الميزان في تفسير القرآن - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٥
الصفحات: ٤٤٧

عونا حذاه ، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام ، فاستل إحدى أضلاعه وسد مكانها اللحم ، وبنى الله الضلع التي أخذ إمرأة ، فأتى بها إلى آدم ، وقال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي ، ولحما من لحمى ، وينبغي أن تسمى إمرأة لانها من أمري أخذت ، ولذلك يترك الرجل أباه وامه ويلزم زوجته ، فيصيران كجسد واحد.

وكانا جميعا عريانين آدم وزوجته ولا يحتشمان من ذلك.

الفصل الثالث : والثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أيقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان ؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل ، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه ، ولا تدنوا به كيلا تموتا ، قال لهما لستما تموتان ، ان الله عالم انكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما وتصيران كالملائكة عارفي الخير والشر بزيادة ، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر ، منى للعقل ، أخذت من ثمرها فأكلت ، وأعطت بعلها فأكل معها ، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مأزر ، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار ، فأستخبأ آدم وزوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان ، فنادى الله آدم ، وقال له مقررا : أين أنت ؟ قال : إني سمعت صوتك في الجنان فإتقيت إذ أنا عريان فإستخبأت ، قال : من أخبرك إنك عريان ؟ أمن الشجرة التي نهيتك عن الاكل منها أكلت ؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت ، قال الله للمرأة : ماذا صنعت ؟ قالت : الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان : إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم وجميع وحش الصحراء وعلى صدرك تسلك وترابا تأكل طول أيام حياتك ، واجعل عداوة بينك وبين المرأة ، وبين نسلك ونسلها ، وهو يشدخ منك الرأس وأنت تلذعه في العقب ، وقال للمرأة : لاكثرن مشقتك وحملك ، وبمشقة تلدين الاولاد ، وإلى بعلك يكون قيادك ، وهو يتسلط عليك.

وقال لآدم : إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الارض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك ، وشوكا ودردرا تنبت لك ، وتأكل عشب الصحراء ، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك

١٤١

إلى الارض التي أخذت منها لانك تراب وإلى التراب ترجع ، وسمى آدم زوجته حواء لانها كانت ام كل حي ناطق ، وصنع الله لآدم وزوجته ثياب بدن والبسهما ، ثم قال الله ، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير والشر ، والآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمديده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيي إلى الدهر ، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الارض التي أخذ منها ، ولما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة ، ولمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحيواة. انتهى الفصل من ( التوراة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ ميلادية ) ، وانت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن والتوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة والخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا اضربنا عن الغور في بيانها والبحث عنها لان الكتاب غير موضوع لذلك.

واما دخول ابليس الجنة واغواره فيها وهي ( أولا ) مقام القرب والنزاهة واللطهارة وقد قال تعالى : ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) الطور ـ ٢٣ ، وهي ( ثانيا ) في السماء وقد قال تعالى خطابا لابليس حين إبائه عن السجدة لآدم : ( فاخرج منها فإنك رجيم ) الحجر ـ ٣٤ ، وقال تعالى : ( فاثبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ) الاعراف ـ ١٢.

فالجواب عن الاول كما ربما يقال أن القرآن انما ما نفى من وقوع اللغو وتأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة وجنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت والارتحال عن دار التكليف ، وأما الجنة التي ادخل فيها آدم وزوجته ومذالك قبل إستقرار الانسان في دار التكليف وتوجه الامر والنهى فالقرآن لم ينطق فيه بشئ من ذلك ، بل الامر بالعكس وناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو والتأثيم من الامور النسبة التي لا تتحقق الا بعد حلول الانسان الدنيا وتوجه الامر والنهى إليه وتلبسه بالتكليف.

والجواب عن الثاني اولا : ان رجوع الضمير في قوله : فأخرج منها ، وقوله : فاهبط منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا وعدم العهد بها ، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة والهبوط منها ببعض العنايات ،

١٤٢

أو الخروج والهبوط من المنزلة والكرامة.

