الميزان في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٤٧

ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية ، وشملته بلية العقوبة ، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل ، والجرم الع امل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد وهو القائل عز من قائل : ( أؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) الفرقان ـ ٧٠ ، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما ، قال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) الفرقان ـ ٢٣ ، وقال تعالى : ( فأحبط أعمالهم ) محمد ـ ١٠ ، وقال تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) النساء ـ ٣١ ، وقال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء ـ ٤٨ ، والآية في غير مورد الايمان والتوبة قطعا فإن الايمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب وله تكثير القليل من العمل ، قال تعالى : ( أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين ) القصص ـ ٦٥ ، وقال : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) الانعام ـ ١٦٠ ، وله سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا ، قال تعالى : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل أمرء بما كسب رهين ) الطور ـ ٢١ ، وهذا هو اللحوق والالحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية ، وعلة متوسطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم.

ومن هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية ، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الاطلاق. قال تعالى : ( قل لله الشفاعة جميعا ) الزمر ـ ٤٤ ، وقال تعالى : ( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ) السجدة ـ ٤ ، وقال تعالى : ( ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ) الانعام ـ ٥١. وغيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه وتمليكه. فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.

١٦١

٢ ـ اشكالات الشفاعة

قد عرفت : أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة ، وستعرف أن الكتاب وكذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك ، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك ، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية والتأثير ، ولا معنى للاطلاق في السببية والتأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط ولا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الاطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببيه وهو باطل بالضرورة. ومن هنا اشتبه الامر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بامور وبنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى وهاك شطرا منها :

الاشكال الاول : أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما. فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى وتقدس ، وإن كان ظلما كان شفاعة الانبياء مثلا سؤالا للظلم منه وهو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم.

والجواب عنه أولا : بالنقض فإنه منقوض بالاوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا وإثباته أولا كلاهما من العدل : والحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل ، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين ، ثم يوضع الاحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم ، وأما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم ويبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم ولو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كإحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة ، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أولا عدلا ورفع عقابه ثانيا عدلا.

وثانيا : بالحل ، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الاول فيما ذكر من العدل والظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الاول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة وقد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا

١٦٢

بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات اخرى له تعالى من رحمة وعفو ومغفرة ، ومنها إفضاله للشافع بالاكرام والاعظام.

الاشكال الثاني : أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف والاختلاف ، فما قضى وحكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء ، وعلى هذا جرت سنة الاسباب ، قال تعالى : ( هذا صراط على مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من إتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين ) الحجر ـ ٤٣ ، وقال تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم ) الانعام ـ ١٥٣ ، وقال تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) الفاطر ـ ٤٢ ، وتحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فان رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال ، ولعب ينافي الحكمة قطعا ، ورفعة عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم وذنوبهم إختلاف في فعله تعالى وتغير وتبدل في سنته الجارية وطريقته الدائمة ، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم ولا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب وخروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح والاغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال ، وإنما تجري الشفاعة وما يشبهها في سنة هذه الحيوة من إبتناء الاعمال والافعال على الاهواء والاوهام التي ربما تقضي في الحق والباطل على السواء ، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة على نسق واحد.

والجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم وسنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع والحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده ولا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوطة علت صفاته.

توضيح ذلك : أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حيوة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك. وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ولا لرابطة واحدة كيف كانت ، فإن فيه بطلان الارتباط والسببية ، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب ومصلحة مقتضية ولا يشفيه لانه الله المميت

١٦٣

المنتقم شديد البطش بل لانه الله الرؤوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا ولا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب ، لانه رؤوف رحيم به ، بل لانه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا وهكذا. والقرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلائم والايتلاف الواقع بينها والاقتضاء المستنتج من ذلك ، وإن شئت قلت : كل أمر من الامور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح والخيرات. إذا عرفت هذا علمت : أن استقامة صراطه وعدم تبدل سنته وعدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضي صفة قاصره وإن شئت قلت : بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الحكم والمصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة. فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير ولم يختلف في بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر. لكن الاسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.

فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب ـ وذلك أثر عدة من الاسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء ـ لا يوجب اختلافا في السنة الجارية وضلالا في الصراط المستقيم.

الاشكال الثالث : أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك إلارادة ونسخها لاجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشئ وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة إرتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة ، وكل من النوعين محال على الله تعالى لان إرادته على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير.

والجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الارادة والعلم في شئ وانما التغير في المراد والمعلوم ، فهو سبحانه يعلم أن الانسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون

١٦٤

في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصة فيريد فيه بإرادة ، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الاول لاقتران أسباب وشرائط اخر فيريد فيه بارادة اخرى وكل يوم هو في شأن ، وقد قال تعالى : ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) الرعد ـ ٣٩ ، وقال ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) المائدة ـ ٦٧ ، مثال ذلك : أنا نعلم أن الهواء ستغشاة الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بانارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضائة بالسراج وعند إنقضائه باطفائه والعلم والارادة غير متغيرتين وإنما تغير المعلوم والمراد ، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم والارادة ، وليس كل علم ينطبق على كل معلوم ، ولا كل إرادة تتعلق بكل مراد ، نعم تغير العلم والارادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان إنطباق العلم على المعلوم والارادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين انه فرس فيتبدل العلم ، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك ، وهذان غير جائزين في مورده تعالى ، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.

الاشكال الرابع : أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الانبياء عليهم‌السلام مستلزم لتجري الناس على المعصية واغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية والطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الاصل البديهي.

والجواب عنه ، اولا : بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء ـ ٥١ ، والآية ـ كما مر ـ في غير مورد التوبة بدليل إستثنائه الشرك المغفور بالتوبة.

وثانيا : بالحل : فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية وإغرائهم على التمرد والمخالفة بشرطين :

احدهما : تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الانجاز من غير تعليق بشرط جائز.

١٦٥

وثانيهما : تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا.

فلو قيل : أن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا ، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول ولعبا بالاحكام والتكاليف المتوجهة إلى المكلفين ، وأما إذا أبهم الامر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب وفي حق أي المذنبين أو ان العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الاوقات والاحوال ، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى ، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطا من رحمة الله ، ويأسا من روح الله ، مضافا إلى قوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) النساء ـ ٣١ ، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات والمعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه : إن إتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم ، فليجز أن يقال : إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين ، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الايمان والمعاصي تضعف الايمان وتقسي القلب وتجلب الشرك ، وقد قال تعالى : ( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) الاعراف ـ ٩٨ ، وقال : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) المطففين ـ ١٤ ، وقال : ( ثم كان عاقبة الذين اساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله ) الروم ـ ١٠ ، وربما أوجب ذلك إنقلاعه عن المعاصي ، وركوبه علصراط التقوى ، وصيرورته من المحسنين ، واستغنائه عن الشفاعة بهذا المعنى ، وهذا من أعظم الفوائد ، وكذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا.

والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين وفي خصوص الذنب بالتعيين ولم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجئ فلا اشكال أصلا.

الاشكال الخامس : ان العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على

١٦٦

فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع ، وأما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله ، ( لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) البقرة ـ ٢٥٤ ، واخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) المدثر ـ ٤٨ ، وأخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى : ( إلا باذنه ) البقرة ـ ٢٥٥ وقوله : ( إلا من بعد إذنه ) يونس ـ ٣ ، وقوله تعالى : ( إلا لمن إرتضي ) الانبياء ـ ٢٨ ، ومثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالاذن والمشية معهود في اسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للاشعار بان ذلك باذنه ومشيته سبحانه كقوله تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) الاعلى ـ ٦ ، وقوله تعالى : ( خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك ) هود ـ ١٠٧ ، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وأما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه ، وأما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.

والجواب : أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير اذن الله وارتضائه ، وإما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فانها تثبت الشفاعة ولا تنفيه فان الآيات واقعة في سورة المدثر وانما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم ، ومع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الاضافة ، ففرق بين أن يقول القائل : فلا تنفعهم الشفاعة وبين أن يقول : فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الاضافة ، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الاعجاز فقوله : شفاعة الشافعين يدل على ان شفاعة ما ستقع غير ان هؤلاء لا ينتفعون بها على ان الاتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله : ( كانت من الغابرين ) وقوله : ( وكان من الكافرين ) وقوله : ( وكان من الغاوين ) وقوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) وأمثال ذلك ، ولو لا ذلك لكان الاتيان بصيغة الجمع وله مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله : فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.

