جواهر الكلام - ج ١

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من الحب في مكان قذر ثم يدخله الحب ، قال : يصب من الماء ثلاث أكف ثم يدلك الكوز ». ومنها خبر الأحول (١) قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن الرجل يستنجى فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به ، فقال : لا بأس به. فسكت ، فقال : أتدري لم صار لا بأس به؟ قلت : لا والله جعلت فداك ، فقال لي : ان الماء أكثر من القذر ». ومنها ما عن كتاب قرب الاسناد والمسائل (٢) عن علي بن جعفر عليه‌السلام قال : « وسألته عن جنب أصابت يده من جنابة فمسحه بخرقة ثم أدخل يده في غسله قبل أن يغسلها هل يجزيه ان يغتسل من ذلك الماء؟ قال : ان وجد ماء غيره فلا يجزيه ان يغتسل وان لم يجد غيره أجزأه ». ومنها ما عن دعائم الإسلام (٣) عنه عليه‌السلام قال : « إذا مر الجنب في الماء وفيه الجيفة أو الميتة فإن كان قد تغير لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه ولا يتوضأ ولا يتطهر ». ومنها ما في المختلف مرسلا (٤) عن الباقر عليه‌السلام « انه سئل عن القربة والجرة من الماء يسقط فيها فارة وجرذ أو غيره فيموتون فيها ، فقال : إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه ، وان لم يغلب عليه فاشرب منه وتوضأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ». ومنها ما في الكتاب المذكور أيضا مرسلا (٥) عن الصادق عليه‌السلام « انه سئل عن النقيع والغدير وأشباههما فيه الجيف والقذر وولوغ الكلب وتشرب منه الدواب وتبول يتوضأ منه؟ فقال لسائله : ان كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضأ وان كان الماء غالبا على النجاسة فيتوضأ منه ويغتسل ». ومنها ما في الكتاب المذكور أيضا (٦)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف ـ حديث ٢.

(٢) البحار ـ المجلد ١٨ ـ باب نجاسة البول والمنى ـ حديث ١.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٣.

(٤) المختلف ـ صحيفة ٣.

(٥) المختلف ـ صحيفة ٢.

(٦) المستدرك ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨ وفي المختلف ص ٣.

١٢١

قال : « ذكر بعض علماء الشيعة انه كان بالمدينة رجل يدخل على أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف وكان يأمر الغلام بحمل كوز من ماء يغسل رجله ان أصابه ، فأبصره يوما أبو جعفر فقال : ان هذا لا يصيب شيئا إلا طهره فلا تعد منه غسلا ».

وأضيف الى ذلك وجوه ثلاثة ( الأول ) الحديث المشهور المروي بعدة طرق من الطرفين كما قيل (١) : « خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي‌ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه » ‌وما رواه السكوني (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الماء يطهر ولا يطهر » ‌ووجه الاستدلال بالأخير انه ان غلب على النجاسة حتى استهلكت فيه طهرها ولم ينجس حتى يحتاج الى التطهير ، وان غلب عليه النجاسة حتى استهلك فيها صار في حكم النجاسة ولم يقبل التطهير إلا باستهلاكه في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء ( الثاني ) انه لو كان ينجس بملاقاة النجاسة لما أجاز إزالة الخبث بشي‌ء منه بوجه وذلك لان كل جزء من أجزاء الماء الواردة على المحل النجس ينجس بملاقاة المتنجس فيخرج عن الطهورية في أول آنات اللقاء ، والفرق بين وروده على النجاسة وورودها مع انه مخالف المنصوص لا يجدى إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي ولا يعصمه القدر المستعلي لكونه أدون من الكر ، والقول بالطهارة عند الملاقاة والنجاسة بعد الانفصال في غاية البعد فإنه لا معنى للطهارة عند الملاقاة للمتنجس والنجاسة بعد الانفصال عنه ( الثالث ) ان اشتراط الكر مثار الوسواس ولأجله شق الأمر على الناس ، وكيف يصنعون أهل مكة والمدينة إذ لا يكثر فيها المياه الجارية ولا الراكد الكثير ، ومن أول عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى آخر عصر الصحابة لم تنقل واقعة في الطهارات ولا سؤال عن كيفية حفظ المياه من النجاسات ، وكانت أواني شربهم مثلا يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يتحرزون عن النجاسات بل الكفار.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦.

١٢٢

وربما أيد بالأخبار (١) المصرحة بطهارة ماء الاستنجاء وباختلاف الروايات الواردة في تقدير الكر فيحمل على التخمين والمقايسة بين قدر الماء والنجاسة ، إذ لو كان أمرا مضبوطا وحدا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة ولا وزنا وقد وقع الاختلاف فيهما حسا ، والوجوب لا يقبل الدرجات بخلاف الاستحباب كما اعترف جماعة به في باب البئر ، لمكان الاختلاف ، وأيضا أخبار الطهارة أقوى لكونها منطوقا ونصا وتلك مفهوما وظاهرا ، والمفهوم لا يعارض المنطوق والظاهر لا يعارض النص. وأيضا لو عمل باخبار الطهارة أمكن حمل الأمر في أخبار النجاسة على الاستحباب والنهي على الكراهة ولا كذلك العكس. وأيضا قد عرفت ان أخبار الكر من جهة اختلافها قابلة للحمل على إرادة المقدار المعتاد التغير وعدمه. وأيضا قد تحمل بعض الأخبار على النهي عن خصوص الوضوء أو الغسل لما يفهم ان ماء الوضوء مثلا ليس كباقي المياه.

و ( الجواب ) أما عن الأصول فهي ـ مع كون أصل البراءة ونحوه منها لا يفيد تمام المطلوب لعدم جريانه في مثل الوضوء به والاغتسال على وجه ونحو ذلك ، لمعارضته بأصالة شغل الذمة ، ومع كون استصحاب طهارة الملاقي للماء القليل الملاقي للنجاسة لا يفيد طهارة بالنسبة للماء ، والتتميم بعدم القول بالفصل ، مع كونه لا معنى له لكونه ليس قولا بالطهارة في بعض دون بعض بل إنما ساغ الشرب مثلا ولبس الثوب الملاقي في الصلاة لعدم العلم بالنجاسة لا للعلم بالطهارة ، خروج عن الاستدلال بالأصول. فلم يبق إلا استصحاب طهارة الماء نفسه على القول بجريانه في قدح العارض ، وأصالة الطهارة فإنه لا يعارضه شغل الذمة ويقتضي طهارة الماء ـ لا تعارض ما سمعت من الإجماعات والأخبار الكثيرة التي كادت تكون متواترة ، بل هي متواترة ، وما يستفاد من القاعدة في نجاسة كل ما تلاقيه هذه النجاسات مع الرطوبة.