وثانيا : أنه يجوز أن يكون الامر بالهبوط والخروج كناية عن النهى عن المقام هناك بين الملائكة ، لا عن أصل الكون فيها بالعروج والمرور من غير مقام واستقرار كالملائكة ، ويلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من إستراق السمع وقد روي أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها ، ثم لما ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منعوا من جميع السموات وخطفوا بالخطفة.

وثالثا : أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال ، وإنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات وهي آحاد غير متواترة مع إحتمال النقل بالمعنى من الراوي.

واقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن ابليس ( وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) الاعراف ـ ١٩ حيث أتى بلفظة هذه وهي للاشارة من قريب ، لكنها لو دلت هيهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى : ( ولا تقربا هذاه الشجرة فتكونا من الظالمين ) الاعراف ـ ١٨ ، على مثله فيه تعالى.

وفي العيون عن عبد السلام الهروي قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت ؟ فقد إختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة ، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد ، فقال كل ذلك حق ، قلت : فما معنى هذه الوجوه على إخلتلافها ؟ فقال : يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا ، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا ، وان آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له ، وبإدخاله الجنة ، قال : هل خلق الله بشرا أفضل مني ؟ فعلم الله عزوجل ما وقع في نفسه فناداه إرفع رأسك يا آدم وأنظر إلى ساق العرش ، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله ومحمد رسول الله علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، فقال آدم : يا رب من هؤلاء ؟ فقال عزوجل يا آدم هؤلاء ذريتك ،

١٤٣

وهم خير منك ومن جميع خلقي ، ولولاهم ما خلقتك ولا تالجنه ولا النار ولا السماء ولا الارض ، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري ، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنتة واهبطهما من جواره إلى الارض.

اقول : وقد ورد هذا لمعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب وبعضها أجمل وأوجز.

وهذه الرواية كما ترى سلم عليه‌السلام فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة وشجرة الحسد وإنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها وحسدا وتمنيا منزلة محمد وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومقتضى المعنى الاول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها ويشتهيها أهل الجنة ومقتضى الثاني أنها كانت ارفع شأنا من أن ينالها آدم وزوجته كما في رواية اخرى إنها كانت شجرة علم محمد وآله.

وبالجملة لهما معنيان مختلفان ، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد وان آدم عليه‌السلام أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة وهو مقام القرب من الله وفيها الميثاق ان لا يتوجه إلى غيره تعالى وبين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الارض ونسي الميثاق فلم يجتمع له الامران وهو منزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم هداه الله بالاجتباء ونزعه بالتوبة من الدنيا ، وألحقه بما كان نسيه من الميثاق فإفهم.

وقوله عليه‌السلام : فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمنى منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الاخلاق الرذيلة.

وبالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين عن الثمالي عن ابي جعفر عليه‌السلام ، قال : إن الله عزوجل عهد إلى آدم ان لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وذلك قول الله عزوجل : ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما ، الحديث.

١٤٤

وبين ما رواه العياشي في تفسيره عن أحدهما وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان ، فقال : إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكر ويقول له إبليس : ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث. والوجه فيه واضح.

وفي أمالي الصدوق عن أبي الصلت الهروي ، قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى الزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له : يا بن رسول الله أتقول بعصمة الانبياء ؟ قال : بلى ، قال : فما تعمل بقول الله عزوجل : ( وعصى آدم ربه فغوى ؟ ) إلى أن قال : فقال مولانا الرضا عليه‌السلام : ويحك يا علي إتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله عزوجل برأيك فإن الله عزوجل يقول : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) أما قوله عزوجل في آدم : ( وعصى آدم ربه فغوى ) فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الارض ـ لتتم مقادير أمر الله عزوجل فلما أهبط إلى الارض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل : ( إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ) الحديث.

