الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

وتتحاشى التصريح باسمهم ، بطريقة فيها الكثير من الدهاء ، والسياسة ، حيث اقتصروا في دعوتهم ـ بعد ذلك ـ على أنها لـ « أهل البيت » ، و « العترة » ، وهذه هي المرحلة الثانية من المراحل الأربع التي أشرنا إليها ..

وكان الناس لا يفهمون من كلمة : « أهل البيت » إلا العلويين ، لانصراف الأذهان إليهم عند اطلاق هذه العبارة ، وذلك بسبب الآيات والروايات الكثيرة ، التي استخدمت هذا التعبير للدلالة عليهم ، دون غيرهم ..

فهذا أبو داود يقول للنقباء : « .. أفتظنونه ـ أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خلفه ـ أي العلم ـ عند غير عترته ، وأهل بيته ، الأقرب ، فالأقرب؟! .. إلى أن قال : افتشكون أنهم معدن العلم ، وأصحاب ميراث رسول الله (ص)؟! .. (١) »

وهذا أبو مسلم الخراساني القائم بالدولة العباسية ، يكتب إلى الإمام الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول : « إني دعوت الناس إلى موالاة أهل البيت ، فان رغبت فيه ، فأنا أبايعك؟. ».

فأجابه الامام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « .. ما أنت من رجالي ، ولا الزمان زماني » ، ثم جاء أبو مسلم ، وبايع السفاح ، وقلده الخلافة (٢).

وقال السيد امير علي بعد أن ذكر ادعاء العباسيين للوصاية من أبي هاشم : « .. وقد لاقت هذه القصة بعض القبول في بعض المناطق الإسلامية. أما عند عامة المسلمين ، الذين كانوا يتعلقون بأحفاد محمد ،

__________________

(١) الطبري ، طبع ليدن ج ٩ ص ١٩٦١.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ، طبع مؤسسة الحلبي في القاهرة ج ١ ص ١٥٤ ، وطبع العنانية ص ٨٧ ، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٨١ ، نقلا عن : فصل الخطاب ، لمحمد بارسا البخاري.

٤١

فقد ظل دعاة العباسيين يؤكدون لهم أنهم يعملون لحساب : أهل البيت. وحتى ذلك الوقت كان العباسيون يظهرون الولاء التام لبني فاطمة ، ويخلعون على حركتهم ، وعلى سياساتهم مظهر الوصول إلى هدف ضمان العدالة ، والحق لأحفاد محمد .. وكان ممثلوا أهل البيت ، ومحبوهم ، لا يخامرهم الشك في الغدر ، الذي تبطنه هذه الاعترافات من العباسيين ؛ فشملوا محمد بن علي ، وجماعته بعطفهم وحمايتهم ، الذين كانوا في حاجة إليهما .. » (١).

ويقول : « .. وكانت كلمة : « أهل البيت » هي السحر الذي يؤلف بين قلوب مختلف طبقات الشعب ، ويجمعهم حول الراية السوداء .. » (٢).

المرحلة الثالثة :

ثم تأتي المرحلة الثالثة ، ويتقلص ظل العلويين ، وأهل البيت عن هذه الدعوة ، أكثر فأكثر ، كلما ازدادت قوتها ، واتسع نفوذها ، حيث رأينا أخيرا انها اتسعت بحيث تستطيع أن تشمل العباسيين أيضا مع العلويين. حيث أصبحت إلى : « الرضا من آل محمد » ، وإن كانوا لا يزالون يذكرون فضل علي ، وما لحق ولده من القتل والتشريد ، كما يتضح بأدنى مراجعة لكتب التاريخ ..

وهذه العبارة ، وإن كانت لا تختلف كثيرا عن عبارة : « العترة ، وأهل البيت » ، ونحوها .. إلا أنها كانت في أذهان العامة أبعد من أن يراد بها العلويون على الخصوص .. ولكن مع ذلك بقيت الجماهير

__________________

(١) و (٢) روح الاسلام ص ٣٠٦ و ٣٠٨. ولا بأس بمراجعة ما ورد في كتاب الامام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ جزء ٢ ص ٥٣٢. والسيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ص ٩٤. وامبراطورية العرب ص ٤٠٦ ، وطبيعة الدعوة العباسية ، وغير ذلك.

٤٢

تعتقد أن الخليفة سيكون علويا ، كما كان العلويون يعتقدون ذلك .. » (١) على حد تعبير أحمد شلبي .. وإذا صح هذا ، وفرض ـ ولو بعيدا ـ أن شعار : الرضا من آل محمد لا يختلف عن شعار : العترة ، وأهل البيت في أذهان عامة الناس ، فلسنا نصر على جعل هذا مرحلة مستقلة ، بل يكون داخلا فيما سبقه ، وتكون المراحل حينئذ ثلاثة ، لا أربعة ..

ملاحظات لا بد منها في المرحلة الثالثة :

وقبل الانتقال إلى الكلام على المرحلة الرابعة ، والأخيرة. لا بد من ملاحظة أمور :

أ : انهم في نفس الوقت الذي نراهم فيه يبعدون الدعوة عن أهل البيت ، كما يدلنا عليه قول محمد بن علي العباسي لبكير بن ماهان :

« وحذر شيعتنا التحرك في شيء مما تتحرك فيه بنو عمنا آل أبي طالب ؛ فإن خارجهم مقتول ، وقائمهم مخذول ؛ وليس لهم من الأمر نصيب ، وسنأخذ بثأرهم .. » (٢).

وكما يدلنا عليه ما رواه الطبري من أن محمد بن علي نهى دعاته عن رجل اسمه : غالب ؛ لأنه كان مفرطا في حب بني فاطمة (٣) ..

