الميزان في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٤٧

١

٢

٣

المقدمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، والصلوة على من جعله شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا ، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا.

مقدمه : نعرف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار.

التفسير ( وهو بيان معاني الايات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها ) من أقدم الاشتغالات العلمية التي تعهد من المسلمين ، فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث والتنقير المسمى بالتفسير من عصر نزول القرآن كما يظهر من قوله تعالى وتقدس ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة الآية ) البقرة ـ ١٥١.

وقد كانت الطبقة الاولى من مفسري المسلمين جماعة من الصحابة ( والمراد بهم غير علي عليه‌السلام ، فان له وللائمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له ) كابن عباس وعبد الله بن عمر وأبي وغيرهم اعتنوا بهذا الشأن ، وكان البحث يومئذ لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط ، من الآيت بجهاتها الادبية وشأن النزول وقليل من الاستدلال بآية على آية وكذلك قليل من التفسير بالروايات المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القصص ومعارف المبدء والمعاد وغيرها.

وعلى هذا الوصف جرى الحال بين المفسرين من التابعين كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبي والسدي وغيرهم في القرنين الاولين من الهجرة ، فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئا غير انهم زادوا من التفسير بالروايات ، ( وبينها روايات دسها اليهود أو غيرهم ) ، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى

٤

الخلقة كابتداء السماوات وتكوين الارض والبحار وإرم شداد وعثرات الانبياء تحريف الكتاب واشياء أخر من هذا النوع ، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث.

ثم استوجب شيوع البحث الكلامي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمفي زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الاديان والمذاهب المتفرقة من جهة.

ونقل فلسفة يونان إلى العربية في السلطنة الاموية أواخر القرن الاول من الهجرة ، ثم في عهد العباسيين ، وانتشار البحث العقلي الفلسفي بين الباحثين من المسلمين من جهة أخرى ثانية.

وظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفي وتمايل الناس ألى نيل المعارف الدينية من طريق المجاهدة والرياضة النفسانية دون البحث اللفظي والعقلي من جهة أخرى ثالثة.

بقاء جمع من الناس وهم أهل الحديث على التعبد المحض بالظواهر الدينية من غير بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الادبية من جهة أخرى رابعة.

ان اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعد ما عمل فيهم الانشعاب في لمذاهب ما عمل ، ولم يبقى بينهم جامع في الرأي والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمواختلفوا في معنى الاسماء والصفات والافعال والسماوات وما فيها الارض وما عليها والقضاء والقدر والجبر والتفويض والثواب والعقاب وفي الموت وفي البرزخ والبعث والجنة والنار ، وبالجملة في جميع ما تمسه الحقائق والمعارف الدينية ولو بعض المس ، فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الايات ، وكل يتحفظ على متن ما اتخذه من المذهب والطريقة.

فأما المحدثون ، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابد والتابعين فساروا وجدوا في لسير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيا لم يؤثر فيه شئ ولم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية ) آل عمران ـ ٧. وقد اخطأوا في ذلك فان الله سبحانه

٥

لم يبطل حجة العقل في كتابه ، وكيف يعقل ذلك وحجيته انما تثبت به ! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وانظارهم على اختلافها الفاحش ، ولم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الاقوال ، ولم يندب الا إلى التدبر في آياتة ، فرفع به أي اختلاف يترائى منها ، وجعله هدى ونورا وتبيانا لكلشئ ، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه ! وكيف يتبين ما هو تبيان كلشئ بشئ دون نفسه!.

واما المتكلمون فقد دعاهم الاقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم باخذ ما وافق وتأويل ما خالف ، على حسب ما يجوزه قول المذهب.

واختيار المذاهب الخاصة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وان كان معلولا لاختلاف الانظار العلمية أو لشئ آخر كالتقاليد والعصبيات القومية ، وليس هيهنا محل الاشتغال بذلك ، الا ان هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا

ففرق بين ان يقول الباحث عن معنى آية من الآيات : ما ذا يقول القرآن ؟ أو يقول : ما ذا يجب ان نحمل عليه الآية ؟ فان القول الاول يوجب ان ينسى كل امر نظري عند البحث ، وان يتكى على ما ليس بنظري ، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها ، ومن المعلوم ان هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه.