اقول : قوله : وكانت المعصية في الجنة الخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الدينى المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد ، وإنما موطنه الحيوة الارضية المقدرة لآدم عليه‌السلام بعد الهبوط إلى الارض ، فالمعصية إنما كانت معصية لامر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التإويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.

وفي العيون عن على بن محمد بن الجهم ، قال : حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الانبياء معصومون ؟ فقال بلى ، قال فما معنى قول الله تعالى : فعصى آدم ربه فغوى ؟ قال : إن الله تعالى قال لآدم : ( اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه

١٤٥

الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين ، ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال : ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما أن تقربا غيرها ولم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير إستحق به دخول النار ، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الانبياء قبل نزول الوحي إليهم ، فلما إجتباه الله وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عزوجل : ( وعصى آدم ربه فغوى ثم إجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) وقال عزوجل : ( إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) الحديث.

اقول : قال الصدوق رحمه‌الله بعد نقل الحديث على طوله : والحديث عجيب من طريق على بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم‌السلام إنتهى.

وما أعجبه منه إلا ما شاهده من إشتماله على تنزيه الانبياء من غير أن يمعن النظر في الاصول المأخوذة فيه ، فما نقله من جوابه عليه‌السلام في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الانبياء من الصغاير والكبائر قبل النبوة وبعدها.

على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى : ( ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ) إلى مثل قولنا : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما عن غيرها وما نهاكما عن غيرها الا ان تكونا الخ. على ان قوله تعالى ( ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) ، وقوله تعالى ( قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى الآية ) ، يدل على ان إبليس إنما كان يحرضهما على الاكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود والملك الذي حجب عنه بالنهي ، على ان الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق ، فالرواية لا تخلو عن شئ وإن كان بعض

١٤٦

هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا.

وروى الصدوق ، عن الباقر عليه‌السلام عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من ايام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر : كم لبث آدم وزوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برء زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك ، فو الله ما إستقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله تعالى ، فأخرجهما الله منهبعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنة حتى اصبحا فبدت لهما سوآتهما وناديهما ربهما : الم انهكما عن تلكما الشجرة فاستحيى آدم فخضع وقال : ربنا ظلمنا أنفسنا وإعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا ، قال الله لهما إهبطا من سمواتي إلى الارض ، فانه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سمواتي.

اقول : ويمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما وأنه كان أولا من الجنة إلى فنائها ومن فنائها إلى الارض من تكرر الامر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف ، وكذا من تغيير السياق في قوله تعالى : ( وقلنا : يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة ، إلى أن قال : ( ولا تقربا هذه الشجرة الآية ) ، وقوله تعالى : وناديهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، الآية ، حيث عبر في الاول بالقول وبالاشارة القريبة وفي الثاني بالنداء والاشارة البعيدة ، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل اضلاع آدم كما إشتملت عليه التوراة ، والروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجئ في البحث عن خلقة آدم ، وان أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا ، واما ساعات مكثه في الجنة ، وأنها ستة أو سبعة فالامر فيها هين فانما هو تقريب.

وفي الكافي : عن أحدهما عليه‌السلام في قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات ، قال : لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي

١٤٧

وأنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فإرحمني وأنت خير الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.

اقول : وروى هذا المعنى الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ، وعن طرق أهل السنة والجماعة أيضا ما يقرب من ذلك ، وربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة.

وقال الكليني في الكافي : وفي رواية اخرى في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات قال : سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

اقول : وروى هذا المعنى أيضا الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ، وروي ما يقرب من ذلك من طرق اهل السنة والجماعة ايضا كما رواه في الدر المنثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد الا غفرت لي فأوحى الله إليه ، ومن محمد ؟ قال : تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس احد عندك اعظم قدرا ممن جعلت إسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم انه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك.

