم على عدم حصول الطهارة بزوال التغيير من قبل نفسه ونحوه من دون ملاقاة الكر ، ولم يشر أحد منهم الى اشتراط ذلك. هذا مع ما عرفت من انه مع الاتحاد بالكر تتوجه الملازمة المتقدمة سابقا ، ولا ينافي ذلك ما تقدم منا سابقا من ان عمومات مطهرية الماء مجملة بالنسبة إلى كيفية التطهر ، لكون المقام بالنسبة الى هذا الشرط ليس محل شك ، بل قد يدعى الإجماع على حصول الطهارة بإلقاء الكر دفعة مع الامتزاج وان زال التغيير بغير الماء المطهر فتأمل. وكيف كان فلم ينقل عن أحد الخلاف في عدم الطهارة فيما ذكره المصنف إلا عن يحيى بن سعيد في الجامع وعن العلامة في نهاية الأحكام أنه تردد في حصول الطهارة بزوال التغيير من قبل نفسه خاصة ، وفي المنتهى نقل الخلاف فيه عن الشافعي وأحمد ولم ينسبه لأحد من أصحابنا ، نعم قال بعضهم أنه لازم لكل من قال بطهارة القليل بإتمامه كرا. وفيه نظر إذ قد يكون مأخذ تلك المسألة الرواية السابقة التي ادعي إجماع المؤالف والمخالف عليها وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( متى بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا ) وعدم شمولها لمثل المقام ظاهر ، إذ أقصى ما تفيده ان بلوغ الكرية رافع ودافع لكن ذلك لا ينافي القول بأنه إذا تنجس الكر بنجاسة‌

١٦٦

المعتبرة شرعا لا يطهر إلا بإلقاء كر. وقد يكون المأخذ الإجماع المدعى في ذلك المقام وهو معلوم الانتفاء هنا. والحاصل لا تلازم بين المسألتين ، ومن هنا ذهب بعض القائلين بحصول الطهارة بالإتمام الى عدمها في المقام كما صرح به ابن إدريس وصريح المنقول عن المهذب مع قرب ما بين المسألتين فيه ، ولعل الباعث للقول بالتلازم اشتراك بعض الأدلة ، وفيه ما لا يخفى بعد ما عرفت ، وإلا لجاء ذلك في كثير من المسائل. وعلى كل حال فعمدة أدلة المشهور الاستصحاب ، نعم قد يذكر غيره معه في كلام بعضهم على جهة التأييد أو الإلزام ، كالقول ان النجاسة ثبتت بوارد فلا تزول إلا بوارد بخلاف نجاسة الخمر فإنها ثبتت بغير وارد فتطهر بغير وارد. كما ان عمدة ما يستدل للمخالف هو ظهور ان علة النجاسة التغير فمتى انتفت انتفى معلولها معها ، وربما أيد بشمول ما دل على طهارة غير المتغير له. وربما نوقش في دليل المشهور بعدم حجية الاستصحاب ، ولا يخفى فسادها كما بين في محله ، نعم قد يناقش بان ما دل على النجاسة بالتغيير هو مما علق الحكم فيه على الوصف الظاهر في نفي الحكم من غير الموصوف فلا يجري الاستصحاب. وقد يجاب بأنه ليس منه بل قد اشتمل بعضها على الشرط كقوله عليه‌السلام ( كلما غلب ) (١) وقوله عليه‌السلام ( ان تغير ) (٢) ونحوهما ، وهو متحقق الصدق وان زال التغيير ، بل يكفي في المطلوب عدم تحقق صدق العدم فلا يكون هناك معارض للاستصحاب المؤيد بالمفهوم من التعليل بالمادة في طهارة البئر بالنزح حتى زال التغيير وغير ذلك. سلمنا ولكنه يدل على نفي الحكم عن فاقد الوصف لا عمن تلبس به ثم زال عنه ، ولا ينافي ذلك كونه مشعرا بالعلية لأنه لم يعلم كونه علة ما دام موصوفا أو هو علة في الابتداء والاستدامة وهو محل الاستصحاب. ومنه يعلم الكلام في مفهوم العلة المصرح به ، اللهم إلا أن يفرق بينهما. نعم لو دخل بعد سلب الوصف تحت موضوع‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