نراهم من جهة ثانية : وحتى لا يصطدموا بالعلويين وجها لوجه .. كانوا في جميع مراحل دعوتهم يتكتمون جدا باسم الخليفة ، الذي يدعون الناس إليه ، وإلى بيعته ، بل إن الشخص الذي كانوا يدعون

__________________

(١) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية لأحمد شلبي ج ٣ ص ٢٠.

(٢) طبيعة الدعوة العباسية ١٥٢ ، نقلا عن : مخطوطة العباسي ص ٩٣ أ ، ٩٣ ب.

(٣) راجع : تاريخ الجنس العربي ج ٨ ص ٤١١.

٤٣

الناس إليه ، وإلى بيعته .. بل وكان الناس يبايعونه ما كانوا يعرفونه ، بل يعرفه الدعاة فقط ، وعلى الناس أن يبايعوا إلى « الرضا من آل محمد » ولا بأس بمراجعة نص البيعة في تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الأول ، الجزء الاول ص ١٢٥.

ولعل هدفهم من ذلك كان أيضا : هو أن لا يربطوا الدعوة بفرد معين ، حتى لا تضعف إذا ما مات ، أو اغتيل ..

وعلى كل فقد نص ابن الأثير في الكامل ج ٤ ص ٣١٠ ، حوادث سنة ١٣٠ على أن أبا مسلم كان يأخذ البيعة إلى الرضا من آل محمد .. ومثل ذلك كثير في كلمات المؤرخين ، وإليك بعض النصوص التاريخية ، التي تدل على ذلك :

ففي الكامل ج ٤ ص ٣٢٣ نص على أن محمد بن علي بعث داعيا إلى خراسان يدعو إلى « الرضا من آل محمد » ولا يسمي أحدا ، ولعل الذي أرسله هو أبو عكرمة الآتي ذكره ..

وقد قال محمد بن علي العباسي لأبي عكرمة : « فلتكن دعوتك إلى : « الرضا من آل محمد » ؛ فاذا وثقت بالرجل ، في عقله ، وبصيرته ، فاشرح له أمركم ..

وليكن اسمي مستورا من كل أحد ، إلا عن رجل عدلك في نفسك ، وتوثقت منه ، وأخذت بيعته .. ».

ثم أمره بالتحاشي عن الفاطميين (١) ..

ويقول أحمد شلبي : « .. كانوا ( أي العباسيون ) يوهمون العلويين بأنهم يعملون لهم ، ولكنهم في الواقع كانوا يعملون لأنفسهم » (٢) ..

__________________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ١٥٥ ، نقلا عن : DIC.PO ص ٩٥ أ / ٩٥ ب.

(٢) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ ص ٢٠.

٤٤

ويقول أحمد أمين : « .. ومع هذا فكان من إحكام أمرهم أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من المواقف باسم الإمام ؛ ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض .. » (١).

ولو كان الخليفة معينا ومعروفا عند الناس ، لما استطاع أبو مسلم ، وأبو سلمة ، وسليمان الخزاعي ، أن يكاتبوا الإمام الصادق عليه‌السلام ، وغيره من العلويين ، أنهم يبايعونهم ، ويجعلون الدعوة لهم ، وباسمهم ..

وقد تقدمت رسالة أبي مسلم للإمام الصادق عليه‌السلام ، التي يصرح فيها بأنه : إنما دعا الناس إلى موالاة أهل البيت فقط ، أي من دون تصريح باسم أحد ..

وقد قال أحدهم : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فأتاه كتاب أبي مسلم ؛ فقال : « ليس لكتابك جواب. أخرج عنا » (٢).

وقال السيد أمير علي عن أبي مسلم : « وقد ظل إلى هذا الوقت مواليا ، بل مخلصا ، بل متحمسا لابناء علي (٣) ».

وقال صاحب قاموس الأعلام : « وعرض أبو مسلم الخراساني الخلافة ابتداء على الامام الصادق ، فلم يقبلها (٤) ».

__________________

(١) ضحى الاسلام ج ٣ ص ٣٨٠ ، ٣٨١.

(٢) روضة الكافي ص ٢٧٤ ، والبحار ج ٤٧ ص ٢٩٧.

(٣) روح الاسلام ص ٣٠٦.

(٤) راجع المجلد الأول ، الجزء الأول من كتاب : الامام الصادق والمذاهب الأربعة ص ٥٧ ، نقلا عن : قاموس الاعلام ج ٣ ص ١٨٢١ طبع استانبول ، تأليف : ش. سامي ..

ورغم أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات قامت باسم العلويين ، على ما في كتاب : طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٥١ ، ٢٥٣ ، فاننا نعتقد أن رسائله هذه ، ورسائله التي أرسلها إلى المنصور يظهر فيها الندم على أنه زوى الأمر عن أهله ، ووضعه في غير

٤٥

وأما أبو سلمة : فانه عند ما خاف من انتقاض الامر عليه ، بسبب موت ابراهيم الإمام ، أرسل ـ والسفاح في بيته ـ إلى الامام الصادق عليه‌السلام يطلب منه القدوم عليه ليبايعه ، وتكون الدعوة باسمه ، كما أنه كتب بمثل ذلك إلى عبد الله بن الحسن .. لكن الامام عليه‌السلام ، الذي كان في منتهى اليقظة والحزم. رفض الطلب ، وأحرق الكتاب ، وطرد الرسول (١) ..