اقول : وهذا المعنى وإن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن اشباع النظر والتدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا ، إذ قوله : فتلقى آدم ، يشتمل على معنى الاخذ مع الاستقبال ، ففيه دلالة على اخذ آدم هذه الكلمات من ربه ، ففيه علم سابق على التوبة ، وقد كان عليه‌السلام تعلم من ربه الاسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة : إني جاعل في الارض خليفة ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : اني اعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة ودواء كل داء وإلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لانه سبحانه لم يذكر قبال قولهم : يفسد فيها ويسفك الدماء شيئا ولم يقابلهم بشئ دون ان علم آدم الاسماء كلها ففيه اصلاح كل فاسد ، وقد عرفت ما حقيقة هذه الاسماء ، وانها موجودات عالية مغيبة في غيب

١٤٨

السموات والارض ، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها ، لا يتم كمال لمستكمل الا ببركاتها وقد ورد في بعض الاخبار أنه رأى اشباح اهل البيت وانوارهم حين علم الاسماء ، وورد أنه رآها حين اخرج الله ذريته من ظهره ، وورد ايضا انه رآها وهو في الجنة فراجع والله الهادي. وقد ابهم الله امر هذه الكلمات في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات الآية حيث نكرها ، وورد في القرآن : إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله : ( بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم ) آل عمران ـ ٤٠.

وأما ما ذكره بعض المفسرين : ان الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الاعراف بقوله : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين الآية ) ، ففيه : أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الارض ، قال تعالى : ( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) إلى أن قال : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) الآيات وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنة كما في سورة الاعراف ، قال تعالى : ( فناديهما ربهما ألم انهكما عن تلكما الشجرة ) إلى ان قال : ( قالا ربنا ظلمنا انفسنا ) إلى أن قال : ( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) الآيات ، بل الظاهر ان قولهما : ربنا ظلمنا انفسنا ، تذلل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الامر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.

وفي تفسير القمي عن الصادق عليه‌السلام قال : ان موسى سأل ربه ان يجمع بينه وبين آدم ، فجمع فقال له موسى : يا أبت ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك الملائكة وأمرك أن لا تأكل من الشجرة ؟ فلم عصيته ؟ قال : يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية ؟ قال بثلثين الف سنة ، قال : فقال : هو ذاك ، قال الصادق عليه‌السلام فحجج آدم موسى.

اقول : وروى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي العلل : عن الباقر عليه‌السلام : والله لقد خلق الله آدم للدنيا ، وأسكنه الجنة

١٤٩

ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له.

اقول : وقد مرواية العياشي عن الصادق عليه‌السلام في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.

وفي الاحتجاج : في احتجاج علي مع الشامي حين سأله : عن أكرم واد على وجه الارض ، فقال عليه‌السلام : واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.

اقول : وتقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة وقد مر بعضها ويمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة وليس بنزولين عرضيين هذا.

وفي الدر المنثور عن الطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان ؟ قال : نعم كان نبيا رسولا ، كلمه الله قبلا ، قال له : يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.

اقول : وروى أهل السنة والجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق.

* * *

يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي اوف بعهدكم وإياي فارهبون ـ ٤٠. وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ـ ٤١. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ـ ٤٢. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين ـ ٤٣. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ـ ٤٤.

١٥٠

( بيان )

أخذ سبحانه في معاتبة اليهود وذلك في طي نيف ومائة آية يذكر فيها نعمه التي أفاضها عليهم ، وكراماته التي حباهم بها ، وما قابلوها من الكفر والعصيان ونقض الميثاق والتمرد والجحود ، يذكرهم بالاشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم ، كنجاتهم من آل فرعون بفرق البحر ، وغرق فرعون وجنوده ، ومواعدة الطور ، واتخاذهم العجل من بعده وأمر موسى إياهم بقتل أنفسهم واقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله تعالى ، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم التي كلها مشحونة بألطاف إلهية وعنايات ربانية ، ويذكرهم أيضا المواثيق التي أخذ منهم ثم نقضوها ونبذوها وراء ظهورهم ، ويذكرهم أيضا معاصي ارتكبوها وجرائم اكتسبوها وآثاما كسبتها قلوبهم على نهي من كتابهم ، وردع صريح من عقولهم ، لقساوة قلوبهم ، وشقاوة نفوسهم ، وضلال سعيهم.