١٦٧

آخر كما لو زال السوم عن الغنم ، ثم دخلت تحت المعلوفة ، فحينئذ يعارض الاستصحاب ما دل على حكم المعلوفة ، وأما في مثل ما نحن فيه فلا معارض للاستصحاب لظهور أدلة غير المتغير في الذي لم تلحقه صفة التغيير فتأمل جيدا. ولا ينافيه أيضا كون المشتق حقيقة في الحال لو سلمنا ان بعض الأدلة منه ، لأنا لم نتمسك بصدق اسم المتغير عليه ، بل نقطع بعدم الصدق مع القول ببقاء الحكم للاستصحاب ، وانتفاء الحكم من حيث عدم صدق المشتق لا ينافي إثباته من حيثية أخرى كالاستصحاب ونحوه إذ لا معارضة بينهما. وكل ذلك محل للنظر والتأمل فالمسألة لا تخلو من إشكال ان لم يتمسك بإطلاق بعض الأدلة ، لكنه لا محيص عن فتوى المشهور وبها يقوى الاستصحاب على معارضة غيره ، خصوصا بعد ما سمعت من الإطلاق المزبور المؤيد بالمفهوم المذكور ، وبعد عدم وجود لفظ المتغير عنوانا للحكم كي يتوهم منه دوران الحكم عليه وجودا وعدما ، مضافا الى ما سمعت على تقديره والله العالم. وعلى كل حال فمما تقدم تعرف ما في دليل الخصم وما في تأييده أيضا ، فإنه معارض بإطلاق ما دل على الاجتناب مع التغيير ، على انها ظاهرة في الذي لم يتغير أصلا لا في ما تغير ثم زال تغييره فتأمل.

ومقدار ما يسعه الكر في ذلك الوقت. أو أن المراد بالكر ذلك وان لم يسعه المكيال المعروف وضعا شرعيا أو مجازا ألف ومائتا رطل إجماعا منقولا بل محصلا وسنة بالعراقي وهو على المشهور مائة وثلاثون درهما ثلثا المدني للخبر عن الرضا عليه‌السلام (١) كما أرسله في الذكري ، ولعله خبر إبراهيم بن محمد الهمداني عن أبي الحسن عليه‌السلام فما في التحرير في زكاة الغلات أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع غفلة ، ومثله ما عن المنتهى ، مع انه فيه في المقام مائة وثلاثون درهما كما في زكاة الفطرة في التحرير أيضا على الأظهر وهو المشهور والأقوى ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب زكاة الفطرة ـ حديث ١.

١٦٨

لكون المرسل ابن أبي عمير ومشايخه من أهل العراق ، مع قوله فيها عن بعض أصحابنا ، وظاهر الإضافة كونه من أهل العراق. وعرف السائل في الكلام مع الحكيم العالم بعرف المخاطب مقدم على عرف المتكلم والبلد ، على أنه لم يعرف كونه عليه‌السلام قال ذلك وهو في المدينة ، قيل ولذلك اعتبر العراقي في الصاع. وربما يظهر من رواية الكلبي النسابة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ان الرطل في كلامه العراقي فإنه قال فيها : « قلت : وكم يسع الشن ماء؟ فقال : ما بين الأربعين إلى الثمانين الى ما فوق ذلك ، فقلت : بأي الأرطال؟ فقال : أرطال مكيال العراق » ‌فإنه أطلق الرطل وأراد به العراقي قبل ان يسأله السائل ، ولو لم يسأله لاعتمد على ذلك الإطلاق. وربما يؤيده أيضا ما قيل ان الكر في الأصل كان مكيال أهل العراق ، وانهم قد روى بالكر من جهة أن مخاطبهم كان من أهل العراق ، وموافقته لصحيحة محمد بن مسلم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « والكر ستمائة رطل » ‌لعدم القائل بمضمونها فتحمل على الأرطال المكية لان الرطلين العراقيين رطل مكي ، على أن محمد بن مسلم طائفي كما قيل وهي من قرى مكة ، مع انه قد روى هذه الرواية أيضا ابن أبي عمير قال روي عن عبد الله بن المغيرة يرفعه الى أبي عبد الله عليه‌السلام « ان الكر ستمائة رطل » ، مع أنه راوي الرواية الأولى.

وربما أيد مع ذلك أيضا بأصالة البراءة وب قوله عليه‌السلام (٣) : « كل ماء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

(٣) روى في الوسائل ـ في الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث‌ « كل ماء طاهر إلا ما علمت انه قذر » وحديث ٥ ـ « الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر » وفي الباب ـ ٤ ـ حديث ٢ ـ « الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر » ‌وفي المستدرك ـ في الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب النجاسات حديث ٤ ـ « كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر » ..