واما عن الآيات المشتملة على استثناء الاذن والارتضاء فدلالة قوله : ( إلا باذنه )

١٦٧

وقوله : ( إلا من بعد إذنه ) على الوقوع وهو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف باساليب الكلام وكذا القول : بكون قوله : ( الا بإذنه ) وقوله : ( إلا لمن إرتضى ) بمعنى واحد وهو المشية مما لا ينبغ الاصغاء إليه ، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله : ( إلا باذنه والا من بعد إذنه ) وقوله : ( الا لمن إرتضى ) ، وقوله : ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) إلى غير ذلك ، فهب : إن الاذن والارتضاء واحد وهو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله : ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ). فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا ؟ هذا وأمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ ! وكيف بأبلغ الكلام ! وأما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب.

الاشكال السادس : أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم ولزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الانبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس وبين ربهم بأخذ الاحكام بالوحي وتبليغها الناس وهدايتهم وهذا المقدار كالبذر ينمو وينشأ منه ما يستقبله من الاقدار والاوصاف والاحوال فهم عليه‌السلام شفعاء المؤمنين في الدنيا وشفعائهم في الآخرة.

والجواب : انه لا كلام في ان ذلك من مصاديق الشفاعة الا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه ، ومن الدليل عليه قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء ـ ٤٨ ، وقد مر بيان ان الآية في غير مورد الايمان والتوبة ، والشفاعة التي قررها المستشكل في الانبياء انما هي بطريق الدعوة إلى الايمان والتوبة.

الاشكال السابع : أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة ، وما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة وتثبتها اخرى ، وربما قيدتها وربما أطلقتها ، والادب الديني الايمان بها ، وإرجاع علمها إلى الله تعالى.

والجواب عنه : أن المتشابهة من الآيات تصير بارجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها ، وهو امر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر ، كما سيجئ بيانه عند قوله

١٦٨

تعالى : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) آل عمران ـ ٧.

٣ ـ فيمن تجري الشفاعة ؟

قد عرفت ان تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملائمة الا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب ابهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن ، قال تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) المدثر ـ ٤٨ ، بين سبحانه فيها ان كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب مأخوذه بما اسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن واطلقوا واستقروا في الجنان ، ثم ذكر انهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون باعمالهم ، مأخوذ عليهم في سقر ، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار ، وهم يجيبون بالاشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار ، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة ، وإذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة ، المسلوكين في سقر ، فهذا الفك والاخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة وفي الآيات تعريف اصحاب اليمين بإنتفاء الاوصاف المذكورة عنهم ، بيان ذلك : أن الآيات واقعة في سورة المدثر وهي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها ، ولم يشرع يومئذ الصلوة والزكوة بالكيفية الموجودة اليوم ، فالمراد بالصلوة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي ، وباطعام المسكين مطلق الانفاق على المحتاج في سبيل الله ، دون الصلوة والزكوة المعهودتين في الشريعة الاسلامية والخوض هو الغور في ملاهي الحيوة وزخارف الدنيا الصارفة للانسان عن الاقبال على

١٦٩

الآخرة وذكر الحساب يوم الدين : أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة ، وبالتلبس بهذه الصفات الاربعة ، وهي ترك الصلوة لله وترك الانفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين ، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فان الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالاعراض عن الاخلاد إلى الارض والاقبال إلى يوم لقاء الله وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدين ولازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية ، والسعي في رفع حوائج جامعة الحيوة وهذان هما الصلوة والانفاق في سبيل الله ، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الاربع ، وتستلزم بقية الاركان كالتوحيد والنبوة إستلزاما هذا ، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة ، وهم المرضيون دينا وإعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن ، وهم المعنيون بالشفاعة ، فالشفاعة للمذنبين من اصحاب اليمين ، وقد قال تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) النساء ـ ٣١ ، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من إهل الكبائر ، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه ، فقد بان أن الشفاعة لاهل الكبائر من أصحاب اليمين ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما شفاعتي لاهل الكبائر من امتي فاما المحسنون فما عليهم من سبيل ، الحديث.