قوله تعالى : وأوفوا بعهدي ، أصل العهد الحفاظ ، ومنه اشتقت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق واليمين والوصية واللقاء والمنزل ونحو ذلك.

قوله تعالى : فارهبوني ، الرهبة الخوف ، وتقابل الرغبة.

قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به ، أي من بين أهل الكتاب ، أو من بين قومكم ممن مضى وسيأتي فإن كفار مكة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به.

* * *

واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ـ ٤٥. الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ـ ٤٦.

١٥١

( بيان )

قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلوة ، الاستعانة وهي طلب العون إنما يتم فيما لا يقوى الانسان عليه وحده من المهمات والنوازل ، وإذ لا معين في الحقيقة إلا الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الانسان لها بالثبات والاستقامة والاتصال به تعالى بالانصراف إليه ، والاقبال عليه بنفسه ، وهذا هو الصبر والصلوة ، وهما أحسن سبب على ذلك ، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة ، وبالاقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الايمان ، وتتنبه : ان الانسان متك على ركن لا ينهدم ، وسبب لا ينفصم.

قوله تعالي : وانها لكبيرة إلا على الخاشعين ، الضمير راجع إلى الصلوة ، وأما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله : استعينوا ذلك فينافيه ظاهرا قوله : إلا على الخاشعين ، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة ، والفرق بين الخشوع والخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل والانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح والخشوع بالقلب.

قوله تعالي : الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم. هذا المورد ، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض ، قال تعالى : ( وبالآخرة هم يوقنون ) البقرة ـ ٤ ، ويمكن أن يكون الوجه فيه الاخذ بتحقق الخشوع فان العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الادراك الجازم وهو العلم ، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الادراك العلمي وتمامه ، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الانسان لا يتوقف على زيادة مؤنة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن ان يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر :

فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج

سراتهم في الفارسي المرد

١٥٢

وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك ولكنه أمرهم بالظن لان الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة ، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم ، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ) الكهف ـ ١١٠ ، وهذا كله لو كان المراد باللقاء في قوله تعالى : ملاقوا ربهم ، يوم البعث ولو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الاعراف إنشاء الله فلا محذور فيه أصلا.

( بحث روائي )

في الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلوة ثم تلا هذه الآية : ( واستعينوا بالصبر والصلوة ).

وفي الكافي أيضا : عنه عليه‌السلام في الآية ، قال : الصبر الصيام ، وقال : إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم. إن الله عزوجل يقول : واستعينوا بالصبر يعنى الصيام.

اقول : وروى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره. وتفسير الصبر بالصيام من باب المصداق والجري.

وفي تفسير العياشي : عن أبي الحسن عليه‌السلام : في الآية قال : الصبر الصوم ، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم ، إن الله يقول : واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. والخاشع الذليل في صلوته المقبل عليها ، يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام

اقول : قد استفاد عليه‌السلام إستحباب الصوم والصلوة عند نزول الملمات والشدائد ، وكذا التوسل بالنبي والولي عندها ، وهو تأويل الصوم والصلوة برسول الله وأمير المؤمنين.

وفي تفسير العياشي أيضا : عن علي عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم الآية ) يقول : يوقنون أنهم مبعوثون ، والظن منهم يقين.

١٥٣

اقول : ورواه الصدوق أيضا.

وروى ابن شهر آشوب عن الباقر عليه‌السلام : أن الآية نازلة في علي وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأصحاب لهم.

* * *

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ـ ٤٧. واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم ينصرون ـ ٤٨.