١٦٩

طاهر حتى تعلم أنه قذر » ‌وباستصحاب الطهارة ، وبالاحتياط ، وبموافقته للصحيحة (١) المتضمنة لتقدير المساحة بالأشبار الثلاثة وبقرب القلتين الوارد في بعض الأخبار (٢) تقدير الكر بها ، ومثله‌ قوله عليه‌السلام (٣) : « نحو حبي هذا » ‌و « أكثر من راوية » (٤) وبان الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل ، وبان شرط الانفعال القلة ولم تعلم فلا يحصل الانفعال.

وفي الأول ان أصالة البراءة كما تكون عن وجوب اجتنابه وحرمة شربه تكون أيضا عن وجوب استعماله ووجوب إزالة النجاسة عن البدن والثوب به في بعض المقامات ، اللهم إلا أن يقال إن النجاسة وان كانت حكما وضعيا إلا ان مرجعها الى التكليف فيتمسك في نفيها بأصالة البراءة ، بخلاف الطهارة فإنها من قبيل كون الأشياء على الإباحة والنجاسة من قبيل الحرمة فيها ، فيقال حينئذ الأصل البراءة عن النجاسة فتجب الطهارة به لعدم القول بالفصل ، وليس إثباتا للتكليف بالأصل فليتأمل جيدا.

وفي الثاني والثالث بل والأول أيضا أنه ان كان المراد منها الحكم بالطهارة وعدم انفعاله بالنجاسة وان لم يحكم بالكرية منها ، فقيل فيه أن المعلوم المقطوع به من الأدلة ان حكم التنجيس والتطهير دائر مدار الكرية وجودا وعدما ، فلا معنى للحكم بطهارة هذا المقدار من الماء وعدم قابليته للنجاسة إلا بالتغير مع عدم الحكم عليه بالكرية ، إذ لا معنى لثبوت لوازم وجود الشي‌ء بدون وجود الملزوم ، قلت قد ظهر لك سابقا ان لا مانع من جريان الأصول على مقتضاها وان لم تثبت الكرية ، لكن الكلام في أنها هل تقتضي جميع أحكام الكرية أو لا؟ وقد قدمنا أنها تقتضي أكثر أحكامها وإلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧ وفي الباب ـ ١٠ ـ حديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٩.

١٧٠

فقد يكون المتجه العمل بالأصلين كما في التطهير بمثل ذلك من الخبث على نحو التطهير بمعلوم الكرية فإن الظاهر حينئذ عدم نجاسة الماء وعدم طهارة الثوب فتأمل. وإن كان المراد منها الحكم بالكرية ففيه أنه لا يثبت بمثلها ، لأنه إن كان له وضع شرعي ، فيرجع حينئذ إلى معنى اللفظ وهو لا يثبت بنحو ذلك ، وان كان المراد به ذلك المكيال المعروف وأن ما يسعه من الماء تجري عليه الأحكام كما يظهر من قولهم عليهم‌السلام في الروايات ( قدر ) فكذلك لا يمكن إثبات مقدار ما يسعه بمثل هذه الأشياء ، إذ لا معنى للقول بأن الأصل البراءة أو كل ماء طاهر أو كان طاهرا ، فيكون الكر انما يسع هذا المقدار. واحتمال القول بأن الأصل عدم سعة الأزيد معارض بأصالة عدم امتلائه بذلك ، ومن هنا يظهر أنه لا معنى للقول بأنه موضوع يكتفى في إثباته بالظن. واحتمال القول بان المراد بالكر هو ما لا يقبل النجاسة ونحوها من الأحكام ، ومثل هذه يثبت بمثل هذه الأصول وليس هو من الموضوع بل هي أحكام صرفة ، في غاية الضعف لمنافاته لظاهر الأخبار كقوله عليه‌السلام : « قدر كر والكر ألف ومائتا رطل » ‌ونحو ذلك. نعم قد يقتضي الاستصحاب ونحوه بعد معرفة مقدار الكر منه في نفسه في الماء الذي لا يعرف أنه كر أو لا وقد وقعت فيه نجاسة لتحقق مقدار الكرية فيه ، مع أن الذي يظهر من بعضهم عدمه أيضا ، وكأنه لأن الظاهر من الأدلة أخذ الكرية شرطا في عدم التنجيس وهو لا يثبت باستصحاب الطهارة ونحوها. لكن قد عرفت سابقا أن احتمال الكرية كاف في بقاء استصحاب طهارته فلا حاجة للحكم بها ، ولعله المراد من قولهم ان الاستصحاب لا يثبت الموضوع ، وإلا فلا ريب في إثبات استصحاب الموضوع.

وفي الرابع ان الاحتياط معارض بمثله حيث يكون موجودا غيره.