وأما الآيات فهي ـ مع إمكان منع كون كل الماء منزلا من السماء ، وما ذكر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦٠ ـ من أبواب النجاسات. والباب ـ ١٣ ـ من أبواب الماء المضاف.

١٢٣

من الآية وتفسيرها معارض بغيره ، مع ان احتمال ذلك لا يقتضي حمل اللفظ عليه وان كان متبادرا في غيره كماء المطر ، ولعل التعليل بقوله تعالى ( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً ) (١) يقضي به ، كما نقل عن البيضاوي ، ويؤيده انه ورد في سبب نزول الثانية (٢) أن المسلمين نزلوا في غزوة بدر في كثيب وقد غلب المشركون على الماء واتفق انه احتلم في تلك الليلة كثير من المسلمين وقد وقع بسبب ذلك وسواس في قلوب بعضهم فانزل الله مطرا في تلك الليلة حتى جرى الوادي وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى يثبت الاقدام وذلك قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ) (٣) ـ لا تقضي إلا بثبوت هذه الصفة للماء المنزل من السماء إما في الجملة أو حين الانزال ، كما هو الظاهر من قولك ضربت رجلا راكبا ، فإنه ظاهر في ان الركوب حال الضرب لا حال الاخبار. والتمسك على دوامه بثبوته رجوع للتمسك بالاستصحاب وقد عرفت ما فيه. وقوله تعالى « ( فَلَمْ تَجِدُوا ). » الى آخره (٤) مع كون الظاهر من إطلاقها انه غير مساق لشمول مثل هذا ، لا ريب في ان المراد منها كما بين في محله من لم يقدروا على استعمال الماء عقلا أو شرعا ، ودخول ما نحن فيه تحت القدرة محل الكلام فهي لا تفيد ما نحن فيه ، على انه قد عرفت بالأدلة المتقدمة ان واجد الماء القليل غير واجد للماء فيكون كواجد المغصوب والمتغير ونحو ذلك. والرجوع الى الأصل ونحو ذلك خروج عن الاستدلال.

وأما الأخبار فإنها فاقدة لما تحتاج اليه من الجابر لقصور سند كثير منها أو دلالته ، وربما جمع بعضها الأمرين ، بل الوهن متطرق إليها بما عرفت من إعراض الأصحاب‌

__________________

(١) سورة الفرقان آية ـ ٥١.

(٢) تفسير الصافي ـ سورة الأنفال آية ـ ١١.

(٣) سورة الأنفال آية ـ ١١.

(٤) سورة النساء آية ـ ٤٦ ـ وسورة المائدة آية ٩.

١٢٤

عنها ونقل الإجماعات على خلافها. مع ان كثيرا منها مع ظهوره في الماء الكثير انما دلالته بترك الاستفصال الذي لا تعارض ما ذكرنا من الأدلة. مع ان الأول (١) في مجهول الموضوع لا مجهول الحكم ، وما يقال من رجوع الأول الى الثاني فلا يبقى موضوع للخبر تكلف وتعسف غير مجد بعد ظهور المقصود وامتياز كل من القسمين عن الآخر بجهل الحكم في الثاني ابتداء وأصلا بخلاف الأول. ولا يكاد يخفى الفرق بين وقوع الشك في طهارة نطفة الغنم مثلا وبين الشك في عروض النجاسة لمعلوم الطهارة. وما يقال ان المنجس هنا عارض قطعا إلا ان الشك وقع في تنجيسه مما لا ينبغي ان يصغى إليه لأن ثبوت تنجيسه في الجملة غير مجد انما الكلام في تنجيسه في المقام وهو شك في الحكم عند الشارع. والحاصل فرق بين وقوع الشك في حصول التنجيس عند الشارع بسبب المباشرة لبعض الأشياء وبين وقوع الشك في عروض ما يعلم ثبوت التنجيس بعد العلم بمباشرته ، والدليل إنما هو ظاهر في الثاني وعدم الالتفات الى الشك دون الأول. وعلى تقدير التسليم فنقول ان العلم حاصل في المقام قطعا لما سمعت من الأخبار المتواترة مع القاعدة المتقدمة في النجاسات مع الإجماعات المنقولة ، بل يحصل من ملاحظتها الإجماع المحصل. وعلى تقدير التسليم فنقول إنه يكفى حصول الظن للمجتهد من الأدلة ويقوم مقام العلم كالظن المستند الى الدليل الشرعي في الموضوعات من البينة ونحوها ، فما دل على كبرى الشكل في ظن المجتهد شامل لمثل المقام. لا يقال ان بينهما تعارض العموم من وجه ، لأنا نقول لا يخفى على الممارس المتتبع الخبير الماهر القطع بعموم حجية ظن المجتهد في سائر الأحكام من غير استثناء للمقام وغيره ، وكيف وسائر أحكام الطهارة والنجاسة في غير المقام مبنية على ظنه في أصل ثبوت النجاسة والتنجيس ولم يسمع من أحد المناقشة في ذلك بل لو ادعاه مدع لأنكر عليه غاية الإنكار ، والفقه من أوله الى آخره مبني على ذلك. نعم ربما وقع من بعضهم المناقشة في المقام الأول أي عروض‌

__________________

(١) وهو قوله عليه‌السلام‌ « الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر ».

١٢٥

النجاسة لمعلوم الطهارة في الاكتفاء بخبر العدل ونحوه مع ان الظاهر عدمه ، وأما في المقام الثاني فلم يعثر على مناقش فيه فإنه لا يكاد يسمع ممن يعمل باخبار الآحاد انه لو جاء خبر صحيح السند في نجاسة موضوع الحكم بعدم النجاسة لكونه لا يفيد اليقين ، ان ذلك من المكابرات التي لا يصغى إليها ، وكيف والاستدلال بهذه الرواية على عدم الاكتفاء بالظن مبني على حجية ظن المجتهد الحاصل من الأخبار فيتحقق التعارض والترجيح لما ذكرنا لاستفادته من الأدلة الكثيرة.