وأما الفلاسفة ، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الاعم اعني : الرياضيات والطبيعيات والالهيات والحكمة العملية ، وخاصة المشائين ، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السموات والارض وآيات البرزخ وآيات المعاد ، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والاصول الموضوعة التى نجدها في العلم الطبيعي : من نظام الافلاك الكلية والجزئية وترتيب العناصر والاحكام الفلكية والعنصرية إلى غير ذلك ، مع انهم نصوا

٦

على أن هذه الانظار مبتنية على اصول موضوعة لا بينة ولا مبينة.

وأما المتصوفة ، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الانفسية دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل ، ورفضوا التنزيل ، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل ، وتلفيق جمل شعرية والاستدلال من كل شئ على كل شئ ، حتى آل الامر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل ورد الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك.

ومن الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة ، ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الاعداد والاوفاق والحروف ، ولا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجمل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانية وغيرها إلى العربية.

نعم قد وردت روايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمه أهل البيت عليهم‌السلام كقولهم : ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة ابطن أو إلى سبعين بطنا الحديث.

لكنهم ( ع ) إعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن ، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل ، وسنبين في أوائل سورة آل عمران ان شاء الله : أن التأويل الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الاسلام ، وان الذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الايات ليس من قبيل المعنى والمفهوم.

وقد نشأ في هذه الاعصار مسلك جديد في التفسير وذلك أن قوما من منتحلي الاسلام في أثر توغلهم في العلوم الطبيعية وما يشابهها المبتنية على الحس والتجربة ، والاجتماعية المبتنية على تجربة الاحصاء ، مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة الاروبة سابقا ، أو إلى مذهب أصالة العمل ( لا قيمة للادراكات الاترتب العمل عليها بمقدار يعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر ).

فذكروا : ان المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم وهو أن : ( لا أصالة في الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة ) فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤل تأويلا.

٧

وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية.

وما يتكي عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والامامة وغير ذلك ، إنما هي امور روحية ، والروح مادية ونوع من الخواص المادية ، والتشريع نبوغ خاص اجتماعي يبني قوانينه على الافكار الصالحة ، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.

ذكروا : أن الروايات ، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها ، إلا ما وافق الكتاب ، وأما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحس والتجربة ، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم.

هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه ، من اتباع طريق الحس والتجربة ، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير ، ولا كلام لنا هيهنا في اصولهم العلمية والفلسفية التي اتخذوها اصولا وبنوا عليها ما بنوا.

وإنما الكلام في أن ما اوردوه على مسالك السلف من المفسرين ( أن ذلك تطبيق وليس بتفسير ) وارد بعينه على طريقتهم في التفسير ، وإن صرحوا أنه حق التفسير الذي يفسر به القرآن بالقرآن.

ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئا ، فما بالهم يأخذون الانظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها ؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف اصلاحا.

وانت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد : ان الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص ، وهو تحميل ما انتجه الابحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات ، فتبدل به التفسير تطبيقا وسمي به التطبيق تفسيرا ، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات ، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات.

ولازم ذلك ( كما أومأنا إليه في أوائل الكلام ) أن يكون القرآن الذي يعرف

٨

نفسه ( بأنه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شئ ) مهديا إليه بغيره ومستنيرا بغيره ومبينا بغيره ، فما هذا الغير ! وما شأنه ! وبماذا يهدي إليه ! وما هو المرجع والملجا إذا اختلف فيه ! وقد اختلف واشتد الخلاف.

وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم ( مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي ) الكلمات أو الآيات ، فإنما هو كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة واساليب الكلام العربي.

وليس بين آيات القرآن ( وهي بضع آلاف ) آية آية واحدة ذات اغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحير الذهن في فهم معناها ، وكيف ! وهو افصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الاغلاق والتعقيد ، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها ، في غاية الوضوح من جهة المفهوم ، وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.

وإنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركبها ، وفي المدلول التصوري والتصديقي.

توضيحه : ان الانس والعادة ( كما قيل ) يوجبان لنا ان يسبق إلى أذهاننا عند استماع الالفاظ معانيها المادية أو ما يتعلق بالمادة فإن المادة هي التي يتقلب فيها ابداننا وقوانا المتعلقة بها ما دمنا في الحيوة الدنيوية ، فإذا سمعنا الفاظ الحيوة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والارادة والرضا والغضب والخلق والامر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادية لمفاهيمها.

وكذا إذا سمعنا الفاظ السماء والارض واللوح والقلم والعرش والكرسي والملك واجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك ، كان المتبادر إلى افهامنا مصاديقها الطبيعية.

وإذا سمعنا : إن الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.