وفي الخامس ان المدني أقرب لرواية أبي بصير (١) الذي عمل بها المشهور وهو الثلاثة ونصف.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

١٧١

وأما القول بأن الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل ، ففيه ان غاية ما يمكن توجيهه ان الأقل متيقن اعتباره واشتراطه في عدم الانفعال والأصل إما عدم اشتراط الزائد أو براءة الذمة. وفيه أن الاشتراط انما وقع بقوله عليه‌السلام : ( قدر كر ) ولم نعلم ما كان مقدار الكر ، فأي معنى لأصالة عدم اشتراط الزائد ، وأما أصل البراءة فلا وجه له إلا ما ذكرناه سابقا ، وفيه ما عرفت.

وأما قوله ان شرط الانفعال القلة ، ففيه أنه قد يقال ان الأمر بالعكس فان مقتضى قوله عليه‌السلام : ( إذا كان الماء ) الى آخره اشتراط عدم الانفعال بالكر ، وهو غير معلوم ، فيبقى ما دل على نجاسة الدم وما يلاقيه على عمومه أو إطلاقه ، قصارى ما هناك خروج الكر وهو غير معلوم. فالعمدة في المقام هو ما قدمناه أولا بضميمة الشهرة ، ولعلها تكون جابرة لدلالة المرسلة ان قلنا انها تجبر الدلالة ، لكن جبرها للدلالة بحيث تكون معينة لأحد معنيي المشترك أو صرف الحقيقة ونحو ذلك محل تأمل ، إذ عليه يلزم عدها من المخصصات والمقيدات ونحو ذلك ، ولعل التفصيل بأنها حيث تعارض ظاهر دليل كعموم وإطلاق وحقيقة ونحو ذلك لا تثمر بخلاف ما لم تعارض كتعيين أحد معنيي المشترك كما في المقام لا يخلو من قوة. ومما ذكرنا يستفاد ما يصلح مؤيدا للقول بالمدني كما هو المنقول عن المرتضى وغيره فلا حاجة الى ذكره.

أو ما كان كل واحد من طوله وعمقه وعرضه ثلاثة أشبار ونصفا اي ما بلغ تكسيره الى اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر حاصلة من ضرب ثلاثة الطول مع النصف في مثلها من العرض تبلغ اثنى عشر وربعا ، وتضرب في مساحة العمق تبلغ المقدار المذكور ، لان الكسر متى ضرب في غيره أخذ مقداره ، فالنصف مثلا يأخذ من الصحيح نصفه ومن نصفه ربعه. وقيل ما بلغ تكسيره إلى سبعة وعشرين شبرا بحذف النصف. وقيل ما بلغ تكسيره الى مائة شبر ، وهو المنقول عن ابن الجنيد. وربما ظهر من صاحب المدارك ، كما هو المنقول عن المصنف انه ما بلغ إلى ستة وثلاثين شبرا.

١٧٢

وعن قطب الدين الراوندي انه ما بلغ أبعاده إلى عشرة ونصف ولم يعتبر التكسير. وعن ابن طاوس العمل بكل ما روي.

و ( الأول ) هو المشهور والأقوى للإجماع المنقول كما عن الغنية ، ول رواية أبي بصير (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال : إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء » وخبر الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : « إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شي‌ء قلت وكم الكر؟ قال ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها » ‌ورواه كشف اللثام عن الاستبصار بذكر الأبعاد الثلاثة (٣) ونوقش في الأولى بالضعف في السند والدلالة ، أما السند فلاشتماله على احمد بن محمد بن يحيى ، وهو مجهول ، وعثمان بن عيسى ، وهو واقفي ، وأبي بصير وهو مشترك بين الثقة والضعيف. وأما في الدلالة فلعدم اشتماله على الأبعاد الثلاثة وان كان في تعين المتروك فيها حينئذ وجهان ، فعن الروض انه العمق ، وعن آخر خلافه لاستبعاد الانقطاع ( في عمقه ) ، بل هو إما حال من مثله أو نعت لثلاثة. وفيه أما أولا فلانجبار سندها بالشهرة والإجماع المنقول ، وأما ثانيا فلان الموجود في الكافي انما هو احمد بن محمد ، والظاهر انه ابن عيسى ، خصوصا مع رواية محمد بن يحيى العطار عنه ، وروايته عن عثمان بن عيسى. نعم نقل عن التهذيب انه اثبت يحيى ، والظاهر انه من قلم الناسخ أو انه تصحيف عيسى. ويؤيده أن العلامة وغيره لم يطعنوا في الرواية إلا بعثمان بن عيسى وبعضهم بابي بصير أيضا. وأما عثمان بن عيسى فعن الشيخ في العدة انه نقل‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨.

