الميزان في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٤٧

ان يقوله لو لا ان الله تعالى قاله نيابة وتعليما لما ينبغي الثناء به.

وقوله تعالى : رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين اه ( وقرا الاكثر ملك يوم الدين ) فالرب هو المالك الذي يدبر امر مملوكه ، ففيه معنى الملك ، ومعنى الملك ( الذي عندنا في ظرف الاجتماع ) هو نوع خاص من الاختصاص وهو نوع قيام شئ بشئ يوجب صحة التصرفات فيه ، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه : ان لها نوعا من القيام والاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها ولو لا ذلك لم تصح تلك التصرفات وهذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا ، وهو نحو قيام اجزاء وجودنا وقوانا بنا فان لنا بصرا وسمعا ويدا ورجلا ، ومعنى هذا الملك انها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا ولنا ان نتصرف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقي.

والذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذى يبطل ببطلان الاعتبار والوضع ، ومن المعلوم ان الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فان الشئ إذا افتقر في وجوده إلى شئ فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده ، فهو تعالى رب لما سواه لان الرب هو المالك المدبر وهو تعالى كذلك.

واما العالمين : فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به ، وما يطبع به يطلق على جميع الموجودات وعلى كل نوع مؤلف الافراد والاجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الانسان وعلى كل صنف مجتمع الافراد ايضا كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الانسب لما يؤل إليه عد هذه الاسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على ان يكون الدين وهو الجزاء يوم القيمة مختصا بالانسان أو الانس والجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الانس والجن وجماعاتهم ويؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى ( واصطفاك على نساء العالمين ) آل عمران ـ ٤٢. وقوله تعالى : ( ليكون للعالمين نذيرا ) فرقان ـ ١ ، وقوله تعالى : ( أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من

٢١

العالمين ) الاعراف ـ ٨٠.

واما مالك يوم الدين : فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم ، واما الملك وهو مأخوذ من الملك بضم الميم ، فهو الذي يملك النظام القومي وتدبيرهم دون العين ، وبعبارة اخرى يملك الامر والحكم فيهم.

وقد ذكر لكل من القرائتين ، ملك ومالك ، وجوه من التأييد غير ان المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى ، والذي تعرفه اللغة والعرف ان الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال : ملك العصر الفلاني ، ولا يقال مالك العصر الفلاني الا بعناية بعيدة ، وقد قال تعالى : ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم ، وقال ايضا : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) غافر ـ ١٦.

( بحث روائي )

في العيون والمعاني عن الرضا عليه‌السلام في معنى قوله : بسم الله قال عليه‌السلام : يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله وهى العبادة ، قيل له : ما السمة ؟ قال العلامة.

اقول وهذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي اشرنا إليه في كون الباء للابتداء فان العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك ان يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته

وفي التهذيب عن الصادق عليه‌السلام وفي العيون وتفسير العياشي عن الرضا عليه‌السلام : انها اقرب الى اسم الله الاعظم من ناظر العين إلى بياضها.

اقول : وسيجئ معنى الرواية في الكلام على الاسم الاعظم.

وفي العيون عن امير المؤمنين عليه‌السلام : انها من الفاتحة وان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرئها ويعدها آية منها ، ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني.

اقول : وروي من طرق اهل السنة والجماعة نظير هذا المعنى فعن الدار قطني عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم ، فانها ام القرآن والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم احدى آياتها.

وفي الخصال عن الصادق عليه‌السلام قال : ما لهم ؟ قاتلهم الله عمدوا إلى اعظم آية في كتاب الله فزعموا انها بدعة إذا اظهروها.

٢٢

وعن الباقر عليه‌السلام : سرقوا اكرم آية في كتاب الله ، بسم الله الرحمن الرحيم ، وينبغي الاتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.

اقول : والروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيره ، وهي جميعا تدل على ان البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة ، وفي روايات اهل السنة والجماعة ما يدل على ذلك.

ففي صحيح مسلم عن أنس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انزل علي آنفا سورة فقرا : بسم الله الرحمن الرحيم.

وعن أبي داود عن ابن عباس ( وقد صححوا سندها ) قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يعرف فصل السورة ، ( وفي رواية انقضاء السورة ) حتى ينزل عليه ، بسم الله الرحمن الرحيم.