ومن جهة اخرى إنما سمى هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشئمة ، وهو من الالفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الانسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله ، قال تعالى : ( يوم ندعوا كل اناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) أسرى ـ ٧٢ ، وسنبين في الآيه إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين إتباع الامام الحق ، ومن إيتائه بالشمال إتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ) هود ـ ٩٨ ، وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى إرتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الاربعة المذكورة هذا.

ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )

١٧٠

الانبياء ـ ٢٨ ، فأثبت الشفاعة على من إرتضي ، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه ، كما فعلة في قوله : ( إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) طه ـ ١٠٩ ، ففهمنا أن المراد به إرتضاء أنفسهم أي إرتضاء دينهم لا إرتضاء عملهم ، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الافادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) فهو يملك الشفاعة ( أي المصدر المبني للمفعول ) وليس كل مجرم بكافر محتوم له النار ، بدليل قوله تعالى : ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيي ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فاؤلئك لهم الدرجات العلى ) طه ـ ٧٥ ، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن ، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحا ، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا وهو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ) يس ـ ٦١ فقوله تعالى : ( وأن اعبدوني ) عهد بمعنى الامر وقوله تعالى : ( هذا صراط مستقيم ، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة ، فهؤلاء قوم من أهل الايمان يدخلون النار لسوء أعمالهم ، ثم ينجون منها بالشفاعة ، وإلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى : ( قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا ) البقرة ـ ٨٠ ، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ، والجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر ، وهم الذين إرتضى الله دينهم.

٤ ـ من تقع منه الشفاعة ؟

قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية ، ومنها تشريعية ، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الاسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الاشياء. وأما الشفاعة التشريعية ، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات ، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا وزلفى : فهو شفيع متوسط بينه وبين عبده. ومنه

١٧١

التوبة كما قال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم ) الزمر ـ ٥٤ ، ويعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك. ومنه الايمان قال تعالى : آمنوا برسوله ، إلى قوله : ( ويغفر لكم ) الحديد ـ ٢٨. ومنه كل عمل صالح. قال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ) المائدة ـ ٩ ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) المائدة ـ ٣٥ ، والآيات فيه كثيرة ، ومنه القرآن لقوله تعالى : ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) المائدة ـ ١٦.

ومنه كل ما له إرتباط بعمل صالح ، والمساجد والامكنة المتبركة والايام الشريفة ، ومنه الانبياء والرسل بإستغفارهم لاممهم. قال تعالى : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فإستغفروا الله وإستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) النساء ـ ٦٤. ومنه الملائكة في إستغفارهم للمؤمنين ، قال تعالى : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ) المؤمن ـ ٧ ، وقال تعالى : ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم ) الشوري ـ ٥ ، ومنه المؤمنون بإستغفارهم لانفسهم ولاخوانهم المؤمنين قال تعالى حكاية عنهم ( وأعف عنا وإغفر لنا وارحمنا أنت مولينا ) البقرة ـ ٢٨٦

ومنها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الانبياء. قال تعالى : ( وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ) إلى أن قال : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) الانبياء ـ ٢٩ ، فأن منهم عيسى بن مريم وهو نبي ، وقال تعالى : ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) الزخرف ـ ٨٦ ، والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضا لانهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه. ومنهم الملائكة. قال تعالى : ( وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) النجم ـ ٢٦ ، وقال تعالى : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) طه ـ ١١٠ ، ومنهم الشهداء

١٧٢

لدلالة قوله تعالى : ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) الزخرف ـ ٨٦ ، على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق ، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير ان هذه الشهادة كما مر في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) البقرة ـ ١٤٣ ، شهادة الاعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال ، ومن هنا يظهر أن المؤمنين أيضا من الشفعاء فإن الله عزوجل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة قال تعالى : ( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم ) الحديد ـ ١٩ ، كما سيجئ بيانه.