وأما الرواية التي ادعى ابن أبي عقيل تواترها فهي ـ مع انا لم نقف عليها بعد التتبع التام في شي‌ء من كتب الأخبار ، وكيف يقبل منه هذا النقل مع تبين خلافه بما سمعت من الأخبار الكثيرة الصحيحة ، بل ربما نقل عن بعضهم انه عثر على ثلاثمائة خبر تقريبا يدل على النجاسة ، مع ما عرفت من اشتهار العمل بين قدماء الصحابة القريبين الى عهد الأئمة عليهم‌السلام ومتأخريهم ، وابن إدريس نقل عن المؤالف والمخالف رواية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا كان الماء قدر كر لم يحمل خبثا » (١) عند الكلام على طهارة الماء النجس بإتمامه كرا ، وما سمعت من الإجماعات المنقولة الى غير ذلك من الأدلة والشواهد ـ هي قابلة للتخصيص لظهور إرادة التواتر اللفظي ، وإلا فقد عرفت ما فيه ، فان نقل التواتر لا يزيد على نقل الإجماع ، وهو مع ما عرفت لا ينبغي ان يصغى اليه. ووجود هذه الرواية مرسلة في بعض الكتب لا يقضي بما ادعاه كنقل بعض العامة لما يقرب منها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) كما قيل. نعم في السرائر جعل من المتفق‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٦. واختلف نقل المؤلف لمتن الرواية هنا وفي ما يأتي فهنا‌« إذا كان الماء قدر كر » ‌وفي ما يأتي مرة‌ « إذا بلغ كرا » وهو النص الموجود في السرائر والمستدرك واخرى‌ « إذا بلغ الماء قدر كر » وثالثة‌ « متى بلغ الماء قدر كر » (٢) وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة ٥١٩ الكر بالضم مكيال لا هل العراق ومنه حديث ابن سيرين‌ « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا ».

١٢٦

على روايته قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي‌ء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته » (١) وفيه مع إمكان المنع انه مخصص بما عرفت من نقله الأول وادعائه إجماع المخالف والمؤالف على رواية « إذا كان الماء قدر كر لم يحمل خبثا »

‌وأما مصححة ابن حمران فهي لم تدل على أزيد من تشبيه التراب بالماء في الطهورية ، وهو لا يقتضي عدم قبول الماء الانفعال. والحاصل ان كثيرا من هذه الروايات مع الغض عما في أسانيدها لا دلالة فيها إلا من جهة الإطلاق أو ترك الاستفصال وهو لا يعارض ما ذكرنا ، بل كثير منها ظاهر في كون الماء كثيرا مثل الأخبار الواردة في الغدران والماء النقيع والحياض ونحو ذلك. كما يقتضيه شرب الدواب وأبوالها ، وعدم تغيرها بالميتة والجيف ، والأمر بالوضوء من الجانب الآخر ، ونحو ذلك. وأما ما دل منها بالخصوص كرواية المركن فهي لا تفيد أزيد من عدم اشتراط ورود الماء في غسل النجاسة به فيطهر المحل ويتنجس الماء ، مع ان الأمر بغسله مرتين لا يقضي بوحدة الماء وعدم غسل الإناء. بل قد يدعى ان المراد وضع الثوب في المركن ثم يصب الماء عليه ويغسل مرتين. ولعلهم يقولون بصيرورة الثوب والإناء شيئا واحدا فلا يتنجس الثوب به من ماء الغسالة الأولى وستسمع الكلام فيه ان شاء الله في باب الغسالة.

وأما صحيحة زرارة المشتملة على حبل الخنزير فهي مع ابتنائها على نجاسة ما لا تحله الحياة من نجس العين لا دلالة فيها على مباشرة الحبل لما يخرج من البئر مع كونه قليلا.

وأما صحيحة علي بن جعفر عليه‌السلام المشتملة على إدخال اليهودي والنصراني في الماء فهي ـ مع ابتنائها على نجاسة أهل الكتاب وكون الماء قليلا ـ صالحة للرد كما أنها صالحة للاستدلال لاشتمالها على النهي حالة الاختيار والرخصة حالة الاضطرار ، وكما انه لا قائل بالفصل في الثاني فكذلك في الأول ، مع احتمالها لحمل الضرورة على التقية وهو الأقوى في ظني.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٩.

١٢٧

وأما صحيحه الآخر المشتمل على الرعاف فهو ـ مع ابتنائه على ( عدم ) (١) نجاسة الماء بما لا يدركه الطرف من الدم ومعارضته بخصوص ذلك في خبر علي بن جعفر المتقدم في أدلة النجاسة ـ مشتمل على التفصيل بالاستبانة وعدمها. وهي كما انها حجة له حجة عليه وحمل الاستبانة على التغير فهو مع بعد حصول تغير الإناء بالقطع الصغار من الدم بعد الامتخاط ، ليس بأولى من حمل الاستبانة وعدمها على العلم بالإصابة وعدمها ، بل قد يدعى ظهوره. وإصابة الإناء مع احتمال ارادة ظن إصابته لا يقتضي إصابة الماء.

وأما حسنة محمد بن ميسر فقد قيل انها نص في المطلوب ، فمع الغض عما في السند وإرادة النجس شرعا من لفظ القذر وموافقتها للعامة وربما يرشد إليه الأمر بالوضوء ، لم يعلم انه أراد بالقليل ما دون الكر. وظهور ذلك في لسان الفقهاء لا يقتضي ظهوره في ذلك الزمن ، بل الظاهر عدمه ، بل في هذا الزمان ، والإطلاق انما هو في ألسنة الخواص ، مع ظهور الرواية ان ذلك لمكان الضرورة فيجري فيها ما ذكرنا. وكيف كان فدعوى النصوصية لا وجه لها.

وأما خبر زرارة الدال على سقوط الفأرة في الرواية ، فمع كونها في غاية الضعف كما قيل وكون الرواية أقل من كر ، قد اشتملت على ما لا يقول به الخصم من التفصيل بالتفسخ وعدمه. وحمله على التغير لا وجه له لانفكاكه عنه. مع انه ان لم تغيره قبل التفسخ من الانتفاخ ونحوه لم تغيره بالتفسخ. مع ان ظهورها في عدم جريان الحكم في غير أوعية الماء قاض بعدم حمل التفسخ على التغير وإلا لتساوى الجميع ، والامام لا يناسب حاله بيان المقدار الذي يتغير والذي لا يتغير فإنه أمر حسي غير محتاج الى البيان. وكيف كان فهي ضعيفة السند متروكة الظاهر.