اقول : وروي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر عليه‌السلام

وفي الكافي والتوحيد والمعاني وتفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام في حديث : والله إله كل شئ ، الرحمن بجميع خلقه ، الرحيم بالمؤمنين خاصة.

وروي عن الصادق عليه‌السلام : الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة.

اقول : قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن ، وأما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة والرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا ويعم الكافر والمؤمن والرحيم عام للدنيا والآخرة ويخص المؤمنين ، وبعبارة اخرى : الرحمن يختص بالافاضة التكوينية التي يعم المؤمن والكافر ، والرحيم يعم التكوين والتشريع الذي بابه باب الهداية والسعادة ، ويختص بالمؤمنين لان الثبات والبقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم والعاقبة للتقوي.

وفي كشف الغمة عن الصادق عليه‌السلام قال : فقد لابي عليه‌السلام بغلة فقال لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها ـ فلما استوى وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال الحمد لله ولم يزد ، ثم قال ما تركت ولا ابقيت

٢٣

شيئا جعلت أنواع المحامد لله عزوجل ، فما من حمد الا وهو داخل فيها.

قلت : وفي العيون عن علي عليه‌السلام : انه سئل عن تفسيرها فقال : هو ان الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لانها اكثر من ان تحصى أو تعرف ، فقال : قولوا الحمد لله على ما انعم به علينا.

اقول : يشير عليه‌السلام إلى ما مر من أن الحمد ، من العبد وانما ذكره الله بالنيابة تأديبا وتعليما.

بحث فلسفي

البراهين العقلية ناهضة على ان استقلال المعلول وكل شأن من شئونه انما هو بالعلة ، وان كل ما له من كمال فهو من اظلال وجود علته ، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لانه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل ، والثناء والحمد هو اظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علته ، وإذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء وحمد تعود وتنتهى إليه تعالى ، فالحمد لله رب العالمين.

قوله تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين الآية ، العبد هو المملوك من الانسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى : ( إن كل من في السموات والارض إلا اتي الرحمن عبدا ) مريم ـ ٩٣. والعبادة مأخوذة منه وربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد ، وما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الاخذ بلازم المعنى وإلا فالخضوع متعد باللام والعبادة متعدية بنفسها.

وبالجملة فكأن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك فمن الجائزان يشترك ازيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد ، قال تعالى : ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) غافر ـ ٦٠ وقال تعالى : ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )

٢٤

الكهف ـ ١١٠.فعد الاشراك ممكنا ولذلك نهى عنه ، والنهى لا يمكن الا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فانه لا يجامعها.

والعبودية انما يستقيم بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم ، واما ما لا يتعلق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة ولا عبودية ، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه ولا ان العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شئ منه مملوكا وشئ ، آخر غير مملوك ، ولا تصرف من التصرفات فيه جائز وتصرف آخر غير جائز كما ان العبيد فيما بيننا شئ منهم مملوك وهو افعالهم الاختيارية وشئ غير مملوك وهو الاوصاف الاضطرارية ، وبعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا ، فهو تعالى مالك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد وغيره مملوك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد فهناك حصر من جهتين ، الرب مقصور في المالكية ، والعبد مقصور في العبودية ، وهذه هي التي يدل عليه قوله : اياك نعبد حيث قدم المفعول واطلقت العبادة.

ثم ان الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر ، فلا يكون حاجبا عن مالكه ولا يحجب عنه ، فانك إذا نظرت إلى دار زيد فان نظرت إليها من جهة انها دار امكنك ان تغفل عن زيد ، وان نظرت إليها بما انها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد.

ولكنك عرفت ان ما سواه تعالى ليس له الا المملوكية فقط وهذه حقيقتة فشئ منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى ، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى ، فله تعالى الحضور المطلق ، قال سبحانه : ( أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ألا انهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط ) حم السجدة ـ ٥٤ وإذا كان كذلك فحق عبادته تعالى ان يكون عن حضور من الجانبين.

اما من جانب الرب عزوجل ، فان يعبد عبادة معبود حاضر وهو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى ( اياك نعبد ) عن الغيبة إلى الحضور.

٢٥

واما من جانب العبد ، فان يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير ان يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسدا من غير روح ، أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره ، اما ظاهرا وباطنا كالوثنيين في عبادتهم لله ولاصنامهم معا ، أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والاغراض ، كأن يعبد الله وهمه في غيره ، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فان ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي ، قال تعالى : ( فا عبد الله مخلصا له الدين ) الزمر ـ ٢ ، وقال تعالى : ( ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ) الزمر ـ ٣.

فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة ، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الذي ذكرناه ، وقد ظهر انه انما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد اعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته ولم يتعلق قلبه في عبادته رجائا أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله ، ولم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الانية والاستكبار ، وكأن الاتيان بلفظ المتكلم مع الغير للايماء إلى هذه النكتة فان فيه هضما للنفس بالغاء تعينها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الانية والاستقلال بخلاف ادخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فان فيه امحاء التعين واعفاء الاثر فيؤمن به ذلك.

وقد ظهر من ذلك كله : ان اظهار العبودية بقوله : إياك نعبد ، لا يشتمل على نقص من حيث المعنى ومن حيث الاخلاص الا ما في قوله : اياك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود والقدرة والارادة مع انه مملوك والمملوك لا يملك شيئا ، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى واياك نستعين ، أي انما ننسب العبادة إلى انفسنا وندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك ، فقوله : إياك نعبد واياك نستعين ؛ لابداء معنى واحد وهو العبادة عن اخلاص ، ويمكن ان يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة والعبادة في السياق الخطابي حيث قيل اياك نعبد واياك نستعين من دون ان يقال : اياك نعبد اعنا واهدنا الصراط المستقيم

٢٦

واما تغيير السياق في قوله : اهدنا الصراط الآية. فسيجئ الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

فقد بان بما مر من البيان في قوله ، اياك نعبد واياك نستعين الاية ، الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور ، والوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول ، والوجه في اطلاق قوله : نعبد ، والوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير ، والوجه في تعقيب الجملة الاولى بالثانية ، والوجه في تشريك الجملتين في السياق ، وقد ذكر المفسرون نكات اخرى في اطراف ذلك من ارادها فليراجع كتبهم وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.

٢٧

اهدنا الصراط المستقيم ـ ٦. صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ـ ٧.

بيان

قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم الخ ، اما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط واما الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعنى ، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين انه الصراط الذي يسلكه الذين انعم الله تعالى عليهم ، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة اي : ان العبد يسئل ربه ان تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.

بيان ذلك : ان الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الانسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى : ( يا ايها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) الانشقاق ـ ٦ وقال تعالى : ( واليه المصير ) التغابن ـ ٣ ، وقال : ( الا إلى الله تصير الامور ) الشورى ـ ٥٣ ، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلاله على ان الجميع سالكوا سبيل ، وانهم سائرون إلى الله سبحانه.

ثم بين : إن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين ، فقال : ( الم اعهد اليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ) يس ـ ٦١.

فهناك طريق مستقيم وطريق آخر ورائه ، وقال تعالى ( فاني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) البقرة ـ ١٨٦ ، وقال تعالى : ( ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) غافر ـ ٦٠ ، فبين تعالى : انه قريب من عباده وان الطريق الاقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه ، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون : ( أولئك ينادون من مكان بعيد ) السجدة ـ ٤٤ فبين : ان غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة.

فتبين : ان السبيل إلى الله سبيلان : سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل

٢٨

بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف ، قال تعالى : ( ان الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم ابواب السماء ) الاعراف ـ ٤٠ ولو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو ، وقال تعالى : ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) طه ـ ٨١. والهوي هو السقوط إلى أسفل ، فهناك طريق آخر آخذ في السفالة والانحدار ، وقال تعالى : ( ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل ) البقرة ـ ١٠٨ ، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله : فقد ضل ، وعند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلثه اقسام : من طريقه إلى فوق وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته ، ومن طريقه إلى ألسفل ، وهم المغضوب عليهم ، ومن ضل الطريق وهو حيران فيه وهم الضالون ، وربما اشعر بهذا التقسيم قوله تعالى : ( صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ).

والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلث اعني : طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فهو من الطريق الاول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا ان قوله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات ) المجادلة ـ ١١. يدل على ان نفس الطريق الاول ايضا يقع فيه انقسام.