(٣) لكن الأبعاد الثلاثة غير موجودة في النسخة المخطوطة بيد والد الشيخ محمد بن المشهدي صاحب المزار المصححة على نسخة الشيخ.

١٧٣

الإجماع على العمل بروايته ، وعن الكشي ذكر بعضهم انه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وأيضا نقل انه تاب ورجع من الوقف ، على أن الظاهر انه ثقة مع وقفه فيكون الخبر موثقا وهو حجة كما تبين في الأصول. وأما أبو بصير فالظاهر انه ليث المرادي بقرينة رواية ابن مسكان عنه ، فان الظاهر ان المراد منه عبد الله وهو يروي عن ليث ، مضافا الى ان عبد الله من أصحاب الإجماع فلا يلتفت الى ما بعده على وجه بعد تنقيح حال عثمان ، ولعله لمعلومية حال أبي بصير عند العلامة لم يطعن في سند الرواية في المنتهى إلا بعثمان بن عيسى ، على انه ذكر الأستاد الأكبر في حاشيته على المدارك ان أبا بصير مشترك بين ثلاثة كلهم ثقات. وعلى كل حال فلا ينبغي الطعن في سند الرواية. وأما ما في الدلالة فقد يدفع مضافا الى الانجبار بالشهرة وغيرها ، إما بدعوى ان هذا متعارف في ذكر الأبعاد الثلاثة بذكر البعض وقياس الباقي عليه ، أو يقال ان قوله عليه‌السلام ( في مثله ) بيان للعرض والطول ويكون قوله ثلاثة بيانا للعمق ، ويشهد له ما عثرت عليه في نسخة مقروة على المجلسي الكبير مصححة « في ثلاثة أشبار ونصف في عمقه » واحتمل البهائي اشتمالها على الأبعاد الثلاثة بجعل الضمير ( في عمقه ) الى المقدار في الأرض أي في عمق ذلك المقدار في الأرض ، وهو بعيد. هذا ولكن قال المولى الأكبر في حاشية المدارك : في دلالتها على المشهور نظر من حيث عدم اشتمالها على الأبعاد الثلاثة وليس هو من قبيل قولهم ثلاثة في ثلاثة لشيوع الإطلاق وإرادة الضرب في الأبعاد الثلاثة ، لوجود الفارق وهو عدم ذكر شي‌ء من الأبعاد بالخصوص في المثال بخلاف الرواية حيث صرح ببعد العمق ، فيكون البعد الآخر هو القطر ، ويكون ظاهرا في الدوري ، ويؤيده ان الكر مكيال للعراق والمعهود منه الدوري ، وكذا رواية ابن حي الواردة في الركي إذ لا قائل بتفاوت الكرية ، فيكون الحاصل منهما كون الكر ثلاثة وثلاثين شبرا ونصفا وثمنا ونصف ثمن ، ولا قائل به بخصوصه مع أن الشيخ حمل رواية ابن حي على التقية ، فيترجح حمل هذه الرواية أيضا‌

١٧٤

على التقية ، فتبقى رواية إسماعيل بن جابر سالمة عن المعارض » انتهى ، وقد سبقه الى احتمال ذلك في الخبر المجلسي رحمه‌الله معترفا بخروجه حينئذ عن سائر المذاهب. لانه يبلغ ثلاثة وثلاثين شبرا وخمسة أثمان شبر ونصف ثمن شبر. وفيه ـ بعد منع حصر الشائع فيما ذكر ، وابتنائه على ان المحذوف غير العمق ـ انه مبني على ما لا يعرفه إلا الخواص من علماء الهيئة ، من ضرب نصف القطر وهو واحد وثلاثة أرباع في نصف الدائرة وهو خمسة وربع. لان القطر ثلث الدائرة فيكون مجموع الدائرة عشرة ونصف ، إذ المفروض أن القطر ثلاثة ونصف ، ثم يضرب الحاصل من ذلك في ثلاثة ونصف العمق ، فيبلغ حينئذ ما ذكره تقريبا لا تحقيقا ، إذ التحقيق انها تبلغ اثنين وثلاثين وثمنا وربع ثمن. وتنزيل الروايات على مثل ذلك مما تمجه الأفهام المستقيمة ، وكيف يخاطب بذلك الحكيم من هو معلوم انه عن هذه المطالب بمعزل على أنه آت في رواية إسماعيل بن جابر ، ودعوى ان ذلك متعارف في الأبعاد الثلاثة كما ادعاه مسلم في غير المعلوم منه الدوري ، وأما فيه فيرجع تقديره الى القطر ، والفرض أن الكر معلوم منه الدوري كما ذكر فتأمل. وأما ما ذكره من حمل الشيخ رواية الحسن على التقية فهو ليس لما ذكره ، بل لمخالفة حكم البئر لحكم الغدير ، مع أنه اشترط الكرية فيها فمن هذه الجهة حملها على التقية كما فهم منه في الوسائل. وكيف كان فالذي يقتضيه النظر العمل برواية أبي بصير لانجبارها بالشهرة والإجماع. وخبر الحسن بن صالح ، لا سيما على ما تقدم نقله عن الاستبصار ، ولعله ترك الطول فيها على ما في الكافي وعن التهذيب للعلم به حينئذ من ذكر العرض لانه إما أن يكون مساويا لها أو أزيد ، والزيادة منتفية عنه بالإجماع لعدم الاعتداد بالمخالف. وربما يؤيده أيضا ما نقل عن المقنع (١) انه قال : « روي ان الكر ذراعان وشبر في ذراعين وشبر » ‌فإنه يمكن أن يراد بالذراع هنا عظم الذراع وهو يزيد عن الشبر يسيرا فيكون في عشرة ونصف.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