وقد نظم أبو هريرة الأبّار ، صاحب الامام الصادق عليه‌السلام هذه الحادثة شعرا ، فقال :

ولما دعا الداعون مولاي لم يكن

ليثي إليه عزمه بصواب

ولما دعوه بالكتاب أجابهم

بحرق الكتاب دون رد جواب

__________________

محله .. هي السر ، والسبب الحقيقي الكامن وراء قتله ، مع أنه مؤسس الدولة العباسية ( ومن سل سيف البغي قتل به ) ، ومشيد أركانها .. وقد استظهر ذلك أيضا المستشرق العلامة ( بلوشيه ) على ما في كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٥١ ، وأشار إليه أيضا السيد أمير علي في كتابه : روح الاسلام ص ٣١١.

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، وينابيع المودة ص ٣٨١ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٦ ، والوزراء والكتاب ص ٨٦ ، وهامش ص ٤٢١ من امبراطورية العرب ، والفخري في الآداب السلطانية ص ١٥٤ ، ١٥٥ ، وروح الاسلام ص ٣٠٨ ، وعمدة الطالب ، طبع بيروت ص ٨٢ ، ٨٣ ، والكامل لابن الأثير ..

ونقله في المناقب لابن شهرآشوب ج ٤ ص ٢٢٩ ، والبحار ج ٤٧ ص ١٣٢ عن ابن كادش العكبري في : مقاتل العصابة .. لكنهما ( أعني المناقب والبحار ) ذكرا أن الذي كتب للامام هو أبو مسلم .. وفي المناقب ج ٤ آخر ص ٢٢٩ ، والبحار ج ٤٧ ص ١٣٣ نقلا عن رامش الافزاري أن الذي كتب إلى الامام هو أبو مسلم الخلال!!! ..

وواضح أن هذا هو السبب الحقيقي لقتل أبي سلمة ، وقد صرح بذلك جمع من المؤرخين والباحثين.

٤٦

وما كان مولاي كمشري ضلالة

ولا ملسا منها الردى بثواب

ولكنه لله في الارض حجة

دليل الى خير ، وحسن مآب (١)

وكتب إليه أبو سلمة أيضا مرة ثانية ، عند ما أقبلت الرايات : « إن سبعين الف مقاتل وصل إلينا ، فانظر أمرك ». فأجابه الامام بالرفض أيضا (٢) ..

وأما سليمان الخزاعي : المدبر الحقيقي للثورة في خراسان ، فانه اتصل بعبد الله بن الحسين الأعرج ، وهما يسايران أبا جعفر المنصور في خراسان ، عند ما أرسله السفاح إليها ، قال سليمان لعبد الله : « إنا كنا نرجو أن يتم أمركم ، فاذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون!! » ، فعلم أبو مسلم بالأمر ، فقتل سليمان هذا (٣) ..

بل إن هذا إن دل على شيء فانما يدل على أن كثيرا من الدعاة ما كانوا يعرفون : أن الخليفة سيكون عباسيا ، فضلا عن أن يكونوا يعرفونه باسمه الصريح ..

قال الدكتور فاروق عمر : « على أننا نستطيع القول : إن اسم الامام كان معروفا لدى الحلقات الخاصة من الشيعة الهاشمية ، أو العباسية ، وأن الكثير من الأنصار ، الذين ساندوا الثورة ، ومنهم ابن الكرماني نفسه ، لم يكن يعرف أن « الرضا من آل البيت » سيكون عباسيا ، مع أن ابن الكرماني كان قائدا كبيرا ، وكان يطمع إلى الاستيلاء على

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ ص ٢٣٠. والبحار ج ٤٧ ص ١٣٣.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ ص ٢٢٩ ، والبحار ج ٤٧ ص ١٣٣ ، والامام الصادق والمذاهب الأربعة ج ١ ص ٤٧.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ١٣٢ ، والامامة والسياسة ج ٢ ص ١٢٥.

٤٧

خراسان (١) .. ».

ب : يلاحظ أن العباسيين قد موهوا على الناس ، واستطاعوا أن يخدعوهم ، حيث خيلوا لهم في بادئ الأمر أن الثورة كانت للعلويين .. ثم بدءوا يعدون العدة لما سوف يقولون للناس عند اكتشافهم لحقيقة الأمر ؛ فصنعوا سلسلة الوصاية المعروفة عنهم من علي بن أبي طالب ، إلى محمد ابن الحنفية ، فإلى أبي هاشم ، فإلى علي بن عبد الله بن العباس .. وهكذا .. وهي في الحقيقة نفس عقيدة الكيسانية ، كما سنشير إليها في بعض الهوامش الآتية.

وقد جازت حيلتهم هذه على الناس ، الذين كانوا يظنون أنهم يعملون للعلويين (٢) ، حتى لقد خفي أمرهم عن عبد الله بن معاوية حسما قدمنا ، بل لقد كان من جملة المخدوعين ، الذين اكتشفوا الحقيقة بعد فوات الأوان ، سليمان الخزاعي ، الذي تقدم أنه ـ باعترافه ـ كان يرجو هذا الأمر للعلويين ، وأبو مسلم الخراساني الذي صارح المنصور بأن السفاح كان قد خدعه .. وأنه خدع أيضا من قبل ابراهيم الإمام ، حيث ادعيا الوصاية والامامة ، وحرفا الآيات الواردة في أهل البيت لتنطبق عليهم ، مما كان من نتيجته أن زوى الأمر عن أهله ، ووضعه

__________________

(١) طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٠٩ .. ولقد اشتبه الأمر على الدكتور فاروق عمر ؛ فان ابن الكرماني كان من عمال الامويين ، ولم يكن من الشيعة في أي وقت من الأوقات ، وانما استماله أبو مسلم توطئة للغدر به .. ولم يكن أبو مسلم ولا غيره من الدعاة والنقباء ليصرحوا لعدوهم بمثل هذا الأمر الذي يخفونه عن أخص الناس بهم ، بل حتى عمن هم مثل المنصور.