وبيانه : ان كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى : ( ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل ) البقرة ـ ١٠٨. وفي هذا المعنى قوله تعالى ( أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ) يس ـ ٦٢. والقرآن يعد الشرك ظلما وبالعكس ، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الامر : ( اني كفرت بما اشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ) ابراهيم ـ ٢٢. كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى ( الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون ) الانعام ـ ٨٢ وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والامن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال ، على ارتفاع الظلم ولبس الايمان به ، وبالجملة الضلال والشرك والظلم امرها واحد وهي متلازمة مصداقا ، وهذا هو المراد من قولنا : ان كل واحد منها معرف بالآخر أو

٢٩

هو الآخر ، فالمراد المصداق دون المفهوم.

إذا عرفت هذا علمت ان الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك ولا ظلم البته كما لا يقع فيه ضلال البته ، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه ، ولا في ظاهر الجوارح والاركان من فعل معصية أو قصور في طاعة ، وهذا هو حق التوحيد علما وعملا إذ لا ثالث لهما وما ذا بعد الحق الا الضلال ؟ وينطبق على ذلك قوله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون ) الانعام ـ ٨٢ ، وفيه تثبيت للامن في الطريق ووعد بالاهتداء التام بنائا على ما ذكروه : من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

ثم انه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا ) النساء ـ ٦٨ ، وقد وصف هذا الايمان والاطاعة قبل هذه الآية بقوله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ولو انا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) النساء ـ ٦٦. فوصفهم بالثبات التام قولا وفعلا وظاهرا وباطنا على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعا لاولئك المنعم عليهم وفي صف دون صفهم لمكان مع ولمكان قوله : وحسن اولئك رفيقا ولم يقل : فاولئك من الذين.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( والذين آمنو بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونور هم ) الحديد ـ ١٩. وهذا هو الحاق المؤمنين بالشهداء والصديقين في الآخرة ، لمكان قوله : عند ربهم ، وقوله : لهم اجرهم.

فاؤلئك ( وهم اصحاب الصراط المستقيم ) أعلى قدرا وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنون الذين اخلصوا قلوبهم واعمالهم من الضلال والشرك والظلم ، فالتدبر

٣٠

في هذه الآيات يوجب القطع بان هؤلاء المؤمنين و ( شأنهم هذا الشأن ) فيهم بقية بعد لو تمت فيهم كانوا من الذين انعم الله عليهم ، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلهم نوع من العلم بالله ، ذكره في قوله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات ) المجادلة ـ ١١. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي ارفع النعم قدرا ، يربو على نعمة الايمان التام ، وهذا ايضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

ثم انه تعالى على انه كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل ، لم ينسب لنفسه ازيد من صراط مستقيم واحد ، وعد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) العنكبوت ـ ٦٩. وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى احد من خلقه إلا ما في هذه الآية ( صراط الذين انعمت عليهم الآية ) ولكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه ، فقال تعالى : ( قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة ) يوسف ـ ١٠٨. وقال تعالى ( سبيل من أناب الي ) لقمان ـ ١٥. وقال : ( سبيل المؤمنين ) النساء ـ ١١٤. ويعلم منها : ان السبيل غير الصراط المستقيم فانه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما ) يشير إليه قوله تعالى : ( قد جائكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بأذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) المائدة ـ ١٦ ، فعد السبل كثيرة والصراط واحدا وهذا الصراط المستقيم اما هي السبل الكثيرة واما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيها.

وأيضا قال تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) يوسف ـ ١٠٦. فبين ان من الشرك ( وهو ضلال ) ما يجتمع مع الايمان وهو سبيل ، ومنه يعلم ان السبيل يجامع الشرك ، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال : ولا الضالين.

والتدبر في هذه الآيات يعطى ان كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز ، بخلاف الصراط المستقيم ، وان كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه

٣١

غير الآخر ويفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين انه يتحد مع ما يخالفه ، كما يستفاد من بعض الايات المذكورة وغيرها كقوله : ( وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ) يس ـ ٦١. وقوله تعالى : ( قل انني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا ) الانعام ـ ١٦١. فسمى العبادة صراطا مستقيما وسمى الدين صراطا مستقيما وهما مشتركان بين السبل جميعا ، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن ، فكما ان للبدن اطوارا في حيوته هو عند كل طور غيره عند طور آخر ، كالصبي والطفولية والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكن الروح هي الروح وهي متحدة بها والبدن يمكن ان تطرء عليه اطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الانسان ، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو صراط المستقيم إلا ان السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتبعين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمأو غير ذلك من سبل الله تعالى ، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت ان الايمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شئ من ذلك الصراط المستقيم ، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده ، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.