١٧٥

ومستند ( الثاني ) خبر إسماعيل بن جابر (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء فقال : كر ، فقلت : وما الكر؟ قال : ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » وعن المجالس (٢) أنه قال : « روي الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولا في ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا » ‌وربما أيد بالاحتياط ، وأصالة الطهارة ، والقرب الى نحو حبي هذا ، وقلتين ، وأكثر من رواية ، ولما اخترناه من الوزن. وقد عرفت سابقا أن الاحتياط معارض بمثله وان الأصول لا تجري على الأظهر ، فالعمدة من الدليل انما هو ما تقدم من الأخبار ، وقد وصفت الرواية الأولى بالصحة في جملة من المصنفات ، بل عن البهائي إنها توصف بالصحة من زمن العلامة إلى زماننا هذا. وربما نوقش فيها بان هذه الرواية وان رواها الشيخ عن عبد الله بن سنان ، لكنه رواها أيضا عن ابن سنان إلا أنه في المقام الظاهر أنه محمد لروايته هذه الرواية أيضا عن محمد بن سنان عن إسماعيل بن جابر ، ومن المستبعد كونهما معا رويا هذه الرواية ، مع أنه نقل عن الشيخ حسن في المنتقى أن الذي تقتضيه مراعاة الطبقات انما هو محمد ، لانه هو والبرقي في طبقة واحدة ، وأيضا هو الذي تناسب روايته عن الصادق عليه‌السلام بواسطة بخلاف عبد الله فإنه من أصحابه ، مع ان الموجود في الكافي انما هو ابن سنان من غير تعيين ، على ان رواية البرقي عن عبد الله من غير واسطة مستبعدة لكونه من أصحاب الرضا عليه‌السلام وعبد الله من أصحاب الصادق عليه‌السلام. وعن البهائي إنكار ذلك كله « وأنه لا استبعاد في شي‌ء مما ذكر ، فإن البرقي وان لم يدرك الصادق عليه‌السلام لكنه أدرك أصحاب الصادق عليه‌السلام كما يقضي به كثير من الأخبار ، لروايته عن داود بن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٧.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢.

١٧٦

أبي يزيد (١) قتل الأسد في الحرم ، وعن ثعلبة بن ميمون (٢) حديث الاستمناء باليد ، وعن زرعة (٣) حديث صلاة الأسير. وأيضا فالشيخ عد البرقي من أصحاب الكاظم عليه‌السلام. وأما الواسطة بينه وبين الصادق عليه‌السلام فإنه قد وجد في الروايات كتوسط عمر بن يزيد (٤) في دعاء آخر سجدة من نافلة المغرب وتوسط حفص الأعور (٥) في تكبيرات الافتتاح ، وقد يتوسط شخص بعينه بين كل من محمد وعبد الله وبين الصادق عليه‌السلام كاسحاق بن عمار (٦) فإنه متوسط بين محمد وبينه عليه‌السلام في سجدة الشكر ، وهو بعينه أيضا متوسط (٧) بين عبد الله وبينه عليه‌السلام في طواف الوداع ، ولعل روايتنا في المقام من ذلك » انتهى لكن الإنصاف أنه محمد وكأن البهائي لم يعثر في شي‌ء من الروايات على رواية البرقي عن عبد الله ولذلك لم يذكره مع أنه العمدة في المقام ، ومن المستبعد أنه شافهه ولم ينقل عنه إلا هذه الرواية. وقد صرح الأستاد في حاشية المدارك بأن الظاهر انه محمد لكنه ذكر أنه حقق في الرجال أنه ثقة. ولعله لحسن ظنه رحمه‌الله عول على ما نقل عن المفيد رحمه‌الله في إرشاده انه من خاصة الكاظم عليه‌السلام وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته وممن روى النص على الرضا عليه‌السلام وللبحث فيه مقام آخر. وكيف كان فلا شهرة تجبر الرواية ولا ما أرسله في المجالس ، على ان التعارض بينها وبين رواية المشهور بناء على اعتبار‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب كفارات الصيد من كتاب الحج.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب نكاح البهائم ـ حديث ٣ من كتاب الحدود.

