الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

ونسيم قول الله تعالى : « ومن بغي عليه لينصرنه الله .. ».

وأما ما ذكرتم : من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا (ع) ؛ فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره ، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ، ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ، ولا أزهد زهدا في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ، ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات الله منه. وإن البيعة له لموافقة رضا الرب عز وجل. ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم ..

ولعمري ، لو كانت بيعتي بيعة محاباة ، لكان العباس ابني ، وسائر ولدي أحب إلى قلبي ، وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمرا ، وأراد الله أمرا ؛ فلم يسبق أمري أمر الله.

وأما ما ذكرتم : مما مسكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه ، علي ( خ د ) ، وممايلتكم إياه ، فلما قتلته وتفرقتم عباديد ، فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لأعرابي ، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا علي. ولو لا أن شيمتي العفو ، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم حلال الدم ، محل بنفسه ..

وأما ما سألتم : من البيعة للعباس ابني .. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ويلكم ، إن العباس غلام حدث السن ، ولم يؤنس رشده ، ولم يمهل وحده ، ولم تحكمه التجارب. تدبره النساء ، وتكفله الاماء ، ثم .. لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام ، إلا معرفة لا تأتي به رعية ، ولا تقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا ، قد أحكمته التجارب ، وتفقه في الدين ، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا ، وصرف النفس عنها .. ما كان له عندي في الخلافة ، إلا ما كان لرجل من عك وحمير ، فلا تكثروا من هذا المقال ، فإن لساني لم

٤٦١

يزل مخزونا عن أمور وأنباء ، كراهية أن تخنث النفوس عند ما تنكشف ، علما بأن الله بالغ أمره ، ومظهر قضاه يوما ..

فإذ أبيتم إلا كشف الغطاء ، وقشر العظاء ، فالرشيد أخبرني عن آبائه ، وعما وجده في كتاب الدولة ، وغيرها : أن السابع من ولد العباس ، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته ، فإذا أودعت فودّعها ، فإذا أودع فودعاها ، وإذا فقدتم شخصي ، فاطلبوا لأنفسكم معقلا ، وهيهات ، ما لكم إلا السيف ، يأتيكم الحسني الثائر البائر ، فيحصدكم حصدا ، أو السفياني المرغّم ، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلا بحقها ..

وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى ، بعد استحقاق منه لها في نفسه ، واختيار مني له ، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه.

وإن تزعموا : أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ، فإني في تدبيركم ، والنظر لكم ولعقبكم ، وابنائكم من بعدكم .. وأنتم ساهون ، لاهون ، تائهون ، في غمرة تعمهون ، لا تعلمون ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة ، وابتزاز النعمة. همة أحدكم أن يمسي مركوبا ، ويصبح مخمورا تباهون بالمعاصي ، وتبتهجون بها ، وآلهتكم البرابط ، مخنثون ، مؤنثون لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة ، ولا استدامة نعمة ، ولا اصطناع مكرمة ، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ..

أضعتم الصلاة ، واتبعتم الشهوات ، واكببتم على اللذات ، فسوف تلقون غيا. وأيم الله ، لربما أفكر في أمركم ، فلا أجد أمة من الامم استحقوا

٤٦٢

العذاب ، حتى نزل بهم لخلة من الخلال ، إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم ، مع خلال كثيرة ، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها ، ولا أمر بالعمل بها. وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح :

أنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض ، قد اتخذتموهم شعارا ، ودثارا ، استخفافا بالمعاد ، وقلة يقين بالحساب. وأيكم له رأي يتبع ، أو روية تنفع ، فشاهت الوجوه ، وعفرت الخدود.

وأما ما ذكرتم : من العثرة كانت في أبي الحسن (ع) نور الله وجهه ، فلعمري. إنها عندي للنهضة والاستقلال ، الذي أرجو به قطع الصراط ، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الاكبر. ولا أظن عملا هو عندي أفضل من ذلك ، إلا أن أعود بمثلها إلى مثله ، وأين لي بذلك ، وأنى لكم بتلك السعادة ..