(٢) امبراطورية العرب ص ٢٠٦ ، وغير ذلك كثير ..

٤٨

في غير محله (١).

أما انخداع ابن الكرماني فهو من الامور الواضحة والمعروفة. بل لقد رأينا البعض يذكر أن أبا سلمة الخلال كان أيضا من جملة المخدوعين ، حيث كان يتوهم : أن الخليفة سيكون علويا لا عباسيا (٢) ..

ج : ومما تجدر الاشارة إليه هنا ، هو ما تقدم : من رفض الامام القاطع لعرض كل من أبي سلمة ، وأبي مسلم في جعل الدعوة له ، وباسمه ..

وما ذلك إلا لعلمه عليه‌السلام : بأن هؤلاء ليس لهم من هدف ، إلا الوصول إلى مآربهم من الحكم والسلطان ، ثم يتخلصون من كل من لا يعودون بحاجة إليه ، إذا اعتبروه عقبة في طريقهم .. كما كان الحال في قتلهم أبا مسلم ، وسليمان بن كثير ، وأبا سلمة .. وغيرهم .. شاهدنا على ذلك جواب الإمام عليه‌السلام لأبي مسلم : « ما أنت من رجالي ، ولا الزمان زماني » .. وكذلك المحاورة التي جرت بينه عليه‌السلام ، وبين عبد الله بن الحسن ، عند ما جاءه كتاب من أبي سلمة مثل كتابه .. وأيضا قوله عليه‌السلام : مالي ولأبي سلمة ، وهو شيعة لغيري .. بل ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة .. ما قدمناه من اعتذار أبي سلمة للسفاح ، عن مراسلته للصادق ، وغيره من العلويين ، بأنه : « كان يدبر استقامة الأمر » بل يذكر الطبري ج ٦ ص ١٠٢ وابن الأثير ج ٥

__________________

(١) الامام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الأول ، جزء ٢ ص ٥٣٣ ، وسنشير إلى مصادر اخرى لذلك فيما يأتي إن شاء الله ..

(٢) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ ص ٢٥٤. وفي كتاب : السيادة العربية لفان فلوتن ص ٩٧ : أن النقباء أمروا بعض الدعاة بستر اسم المدعو له ، وأخفوا اسم المدعو له عن البعض الآخر ..

٤٩

ص ٤٣٧ : أنه عند ما جمع السفاح خاصته ليستشيرهم بقتل أبي سلمة وأخبرهم بمكاتبته للعلويين .. نجد أن بعض خاصته انبرى ليقول : ما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان من رأي أبي مسلم (١). وعليه فلا يصح قول صاحب العيون والحدائق ص ١٨١ : « ولم يكن هوى أبي سلمة معهم ، وإنما كان هواه مع الصادق جعفر الخ .. » فإن لجوءه إلى الصادق إنما كان لأجل استقامة الأمر. بل إن بعض المحققين لا يستبعد أن يكون من جملة أهدافهم من رسائلهم تلك ، إلى الصادق ، وعبد الله ابن الحسن ، وغيرهما من العلويين .. هو معرفة إن كان هؤلاء يطمحون إلى الحكم ، ويرغبون فيه أولا .. وذلك ليستعد العباسيون ـ من ثم ـ لمواجهة دعوتهم ، ورصد كل حركاتهم ، وسكناتهم ، ومن ثم شل حركتهم ، والقضاء عليهم .. وهذا أسلوب استعمله المنصور من بعد ، لكن الإمام الصادق عليه‌السلام تنبه للمكيدة ، وعمل على احباطها ..

د : وتصريح أبي سلمة هذا وموقف الإمام منه ، وقوله : إنه شيعة لغيره يلقي لنا ضوءا على الروايات التي تتهمه ، وتتهم أبا مسلم بميول علوية .. وأن أبا مسلم أراد أن يعلن خلافة علوية ، بمجرد وصوله إلى خراسان ، كما عن الذهبي ، وشارح شافية أبي فراس ، وتاريخ الخميس. فان ذلك لا شاهد له إلا رسائلهما التي أشرنا إليها .. مع أنها لم يكن الهدف منها إلا استقامة الأمر للعباسيين .. خصوصا إذا لاحظنا أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات للعلويين ، وباسمهم ـ كما أشرنا إليه ـ

__________________

(١) وأما كتابه للصادق فهو لا يدل على اخلاصه له ، بل هو فقط ـ كان يدبر استقامة الأمر ، وقتله من قبل العباسيين بهذا الجرم ليس إلا تغاضيا عن حقيقة الأمر بهدف الوصول إلى أهدافهم في التخلص منه بطريقة مشروعة.

٥٠

وأنه كان يلاحقهم تحت كل حجر ومدر ، وفي كل سهل وجبل ، على حد تعبير الخوارزمي (١) ..

المرحلة الرابعة :

ثم تأتي المرحلة الرابعة والاخيرة ، وهي : ادعاؤهم الخلافة بالإرث ، كما أشرنا إليه .. ولكنهم استمروا يربطون الثورة بأهل البيت عليهم‌السلام من ناحيتين :

الأولى : ادعاؤهم الخلافة بالارث عن طريق علي بن أبي طالب ، ومحمد بن الحنفية ، كما سيأتي بيانه.