وأما روايته الأخرى المشتملة على كون جلد الخنزير دلوا فهي مع الغض عما في سندها لا دلالة فيها على استعمال ما يخرج به ، والاستقاء به لا يقضي بذلك بل الظاهر‌

__________________

(١) كلمة ( عدم ) أضيف في نسخة الأصل تصحيحا ولعل الأولى حذفها.

١٢٨

منها السؤال عن جواز ذلك في جلد الخنزير لتخيل حرمة استعماله.

وأما خبر أبي مريم فمع الغض عما في السند أيضا لا ظهور فيه في كونها عذرة الإنسان ، وفي بعض أخبار البئر (١) إطلاقها على البعرة ، مع عدم نصوصية الرواية في كونها في الماء.

وأما خبر عمر بن يزيد فمع الطعن في السند غير صريح في وقوع ذلك في الماء مع أن كون الموضوع يبال فيه لا يقتضي القطع بكون ما ينزو من الأرض واقعا على مكان البول والعبارة تقال في مثل هذا المقام.

وأما خبر الأحول فمع الطعن في السند قد يحمل التعليل على مدخلية الاستنجاء في التعليل ، ولعله يستفاد منه طهارة الغسالة.

وأما خبر قرب الاسناد فمع الطعن في السند أيضا وعدم صراحته في نجاسة اليد ولا كون الغسل أقل من كر قد اشتملت على تفصيل لا يقوله الخصم ، وعدم القائل بالفصل مشترك فيهما.

وأما رواية المختلف المشتملة على سقوط الفأرة في القربة فالظاهر انها مختصرة من رواية زرارة المتقدمة وقد تقدم الكلام فيها.

والحاصل هذه الأخبار لو كانت صحيحة صريحة في المطلوب لما صلحت للمعارضة لما ذكرنا لكثرتها وإعراض الأصحاب عما يخالفها والإجماعات على مضمونها ، فكيف وهي كما عرفت من الضعف في سندها والقصور في دلالة الكثير منها ، مع موافقتها لكثير من العامة كما نقل ذلك عنهم.

وأما الوجوه الثلاثة ففي ( الأول ) ما عرفت من منع الاستفاضة من طرقنا ، كما قدمنا ذلك عند الخبر الذي ادعى ابن أبي عقيل تواتره ، نعم في السرائر قد ادعى انه من المتفق على روايته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وفيه مع إمكان المنع وانه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٢١.

١٢٩

قد ادعى أيضا إجماع المخالف والمؤالف على رواية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا » ‌محكوم عليه بما ذكرنا من الأدلة. ورواية السكوني مع الطعن في السند هي مؤلة فيما ذكر ( مضافا الى ما ذكر في السؤال ) (١) وليس حجة ، مع عدم انحصار التأويل فيما ادعاه ، مع أنها مشتركة الإلزام في المتغير إذا زال تغيره ، مع انها قد يقال لا تتأتى على القول باشتراط الامتزاج ، وأيضا لما قام الإجماع على قابلية الماء للتطهير وجب حمل الرواية على ما لا ينافي ذلك ، فيحتمل أن يراد منها أن الماء يطهر غير ولا يطهره غيره ، أو يكون المقصود منها أن لا يطهر كتطهير باقي الأجسام بل لا يكون إلا بصيرورته مع الغير ماء واحدا.

وأما ( الوجه الثاني ) فهو مع التسليم لا يقضي إلا بطهارة الغسالة خاصة كما هو المختار ، مع انه يمكنهم الالتزام بنجاسته وحصول التطهير به. والإجماع على عدم جواز التطهير بالنجس المعلوم منه ما سبقت نجاسته ولتحقيقه مقام آخر.

وأما ( الثالث ) فجميع ما فيه من الترويجات التي لا يرتكبها متحرج في دين الله واين إثارة الوسواس والعسر والحرج والناس مستقيمة على ذلك في سائر هذه الأزمنة ولم ينقل القول إلا عن ابن أبي عقيل الى أن ظهر الكاشاني. وكيف يجعل اختلاف روايات الكر دليلا على ذلك مع أن جل أخبارنا لا تخلو من مثل هذا الاختلاف ، إنما ذاك حيث يكون اختلافا يظهر للناظر فيه ذلك. وما ذكره من الجمع بين الأخبار مما لا يلتفت اليه ، ومنصبية الإمامة أجل من أن يكون جميع هذا الوارد منها محمولا على بيان ما ليس محتاجا إليه في بيانها لكونها من الأمور الحسية. ولا أظنك تحتاج الى بيان فساد ما جمع به بين الأخبار فإنه مع عدم تأتيه في بعضها كاد أن يكون خارقا للإجماع من التفصيل بين الاختيار والاضطرار واستحباب التنزه ونحو ذلك. وكأن هذه المسألة من البديهيات التي لا ينبغي إطالة الكلام فيها لكن تبعنا في ذلك أثر جملة‌

__________________

(١) الظاهر ان العبارة بين القوسين مقحمة ولم يظهر لها معنى.

١٣٠

من علمائنا الأبرار فإنهم قد أطالوا في ذلك سيما جناب سيدنا وأستاد أساتيدنا السيد المهدي والمهدي ، فإنه قد كتب في ذلك رسالة ، ولعمري انها قد تجاوزت الغاية والنهاية ، وكأن الذي دعاهم الى ذلك خلاف الكاشاني وتمزيقه جملة من الأخبار الدالة على المقام فكان الباعث على جمعها من سائر الأبواب.