وقد بين الله سبحانه هذا المعنى ، اعني : اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق والباطل في كلامه ، فقال تعالى : ( انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال ) الرعد ـ ١٧. فبين : ان القلوب والافهام في تلقي المعارف والكمال مختلفة ، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد ، وسيجئ تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد ، وبالجملة فهذا ايضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.

وإذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك ان الصراط المستقيم

٣٢

مهيمن على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى ، بمعنى ان السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة ، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا ومن غير شرط وقيد ، ولذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما ، فان الصراط هو الواضح من الطريق ، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا ، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه ، والمستقيم هو الذي يريد ان يقوم على ساق فيتسلط على نفسه وما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره ، ويرجع المعنى إلى انه الذي لا يتغير أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته وايصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى : ( فاما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) النساء ـ ١٧٤. اي لا يتخلف امر هذه الهداية ، بل هي على حالها دائما ، وقال تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كانما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما ) الانعام ـ ١٢٦. أي هذه طريقته التي لا يختلف ولا يتخلف ، وقال تعالى : ( قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) الحجر ـ ٤٢. أي هذه سنتي وطريقتي دائما من غير تغيير ، فهو يجري مجرى قوله : ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) الفاطر ـ ٤٢.

وقد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم امور.

احدها : ان الطرق إلى الله مختلفة كمالا ونقصا وغلائا ورخصا ، في جهة قربها من منبع الحقية والصراط المستقيم كالاسلام والايمان والعبادة والاخلاص والاخبات ، كما ان مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك ، قال سبحانه ( ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم اعمالهم وهم لا يظلمون ) الاحقاف ـ ١٩.

وهذا نظير المعارف الالهية التى تتلقاها العقول من الله فانها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلونة بالوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى :

٣٣

( انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها الآية ).

وثانيها : انه كما إن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل ، فكذلك اصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه وتولى امرهم وولاهم امر هداية عباده حيث قال : ( وحسن اولئك رفيقا ) النساء ـ ٧١. وقال تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوه وهم راكعون ) المائدة ـ ٥٥. والآية نازلة في أمير المؤمنين علي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاخبار المتواترة وهو عليه‌السلام اول فاتح لهذا الباب من الامة وسيجئ تمام الكلام في الآية.

وثالثها : إن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه ، وتوضيح ذلك ان الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح ، وفيه ان تعديتها لمفعولين لغة اهل الحجاز ، وغيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بالى ، وقوله هو الظاهر ، وما قيل : ان الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها ، فهي بمعنى الايصال إلى المطلوب ، وإذا تعدت بالى فبمعنى إرائة ، الطريق مستدلا بنحو قوله تعالى : ( إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء ) القصص ـ ٥٦. حيث ث إن هدايته بمعنى ارائة الطريق ثابتة فالمنفى غيرها وهو الايصال إلى المطلوب قال تعالى : ( وهديناهم صراطا مستقيما ) النساء ـ ٧٠. وقال تعالى : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) الشورى ـ ٥٢.

فالهداية بالايصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها ، والهداية بارائة الطريق بالى ، وفيه ان النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى ، لا نفي لها اصلا ، وبعبارة اخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة ، مضافا إلى انه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون : ( يا قوم اتبعون اهدكم سبيل الرشاد ) غافر ـ ٣٨. فالحق انه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية ، ومن الممكن ان يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار.

وبالجملة فالهداية هي الدلالة وارائة الغاية بارائة الطريق وهي نحو ايصال إلى المطلوب ، وانما تكون من الله سبحانه ، وسنته سنة الاسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره ، وقد بينه الله سبحانه بقوله : ( فمن

٣٤

يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ) الانعام ـ ١٢٥. وقوله : ( ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) الزمر ـ ٢٣. وتعدية قوله تلين بالى لتضمين معنى مثل الميل والاطمينان ، فهو ايجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه ، وكما أن سبله تعالى مختلفة ، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به.

وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ) العنكبوت ـ ٦٩. إذ فرق بين ان يجاهد العبد في سبيل الله ، وبين أن يجاهد في الله ، فالمجاهد في الاول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فانه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به ، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.

ورابعها : ان الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها ، صح ان يهدي الله الانسان إليه وهو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط ، بمعنى أن يهيه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة ، كما أن قوله تعالى : إهدنا الصراط ( وهو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة ) من هذا القبيل ، ولا يرد عليه : ان سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال ، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلق به سؤال ، والجواب ظاهر.