وأما قولكم : إني سفهت آراء آبائكم ، وأحلام أسلافكم ، فكذلك قال مشركوا قريش : « إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ». ويلكم ، إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء ، فافقهوا ، وما أراكم تعقلون ..

وأما تعييركم إياي : بسياسة المجوس إياكم ، فما أذهبكم الانفة (١) من ذلك ، ولو ساستكم القردة والخنازير ، وما أردتم إلا أمير المؤمنين .. ولعمري ، لقد كانوا مجوسا فأسلموا ، كآبائنا ، وأمهاتنا في القديم ، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا ، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد ، فهم يتناهون عن المنكر ، ويأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ، ويتباعدون من الشر ، ويذبون عن حرم المسلمين ،

__________________

(١) الظاهر أن الصواب : « فما أذهبكم عن الأنفة ».

٤٦٣

يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر ، ويتباشرون بما نال الاسلام وأهله من الخير .. منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا.

وليس منكم إلا لاعب بنفسه ، مأفون في عقله وتدبيره : إما مغن ، أو ضارب دف ، أو زامر. والله ، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا ، فقيل لهم : لا تأنفوا من معايب تنالوهم بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا ، وصناعة وأخلاقا ..

ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع ، وإذا مسه الخير منع ، ولا تأنفون ، ولا ترجعون إلا خشية ، وكيف يأنف من يبيت مركوبا ، ويصبح باثمه معجبا ، كأنه قد اكتسب حمدا ، غايته بطنه وفرجه ، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل ، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية ، أو أعانه في فاحشة ، تنظفه المخمورة ، وتربده المطمورة ، فشتت الأحوال .. فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح ، وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم .. وإلا فدونكم تعلوا بالحديد ..

ولا قوة إلا بالله ، وعليه توكلي ، وهو حسبي ».

٤٦٤

رسالة عبد الله بن موسى الى المأمون

النص الأول للرسالة :

قال أبو الفرج الاصفهاني ، صاحب كتاب « الأغاني » ، في كتابه : مقاتل الطالبيين ص ٦٣٠ ، ٦٣١ ، في معرض حديثه عن عبد الله بن موسى ، بن عبد الله بن الحسن ، بن علي بن أبي طالب (ع) ، الذي كان قد توارى في أيام المأمون :

« .. وأخبرني جعفر بن محمد الورّاق الكوفي ، قال : حدثني عبد الله بن علي بن عبيد الله العلوي الحسيني ، عن أبيه ، قال :

كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى ، وهو متوار منه ، يعطيه الأمان ، ويضمن له : أن يوليه العهد بعده ، كما فعل بعلي بن موسى ، ويقول :

« .. ما ظننت أن أحدا من آل أبي طالب يخافني ، بعد ما عملته بالرضا .. ».

وبعث الكتاب إليه. فكتب إليه عبد الله بن موسى :

« .. وصل كتابك ، وفهمته ، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص ، وتحتال علي حيلة المغتال ، القاصد لسفك دمي ..

٤٦٥

وعجبت من بذلك العهد ، وولايته لي بعدك ؛ كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا!! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟!. أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟!. فو الله ، لأن أقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي أمرا بين المسلمين ، أو أشرب شربة من غير حلها ، مع عطش شديد قاتل ..

أم في العنب المسموم ، الذي قتلت به الرضا؟!.

أم ظننت أن الاستتار قد أملني ، وضاق به صدري؟!. فو الله ، إني لذلك ، ولقد مللت الحياة ، وأبغضت الدنيا ، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك ، حتى تبلغ من قبلي مرادك ، لفعلت ذلك ، ولكنّ الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي. وليتك قدرت علي ، من غير أن أبذل نفسي لك ، فتقتلني ، ولقيت الله عز وجل بدمي ، ولقيته قتيلا مظلوما ؛ فاسترحت من هذه الدنيا ..

واعلم : أني رجل طالب النجاة لنفسي ، واجتهدت فيما يرضي الله عز وجل عني ، وفي عمل أتقرب به إليه ؛ فلم أجد رأيا يهدي إلى شيء من ذلك ، فرجعت إلى القرآن ، الذي فيه الهدى والشفاء ، فتصفحته سورة سورة ، وآية آية ، فلم أجد شيئا أزلف للمرء عند ربه ، من الشهادة في طلب مرضاته ..