ثم ليعلم ان قاعدة نجاسة القليل قد استثنى الأصحاب منها أمورا بعضها محل وفاق كماء الاستنجاء وماء المطر بشروط ، وبعضها محل كلام كماء الحمام وماء الغسالة وسمعت الكلام في الأول وتسمع الكلام في الثاني ان شاء الله. وأنت خبير ان هذه الشبهة المقررة في غسل الأخباث قد ألجأت الكاشاني للقول بطهارة القليل جميعه ، والمرتضى وابن إدريس بطهارة الوارد على النجاسة ، وغيرهما غير ذلك. قال المرتضى في الناصريات على ما نقل عنه بعد قول الناصر ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه ما حاصله « اني لم أعرف لأصحابنا نصا في ذلك ولا قولا والذي يقوى في نفسي قبل أن يقع التأمل لذلك صحة ما ذهب إليه الشافعي من الفرق بين الورودين ، والوجه فيه انا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد على النجاسة لأدى ذلك الى أن الثوب لا يطهر من النجاسة إلا بإيراد كر من الماء عليه وذلك يشق ، فدل على أن الماء الوارد على النجاسة لا يعتبر فيه القلة ولا الكثرة كما تعتبر فيما ترد النجاسة عليه » انتهى ، وفي السرائر قال محمد بن إدريس : « ما قوي في نفس السيد صحيح مستمر على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب به » انتهى. وربما يؤيد ما ذهب اليه المرتضى رحمه‌الله بان أخبار القليل عدا المفهوم منها ظاهرة في غير الوارد على النجاسة ، وأما المفهوم ففيه أولا منع العموم ، وثانيا ما عرفت من انه لا يقتضي سوى أن ما دون الكر ينجسه شي‌ء ويكفي في مصداقه ما علمنا ثبوته مما كانت النجاسة واردة عليه. ويمكن أن يؤيد أيضا بخبر عمر بن يزيد المتقدم في المغتسل في مكان يبال فيه ثم ينزو من الأرض على الإناء.

قلت : ومع ذلك فالذي يقوى في نفسي بطلانه ، لان الظاهر ان الذي دعى‌

١٣١

السيد لتخصيص ما هو معلوم من نجاسة القليل حتى نقل عنه انه في الكتاب المذكور نقل الإجماع عليه ، إنما هو ما ذكره من عدم طهارة الثوب الى آخره وأنت خبير انه أخص من الدعوى ، بل اللازم منه حينئذ طهارة ما يستعمل في غسل الأخباث خاصة ، مع إمكان التخلص منه بغير ذلك كما وقع من بعضهم وتسمعه ان شاء الله في الغسالة.

وأما القول بعدم شمول أخبار القليل مضافا الى خبر عمر بن يزيد المتقدم ، فنقول قد عرفت الكلام في خصوص هذا الخبر ، كما انك عرفت أيضا انه يستفاد من ملاحظتها ثبوت قاعدة شاملة للمقام ، كما انه أيضا تستفاد قاعدة أخرى من ملاحظة أخبار النجاسات انها تنجس كل ما تلاقيه ، نعم غاية ما خرج المعصوم والعالي غير الملاقي فيبقى الباقي ، وأيضا بعض إطلاقات الروايات قد يقال بشمولها لمثل المقام فتأمل.

وأما المفهوم فقد بينا ان التحقيق العموم فيه وهو لا ينافي ما ذكرناه سابقا من المناقشة لأنها من وجه آخر ، وكلام المرتضى لا يكون إلا على عدم العموم ، لانه صار ما دون الكر على قسمين منه ما ينجسه كل شي‌ء والآخر لا ينجسه شي‌ء ، وأما ما ذكرناه من المناقشة سابقا فهي لا تفيده ، وذلك لأنا نقول ان ما دون الكر بجميعه ينجسه شي‌ء من غير فرق بين الوارد وغيره وهو متحقق في ملاقاة النجاسات والمتنجس عند عدم تحقق الغسل ، نعم هو لا ينجس مثلا بالمتنجس الذي يفيده طهارة ولا أمنع ان ذلك عند التأمل يرجع الى عدم عموم المفهوم أيضا فتأمل ، على انا قد قلنا بطهارة الغسالة لتعارض القاعدتين وعدم شمول مثل هذه العموم الذي يجي‌ء من جهة الحكمة لمثل الغسالة ونحوها كما تسمعه ان شاء الله ، فلا ينافينا إبطال كلام المرتضى بهما هنا ، مع ان التأمل في الأدلة يشرف الفقيه على القطع انه لا خصوصية لما في السؤال من ورود النجاسة بل قد يدعى عمومية الجواب وخصوص السؤال لا يخصصه ، على انه لو سلمنا كون المفهوم نجاسة شي‌ء لما دون الكر فالأخبار الأخر تثبت ذلك الشي‌ء وتثبت النجاسة له على كل حال فتأمل.

١٣٢

والحاصل كيف كان يرده بعد ما عرفت من أخصية الدليل من الدعوى القاعدتان ، مع إطلاق بعض الإجماعات ، وإطلاق بعض الأخبار مع المفهوم ، وما ذكرناه له من خبر عمر بن يزيد قد عرفت الكلام فيه عند الكلام على القول بالطهارة مطلقا. ثم اني لم أعلم ماذا يريد بالوارد؟ فان كان يريد به مجرد وقوعه مستعليا وان اتحد مع النجاسة واستقر معها في ثان الأزمان ، كما لو فرضنا ان هناك عذرة مثلا ثم وقع عليها ماء قليل من عال حتى صارت مستقرة في وسطه ، أو بريد بالوارد انما هو مع عدم الاستقرار مع النجاسة في ثان الازمان. فان كان الأول فبطلانه واضح ، بل قد يدعى صراحة بعض الأخبار المتقدمة فيه كترك الاستفصال في آخر ، نحو قوله عليه‌السلام « لا يفسد الماء إلا ما له نفس سائلة » (١) ونحوه من الفارة ونحوها (٢) ، إذ لا يلزم ان يكون الماء سابقا عليها بل قد تكن سابقه عليه ، وأيضا فالمتجه بناء عليه لو رأينا ميتة في ماء في إناء لكنا لم نعلم بسبق أيهما الحكم بالطهارة وهو واضح الفساد. وان أراد الثاني فهو ليس كالأول في الفساد وإن كان فاسدا في نفسه أيضا ولعل كلامه في طهارة الثوب يقضي بالأول فإن الماء يستقر معه ثم ينفصل سيما إذا غسل في إجانة ونحوها بان صب الماء عليه ، ومثله غسل الأواني ونحوها. ويحتمل وان بعد أن يكون مراد المرتضى بعدم نجاسة الوارد انما هو عدم نجاسة العالي بالسافل حتى يكون لما ذكره ابن إدريس من أن فتاوى الأصحاب به وجه صحة فيرتفع الخلاف في البين ، ومثله إجماع كاشف اللثام في المطهرات في الفرع الرابع الذي ذكره العلامة وهو « ينبغي في الغسل ورود الماء على النجس فلو عكس نجس الماء » قال في كاشف اللثام في شرح قوله ينبغي الى آخره : « كما في الناصريات والسرائر ليقوي على إزالة النجاسة ويقهرها » الى أن قال : « وانما لا ينفعل مع الورود للحرج والإجماع » انتهى فإنه ان لم يحمل على إرادة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب النجاسات ـ حديث ٢ و ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق ـ حديث ٨.