وإذا سمعنا نحو قوله : ( ولدينا مزيد الآية ) وقوله : ( لا تخذناه من لدنا الآية )

٩

وقوله : ( وما عند الله خير الآية ). وقوله : ( إليه ترجعون الآية ) قيدنا معنى الحضو بالمكان.

وإذا سمعنا نحو قوله : ( إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها الآية ). أو قوله : ( ونريد ان نمن الآية ) أو قوله : ( يريد الله بكم اليسر الآية ) فهمنا : أن الجميع سنخ واحد من الارادة ، لما إن الامر على ذلك فيما عندنا ، وعلى هذا القياس.

وهذا شأننا في جميع الالفاظ المستعملة ، ومن حقنا ذلك ، فإن الذي أوجب علينا وضع الفاظ إنما هي الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم والتفهم ، والاجتماع إنما تعلق به الانسان ليستكمل به في الافعال المتعلقة بالمادة ولواحقها ، فوضعنا الالفاظ علائم لمسمياتها التي نريد منها غايات واغراضا عائدة الينا.

وكان ينبغي لنا ان نتنبه : أن المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول والتكامل كما ان السراج أول ما عمله الانسان كان اناء فيه فتيلة وشئ من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضائه به في الظلمة ، ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي ولم يبق من اجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بازائه لفظ السراج شئ ولا واحد.

وكذا الميزان المعمول أولاو ، الميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا.

والسلاح المتخذ سلاحا أول يوم ، السلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.

فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدتجميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باق ، وليس إلا لان المراد في التسمية إنما هو من الشئ غايتة ، لا شكله وصورتة ، فما دام غرض التوزين االاستضائة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقيا على حاله.

فكان ينبغي لنا ان نتنبه أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض ، لا جمود اللفظ على صورة واحدة ، فذلك مما لا مطمع فيه البتة ، ولكن العادة والانس منعانا ذلك ، وهذا هو الذي دعى المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة ان يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة والانس في تشخيص المصاديق.

١٠

لكن بين هذه الظواهر أنفسها امور تبين : أن الاتكاء والاعتماد على الانس والعادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها ويختل به أمر الفهم كقوله تعالى : ( ليس كمثله شئ الآية ). وقوله : ( لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير ). وقوله : ( سبحان الله عما يصفون ).

وهذا هو الذي دعى الناس أن لا يقتصروا على الفهم العادي والمصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عالخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الذي دعى الانسان إلى ان يتمسك بذيل البحث العلمي ، وأجاز ذلك للبحث ان يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصدة العالية ، وذلك على احد وجهين ، احدهما : ان نبحث بحثا علميا أو فلسفيا أو غير ذلك عن مسألة من المسائل التي تتعرض له الآية حتى نقف على الحق في المسألة ، ثم نأتي بالآية ونحملها عليه ، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظري ، غير ان القرآن لا يرتضيها كما عرفت ، وثانيهما : ان نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الاية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن ، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الايات ، كما قال تعالى : ( إنا نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكلشئ الآية ). وحاشا أن يكون القرآن تبيانا لكلشئ ولا يكون تبيانا لنفسه ، وقال تعالى : ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان الآية ). وقال تعالى : ( إنا أنزلنا اليكم نورا مبينا الآية ). وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقانا ونورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو اشد الاحتياج ! وقال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا الآية ). واي جهاد اعظم من بذل الجهد في فهم كتابه ! واي سبيل اهدى إليه من القرآن !.

والايات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابه في اوائل سورة آل عمران.

ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي علمه القرآن وجعله معلما لكتابه كما يقول تعالى : ( نزل به الروح الامين على قلبك الآية ). ويقول : ( وانزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم الآية ). ويقول : ( يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة الآية ). وعترته واهل بيته ( الذين اقامهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا المقام في الحديث المتفق

١١

عليه بين الفريقين ] إنى تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض [. وصدقه الله تعالى في علمهم بالقرآن ، حيث قال عز من قائل : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ). وقال : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه الا إلمطهرون الاية ) وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل الينا من اخبارهم في التفسير. وسنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وائمه أهل بيته في ضمن ابحاث روائية في هذا الكتاب ، ولا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الاية بحجة نظرية عقلية ولا فرضية علمية.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ] فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فانه شافع مشفع وما حل مصدق ، من جعله امامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكمة وباطنه علم ، ظاهره انيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعروف لمن عرف النصفة ، فليرع رجل بصره ، وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويخلص من نشب ، فإن التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، يحسن التخلص ويقل التربص [. وقال علي عليه‌السلام : ( يصف القرآن على ما في النهج ) ] ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض الخطبة [.

هذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلموا القرآن وهداته صلوات الله عليهم.

وسنضع ما تيسر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات ، قد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية ، أو إلى مكاشفة عرفانية.

واحترزنا فيها عن أن نضع الانكتة ادبية يحتاج إليها فهم الاسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو عملية لا يختلف فيها الافهام.

١٢

وقد تحصل من هذه البيانات الموضوعة على هذه الطريقة من البحث استفراغ الكلام فيما نذكره :

(١) المعارف المتعلقة باسماء الله سبحانه وصفاته من الحيوة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغيرها ، وأما الذات فستطلع أن القرآن يراه غنيا عن البيان.

(٢) المعارف المتعلقة بافعاله تعالى من الخلق والامر والارادة والمشية والهداية والاضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط ، إلى غير ذلك من متفرقات الافعال.

(٣) المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الانسان كالحجب واللوح والقلم والعرش والكرسي والبيت المعمور والسماء والارض والملائكة والشياطين والجن وغير ذلك.

(٤) المعارف المتعلقة بالانسان قبل الدنيا.

(٥) المعارف المتعلقة بالانسان في الدنيا كمعرفة تاريخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة اصول اجتماعه ومعرفة النبوة والرسالة والوحي والالهام والكتاب والدين والشريعة ، ومن هذا الباب مقامات الانبياء المستفادة من قصصهم المحكية.

(٦) المعارف المتعلقة بالانسان بعد الدنيا ، وهو البرزخ والمعاد.

(٧) المعارف المتعلقة بالاخلاق الانسانية ، ومن هذا الباب ما يتعلق بمقامات الاولياء في صراط العبودية من الاسلام والايمان والاحسان والاخبات والاخلاص وغير ذلك.

وأما آيات الاحكام ، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه.

وقد أفاد هذه الطريقة من البحث إرتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات ، وأما التأويل بالمعنى الذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات ، فسترى أنه ليس من قبيل المعاني.

ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من ابحاث روائية نورد اما تيسر لنا ايراده من الروايات المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامة والخاصة ، وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين. فإنها

١٣

على ما فيها من الخط والتناقض لا حجة فيها على مسلم.

وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم عليه‌السلام ، ان هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب ، أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه سلام الله عليهم.

ثم وضعنا ابحاثا مختلفة ، فلسفية وعلمية وتأريخية واجتماعية وأخلاقية ، حسب ما تيسر لنا من البحث ، وقد أثرنا في كل بحث قصر الكلام على المقدمات المسانخة له ، من غير تعد عن طور البحث.

نسئل الله تعالى السداد والرشاد فانه خيرمعين وهاد

الفقير إلى الله : محمد حسين الطباطبائي

١٤

١ ـ سورة الحمد وهي سبع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم ـ ١. الحمد لله رب العالمين ـ ٢. الرحمن الرحيم ـ ٣. مالك يوم الدين ـ ٤. إياك نعبد واياك نستعين ـ ٥.

( بيان )

قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم ، ليكون عملهم ذاك مبا ركا بذلك متشرفا ، أو ليكون ذكرى يذكرهم به ، ومثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية فربما يسمون المولود الجديد من الانسان ، أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة اسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه ، ليبقى لاسم ببقاء المسمى الجديد ، ويبقى المسمى الاول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمى ولده باسم والده ليحيى بذلك ذكره فلا يزول ولا ينسى.

وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى ، فابتدأ الكلام باسمه عز إسمه ، ليكون ما ، يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به ، وليكون أدبا يؤدب به العباد في الاعمال والافعال والاقوال ، فيبتدئوا باسمه ويعملوا به ، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لاجله سبحانه فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا ، لانه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك والبطلان إليه.

وذلك أن الله سبحانه يبين في مواضع من كلامه : أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل ، وأنه : سيقدم إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم ، فيجعله هبائا منثورا ، ويحبط ما صنعوا ويبطل ما كانوا يعملون ، وانه لا بقاء لشئ إلا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم وصنع باسمه هو الذي يبقى ولا يفنى ، وكل أمر من الامور انما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب ، وهذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان عن

١٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال : [ كل امر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو ابتر الحديث ]. والابتر هو المنقطع الآخر ، فالانسب ان متعلق الباء في البسملة ابتدئ بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدء بها الكلام بما انه فعل من الافعال ، فلا محالة له وحدة ، ووحدة الكلام بوحدة مدلوله ومعناه ، فلا محالة له معنى ذا وحدة ، وهو المعنى المقصود افهامه من إلقاء الكلام ، والغرض المحصل منه.