٥ ـ بما ذا تتعلق الشفاعة ؟

قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني في عالم الاسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب ، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والايمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الاعمال الصالحة ، وأما الشفاعة المتنازع فيها وهى شفاعة الانبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن إستحقه بالحساب ، فقد عرفت في الامر الثالث ان متعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق وقد ارتضى الله دينه.

٦ ـ متى تنفع الشفاعة ؟

ونعني بها أيضا الشفاعة الرافعة للعقاب ، والذي يدل عليه قوله سبحانه : ( كل نفس بما كسبت رهينة الا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر ) المدثر ـ ٤٢ ، فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنها تدل على أن الشفاعة إما تنفع في الفك عن هذه الرهانة والاقامة والخلود في سجن النار ، وأما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.

واعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار

١٧٣

أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار وتعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار ، وذلك لمكان قوله : في جنات ، الدال على الاستقرار وقوله : ما سلككم فإن السلوك هو الادخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله : فما تنفعهم ، فإن ما لنفي الحال ، فافهم ذلك.

واما نشأة البرزخ وما يدل على حضور النبي عليه‌السلام والائمة عليهم‌السلام عند الموت وعند مسائلة القبر وإعانتهم إياه علي الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ) النساء ـ ١٥٨ ، فليس من الشفاعة عند الله في شئ وإنما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه ، قال تعالى : ( وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنه أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ) إلى أن قال : ( ونادى أصحاب الاعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغني عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ، أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا انتم تحزنون ) الاعراف ـ ٤٦ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى : ( يوم ندعوا كل اناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه ) أسرى ـ ٧١ ، فوساطة الامام في الدعوة ، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فإفهم.

فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة بإستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار ، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها ، بإتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

بحث روائي

في أمالي الصدوق : عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي ، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل ، قال الحسين بن خالد : فقلت للرضا عليه‌السلام يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزوجل : ( ولا يشفعون إلا لمن إرتضى ) قال عليه

١٧٤

السلام : لا يشفعون إلا لمن إرتضى الله دينه.

اقول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما شفاعتي ، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مر إستفادة معناه من الآيات.

وفي تفسير العياشي : عن سماعة بن مهران عن أبي ابراهيم عليه‌السلام : في قول الله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، قال : يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس ، فيركب على رؤوس العباد ، ويلجمهم العرق ، ويؤمر الارض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح ، ويدلهم نوح على إبراهيم ، ويدلهم إبراهيم على موسى ، ويدلهم موسى على عيسى ، ويدلهم عيسى فيقول : عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له : من هذا ؟ والله أعلم فيقول محمد ، فيقال : افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له : تكلم وسل تعط وإشفع تشفع فيرفع رأسه ويستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قول الله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.

أقول : وهذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار والتفصيل بطرق متعددة من العامة والخاصة ، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة ، ولا ينافي ذلك كون غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الانبياء ، وغيرهم جائز الشفاعة لامكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي تفسير العياشي أيضا : عن أحدهما عليه‌السلام : في قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، قال : هي الشفاعة.

وفي تفسير العياشي أيضا : عن عبيد بن زرارة قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال : نعم فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ ؟ قال : نعم إن للمؤمنين خطايا وذنوبا وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ. قال : وسأله رجل عن قول رسول الله : أنا سيد ولد آدم ولا

١٧٥

فخر.قال : نعم.قال : يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله : إرفع رأسك إشفع تشفع أطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله : إرفع رأسك إشفع تشفع واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع ويطلب فيعطى.

وفي تفسير الفرات : عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال : قلت لمحمد بن علي عليه‌السلام ، آية آية في كتاب الله أرجى ؟ قال : فما يقول فيها قومك ؟

قلت : يقولون : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) ، قال : لكنا أهل بيت لا نقول ذلك. قال : قلت : فأي شئ تقولون فيها ؟ قال : نقول : ولسوف يعطيك ربك فترضى ، الشفاعة والله الشفاعة والله الشفاعة.