الثانية : ادعاؤهم أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين .. فأما ادعاؤهم استحقاقهم الخلافة بالارث ، عن طريق علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، واحتجاجهم بقرباهم النسبية من رسول الله (ص) ، فاننا نلمحها في كثير من مواقفهم ، حيث كانوا يستطيلون على الناس بهذه القربى ، ويحتجون بها في مختلف المناسبات (٢) ..

__________________

(١) ولكننا لا نجد فيما بأيدينا من الشواهد التاريخية ، ما يؤيد دعوى الخوارزمي هذه عدا ما ذكروه من أنه : قتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ، وعبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين.

(٢) حيث قد ظلوا بحاجة لأن يصلوا حقهم الذي كانوا يدعونه .. بحق علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ووصايتهم بالوصاية التي له ، والتي لا يجهلها أحد ، وليصححوا بهذه الوسيلة خلافتهم ، ويتقبلها الناس .. فكانت السلسلة التي سيأتي بيانها هي معتمدهم ، مضيفين إليها تبرأهم من أبي بكر وعمر وعثمان ..

وفي الحقيقة أن تلك هي عقيدة الكيسانية انتحلوها لأنفسهم يوحي من مصالحهم الخاصة .. حتى إذا ما وصلوا إلى الحكم نراهم قد قطعوا حبل صلتهم بعلي ، وولده ، وجعلوا

٥١

فقد قال داود بن علي ، أول خطيب لهم على منبر الكوفة ، في أول كلام له أمام السفاح : « .. وإنما أخرجنا الانفة من ابتزازهم حقنا ، والغضب لبني عمنا (١) .. ».

ونرى السفاح في خطبته الأولى أيضا في مسجد الكوفة ، بعد أن ذكر عظمة الرب تبارك وتعالى ، وفضل النبي (ص) « قد قاد الولاية والوراثة ، حتى انتهيا إليه ، ووعد الناس خيرا (٢) .. ».

ويقال : إن من جملة ما قاله السفاح في خطبته الأولى : « .. فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا ، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا ، وأجزل من الفيء ، والغنيمة نصيبنا ، تكرمة لنا وفضلا علينا ..

وزعمت السبائية الضلال : أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة .. إلى أن قال : ورد علينا حقنا (٣) .. »

__________________

الخلافة حقا للعباس وولده .. ثم تخلوا عن ذلك كله فيما بعد ، ورجعوا إلى العقيدة التي أسسها معاوية ، ولكنهم اختلفوا عنه بأنهم أدخلوا عليا ، وجعلوه في المرتبة الرابعة ، وكان ذلك بداية وجود أهل السنة بخصائصهم ، ومميزاتهم المذهبية ، ولهذا البحث مجال آخر ، والله هو الموفق والمستعان.

(١) الطبري ، طبع ليدن ج ١٠ ص ٣١ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤١ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٤ ، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٥.

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٦ ، والطبري ج ١٠ ص ٣٧ ، طبع ليدن.

(٣) الطبري ج ١٠ ص ٣٩ ، ٤٠ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٧ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤١ ، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٤ ، ٣٢٥ ..

لكن الظاهر أن لعن السبائية ( وهم الشيعة الامامية حسب مصطلحهم ) مفتعل على لسان السفاح ؛ لأن كلمة داود بن علي المتقدمة تدل على إنكار العباسيين ـ في بدء أمرهم ـ خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وتمسكهم بخلافة علي عليه‌السلام ، حيث يصلون حبل وصايتهم بها .. وإن كانوا قد رجعوا عن هذه العقيدة بعد ذلك حسبما أشرنا إليه إلى العقيدة التي كان قد روجها معاوية .. ولكن من المؤكد أنهم استمروا على عقيدتهم تلك ، أعني إنكار خلافة الثلاثة ، ووصلهم حبل وصايتهم بعلي عليه‌السلام ، إلى زمن المنصور ، الذي كان أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين كما سيأتي ..

٥٢

ويقول داود بن علي في خطبته الأولى في مسجد الكوفة أيضا : « .. وأحيا شرفنا وعزنا ، ورد إلينا حقنا وإرثنا .. » (١).

__________________

(١) الطبري ج ١٠ ص ٣٢ ، طبع ليدن ، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٥.

أمر هام لا بد من التنبيه عليه :

إننا إذا تتبعنا الأحداث التاريخية ، نجد : أن كل مطالب بالخلافة كان يدعي أول ما يدعي الرحمية والقربى من رسول الله (ص). وأول من بدأ ذلك أبو بكر في يوم السقيفة ، وتبعه على ذلك عمر ؛ حيث قررا أن ليس لأحد الحق في أن ينازعهم سلطان محمد ؛ إذ أنهم أمس برسول الله رحما ( على ما في نهاية الإرب ج ٨ ص ١٦٨ ، وعيون أخبار ابن قتيبة ج ٢ ص ٢٣٣ ، والعقد الفريد ج ٤ ص ٢٥٨ ، طبع دار الكتاب العربي ، والأدب في ظل التشيع ص ٢٤ ، نقلا عن البيان والتبيين للجاحظ ) ؛ ولأنهم هم أولياؤه وعشيرته ، على ما ذكره الطبري ج ٣ ص ٢٢٠ ، طبع دار المعارف بمصر ، والامامة والسياسة ص ١٤ ، ١٥ طبع الحلبي بمصر ، وشرح النهج المعتزلي ج ٦ ص ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١١ ، والامام الحسين للعلائلي ص ١٨٦ ، وص ١٩٠ ، وغيرهم. او لأنهم عترة النبي (ص) وأصله والبيضة التي تفقأت عنه كما في العثمانية للجاحظ ص ٢٠٠. فأسقطا بذلك دعوى الأنصار عن الاعتبار.