ثم تتبعته ثانية ، أتأمل الجهاد أيّه أفضل ، ولأي صنف ، فوجدته جل وعلا يقول : « قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة » ، فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام ، وأقرب من موضعي ، فلم أجد أضر على الاسلام منك ، لأن الكفار أظهروا كفرهم ، فاستبصر الناس في أمرهم ، وعرفوهم فخافوهم .. وأنت ختلت المسلمين بالإسلام ، وأسررت الكفر ، فقتلت بالظنة ، وعاقبت بالتهمة ، وأخذت مال الله من غير حله ، فأنفقته في غير حله ، وشربت الخمر المحرمة صراحا ،

٤٦٦

وأنفقت مال الله على الملهين ، وأعطيته المغنين ، ومنعته من حقوق المسلمين ، فغششت بالاسلام ، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله ، وحكمت فيه للمشرك ، وخالفت الله ورسوله في ذلك ، خلافة المضاد المعاند ، فان يسعدني الدهر ، ويعنّي الله عليك بأنصار الحق ، أبذل نفسي في جهادك ، بذلا يرضيه مني ، وان يمهلك ، ويؤخرك ، ليجزيك بما تستحقه في منقلبك ، أو تختر مني الأيام قبل ذلك ، فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عز وجل من نيتي ، والسلام .. ».

وثمة نص آخر :

وكان أبو الفرج قد ذكر قبل ذلك أي في ص ٦٢٨ ، ٦٢٩ من نفس الكتاب نصا آخر هو إما رسالة أخرى .. أو نص آخر لهذه الرسالة نفسها .. والظاهر أنه رسالة اخرى .. وكيف كان فقد قال أبو الفرج :

« وكان عبد الله توارى في أيام المأمون ، فكتب بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور ، ليجعله مكانه ، ويبايع له ، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله ، وما أشبه هذا من القول :

فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها :

فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته.

والله ، ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ، ولا كراهة له ، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي ، ولو لا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.

ويقول فيها :

هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا ، الآخذين حقنا ،

٤٦٧

الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم ، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا ، تختل واحدا فواحدا منا. ولكنني كنت امرأ حبب إليّ الجهاد ، كما حبب إلى كل امرئ بغيته ، فشحذت سيفي ، وركبت سناني على رمحي ، واستفرهت فرسي ، لم أدر أي العدوّ أشد ضررا على الإسلام ، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شيء ، فقرأته ، فإذا فيه : « يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة » ..

فما أدري من يلينا منهم ، فأعدت النظر ، فوجدته يقول : « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم ، أو إخوانهم ، أو عشيرتهم » ، فعلمت أن عليّ أن أبدأ بما قرب مني ..

وتدبرت ، فإذا أنت أضر على الاسلام والمسلمين من كل عدو لهم ، لأن الكفار خرجوا منه ، وخالفوه ، فحذرهم الناس ، وقاتلوهم ، وأنت دخلت فيه ظاهرا ، فأمسك الناس ، وطفقت تنقض عراه عروة عروة ، فأنت أشد أعداء الإسلام ضررا عليه .. » .. ثم قال أبو الفرج : وهي رسالة طويلة أتينا بها في الكتاب الكبير ..

٤٦٨

رسالة سفيان الى هارون

مصادر الرسالة :

ذكر هذه الرسالة الدميري في حياة الحيوان ج ٢ ص ١٨٨ ، ١٨٩ ، نقلا عن ابن بليان ، والامام الغزالي ، ودحلان في الفتوحات الاسلامية ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٤٤٩ حتى ٤٥٣.

وأشار إليها ابن خلدون في مقدمته ، ص ١٧ مستدلا بها على تدين الرشيد والتزامه .. وذكر جرجي زيدان شطرا منها في كتابه : تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الأول ، جزء ٢ ص ٣٨٥ ، ٣٨٦ ، والمجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٨٠. ونحن نذكرها هنا عن الدميري مع بعض تعديلات عن دحلان.