أقول : أما كون قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ، الآية مقام الشفاعة فربما ساعد عليه لفظ الآية أيضا مضافا إلى ما استفاض عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه مقام الشفاعة فإن قوله تعالى : أن يبعثك ، يدل على أنه مقام سيناله يوم القيامة. وقوله محمودا مطلق فهو حمد غير مقيد يدل على وقوعه من جميع الناس من الاولين والآخرين ، والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ففيه دلالة على وقوع فعل منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتفع به ويستفيد منه الكل فيحمده عليه ، ولذلك قال عليه‌السلام : في رواية عبيد بن زرارة السابقة وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ الحديث. وسيجئ بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه.

وأما كون قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى ، أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا الآية ، فإن النهي عن القنوط وإن تكرر ذكره في القرآن الشريف إلا أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكاية عن ابراهيم عليه‌السلام : قال : ( ومن يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون ) الحجر ـ ٥٦ ، وقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه‌السلام : ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) يوسف ـ ٨٧ ، ناظرتان إلى اليأس والقنوط من الرحمة التكوينية بشهادة المورد.

وأما قوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة

١٧٦

الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم ) الزمر ـ ٥٤ ، إلى آخر الآيات فهو وإن كان نهيا عن القنوط من الرحمة التشريعية بقرينة قوله تعالى أسرفوا على أنفسهم الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطا من جهة المعصية ، وقد عمم سبحانه المغفرة للذنوب جميعا من غير استثناء ، ولكنه تعالى ذيله بالامر بالتوبة والاسلام والعمل بالاتباع فدلت الآية على أن العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله ما دام يمكنه إختبار التوبة والاسلام والعمل الصالح.

وبالجملة فهذه رحمة مقيدة أمر الله تعالى عباده بالتعلق بها ، وليس رجاء الرحمة المقيدة كرجاء الرحمة العامة والاعطاء ، والارضاء المطلقين الذين وعدهما الله لرسوله الذي جعله رحمة للعالمين ذلك الوعد يطيب نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضي الآية ).

توضيح ذلك : إن الآية في مقام الامتنان وفيها وعد يختص به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعد الله سبحانه بمثله أحدا من خلقة قط ، ولم يقيد الاعطاء بشئ فهو إعطاء مطلق وقد وعد الله ما يشابه ذلك فريقا من عباده في الجنة فقال تعالى : ( لهم فيها ما يشاؤون عند ربهم ) الشوري ـ ٢٢ ، وقال تعالى : ( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) ق ـ ٣٥ ، فأفاد أن لهم هناك ما هو فوق مشيتهم ، والمشية تتعلق بكل ما يخطر ببال الانسان من السعادة والخير ، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) السجدة ـ ١٧ ، فإذا كان هذا قدر ما إعطاه الله على عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام الامتنان أوسع من ذلك وأعظم فافهم.

فهذا شأن إعطائه تعالى ، وأما شأن رضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن المعلوم أن هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله ، الذي هو زميل لامر الله. فإن الله هو المالك الغني على الاطلاق وليس للعبد إلا الفقر والحاجة فينبغي أن يرضي بقليل ما يعطيه ربه وكثيره وينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقه ، سره ذلك أو ساءه ، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم وأعمل ، لا يريد إلا ما يريده الله في حقه ، لكن هذا

١٧٧

الرضا حيث وضع في مقابل الاعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده ، وإرضاء الجائع بإشباعه فهو الارضاء بالاعطاء من غير تحديد ، وهذا أيضا مما وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده. قال عز من قائل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أؤلئك هم خير البرية جزاءهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) البينة ـ ٨ ، وهذا أيضا لموقع الامتنان والاختصاص يجب أن يكون أمرا فوق ما للمؤمنين وأوسع من ذلك ، وقد قال تعالى : في حق رسوله : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) التوبة ـ ١٢٨ ، فصدق رأفته وكيف يرضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطيب نفسه أن يتنعم بنعيم الجنة ويرتاض في رياضه وفريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير ، مسجونون تحت أطباق النار وهم معترفون لله بالربوبية ، ولرسوله بالرسالة ، ولما جاء به بالصدق ، وإنما غلبت عليهم الجهالة ، ولعب بهم الشيطان ، فاقترفوا معاصي من غير عناد وإستكبار. والواحد منا إذا راجع ما أسلفه من عمره ونظر إلى ما قصر به في الاستكمال والارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه وطلبه ثم يلتفت إلى جهالة الشباب ونقص التجارب فربما خمدت نار غضبه وانكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته ، فما ظنك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلا جهالة إنسان ضعيف وكرامة النبي الرؤوف الرحيم ورحمة أرحم الراحمين. وقد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنية إلى آخر مواقف يوم القيامة ؟.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له الآية ، عن أبي العباس المكبر قال : دخل مولى لامرأة علي بن الحسين يقال له : أبو أيمن فقال : يا أبا جعفر تغرون الناس وتقولون : شفاعة محمد ، شفاعة محمد ، فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه ، ثم قال : ويحك يا أبا أيمن أغرك أن عف بطنك وفرجك ؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمد ، ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار ؟ قال : ما من أحد من الاولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة ، ثم قال أبو جعفر : إن لرسول الله الشفاعة في امته ، ولنا شفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا شفاعة في أهاليهم ، ثم قال : وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، وإن المؤمن ليشفع لخادمه ويقول : يا رب حق خدمتي كان يقيني الحرو البرد.