كما أن أبا بكر قد استدل على الأنصار بالحديث الذي صرح باستفاضته جهابذة أهل السنة ( على ما في ينابيع المودة للحنفي ) ، وهو قوله (ص) مشيرا إلى خلفائه الاثنى عشر : « يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الامة ، كلهم من قريش ». ـ استدل به ـ بعد أن تصرف فيه ، بأن حذف صدره ، واكتفى بذكر : أن الأئمة من قريش على ما في صواعق ابن حجر ص ٦ ، وغيره ..

وأصبح كون الأئمة من قريش تقليدا متبعا ، بل ومن عقائد أهل السنة المعترف بها ، وقد استدل ابن خلدون على ذلك بالاجماع.

ولكن قول عمر : لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته ، قد أوقع ابن خلدون ، كما أوقع غيره من جهابذة أهل السنة في حيص بيص ؛ لعدم كون سالم قرشيا ، فضلا عن أن يكون أمس رحما برسول الله من غيره ، فراجع مقدمة ابن خلدون ص ١٩٤ ، وغيره من كتبهم ..

أما ابن كثير فانه قد استشكل بالأمر من ناحية اخرى ؛ حيث قال ـ وهو يتحدث عن فتنة محمد بن الأشعث الكندي ـ : « .. والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالامارة ،

٥٣

__________________

وليس هو من قريش ، وانما هو كندي من اليمن ؛ وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش ، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك ، حتى أن الانصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين ، فأبى الصديق عليهم ذلك .. ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة ، الذي دعا إلى ذلك أولا ، ثم رجع عنه » .. انتهى .. راجع البداية والنهاية ج ٩ ص ٥٤.

فتراه يستشكل في عمل من بايعوا محمد بن الاشعث بامرة المؤمنين ، التي رآها مخالفة للاجماع المدعى يوم السقيفة .. وتراه يعترف بمخالفة سعد ثم يدعي أنه رجع عن ذلك .. ولست أدري كيف رجع عنه ، مع أنه من المتسالم عليه تاريخيا : أنه استمر على الخلاف معهم ، حتى اغتيل بالشام ـ اغتالته السياسة ، على حد تعبير طه حسين في كتابه : من تاريخ الأدب العربي ج ١ ص ١٤٦ ، وغيره .. وذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان.

وعلى كل حال .. فان ما يهمنا هو الاشارة إلى أن كون الأئمة من قريش ليس فقط أصبح تقليدا متبعا ، بل قد أصبح من عقائد أهل السنة المعترف بها ..

ولكن ما تأتي به السياسة ، تذهب به السياسة ؛ إذ بعد تسعمائة سنة جاء السلطان سليم ، وخلع الخليفة العباسي ، وتسمى هو ب : « أمير المؤمنين » ، مع أنه لم يكن من قريش.

وبهذا يكون قد الغى هذا التقليد عملا من عقائد طائفة من المسلمين ، وأبطله .. ومهما يكن من أمر فان أول من ادعى استحقاق الخلافة بالقربى النسبية من رسول الله (ص) كان أبو بكر ، ثم عمر ، وجاء بعدهما بنو أميّة ؛ فعرفوا أنفسهم بأنهم ذوي قربى النبي (ص) حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام ، وأصحاب النعم والرئاسة فيها ـ حلفوا ـ للسفاح : على أنهم لم يكونوا يعرفون إلى أن قتل مروان ، أقرباء للنبي (ص) ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أميّة .. فراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٢٨ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ / ١٥٩ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٣٣ وفتوح ابن أعثم ج ٨ ص ٩٥ بل لقد ذكر المسعودي والمقريزي : أن إبراهيم بن المهاجر البجلي ، الموالي للعباسيين قد نظم قضية هؤلاء الامراء شعرا ، فقال :

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجبا زاد على كل العجب

عجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثوا أحمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا والله ما فعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب

ويقول الكميت عن دعوى بني أميّة هذه :

وقالوا : ورثناها أبانا وامنا

ولا ورثتهم ذاك أم ولا أب

٥٤

__________________

وفي العقد الفريد ج ٢ / ١٢٠ طبع دار الكتاب العربي : أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب قالت لمعاوية : « .. ونبينا (ص) هو المنصور ؛ فوليتم علينا من بعده ، تحتجون بقرابتكم من رسول الله (ص) ، ونحن أقرب إليه منكم ، وأولى بهذا الأمر الخ .. ».

ثم جاء العباسيون ، وادعوا نفس هذه الدعوى ، كما هو واضح من النصوص التي ذكرناها ، ونذكرها .. بل لقد ادعى نفس هذه الدعوى أيضا أكثر إن لم يكن كل من خرج مطالبا بالخلافة ، سواء كان خروجه على الامويين أو على العباسيين ..

وهذا يعني أن العامل النسبي قد لعب دورا هاما في الخلافة الاسلامية ، وكان الناس بسبب جهلهم ، وعدم وعيهم لمضامين الاسلام يصدقون ويسلمون بأن القربى النسبية تكفي وحدها في أن تجعل لمدعيها الحق في منصب الخلافة. ولعل أكثر ما ورد في القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة من الوصايا بأهل البيت عليهم‌السلام ، والأمر بمودتهم ، ومحبتهم ، والتمسك بهم جعل الناس يظنون أن سبب ذلك هو مجرد قرباهم النسبية منه (ص) .. وكان أن استغل الطامحون فهم الناس الخاطئ هذا .. بل لقد حاولوا ما أمكنهم تكريسه ، وتثبيته ..