مناقشة لا بد منها :

ولكن الرسالة تذكر أن الذي كاتبه الرشيد ، والمجيب له هو سفيان الثوري .. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا ؛ فان سفيان قد توفي في خلافة المهدي متخفيا ، في سنة ١٦١ ه‍ ؛ وهارون لم يتولّ الخلافة إلا في سنة ١٧٠ ه‍.

٤٦٩

ولعل الصواب : هو أن مرسلها هو : إمام مكة سفيان بن عيينة ، المتوفى سنة ١٩٨ ه‍. عن إحدى وتسعين سنة ..

ولعل الراوي قد اشتبه عليه الأمر ، عفوا ، أو عمدا!! لحاجة في نفسه قضاها .. وأيّاما كانت الحقيقة ؛ فإن هذه الرسالة تعتبر وثيقة تاريخية هامة ؛ لأنها تصور لنا حقيقة الوضع في تلك الفترة من الزمن ..

وتعطينا شأنها شأن رسالة الخوارزمي ، ورسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون صورة واضحة عما كان يمارسه خلفاء ذلك الوقت من مآثم ، وما يرتكبونه من موبقات ..

نص الرسالة :

وملخص حكاية هذه الرسالة هي : أن الرشيد أرسل إلى سفيان الثوري!! ـ وقد قلنا : إن الظاهر : أنه ابن عيينة ـ كتابا يتودد إليه فيه ، ويطلب منه أن يقدم عليه.

فلما وصل الكتاب إلى سفيان ، رماه من يده ، وقال لإخوانه : ليقرأه بعضكم ؛ فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم ..

فلما قرءوه ، أمرهم أن يكتبوا إلى الظالم في الجواب ما يلي :

« من العبد الميت سفيان ، إلى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سلب حلاوة الإيمان ، ولذة قراءة القرآن ..

أما بعد :

فإني كتبت إليك أعلمك : أني قد صرمت حبلك ، وقطعت ودّك ، وقليت موضعك ، وأنك جعلتني شاهدا عليك ؛ بإقرارك على نفسك في كتابك : بما هجمت على بيت مال المسلمين ؛ فأنفقته في غير حقه ،

٤٧٠

وأنفذته بغير حكمه ، ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني ، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك ، فأما أنا فإني قد شهدت عليك ، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك ، وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل ..

يا هارون ، هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم. هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم ، والعاملون عليها في أرض الله ، والمجاهدون في سبيل الله ، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن ، وأهل العلم؟!

أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل؟!.

أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟! ..

فشد يا هارون مئزرك ، وأعدّ للمسألة جوابا ، وللبلاء جلبابا ، واعلم أنك ستقف بين يدي الله الحكم العدل ؛ فاتق الله في نفسك ، إذا سلبت حلاوة العلم والزهد ، ولذة قراءة القرآن ، ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما ، وللظالمين إماما ..

يا هارون ، قعدت على السرير ، ولبست الحرير ، وأسبلت ستورا دون بابك ، وتشبهت بالحجبة برب العالمين. ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك ، يظلمون الناس ولا ينصفون. ويشربون الخمر ، ويحدون الشارب. ويزنون ، ويحدون الزاني ، ويسرقون ، ويقطعون السارق. ويقتلون ، ويقتلون القاتل.

أفلا كانت هذه الأحكام عليك ، وعليهم ، قبل أن يحكموا بها على الناس؟! فكيف بك يا هارون غدا ، إذا نادى المنادي من قبل الله : احشروا الظلمة ، وأعوانهم أين الظلمة ، وأعوان الظلمة ؛ فتقدمت بين يدي الله ، ويداك مغلولتان إلى عنقك ، لا يفكهما إلا عدلك وانصافك ، والظالمون حولك ، وأنت لهم إمام ، أو سائق إلى النار.

٤٧١

وكأني بك يا هارون .. وقد أخذت بضيق الخناق ، ووردت المساق ، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك ، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك ، بلاء على بلاء ، وظلمة فوق ظلمة ؛ فاتق الله يا هارون في رعيتك ، واحفظ محمدا (ص) في أمته. واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك ، إلا وهو صائر إلى غيرك ، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها ، واحدا بعد واحد ؛ فمنهم من تزود زادا نفعه ، ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته.