١٧٨

أقول : قوله عليه‌السلام : ما من أحد من الاولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهره ان هذه الشفاعة العامة غير التي ذكرها بقوله : ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار ، وقد مر نظير هذا المعني في رواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه‌السلام. وفي هذا المعنى روايات أخر روتها العامة والخاصة ، ويدل عليه قوله تعالى : ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) الزخرف ـ ٨٦ ، حيث يفيد أن الملاك في الشفاعة هو الشهادة ، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة ، وسيأتي أن شاء الله في قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) البقرة ـ ١٤٣ ، أن الانبياء شهداء وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد عليهم ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء ولو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.

وفي تفسير القمي أيضا : في قوله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له قال عليه‌السلام لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة ، والشفاعة له وللائمة من ولده ثم من بعد ذلك للانبياء.

وفي الخصال : عن علي عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاثة يشفعون إلى الله عزوجل فيشفعون : الانبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء.

اقول : الظاهر أن المراد بالشهداء ، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الائمة في الاخبار لا شهداء الاعمال كما هو مصطلح القرآن.

وفي الخصال في حديث الاربعمائة : وقال عليه‌السلام : لنا شفاعة ولاهل مودتنا شفاعة.

أقول : وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة عليه‌السلام وشفاعة ذريتها غير الائمة وشفاعة المؤمنين حتى السقط منهم. ففي الحديث المعروف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له : أدخل فيقول : لا حتى يدخل أبواي الحديث.

وفي الخصال : عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليه‌السلام قال : إن للجنة

١٧٩

ثمانية أبواب ، باب يدخل منه النبيون والصديقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا ، فلا ازال واقفا على الصراط أدعو واقول : رب سلم شيعتي ومحبي وأنصاري ومن تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش ، قد اجيبت دعوتك ، وشفعت في شيعتك ، ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه ، وباب يدخل منه ساير المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت

وفي الكافي : عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رسالته إلى أصحابه قال عليه‌السلام : واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.

وفي تفسير الفرات : باسناده عن الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال جابر لابي جعفر عليه‌السلام : جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في جدتك فاطمة وساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : فو الله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق ، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى فما لنا من شافعين لا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : هيهات هيهات منعوا ما طلبوا ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.

اقول : تمسكه عليه‌السلام بقوله تعالى : فما لنا من شافعين يدل على إستشعار دلالة الآيات على وقوع الشفاعة وقد تمسك بها النافون للشفاعة على نفيها وقد إتضح مما قدمناه في قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين وجه دلالتها عليها في الجملة ، فلو كان المراد مجرد النفي لكان حق الكلام أن يقال : فما لنا من شفيع ولا صديق حميم ، فالاتيان في حيز النفي بصيغة الجمع يدل على وقوع شفاعة من جماعة وعدم نفعها في حقهم ، مضافا إلى ان قوله تعالى : فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين بعد قوله : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم المسوق للتحسر تمن واقع في حيز التحسر ومن المعلوم أن التمني في حيز التحسر انما يكون بما يتضمن ما فقده ويشتمل على ما تحسر

١٨٠