إلا أن حقيقة الأمر هي غير ذلك ؛ فان منصب الخلافة في الاسلام ، لا يدور مدار القربى النسبية منه. بل هو يدور مدار الأهلية والجدارة ، والاستعداد الذاتي لقيادة الامة قيادة صالحة ، كما كان النبي (ص) يقودها ، يدلك على ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص القرآنية ، وإلى ما ورد عن النبي (ص) بشأن الخليفة بعده ، فلعلنا لا نعثر على نص واحد منها يفهم منه أن استحقاق الخلافة يدور مدار القربى النسبية منه (ص) ، وحسب.

وكل ما ورد في القرآن ، وعنه (ص) من الأمر بموالاة أهل بيته ، وحبهم ، والتمسك بهم ، ومن تعيينه خلفاءه منهم ، فليس لأجل قرباهم النسبية منه (ص). بل لأن الأهلية ، والجدارة الحقيقية لهذا المنصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الاصوليين : من باب الاشارة إلى الموضوع الخارجي .. وليس تصريحه (ص) بالقربى لأجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة.

وواضح أنه كان لا بد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والأهلية لقيادة الامة ؛ لأن الناس قاصرون عن إدراك حقائق الامور ، ونفسيات ، وغرائز ، وملكات بعضهم البعض .. إدراكا دقيقا وحقيقيا ، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل .. ونقد عينه (ص) بالفعل ، ودل عليه بمختلف الدلالات ،

٥٥

__________________

بالقول : تصريحا ، وتلويحا ، وكناية ، ونصا ، ووصفا ، وغير ذلك .. وبالفعل أيضا ، حيث أمره على المدينة ، وعلى كل غزوة لا يكون هو (ص) فيها ، ولم يؤمر عليه أحدا ، وغير ذلك ..

هذا هو رأي الشيعة ، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الأمر ، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لأي لبس أو توهم ؛ فراجع كلام الامام علي في شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢ ، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه ..

ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الامام علي عليه‌السلام ، أو عن غيره من الأئمة الطاهرين ، من قولهم : أنهم هم الذين عندهم ميراث رسول الله (ص) ؛ فانما يقصدون به الميراث الخاص ، الذي يختص الله به من يشاء من عباده ، أعني : ميراث العلم ؛ على حد قوله تعالى : « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا .. » وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الأنبياء يورثون العلم لأشخاص معينين من بعدهم. وعلى كل فلقد أنكر علي عليه‌السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الإنكار ، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : « وا عجبا!! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟!! ». هكذا في نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ولكن الظاهر هو أنها محرفة ، وأن الصحيح هو ما في نسخة ابن ابي الحديد ، وهي هكذا : « وا عجبا!! أن تكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة!! ».

وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول الله (ص) ، فانما اقتضاه الحجاج مع الخصوم ؛ فهو من باب : « الزموهم بما الزموا به أنفسهم ». ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الإمام علي عليه‌السلام لأبي بكر ، عند ما جيء به ليبايع ؛ فكان مما قاله : « .. واحتججتم عليهم ( أي على الأنصار ) بالقرابة من النبي (ص) .. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى الخ » .. راجع : الامامة والسياسة ج ١ ص ١٨.

ويشير أيضا عليه‌السلام ـ إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه .. كما ويشير إليه أيضا ما نسب إليه عليه‌السلام من الشعر ( على ما في نهج البلاغة ) وهو قوله :

فان كنت بالشورى ملكت امورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيب

وان كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقرب

ولكن أحمد أمين المصري في كتابه : ضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٦١ ، وص ٣٠٠ ، وص ٢٢٢ ، وص ٢٣٥. وكذلك سعد محمد حسن في كتابه : المهدية في الاسلام ص ٥

٥٦

__________________

والخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٦ : إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول : بأن منصب الخلافة يدور مدار القربى النسبية منه (ص) وحسب .. رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب ، وبالتحديد في ص ٢٠٨ ، ٢١٢ : بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول .. بل والخضري يعترف بذلك أيضا حيث قال : « أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي ، فانه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ » ..

وهي نسبة غريبة حقا ـ بعد هذا الاعتراف الصريح منهم ، ومن غيرهم ـ فان عقيدة الشيعة ـ تبعا لأئمتهم هي ما ذكرنا ، أي ليس منصب الخلافة دائرا مدار القربى النسبية منه (ص) ، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الأحوال استحقاق الخلافة ، وإنما لا بد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والأهلية والاستعداد الذاتي لها ..

إنهم يستدلون على خلافة علي عليه‌السلام بالنصوص القرآنية ، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الاسلامية ، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب : ألزموهم .. أو من باب تكثير الأدلة ، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها ، وإذا ما شذ واحد منهم ، واستدل بذلك ، معتقدا بخلاف ما قلناه عن قصور نظر ، وقلة معرفة ، أو لفهمه ـ خطأ ـ ما ورد عنهم عليهم‌السلام ، من أن عندهم ميراث رسول الله (ص) ؛ فلا يجب ، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة ، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم ، وأن تلك هي عقيدتهم ..

ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة!!

أو أنه راجعها ، واشتبه عليه الأمر!!

أو أنه .. لا هذا .. ولا ذاك .. وإنما أراد التشنيع عليهم ؛ فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم!

ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الأخير ، اعترافه المشار إليه ، بأن الشيعة يستدلون على إمامة علي عليه‌السلام بالنص ، لا بالقربى!! ..

وخلاصة القول هنا : إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك ، لا من الأئمة ، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر ، وعمر ، ثم الامويين ، فالعباسيين.