وإياك ، ثم إياك أن تكتب إليّ بعد هذا ؛ فإني لا أجيبك .. والسلام .. » ..

ثم بعث بالكتاب منشورا ، من غير طيّ ، ولا ختم ..

٤٧٢

قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني

نقاط رئيسية :

كنت قد وعدت القارئ الكريم في فصل : سياسة العباسيين ضد العلويين ، بأن أورد في أواخر هذا الكتاب قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني المعروفة ب : « الشافية ».

وقد حان الآن موعد الوفاء بذلك الوعد .. وقبل ذلك ، لا بأس بالإشارة إلى :

أن أبا فراس قد ولد في سنة ٣٢٠ ه‍. ، وتوفي في سنة ٣٥٧ ه‍. عليه الرحمة والرضوان ..

وفي زمانه : كان بنو العباس الخلفاء ، وآل بويه السلاطين ، وآل حمدان الامراء ..

ولاء .. وشجاعة :

وأما عن سبب نظم هذه القصيدة ، فهو أن أبا فراس وقف على قصيدة ابن سكرة ، التي يتحامل فيها على العلويين ، والتي أولها :

٤٧٣

بني علي دعوا مقالتكم

لا ينقض الدر وضع من وضعه

فحمي أبو فراس ، ونظم هذه القصيدة ، التي سارت بها الركبان.

ودخل بغداد ، وأمر أن يشهر في المعسكر خمسمائة سيف ، وقيل : أكثر من ذلك .. ثم أنشد هذه القصيدة ، وخرج من الناحية الاخرى (١) وقد شرح هذه القصيدة عدد من الادباء والعلماء ، منهم ابن خالويه ، ومنهم محمد بن أمير الحاج حسيني.

والقصيدة هي :

الدين مخترم والحق مهتضم

وفيء آل رسول الله مقتسم

والناس عندك لا ناس فيحفظهم

سوم الرعاء ولا شاء ولا نعم

إني أبيت قليل النوم أرّقني

قلب تصارع فيه الهم والهمم

وعزمة لا ينام الدهر صاحبها

إلا على ظفر في طيه كرم

يصان مهري لأمر لا أبوح به

والدرع والرمح والصمصامة الخذم

وكل مائرة الضبعين مسرحها

رمث الجزيرة والخذراف والعنم

وفتية قلبهم قلب إذا ركبوا

يوما ورأيهم رأي إذا عزموا

يا للرجال أما لله منتصر

من الطغاة ، أما للدين منتقم

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر تملكه النسوان والخدم

__________________

(١) راجع : شرح الشافية ، لمحمد بن أمير حاج حسيني ص ٦ ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٥٧ ، ورجال المامقاني ج ٣ ص ٣٠ من باب الكنى ، ورجال أبي علي ص ٣٤٩ ، والغدير ج ٣ ص ٤٠٣ والكنى والألقاب ج ١ ص ١٣٧ ، والفتوني في كشكوله ، وغير ذلك.