( بيان )

قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزى. الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه ، وقواه المقننة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحيوة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية ، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم والجنايت عندهم يستتبع العقاب ، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق ، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا وبدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذالك المجرم ، أو يستنصر فومه فينصروه فيتخلص بذالك عن تبعة العقاب ونحو ذلك. تلك سنة جارية وعادة حيوة دنيوية يطرد فيها قانون الاسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي

١٥٤

الطبيعي ، فيقدمون إلى آلهتم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم ، أو يستشفعون بها ، أو يفدون بشيئ عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى أنهم كانوا يدفنون مع الاموات أنواع الزخرف والزينة ، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم ، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم ، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها ، ومن الابطال من يستنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين آثار الارضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، ويوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الاسلامية على اختلاف السنتهم والوانهم ، بقيت بينهم بالتوارث ، ربما تلونت لونا بعد لون ، جيلا بعد جيل ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية ، والاقاويل الكاذبة ، فقد قال عز من قائل : ( والامر يومئذ لله ، الانفطار ـ ١٩ ، وقال : ( ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب ) البقرة ـ ١٦٦ ، وقال : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء ، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) الانعام ـ ٩٤ ، وقال : ( هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ) يونس ـ ٣٠ ، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها : أن الموطن خال عن الاسباب الدنيوية ، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا اصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الاقاويل والاوهام على طريق الاجمال ، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) البقرة ـ ٤٨ ، وقال : ( يوم لا بيع فيه ، ولا خلة ، ولا شفاعة ) البقرة ـ ٢٥٤ ، وقال : ( يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ) الدخان ـ ٤١ ، وقال ( يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ) المؤمن ـ ٣٣ ، وقال : ( ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) الصافات ـ ٢٦ ، وقال : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون ) يونس ـ ١٨ ، وقال : ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) المؤمن ـ ١٨ ، وقال : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) الشعراء ـ ١٠١ ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط

١٥٥

والاسباب يوم القيامة هذا.

ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها ، بل يثبتها بعض الاثبات. قال تعالى : ( الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ) السجدة ـ ٣ ، وقال تعالى : ( ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ) الانعام ـ ٥١ ، وقال تعالى : ( قل لله الشفاعة جميعا ) الزمر ـ ٤٤ ، وقال تعالى : ( له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) البقرة ـ ٢٥٥ ، وقال تعالى : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايام ثم إستوى على العرش يدبر الام ر ما من شفيع الا من بعد اذنه ) يونس ـ ٣ ، وقال تعالى : ( وقالوا إتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن إرتضى وهم من خشيته مشفقون ) الانبياء ـ ٢٨ ، وقال : ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون ) الزخرف ـ ٨٦ ، وقال : ( ولا يملكون الشفاعة الا من إتخذ عند الرحمن عهدا ) مريم ـ ٨٧ ، وقال تعالى : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ، يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) طه ـ ١١٠ ، وقال تعالى : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) السبأ ـ ٢٣ ، وقال تعالى : ( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) النجم ـ ٢٦ ، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الاولى وبين ما يعممها لغيره تعالى باذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب ، غير ان بعضها تثبتها بنحو الاصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره باذنه وارتضائه ، وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره ، واثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه ، قال تعالى : ( قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب ) النحل ـ ٦٥ ، وقال تعالى : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) الانعام ـ ٥٩ وقال تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من إرتضى من رسول ) الجن ـ ٢٧ ، وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فانها

١٥٦

شائعة في اسلوب القرآن ، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى ، ثم يثبته لنفسه ، ثم يثبته لغيره باذنه ومشيته ، فتفيد ان الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها وإستقلالها ، وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها ، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء حتم ، كقوله تعالى : ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك ، إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) هود ـ ١٠٨ ، فقد علق الخلود بالمشية وخاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ ، اشعارا بأن قضائه تعالى بالخلود لا يخرج الامر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله : ( إن ربك فعال لما يريد ) هود ـ ١٠٧ ، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الامر من يده ويوجب له الفقر ، ولا منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى.