وقد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال تعالى : ( قد جائكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله الآية ) المائدة ـ ١٦. إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها : ان الغاية من كتابه وكلام هداية العباد ، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرحمن الرحيم ، فهو الله الذي إليه مرجع العباد ، وهو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن والكافر ، مما فيه خيرهم في وجودهم وحياتهم ، وهو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين وهو سعادة آخرتهم ولقاء ربهم وقد قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كلشئ وفسأكتبها للذين يتقون ). الاعراف ـ ١٥٦. فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.

ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى : ( فأتوا بسورة مثله ) يونس ـ ٣٨. وقوله : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) هود ـ ١٣. وقوله تعالى : ( إذا أنزلت سورة ) التوبة ـ ٨٦. وقوله : ( سورة انزلناها وفرضناها ) النور ـ ١. فبان لنا من ذلك : أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه ( التي فصلها قطعا قطعا ، وسمى كل قطعة سورة ) نوعا من وحدة التأليف والتمام ، لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة ، ومن هنا نعلم : أن الاغراض والمقاصد المحصلة من السور مختلفة ، وأن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص ولغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه ، وعلي هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.

فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة والمعنى المحصل منه ، والغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله باظهار العبودية له سبحانه بالافصاح

١٦

عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية ، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد ، ليكون متأدبا في مقام اظهار العبودية بما أدبه الله به.

وإظهار العبودية من العبد هو العمل الذى يتلبس به العبد ، والامر ذو البال الذي يقدم عليه ، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه ، فالمعنى بإسمك أظهر لك العبودية.

فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء ويراد به تتميم الاخلاص في مقام العبودية بالتخاطب. وربما يقال انه الاستعانة ولا بأس به ولكن الابتداء انسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى : ( واياك نستعين ).

وأما الاسم ، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة وكيف كان فالذي يعرفه منه اللغة والعرف هو اللفظ الدال ويستلزم ذلك ، أن يكون غير المسمى ، وأما الاسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الاعيان لامن الالفاظ وهو مسمى الاسم بالمعنى الاول كما ان لفظ العالم ( من اسماء الله تعالى ) اسم يدل على مسماه وهو الذات ماخوذة بوصف العلم وهو بعينه إسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه الا بوصف من اوصافه ونعت من نعوته والسبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الالفاظ ، ثم وجدوا أن الاوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدل عليه حالها حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية ، فسموا هذه الاوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فانتج ذلك ان الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا ، ثم وجدوا ان الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل ، وان الاسم بالمعنى الاول إنما يدل على الذات بواسطته ، ولذلك سموا الذي بالمعنى الثاني إسما ، والذي بالمعنى الاول اسم الاسم ، هذا ولكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري ولا ينبغي أن يحمل على اللغة ، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.

وقد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الاول من الاسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره وطالت المشاجرات فيه ، ولكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم إتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة ولا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل وما يقال فيها

١٧

والعناية بابطال ما هو الباطل وإحقاق ما هو الحق فيها ، فالصفح عن ذلك اولى.

وأما لفظ الجلالة فالله أصله الاله ، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وإله من أله الرجل يأله بمعني عبد ، أو من اله الرجل أو وله الرجل أي تحير ، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لانه معبود أو لانه مما تحيرت في ذاته العقول ، والظاهر انه علم بالغلبة ، وقد كان مستعملا دائرا في الالسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى : ( ولئن سئلتهم من خلقهم ليقولن الله ) الزخرف ـ ٨٧ ، وقوله تعالى : ( فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) الانعام ـ ١٣٦.

ومما يدل على كونه علما انه يوصف بجميع الاسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الاسماء من غير عكس ، فيقال : ألله لرحمن الرحيم ويقال : رحم الله وعلم الله ، ورزق الله ، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشئ منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شئ منها.

ولما كان وجوده سبحانه ، وهو آله كل شئ يهدي إلى إتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام ، وصح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال وإلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة إله.

واما الوصفان : الرحمن الرحيم ، فهما من الرحمة ، وهي وصف انفعالي وتأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الانسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته ، إلا ان هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الاعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة.