٤٧٤

محلئون فأصفى وردهم وشل

عند الورود وأوفى شربهم لمم

فالأرض إلا على ملاكها سعة

والمال إلا على أربابه ديم

فما السعيد بها إلا الذي ظلموا

وما الشقي بها إلا الذي ظلموا

للمتقين من الدنيا عواقبها

وإن تعجل فيها الظالم الأثم

لا يطغين بني العباس ملكهم

بنو علي مواليهم ، وإن رغموا

أتفخرون عليهم لا أبا لكم

حتى كأن رسول الله جدكم

وما توازن يوما بينكم شرف

ولا تساوت لكم في موطن قدم

ولا لكم مثلهم في المجد متصل

ولا لجدكم مسعاة جدهم

ولا لعرقكم من عرقهم شبه

ولا نثيلتكم من أمهم أمم

قام النبي بها « يوم الغدير » لهم

والله يشهد ، والأملاك ، والامم

حتى إذا أصبحت في غير صاحبها

باتت تنازعها الذؤبان والرخم

وصيروا أمرهم شورى كأنهم

لا يعلمون ولاة الحق أيهم

تالله ما جهل الاقوام موضعها

لكنهم ستروا وجه الذي علموا

ثم ادعاها بنو العباس ملكهم

وما لهم قدم فيها ، ولا قدم

لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا

ولا يحكم في أمر لهم حكم

ولا رآهم أبو بكر وصاحبه

أهلا لما طلبوا منها وما زعموا

فهل هم يدعوها غير واجبة

أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا

٤٧٥

أمّا علي فقد أدنى قرابتكم

عند الولاية إن لم تكفر النعم

أينكر الحبر عبد الله نعمته

أبوكم ، أم عبيد الله ، أم قثم

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن

أباهم العلم الهادي ، وأمهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم

ولا يمين ، ولا قربى ولا ذمم

هلا صفحتم عن الاسرى بلا سبب

للصافحين ببدر عن أسيركم

هلا كففتم عن الديباج سوطكم

وعن بنات رسول الله شتمكم

ما نزهت لرسول الله مهجته

عن السياط فهلاّ نزّه الحرم

ما نال منهم بنو حرب وان عظمت

تلك الجرائر إلا دون نيلكم

كم غدرة لكم في الدين واضحة

وكم دم لرسول الله عندكم

أأنتم آله فيما ترون وفي

أظفاركم من بنيه الطاهرين دم

هيهات لا قربت قربى ، ولا رحم

يوما إذا أقصت الأخلاق والشيم

كانت مودة سلمان لهم رحما

ولم تكن بين نوح وابنه رحم

يا جاهدا في مساويهم يكتمها

غدر الرشيد بيحيي كيف ينكتم

ذاق الزبيري عبء الحنث وانكشفت

عن ابن فاطمة الأقوال والتهم

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا

مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم (١)

باءوا بقتل الرضا من بعد بيعته

وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا

يا عصبة شقيت من بعد ما سعدت

ومعشر هلكوا من بعد ما سلموا

لبئسما لقيت منهم وان بليت

بجانب الطف تلك الأعظم الرمم

__________________

(١) كان هذا البيت مقدما على الذي قبله في بعض مصادر هذه القصيدة. لكن الصواب تأخيره ؛ ليتحد السياق ، وينسجم المعنى ..

٤٧٦

لا عن أبي مسلم في نصحه صفحوا

ولا الهبيريّ نجى الحلف والقسم

ولا الأمان لأهل الموصل اعتمدوا

فيه الوفاء ، ولا عن غيهم حلموا

أبلغ لديك بني العباس مألكة

لا تدّعوا ملكها ملاكها العجم

أي المفاخر أمست في منابركم

وغيركم آمر فيها ، ومحتكم

أنّى يفيدكم في مفخر علم

وفي الخلاف عليكم يخفق العلم

يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم

لمعشر بيعهم يوم الهياج دم

خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا

يوم السؤال ، وعمّالين إن علموا

لا يغضبون لغير الله إن غضبوا

ولا يضيعون حكم الله إن حكموا

تنشى التلاوة في أبياتهم سحرا

وفي بيوتكم الأوتار والنغم

إذا تلوا آية غنى إمامكم :

قف بالديار التي لم يعفها قدم

منكم علية أم منهم ، وكان لكم

شيخ المغنين ابراهيم ، أم لهم

ما في بيوتهم للخمر معتصر

ولا بيوتهم للشر معتصم

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم

ولا يرى لهم قرد له حشم

الركن ، والبيت ، والاستار منزلهم

وزمزم والصفا ، والحجر ، والحرم

وليس من قسم في الذكر نعرفه

إلا وهم دون شك ذلك القسم

وبذلك ينتهي هذا الكتاب ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على خير خلقه أجمعين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ..

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

٤٧٧
٤٧٨

فهارس الكتاب :

١ ـ مصادر الكتاب ..

٢ ـ محتويات الكتاب اجمالا ..

٣ ـ محتويات الكتاب بالتفصيل ..

٤٧٩
٤٨٠