من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة ، إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك ، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الاصالة ، ولغيره تعالى باذنه وتمليكه ، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى باذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلقها ؟ وفيمن تجري ؟ وممن تصح ؟ ومتى تتحقق ؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى ؟ ونحو ذلك في أمور.

١ ـ ما هي الشفاعة ؟

الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون و ( هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده ، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها ) من الامور التي نستعلمها لانجاح المقاصد ، ونستعين بها على حوائج الحيوة ، وجل الموارد التي نستعملها فيها اما مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير ، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرة والشر ، لكن لا كل نفع وضرر ،

١٥٧

فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الاسباب الطبيعية والحوادث الكونية من الخير والشر والنفع والضر ، كالجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد ، والصحة ، والمرض ، بل نتسبب فيها بالاسباب الطبيعية ، ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالاكل ، والشرب ، واللبس والاكتنان والمداواة ، وانما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضار التى تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين الاحكام التي وضعتها واعتبرتها وقررتها واجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم ، ففي دائرة المولوية والعبودية وعند كل حاكم ومحكوم ، وأحكام من الامر والنهي إذا عمل بها وإمتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع ، من جاه أو مال ، وإذا خالفها وتمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي ، أو معنوي ، فإذا أمر المولى أو نهي عبده ، أو كل من هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهى مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم ، وإن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار ، وضع الحكم ووضع تبعة الحكم ، يتعين به تبعة الموافقة والمخالفة.

وعلى هذا الاصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل والخاصة بين كل إنسان ومن دونه.

فإذا أراد الانسان أن ينال كمالا وخيرا ماديا أو معنويا وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع ، ويعرف به لياقتة ، أو اراد ان يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه ، أعني الامتثال والخروج عن عهدة التكليف ، وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه ، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجة إليه فذلك مورد الشفاعة ، وعنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة الي التلبس بكمال ، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا ، كالعامي الامي الذي يريد تقلد مقام علمي ، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة ، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.

ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم ، ويوجب نيل الثواب ،

١٥٨

أو التخلص من العقاب ، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه وعبودية عبده فلا يعاقبه ، ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول ، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه ، ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا ، أو في خصوص الواقعة ، فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولوية وعبودية ، ولا في حكم ولا في جزاء حكم ، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك : إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسؤدده ، وكرمه ، وسخائه ، وشرافة محتده ، وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير عوامل المغفرة كمذلته ومسكنته وحقارته وسوء حاله ، وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده فيقول : ما أسألك إبطال مولويتك وعبوديته ، ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء ، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا ورأفة وكرما لا تنتفع بعقابه ولا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه ولا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه والعفو عنه.

ومن هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ، ونعني بالحكومة ان يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر ، فلا يشمله الحكم الاول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الاسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير ، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة.

ومن هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الاول البعيد ومسببه ، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا.

ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين :

١٥٩

إحداهما : أنه يبتدي منه التأثير ، وينتهي إليه السببية ، فهو المالك للخلق والايجاد على الاطلاق ، وجميع العلل والاسباب امور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.

والثانيه : أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاما من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته.

أما من الجهة الاولى : وهي النظر إليه من جهة التكوين فإنطباق معنى الشفاعة لى شأن الاسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى ، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والاحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، وكلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك ، كقوله تعالى : ( له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) البقرة ـ ٢٥٥ ، وقوله ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم إستوى على العرش يدبر الامر ما شفيع إلا من بعد إذنه ) يونس ـ ٣ ، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والا سباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية.

وأما من الجهة الثانية وهى النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال : أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) طه ـ ١٠٩ ، وقوله : ( لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) السبأ ـ ٢٣ ، وقوله ( لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) النجم ـ ٢٦ ، وقوله : ( ولا يشفعون إلا لمن إرتضى ) الانبياء ـ ٢٨ ، وقوله : ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون ) الزخرف ـ ٨٦ ، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاذن والارتضاء ، فهو تمليك ولله الملك وله الامر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه

١٦٠