والرحمن ، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة ، والرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات والبقاء ولذلك ناسب الرحمن ان يدل علي الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرحمة العامة ، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن ، قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) طه ـ ٥. وقال ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) مريم ـ ٧٥. إلى غير ذلك ، ولذلك أيضا ناسب الرحيم ان يدل على النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تقاض على المؤمن كما قال تعالى : ( وكان

١٨

بالمؤمنين رحيم ) الاحزاب ـ ٤٣. وقال تعالى : ( إنه بهم رؤف رحيم ) التوبة ـ ١١٧. إلى غير ذلك ، ولذلك قيل : ان الرحمن عام للمؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمن.

وقوله تعالى : الحمد لله ، الحمد على ما قيل : هو الثناء على الجميل الاختياري والمدح اعم منه ، يقال : حمدت فلانا أو مدحته لكرمه ، ويقال : مدحت اللؤلؤ علي صفائه ولا يقال : حمدته على صفائه ، واللام فيه للجنس أو الاستغراق والمال هيهنا واحد.

وذلك ان الله سبحانه يقول : ( ذلكم الله ربكم خالق كل شئ ) غافر ـ ٦٢. فأفاد أن كل ما هو شئ فهو مخلوق لله سبحانه ، وقال : ( الذي أحسن كل شئ خلقه ) السجدة ـ ٧ فأثبت الحسن لكل شئ مخلوق من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه ، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس ، فلا خلق إلا وهو حسن جميل باحسانه ولا حسن إلا وهو مخلوق له منسوب إليه ، وقد قال تعالى : ( هو الله الواحد القهار ) الزمر ـ ٤. وقال : ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) طه ـ ١١١. فانباء انه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر ولا يفعل ما فعل باجبار من مجبر بل خلقه عن علم واختيار فما من شئ إلا وهو فعل جميل اختياري له فهذا من جهة الفعل ، وأما من جهة الاسم فقد قال تعالى : ( الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى ) طه ـ ٨. وقال تعالى : ( ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) الاعراف ـ ١٨٠. فهو تعالى جميل في اسمائه وجميل في أفعاله ، وكل جميل منه.

فقد بان انه تعالى محمود على جميل اسمائه ومحمود على جميل أفعاله ، وأنه ما من حمد يحمده حامد لامر محمود إلا كان لله سبحانه حقيقه لان الجميل الذي يتعلق به الحمد منه سبحانه ، فلله سبحانه جنس الحمد وله سبحانه كل حمد.

ثم ان الظاهر من السياق وبقرينة الالتفات الذي في قوله : ( إياك نعبد ) لآية إن السورة من كلام العبد ، وانه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه وما ينبغي ان يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية ، وهو الذي يؤيده قوله : ( الحمد لله ).

١٩

وذلك إن الحمد توصيف ، وقد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال : ( سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين ) الصافات ـ ١٦٠. والكلام مطلق غير مقيد ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين ، قال تعالى في خطابه لنوح عليه‌السلام ( فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ) المؤمنون ـ ٢٨. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) ابراهيم ـ ٣٩. وقال تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بضعة مواضع من كلامه : ( وقل الحمد لله ) النمل ـ ٩٣. وقال تعالى حكاية عن داود وسليمان عليهما‌السلام ( وقالا الحمد لله ) النمل ـ ١٥. وإلا ما حكاه عن أهل الجنة وهم المطهرون من غل الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله : ( وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين ) يونس ـ ١٠.

وأما غير هذه الموارد فهو تعالى وان حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم ، كقوله تعالى : ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ) الشورى ـ ٥. وقوله ( ويسبح الرعد بحمده ) الرعد ـ ١٣. وقوله ( وإن من شئ إلا يسبح بحمده ) الاسراء ـ ٤٤. إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الاصل في الحكاية وجعل الحمد معه ، وذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه التي منها جمال الافعال ، قال تعالى : ( ولا يحيطون به علما ) طه ـ ١١٠ فما وصفوه به فقد أحاطوا به وصار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه ، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه ويسبحوه عن ما حدوه وقدروه بافهامهم ، قال تعالى : ( ان الله يعلم وانتم لا تعلمون ) النحل ـ ٧٤ ، وأما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له ، فقد بان ان الذي يقتضيه أدب العبودية ان يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه ولا يتعدى عنه ، كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث ) فقوله في أول هذه السورة : الحمد لله ، تأديب بادب عبودي ، ما كان للعبد

٢٠