١٣٣

عدم انفعال الماء الذي ورد بعضه الذي بسببه يصدق على مجموع الماء انه وارد فيرجع الى عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى كان حجة لنا على عدم نجاسة الغسالة فتأمل

( ويطهر ) الماء القليل المتنجس متغيرا أو لا بإلقاء كر فصاعدا إذا زال تغيره بذلك دفعة عرفية لا تدريجا ولا دفعات. وهنا مقدمات لعل لها دخلا في البحث :

( الأولى ) كل ما شك في قابليته للطهارة فالأصل فيه عدم القابلية ، وإطلاق ما دل على طهورية الماء وانه أنزل للتطهير بعد القول بشمولها لرفع الخبث لا يقتضه لاستصحاب النجاسة ، ولأن كيفية التطهير مما يرجع فيها الى الشرع والفرض انها مفقودة ، ولان هذه الإطلاقات انما هي شاملة لأفراد المطهر ، لا المطهر ، ويكفي في صدق الطاهرية والمطهرية وجودها في بعض أفراد المطهر بالفتح ، اللهم إلا ان يستند في ذلك للحكمة سيما في مثل قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (١) من حيث وروده في معرض الامتنان.

( الثانية ) كل ما شك في اعتباره في كيفية التطهير فالظاهر اعتباره لاستصحاب النجاسة ، والإطلاقات المتقدمة لا يحصل منها كيفية التطهير ، فتبقى على القاعدة. والفرق بين هذه والسابقة ان هذه في المقطوع في قابليته للطهارة كالماء لكن وقع الشك في كيفية التطهير من اعتبار الامتزاج مثلا واستعلاء المطهر ونحو ذلك بخلاف تلك.

( الثالثة ) قد يظهر في بادئ النظر ان السراية على وفق الأصل أي القاعدة المستفادة من الأدلة ، وذلك بعد قيام الإجماع ان المتنجس ينجس ، فمثل الماء المضاف المستطيل إذا وقعت فيه نجاسة في طرف منه ينجس الطرف الآخر منه في آن وقوع النجاسة ، وذلك لا لسريان عين النجاسة لمكان كونه رقيق الأجزاء فتنفذ فيه النجاسة ، للقطع بعدمها ، بل انما ينجس لكون الجزء الأول ينجس فينجس الجزء الآخر وهو ينجس الآخر وهكذا ، ولا يحتاج في ذلك الى زمان لحصول علة النجاسة متقدمة على ما يحصل‌

__________________

(١) سورة الفرقان آية ـ ٥٠.

١٣٤

به ذلك وهو الاتصال ، ففي الآن الواحد الحكمي يصدق عليه كل واحد من أجزائه لاقى متنجسا. ولا نريد بالعلة ، العلة التامة بل المقصود ان العلة في النجاسة إنما هي ملاقاة المتنجس فهو غير موقوف إلا على حصول ملاقاة عين النجاسة ولو لجزء منه لأنه في ذلك الحين كل واحد من اجزائه لاقى متنجسا ، ومثل ذلك يقرر في الطهارة بعد حصولها لجزء منه. لا يقال ان ذلك بعينه وارد في الجامد كالدهن مثلا إذا لاقى نجاسة فإن كل جزء منه لاقى متنجسا ، لأنا نقول انه لم يقم إجماع على ان ملاقاة المتنجس تنجس في الجامد بل الإجماع على خلافه ، بخلافه في المائع ومرادنا بموافقة الأصل في السابق انما هو بعد هذا الإجماع. وفيه انه يرجع بالأخرة إلى القول بأنه قام الإجماع على عدم السراية في الجامد دون المائع ومن هنا يتجه احتمال ان يقال إن السراية على خلاف الأصل وتنجيس المائع كله بتنجيس طرف منه لعله للصدق عليه انه لاقى نجسا ولو لاقى بعض أجزائه ، فما دل على نجاسته بمجرد الملاقاة يشمله ، والقول بأنه قام الإجماع على انه إذا لاقى متنجسا ينجس وهذا متحقق هنا يدفعه انه ان دخلت مثل هذه الملاقاة لمثل هذا المتنجس تحت معقد الإجماع فالنجاسة فيه حينئذ من الإجماع لا من السراية ، وإلا فهو مبني على مسألة السراية. فالتحقيق الرجوع الى ما تقتضيه الأدلة الشرعية فيتبع مضمونها في الجامد والمائع والعالي والسافل وغيرهما مع تحكيم أصل الطهارة فيما لا يندرج تحتها.

( الرابعة ) لا مانع عقلا من كون الماء الواحد بعضه طاهرا وبعضه نجسا سيما مع سبق الوصفين لمائين ثم اختلطا ، لامتناع تداخل الأجسام فتكون الأجزاء الطاهرة في علم الله باقية على الطهارة والنجسة على النجاسة ، ولو ارتمس فيه مرتمس ارتفعت جنابته باشتمال الماء الطاهر عليه وان كان ينجس حين يخرج. بل ولا شرعا ، اللهم إلا ان يدعى الإجماع. وقد يناقش فيه بأنه لازم للقول باشتراط الامتزاج إذ أول جزء من الطاهر إذا لاقى أول جزء من النجس لا ريب في صيرورة هذين المتلاقيين ماء واحدا مع انه لا يقول بالطهارة إلا بعد الامتزاج ، فيلزمه أن يكون ما قبله بعضه طاهر وبعضه نجس ، وكذلك‌

١٣٥

يلزم بناء على اشتراط الاستعلاء في الكر المطهر. وجعل ما ذكرنا إلزاما لهم ليس بأولى من جعله إنكارا لهذه الدعوى ، مع ان فيهم الفضلاء الذين يبعد عدم تنبههم لمثل ذلك فتأمل.

إذا عرفت هذا فنقول لا كلام في حصول الطهارة بما ذكره المصنف بل نقل الإجماع عليه بعضهم وكأن ذلك منهم مبني إما على عدم اشتراط الامتزاج في مثل هذا الطريق من التطهير أو أنه متى القي الكر دفعة عرفية تحقق الامتزاج. وهو متجه مع قلة المطهر أو الاكتفاء بامتزاج البعض ، إنما الكلام في انه لا يطهر إلا بهذا إذا كان التطهير بالماء المحقون أو انه يحصل بدون ذلك؟ قد يظهر من المصنف وغيره الأول لأن عبارات الفقهاء كالقيود ، ويستفاد منها حينئذ أمور ثلاثة : ( الأول ) الإلقاء و ( الثاني ) أن يكون كرا و ( الثالث ) ان يكون دفعة ، وفي الكل خلاف.