وإذا كان أهل السنة ـ تبعا لأئمتهم ـ قد جعلوا كون الإمامة في قريش من عقائدهم. وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى ، وهللوا وكبروا لها .. فمن الحق لنا إذن أن نقول :

٥٧

وعند ما ذهب داود بن علي إلى مكة ، واليا عليها ، من قبل أخيه السفاح ، وأراد أن يخطب في مكة خطبته الأولى ، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام ؛ فأذن له ؛ فوقف ؛ وقال من جملة ما قال :

« .. أتزعم الضلال : أن غير آل الرسول أولى بتراثه؟! ولم؟! وبم؟! معاشر الناس؟! ألهم الفضل بالصحابة ، دون ذوي القرابة؟ الشركاء في النسب ، والورثة للسلب .. » (١).

ويقول داود بن علي في نفس المناسبة ، أعني في أول خطبة له : « لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله (ص) ، إلا علي بن أبي طالب ، وهذا القائم فيكم .. » وأشار إلى السفاح (٢).

__________________

« رمتني بدائها وانسلت ».

وأخيرا .. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة ، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة .. أن سنحت الفرصة لأن يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم ، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين ، وانسياقهم وراء شهواتهم ، أينما كانت ، وحيثما وجدت ، جاعلين الحكم والسلطان وسيلة إليها ، مسدلين على حماقاتهم هنا ، وتفاهاتهم هناك ستارا من القربى النسبية منه (ص) .. وهو من هؤلاء وأمثالهم بريء ..

ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم ، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم ، كان لا بد لهم من الالتجاء إلى أساليب اخرى ، تبرر لهم واقعهم ، وتحمي تصرفاتهم ، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم ،. ولعل بيعة المأمون للامام الرضا عليه‌السلام بولاية العهد هي من تلك الأساليب ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى ..

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٩ ، والعقد الفريد ، طبع دار الكتاب ج ٤ ص ٤٨٥

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧ و ٢٥٦ ، والطبري ج ١٠ ص ٣٣ و ٣٧ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٢٥٢ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨٧ ، ٨٨ ، والكامل لابن الأثير ج ٤ ص ٣٢٦ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٢٩ و ١٧٣ ، وامبراطورية العرب ص ٤٢٢ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٥٥ ، وفيه : « إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلخ » .. وبرواية اخرى فيه : « اقسم بالله قسما برا ، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحق به من علي بن أبي طالب ، وأمير المؤمنين هذا » ..

٥٨

وقال المنصور في خطبة له : « وأكرمنا من خلافته ، ميراثنا من نبيه .. » (١).

ولكنهم بعد المنصور ـ بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح ـ قد غيروا سلسلة الارث هذه ، وجعلوها عن طريق العباس ، وولده عبد الله ، ولكنهم أجازوا بيعة علي ؛ لأن العباس نفسه كان قد أجازها .. كما سيأتي بيانه .. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من المنصور ناظرة إلى الارث عن هذا الطريق ..

فنرى المنصور يبين في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن : أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما ورثه من النبي (ص) ، وأنها في ولده (٢) ..

وكان الرشيد يقول : « ورثنا رسول الله ، وبقيت فينا خلافة الله (٣) ».

وقال الأمين عند ما بويع له ، بعد موت أبيه الرشيد : « .. وأفضت خلافة الله ، وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد (٤) .. ».

ومدح البعض المأمون ، وعرض بأخيه الذي غدر به ، فقال في جملة أبيات له :

إن تغدروا جهلا بوارث أحمد ووصي كل مسدد وموفق (٥)

__________________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٠١ ، والطبري ج ١٠ ص ٤٣٢.

(٢) الطبري ج ١٠ ص ٢١٥ ، والعقد الفريد طبع دار الكتاب ج ٥ ص ٨١ ، إلى ٨٥ ، وصبح الأعشى ج ١ ص ٣٣٣ ، فما بعد ، والكامل للمبرد ، وطبيعة الدعوة العباسية ..

(٣) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٦٣.

(٥) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٩٩.

٥٩

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه .. ولنعد إلى ما كنا فيه أولا ، فنقول :

دعوى الأخذ بثارات العلويين :

وأما ادعاؤهم : أنهم إنما خرجوا للأخذ بثارات العلويين ، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت ، حتى بعد نجاح ثورتهم ، وتسلمهم لأزمة الحكم والسلطان ـ وهذه هي الناحية الثانية من المرحلة الرابعة ـ فذلك أوضح من أن يخفى .. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن ماهان : « وسنأخذ بثارهم .. » يعني بثارات العلويين. وتقدم أيضا قول داود ابن علي : « وانما أخرجنا الانفة من ابتزازهم حقنا ، والغضب لبني عمنا .. » ..

ويقول السفاح ، عند ما أتي برأس مروان : « ما أبالي متى طرقني الموت ، فقد قتلت بالحسين ، وبني أبيه من بني أمية مائتين ، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي ، وقتلت مروان بأخي ابراهيم .. » (١).

ويقول صالح بن علي لبنات مروان : « ألم يقتل هشام بن عبد الملك ، زيد بن علي بن الحسين ، وصلبه في كناسة الكوفة؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة ، على يد يوسف بن عمرو الثقفي؟! ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد ، وصلبه بخراسان؟!

__________________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٥٧ ، وفي شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ١٣١ ، وحياة الامام موسى بن جعفر للقرشي ج ١ ص ٣٣٧ ، نقلا عن مختصر أخبار الخلفاء ، هكذا .. « .. وقد قتلت بالحسين ألفا من بني أميّة .. إلى أن قال : وقتلنا سائر بني أميّة بحسين ، ومن قتل معه ، وبعده من بني عمنا أبي طالب » ..

٦٠