وكذا الايراد عليه : بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الامم السابقة ، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ وذلك ان كون شريعة اكمل من شريعة امر ، وكون المتمسك بشريعة اكمل من المتمسك بشريعة امر آخر ورائه ، فان المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( مع كون شريعته اكمل وأوسع ) ليس بأكمل من نوح وابراهيم عليهما‌السلام مع كون شريعتهما اقدم وأسبق ، وليس ذلك إلا ان حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها والتخلق بها ، فصاحب مقام التوحيد الخالص وان كان من اهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد ولم تستقر

٣٥

حيوة المعرفة في روحه ولم يتمكن نور الهداية الالهية من قلبه ، وإن كان عاملا بالشريعة المحمدية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي اكمل الشرائع وأوسعها ، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.

ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام ، ما ذكره بعض المحققين من اهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة : ان دين الله واحد وهو الاسلام ، والمعارف الاصلية وهو التوحيد والنبوة والمعاد وما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع ، وانما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي ان الاحكام الفرعية فيها اوسع واشمل لجميع شئون الحيوة ، فهي اكثر عناية بحفظ مصالح العباد ، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الاحسن ، ثم ان الدين وان كان دينا واحدا والمعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا وتقدموا في ذلك علينا ، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا.

أقول : وهذا الكلام مبنى على اصول في مسلك التفسير مخالفة للاصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها ، فانه مبني على أن حقائق المعارف الاصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات ، وكذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية ، فأفضل الانبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجي التكويني على حد سواء ، وإنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير ان يتكي على تكوين ، كما ان التفاضل بين الملك والرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الانساني هذا.

ولهذا الاصل أصل آخر يبنى عليه ، وهو القول باصالة المادة ونفى الاصالة عما ورائها والتوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل ، وقد وقع في هذه الورطة من وقع لاحد امرين : إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية وإما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي.

وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الابحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.

٣٦

وخامسها : ان مزية اصحاب الصراط المستقيم على غيرهم ، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم ، إنما هو بالعلم لا العمل ، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم ، إذ قد تبين مما مر : ان العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم ، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم ، واما ما هذا العلم ؟ وكيف هو ؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى : ( انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) الرعد ـ ١٧.

ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات ) المجادلة ـ ١١ ، وكذا قوله تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) الملائكة ـ ١٠ ، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب وهو الاعتقاد والعلم ، واما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب والامداد دون الصعود إليه تعالى ، وسيجئ تمام البيان في البحث عن الآية.

بحث روائي

في الكافي عن الصادق عليه‌السلام في معنى العبادة قال : العبادة ثلاثة : قوم عبدوا الله خوفا ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الاجراء ، وقوم عبدوا الله عزوجل حبا ، فتلك عبادة الاحرار ، وهي افضل العبادة.

وفي نهج البلاغة : ان قوما عبدوا الله رغبة ، فتلك عبادة التجار ، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار.

وفي العلل والمجالس والخصال ، عن الصادق عليه‌السلام : ان الناس يعبدون الله على ثلاثة اوجه : فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع ، وآخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد ، وهي رهبة ، ولكني اعبده حبا له عزوجل فتلك عبادة الكرام ، لقوله عزوجل : ( وهم من فزع يومئذ آمنون ). ولقوله عزوجل ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ، فمن احب الله عزوجل

٣٧

احبه ، ومن احبه الله كان من الآمنين ، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون.

اقول : وقد تبين معنى الروايات مما مر من البيان ، وتوصيفهم عليهم‌السلام عبادة الاحرار تارة بالشكر وتارة بالحب ، لكون مرجعهما واحدا ، فان الشكر وضع الشئ المنعم به في محله ، والعبادة شكرها ان تكون لله الذي يستحقها لذاته ، فيعبد الله لانه الله ، اي لانه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته ، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته ، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه ، فقولنا فيه تعالى هو معبود لانه هو ، وهو معبود لانه جميل محبوب ، وهو معبود لانه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.

وروي بطريق عامي عن الصادق عليه‌السلامفي قوله تعالى : ( إياك نعبد الآية ) ، يعني : لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل : كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.

اقول : والرواية تشير إلى ما تقدم ، من استلزام معنى العبادة للحضور وللاخلاص الذي ينافي قصد البدل.