أما ( الأول ) أي اشتراط الإلقاء فهو مشعر باشتراط كون المطهر مستعليا ، وكذا ما في الروضة من أن المشهور اشتراط طهر القليل بالكر وقوعه عليه دفعة ، وما في التذكرة انا نشترط في المطهر وقوع كر دفعة الى غير ذلك مما وقع من الأصحاب مما يشعر به. لكن أظن ان مراد من وقعت منه مثل هذه العبارة انما هو في مقابلة الشيخ المكتفي بالتطهير ولو بالنبع من تحت ، أو أمر آخر لا مدخلية له فيما نحن فيه ، وإلا فلا أظن أحدا ينازع في الطهارة مع مساواة المطهر ، بل عن الروض الاتفاق على حصول الطهارة بذلك. ولعله كذلك فان دعوى عدم حصولها فيما لو كان حوضان مثلا مفصول بينهما بفاصل وكان أحدهما طاهرا والآخر نجسا ثم رفع الفاصل بينهما بحيث صارا حوضا واحدا مما لا يصغى إليها. وكذا لو ألقي الماء القليل في الكر ، ولعل ما وقع من المحقق رحمه‌الله من عدم طهارة أحد الغديرين بالغدير الطاهر الآخر الكر إذا وصل بينهما بساقية مبني على عدم حصول الامتزاج كما فهمه منه بعضهم ، ويشعر به تعليله بتمييز‌

١٣٦

الطاهر عن النجس ، وبان النجس لو غلب الطاهر لنجسه فليبق على حاله إذا لم يغلب ، لا لعدم حصول الاستعلاء. وربما يشير الى ما ذكرنا من إرادة ذلك في مقابل الشيخ ان العلامة في التذكرة ذكر العبارة السابقة في الرد على الشافعي حيث اكتفى بالتطهير بالنبع من تحت ، وكذا ما في القواعد : « وانما يطهر بإلقاء الكر عليه دفعة ولا يطهر بإتمامه كرا ولا بالنبع من تحت ».

والحاصل من أعطى التأمل في كلامهم علم أنهم يكتفون بمجرد المساواة. لا يقال إن اشتراطهم للدفعة يقضي بالاستعلاء. ولذلك قيل انه مما يدل على اتفاقهم على اشتراط الدفعة تصريح بعضهم بعدم طهارة أحد الغديرين الموصول بالآخر بساقية إذا كان كرا ، لأنا نقول ان اشتراط الدفعة في كلامهم لعله لإخراج الإلقاء ليس دفعة بل تدريجا ، كما إذا كان الكر في آنية ضيقة الرأس وصب على النجس ، فتكون الدفعة انما هو شرط في الإلقاء لا شرط في التطهير ، يعني إذا ألقي الكر عليه يشترط فيه أن يكون دفعة ، أو لإخراج إلقائه دفعات. ومما يرشد الى ذلك أن العلامة رحمه‌الله في المنتهى في الغديرين قال « أما لو كان أحدهما أقل من كر ولاقته نجاسة فوصل بغدير بالغ كرا ، قال بعض الأصحاب : الأولى بقاؤه على النجاسة لأنه ممتاز عن الطاهر مع أنه لو مازجه وقهره لنجسه. وعندي فيه نظر فان الاتفاق واقع على أن تطهير ما ينقص عن الكر بإلقاء كر عليه ، ولا شك أن المداخلة ممتنعة ، فالمعتبر إذا الاتصال الموجود هنا » وقال أيضا بعد ذلك بورقة وصفحة تقريبا : « مسألة الماء القليل ان تغير بالنجاسة فطريق تطهيره إلقاء كر عليه أيضا دفعة فان زال تغيره فقد طهر إجماعا » الى أن قال : « قال الشيخ في الخلاف ( يشترط في تطهير الكر الورود ) وقال في المبسوط ( لا فرق بين كون الطاري نابعا من تحته أو يجري اليه أو يغلب ) فإن أراد بالنابع ما يكون نبعا من الأرض ففيه إشكال من حيث أنه ينجس بالملاقاة فلا يكون مطهرا وان أراد به ما يوصل اليه من تحته فهو حق » انتهى. ولا ريب أن الذي يقتضيه التدبر في جميع كلامه ـ من اكتفائه‌

١٣٧

بمجرد الملاقاة مع اشتراطه الدفعة ، وعدم مناقشته الشيخ إلا في النابع ، وفهمه من خلاف بعض الأصحاب في الغديرين الامتزاج ، ومما نقل الإجماع عليه من إلقاء كر عليه ـ إرادة ما ذكرنا ، بل يلوح منه عدم ظهور الإلقاء في الاستعلاء. نعم ربما ظهر من نقله عن الشيخ في الخلاف انه مخالف في ذلك ، لكنه يهونه انا لم نجده فيه. هذا كله مع التساوي ، وأما حيث يكون من تحت فان كان من نبع من الأرض فإن كان من فوارة بحيث يكون مستعليا على الماء النجس فالظاهر حصول التطهير به إن كان استعلاء بحيث لا يمس الماء النجس إلا بعد نزوله نعم يبقى إشكال الدفعة ويأتي الكلام فيه ان شاء الله ، نعم قد يتجه على كلام العلامة رحمه‌الله من اشتراط الكرية في الجاري عدم التطهير إلا على ما فهمه كاشف اللثام سابقا في تطهر الجاري وان كان لا من فوارة ، بل إنما ينبع ملاقيا للماء النجس ، فبناء على الاكتفاء بالاتصال في التطهير بمثله على تسليم الملازمة السابقة من انه ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس وقلنا لا يشترط في الجاري الكرية يتجه القول بالطهارة ، وإلا أمكن المناقشة فيه لاستصحاب النجاسة كما عرفت سابقا واحتمال توجه المناقشة في الطهارة هنا وان سلمت تلك المقدمة من جهة عدم استعلاء المطهر ومساواته في غاية الضعف ، لان هذا الشرط قد وجد في بعض عبارات المتأخرين وكأنه خال عن السند ، وكيف يتجه لهم اشتراطه مع تسليمهم تلك المقدمة وهي انه ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس ، فإنه لو فرض هذا النابع امتزج بما فوقه مع كونه غير قابل للنجاسة لا محيص عن القول بالطهارة وإلا انتقضت تلك المقدمة. واحتمال القول بها بشرط إحراز هذا الشرط وهو الاستعلاء أو المساواة وإلا فلا مانع من كون ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس فيه ما لا يخفى إذ مرجعه الى الشرط التعبدي المحض وهو لا دليل عليه ، على انه كيف يتجه لهم ذلك مع انه من المقطوع به أنه لو ألقي الماء النجس في الكثير طهر به مع أنه لا استعلاء فيه ولا مساواة. لا يقال انه بعد أن ألقي فيه صار مساويا له فيطهر حينئذ من هذه الجهة ، لأنا نقول كذلك أيضا الماء النابع‌