(٣) وهو حديث سماعة المروي في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ـ حديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ـ حديث ٣ من كتاب الصلاة.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب تكبيرة الإحرام ـ حديث ١ من كتاب الصلاة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب سجدتي الشكر ـ حديث ٤ من كتاب الصلاة.

(٧) التهذيب ـ باب زيارة البيت من كتاب الحج.

١٧٧

مفهوم العدد تعارض الإطلاق والتقييد. ولعلك في التأمل فيما ذكرنا من الوزن تستفيد رجحان المشهور زيادة على ذلك فتأمل.

وأما ( الثالث ) وهو مذهب ابن الجنيد فلم نقف له على مأخذ ، وما أبعد ما ذهب اليه هنا وما ذهب إليه في الوزن من أنه ألف ومائتا رطل ، وما ذهب إليه أيضا من القلتين ويضعفه غاية الضعف إعراض الأصحاب عنه.

ومستند ( الرابع ) صحيحة إسماعيل بن جابر (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ قال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » ‌وفي المدارك أنها أصح رواية وقف عليها ، ويبلغ تكسيره حينئذ إلى ستة وثلاثين شبرا ، لأن المراد بالذراع القدمان كما يظهر من أخبار المواقيت (٢) والقدم شبر ، وهو مبني على أن المراد بالسعة كل من جهتي الطول والعرض ، فيكون كل منهما ذراع وشبر فتضرب الثلاثة في الثلاثة تبلغ تسعة فتضرب في أربعة العمق فتبلغ المقدار المذكور. وفيه أن هذه الرواية قد أعرض عنها الأصحاب ، قال في المنتهى بعد ذكر هذه الصحيحة : « وتأولها الشيخ على احتمال بلوغ الأرطال. وهو حسن لانه لم يعتبر أحد من أصحابنا هذا المقدار » انتهى وهو كذلك ويؤيد حمل الشيخ على ذلك ما نقل عن محمد أمين أنه قد اعتبرنا الكر وزنا ومساحة في المدينة المنورة فوجدنا رواية ألف ومائتا رطل مع الحمل على العراقي قريبة غاية القرب من هذه الصحيحة » انتهى وينقدح من ذلك إشكال من نسبة الوزن والمساحة بناء على المشهور يأتي التعرض له ان شاء الله تعالى. ويحتمل في الرواية ان يراد بالسعة مجموع الطول والعرض فتكون لا قائل بها. ومثله أيضا إن قرئ وشبر بالرفع أي ذراعان عمقه في ذراع طوله وشبر سعته. ويحتمل حملها على ان المراد بالسعة إنما هو العرض ويكون الطول محذوفا فيحصل من ضرب العرض في العمق اثنى‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٨ ـ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.

١٧٨

عشر وقد يزاد القدم شيئا يسيرا على الشبر مقدار ربع ومقدار الطول ثلاثة ونصف لان الغالب زيادة الطول على العرض ، ولما دل على انه ثلاثة ونصف ، فيوافق حينئذ مذهب المشهور. وربما احتمل تنزيلها على ما يوافق الثلاثة بالتقرير المتقدم سابقا في رواية أبي بصير من حمل قوله ذراع وشبر سعته على تقدير القطر لكون الكر مدورا لا يعرف عرضه من طوله ، فإذا أردنا معرفة ذلك ضربنا نصف القطر وهو شبر ونصف في نصف الدائرة وهو أربعة ونصف لكون القطر ثلثها كما هو مقرر في محله يحصل منه ستة وثلاثة أرباع ، فتضرب في أربعة العمق ، فيحصل سبعة وعشرون. وأنت خبير ببعد مثل ذلك في الأخبار لتوقفه على المهارة في فنه المعلوم خلو مثل إسماعيل بن جابر عنه ، وإلا لذكر في ترجمته. والأولى حملها على ما تقدم أو طرحها.