وفي تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام في حديث : ومن زعم انه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب ، ومن زعم انه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لان الصفة غير الموصوف ، ومن زعم انه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير ، وما قدروا الله حق قدره. الحديث.

وفي المعاني عن الصادق عليه‌السلامفي معنى قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم يعني ارشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك ، والمبلغ إلى جنتك ، والمانع من أن نتبع اهواءنا فنعطب ، أو ان نأخذ بارائنا فنهلك.

وفي المعاني ايضا عن علي عليه‌السلام : في الآية ، يعني ، ادم لنا توفيقك الذي اطعناك به في ماضي ايامنا ، حتى نطيعك كذلك في مستقبل اعمارنا.

اقول : والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شهبة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي ، فالرواية الاولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا والثانية إلى اتحادها مفهوما.

٣٨

وفي المعاني أيضا عن علي عليه‌السلام: الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو ، وارتفع عن التقصير واستقام ، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.

وفي المعاني أيضا عن علي عليه‌السلام : في معنى صراط الذين الآية : اي : قولوا : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك ، لا بالمال والصحة ، فانهم قد يكونون كفارا أو فساقا ، قال : وهم الذين قال الله : ( ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن اولئك رفيقا ).

وفي العيون عن الرضا عليه‌السلامعن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلامقال : لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : قال الله عزوجل : قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سئل ، إذا قال العبد : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدء عبدي باسمي ، وحق علي ان اتمم له اموره ، وابارك له في احواله ، فإذا قال : الحمد لله رب العالمين ، قال الله جل جلاله : حمدني عبدي ، وعلم ان النعم التي له من عندي وان البلايا التي دفعت عنه بتطولي ، أشهدكم أني اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ، وإذا قال الرحمن الرحيم ، قال الله جل جلاله : ( شهد لي عبدي اني الرحمن الرحيم اشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه ولاجز لن من عطائي نصيبه ) ، فإذا قال : مالك يوم الدين قال الله تعالى : أشهدكم ، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين ، لاسهلن يوم الحساب حسابه ، ولا تقبلن حسناته ولا تجاوزن عن سيئاته ، فإذا قال : إياك نعبد ، قال الله عزوجل : صدق عبدي ، إياى يعبد اشهدكم لاثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادتة لي ، فإذا قال : وإياك نستعين قال الله تعالى : بي استعان عبدي والي التجأ ، اشهدكم لاعيننه على أمره ، ولاغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه ، فإذا قال : إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة ، قال الله عزوجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سئل ، وقد استجبت لعبدي واعطيته ما امل وآمنته مما منه وجل.

اقول : وروى قريبا منه الصدوق في العلل عن الرضا عليه‌السلام، والرواية كما ترى

٣٩

تُفسر سورة الفاتحة في الصلوة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه النيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة واظهار العبودية من الثناء لربه واظهار عبادته ، فهى سورة موضوعة للعبادة ، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها واعنى بذلك :

اولا : ان السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية ونصب نفسه في مقام العبودية.

وثانيا : انها مقسمة قسمين ، فنصف منها لله ونصف منها للعبد.

وثالثا : أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على ايجازها واختصارها فان القرآن على سعته العجيبة في معارفه الاصلية وما يتفرع عليها من الفروع من اخلاق واحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيات ووعد ووعيد وقصص وعبر ، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوة والمعاد وفروعاتها ، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به اولاهم وعقباهم ، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ واوضح معنى.

وعليك ان تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلوة المسلمين بما يضعه النصارى في صلوتهم من الكلام الموجود في انجيل متى : ( ٦ ـ ٩ ـ ١٣ ) وهو ما نذكره بلفظه العربي ، « أبانا الذي في السموات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيتك كما في اسماء كذلك على الارض ، خبزنا كفافنا ، أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين الينا ، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير آمين ».

تأمل في المعاني التي تفيدها الفاظ هذه الجمل بعنوان انها معارف سماوية ، وما يشتمل عليه من الادب العبودي ، إنها تذكر أولا : أن اباهم ( وهو الله تقدس اسمه ) في السموات !! ثم تدعو في حق الاب بتقدس اسمه واتيان ملكوته ونفوذ مشيتة في الارض كما هي نافذة في السماء ، ولكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الاحزاب السياسية اشبه ؟ ثم تسئل الله اعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة ، و

٤٠