١٣٨

من تحت بعد خروجه صار مساويا لما اتصل به ، إذ لا نريد بالمساواة المساواة لأعلى سطح الماء ، وإلا لكان لا يطهر الماء النجس إذا كان في إناء ثم كسر في قعر الحوض. فان قلت : هذا التطهر لما يلقى في الكثير انما هو من جهة الاستهلاك فحينئذ لا فرق بين أن يلقى عليه الطاهر أو بالعكس ، قلت : هو مع كونه تخصيصا لمحل النزاع من غير مخصص ، وأنه ينبغي أن يلتزموا بطهارة ما إذا كان مستهلكا في جنب النابع ، أنه لا معنى للقول بالاستهلاك في المتنجس ، نعم انما يظهر وجه الاستهلاك فيما يكون مدار النجاسة فيه الاسم لا الذات ، على انا نفرض ما أوردناه في كثير متنجس القي في مثله طاهر أو يقرب منه بحيث لا يظهر فيه استهلاك له. وكيف كان فلا أرى وجها لاشتراط استعلاء المطهر أو مساواته بعد تسليم تلك المقدمة وتحققها. واحتمال التمسك باستصحاب النجاسة ولا إطلاق قاطع له فيه مع أنه لا يصلح سندا للمشترطين نعم انما يتجه لغيرهم بعد حصول الاشتراط منهم حتى يحصل الشك أنك قد عرفت انه لا معنى له بعد تسليم المقدمة السابقة. ويؤيده أيضا إطلاق قولهم يطهر الجاري بما يخرج اليه من المادة متدافعا ، مع ان الغالب في المادة عدم العلو. وكذا ما يأتي في تطهير البئر لو تغير ، إذ الظاهر للمتأمل في أخبارها أنها تطهر بما يتجدد من الذي يخرج منها. هذا كله في النابع حيث يكون من ينبوع ، وأما حيث يكون ترشحا فالظاهر ابتناء حصول التطهير به على ما تقدم من أنه هل يدخل في الجاري أو غيره من أفراد النابع أو لا؟ ويجري جميع ما ذكرنا فيما كان الخارج من تحت وليس نبعا من ارض بل كان راكدا ولكن أخرج بفوارة أو نحوها فتأمل. وظاهر عبارة المنتهى السابقة المشتملة على الترديد في كلام الشيخ عدم اشتراط الاستعلاء والمساواة ، وأما استشكاله في النابع من الأرض فمن جهة بنائه على النجاسة بالملاقاة ما لم يكن كرا. ونقل في كاشف اللثام عن المعتبر مثل عبارة المنتهى في الترديد ، فيكونان موافقين لما قلنا من عدم اشتراط الاستعلاء ، لكن لم أعلم ان المحقق استشكل أيضا في النابع من الأرض من تحت كما في المنتهى أو لا ، فإنه على تقديره مشكل لعدم اشتراطه الكرية فتأمل.

١٣٩

وعن نهاية الأحكام انه لو نبع من تحت فان كان على التدريج لم يطهره وإلا طهره. ولعل هذا الكلام منه رحمه‌الله ليس خلافا لما ذكرنا بل هو من جهة اشتراط الدفعة ، وكذا ما في التذكرة « لو نبع الماء من تحته لم يطهر وان أزال التغير خلافا للشافعي لأنا نشترط في المطهر وقوعه كرا دفعة » إذ لعله أيضا من جهة اشتراط الكرية ، وقوله : وقوعه ليس صريحا في ذلك ، بل ولا ظاهرا عند التأمل الدقيق ، وقد سمعت ما نقله في المنتهى عن المبسوط من عدم الفرق بين المستعلي وغيره وقال في الذكرى : « وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا فلو وصل بكر مماسة لم يطهر ، للتمييز المقتضي لاختصاص كل بحكمه. ولو كان الملاقاة بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير كماء الحمام ولو نبع الكثير من تحته كالفوارة فامتزج طهره لصيرورتهما ماء واحدا ، أما لو كان ترشحا لم يطهر لعدم الكثرة الفعلية » انتهى ويظهر للمتأمل فيها موافقته لما ذكرنا ، وقوله : ( كالفوارة ) ليس نصا في الاستعلاء فتأمل.

وأما اشتراط ( الكرية ) فكأنه لا خلاف فيه بناء على القول بأنه ينجس بالملاقاة.

والقول بطهارة الماء القليل بإتمامه كرا ليس خلافا فيما نحن فيه لانه لا يقول ان المطهر أقل من كر بل المطهر انما هو بلوغه هذا الحد ، ولذلك يقول به لو كمل بمتنجس ، مع انه لا معنى للقول بالتطهير به. وأما بناء على القول بان الماء القليل لا ينجس بالملاقاة فالظاهر عدم حصول تطهير الماء المتنجس به ولعله يلتزم أن يكون الماء الواحد بعضه طاهر وبعضه نجس. لكن يحتمل القول بالتطهر بناء على هذا القول إذ يكون حاله كحال الكر لا ينجس إلا بالتغير فيطهر كل شي‌ء يلاقيه ، بل لعله الأقوى حينئذ.

وأما اعتبار ( الدفعة ) فقد وقع في كلام جملة من علمائنا كالمصنف والعلامة وغيرهما وفي الحدائق الظاهر انه المشهور بين المتأخرين. ويظهر من كلام آخرين عدم اعتبارها وصرح به بعضهم. والمراد بالدفعة انما هي العرفية لا الحكمية لتعذرها واعتبارها يفيد أمرين : الأول ان يلقى تمام الكر فلو اتصل به ثم انقطع لم يكف وان حصل‌

١٤٠