ومستند ( الخامس ) اي مذهب الراوندي دليل المشهور من رواية أبي بصير ونحوها إلا أنه فهم منها ان ( في ) ليست للضرب بل بمعنى مع ، فتبلغ عشرة ونصفا ، وهو قد يكون كالمشهور كما إذا كان كل من أبعاده الثلاثة ثلاثة ونصفا وقد يقرب منه كما لو فرض طوله ثلاثة أشبار وعرضه ثلاثة وعمقه أربعة ونصف فان مساحته حينئذ أربعون شبرا ونصف ، وقد يكون بعيدا عنه جدا كما لو فرض طوله ستة وعرضه أربعة وعمقه نصف شبر فان مساحته اثنى عشر شبرا ، وأبعد منه ما لو فرض طوله تسعة أشبار وعرضه شبر واحد وعمقه نصف شبر. فعلى كلامه يكون مثل ذلك كرا وتبلغ مساحته على تقدير الضرب أربعة أشبار ونصف ، ولمكان هذا الاختلاف بينه وبين المشهور يحتمل تنزيل كلامه على ما بلغ عشرة ونصفا مع تساوي الأبعاد الثلاثة في المقدار وهو عين مذهب المشهور ، وان أبيت فهو فاسد لظهور الأخبار في إرادة الضرب ، بل الإجماع المركب على أنه يلزمه عليه اختلاف مقدار الكر ، فتارة ما يملأ قربة أو جرة وأخرى ما يملأ حبا ورواية وأكثر ، وهو من المستبعد جدا.

ومستند ( السادس ) وهو العمل بكل ما روي لاختلاف الأخبار قيل ومرجعه‌

١٧٩

الى مختار القميين ، وحمل الزائد على الندب. وقد يقال أن الكر عنده اسم لما بلغ سبعة وعشرين إلى الستة وثلاثين ومنها إلى رواية المشهور ، ومتى ما حصل نقصان في الأربعين مثلا رجع الى الفرد الآخر فيكون عنده أكرار لا كر واحد حتى يحمل الزائد. على الندب أخذا بظاهر ما دل على أن الكر سبعة وعشرين وستة وثلاثين وثلاثة وأربعين ، فيكون الكر عبارة عن الثلاثة ، ومثله يجري في السابق أي كلام الراوندي ، إلا أنه من قبيل المشترك المعنوي وما نحن فيه من قبيل المشترك اللفظي بين الثلاثة ، وإن كان بالنسبة إلى أفرادها بحسب الزيادة والنقصان أيضا مشترك معنوي. وكيف كان ففساده لا يحتاج الى بيان لظهور اتحاد معنى الكر ، وأي فائدة في بيان الفرد العالي مع حصوله بالفرد الأدنى ، سيما في بيان المقدار الذي تدور الطهارة والنجاسة على وجوده وعدمه ، مع انه ان أراد ان هذه المعاني وضع لها شرعا ففيه مع أن أصالة عدم التعدد تقضي بعدمه أن الكر ليس له في الشرع بحسب الظاهر حقيقة شرعية ، ولذا ما ذكر يوما في لسان المتشرعة ان الكر لغة كذا وشرعا كذا ، مع أن طريقتنا لضبط الحقيقة الشرعية إنما هو المتشرعية ، وإن أراد لغة فهو معلوم العدم وإن أراد المجاز فهو مع بعده بل منعه لا يتصور فيه هذا الابتداء والانتهاء.

وأما على الوجه الأول من إرادة الندب ففيه ـ مع بعد استفادة الندب من مثلها مما ذكر في بيان التقدير ، بل امتناعه إذ لا إشعار فيها باستحباب ذلك للمستعمل ولا يتصور غيره ـ انه ليس عملا بكل ما روي بل هو إخراج لها عن ظاهرها ، هذا مع انه يمكن ادعاء الإجماع على خلافه ، وهذا القول كاحتمال حمل الأخبار على الكر الترتيبي فأقصاه مثلا تقدير المشهور ثم من بعده الصحيحة المذكورة ثم من بعده كر القميين بمعنى أنه مع وجود الفرد العالي لا يجوز استعمال الأدنى منه وهكذا ، لاستلزامه إما المنع من استعمال الأدنى مع كونه كرا أو انه ليس كرا وبعد انعدام الأعلى يكون كرا. واحتمال إرادة الترتيب بالمعنى الذي ذكرنا في كلام ابن طاوس قد عرفت ما فيه. ومثلهما احتمال القول ان هذا‌

١٨٠