الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

ولأجل هذا قال ابن النديم في الفهرست : إن الامام الشافعي كان شديد التشيع ، وقالوا في محمد بن جرير الطبري : فيه تشيع يسير ، وموالاة لا تضر .. مع أن من الواضح : انهما ليسا من الشيعة .. وهذا الاطلاق يوجد كثيرا في كتب التراجم والرجال في مقام الجرح والتعديل ..

وعلى كل حال .. فان هذا الفرق بين « الشيعة » و « المتشيعة » قد خفي على سيدنا آية الله الامام شرف الدين رحمه‌الله ؛ حيث إنه .. قد ذكر عددا ممن كان فيه « تشيّع » فجعلهم من « الشيعة » ..

ولعل الذي أوقعه في الاشتباه هو أن بعض « أهل الجرح والتعديل » ممن تغلب عليه نزعة النصب ، قد عدّ جماعة من هؤلاء « المتشيعة » من الروافض ، توهينا لنزعتهم ، وتسفيها لرأيهم في محبة علي عليه‌السلام وأهل بيته الطاهرين.

وهارون الرشيد كان ناصبيا ، وقد تقدم في فصل « موقف العباسيين من العلويين » وغيره بعض مواقفه وأفعاله .. فلعله لما رأى حب زوجته لأهل البيت أراد طلاقها ..

وواضح .. أن « التشيع » على النحو الذي ذكرناه ، لا يتنافى ، ولا يتعارض مع الاعلان عن مواقف هي ضد الجهة التي يتعاطف معها ، بوحي من مصالحه المعيشية والأمنية ونحوها .. كما أنه لا يتنافى ، ولا يتعارض مع عدم الالتزام العملي بالتعاليم المذهبية ، بل إنه قد يكون مستهترا عملا ، وينتهج سلوكا شاذا ، وبعيدا عن روح وتعاليم الدين الحنيف. ومع ذلك يدّعي أنه ملتزم بدين ، ومنتم إلى مذهب ، شأن الكثيرين من السياسيين من المعاصرين وغيرهم .. كما أنه لا ملازمة بين التشيع وبين وجوب القيام بثورة مسلحة ضد نظام الحكم القائم .. وعليه .. فتشيّع زبيدة ربما يكون مقتصرا على هذا التعاطف والحب لأهل البيت ، ولا يتنافى ذلك مع ما ذكره سماحة الأخ الكريم.

كما أن من البعيد جدا : أن لا يكون قبر زبيدة ، أعظم عباسية في التاريخ متميزا ، ومعروفا لدى الناس ، حتى العامة منهم .. كما أن تعليل طلاقه لها بأنها : كانت تضايقه ، وتمنعه من التمتع بحسناوات القصر ، ما هو إلا اجتهاد في مقابل النص!! ..

٤٤١

٢ ـ وأما البرامكة ، فان ما ذكره الأخ لم يغب عن بالي وقتها ، وهو صحيح مائة بالمائة .. ولكنه لا يعني أن النص الآخر كذب محض ؛ إذ ربما يكون القصد منه : ليس أنهم كانوا يتشيعون حقيقة ، وإنما المراد أنه : حين رأى الرشيد نفوذهم وقوتهم ، وخافهم على الملك ، تعلل عليهم بذلك ؛ ليقتلهم ، ويتخلص منهم ..

كما أنه ليس من البعيد .. أنهم كانوا يجارون التيّار ، فيتظاهرون بالتشيع للعلويين ؛ ليحافظوا على مكانتهم في العامة .. في نفس الوقت الذي كانوا يتآمرون فيه على آل علي عليه‌السلام ، ويبغون لهم فيه الغوائل ، تماما ، كما كان المتوكل يكرم الهادى عليه‌السلام في الظاهر ، ويبغى له الغوائل في الباطن والشواهد التاريخية على مثل هذا كثيرة جدا ..

٣ ـ وأما قضية الشعر .. فاننا لا نصرّ على أنه للبحري .. وإن كنا قد اشرنا إلى أن من الجائز أن يكون البحترى قد أخذه على سبيل الاستشهاد ، والتضمين ؛ فان ذلك أمر شائع ومعروف بين الشعراء .. كما أنني قد بينت أن من الجائز أن يكون البحترى قد صحف عمدا أو سهوا فصار : البحري .. كما أنه قد يكون العكس هو الصحيح. وأما أنه لم يصل الى المصلى ، فان للشاعر ان يدعي ذلك اذا كان الامام (ع) قد قرب منه على سبيل المبالغة.

وبعد .. فاننا نستميح الأخ الشيخ العذر ، ونسأل الله له دوام التوفيق والتسديد.

جعفر مرتضى الحسيني العاملي ..

٢٢ / ١ / ١٤٠٠ ه‍. ق.

٤٤٢

وثائق هامة

١ ـ رسالة الفضل بن سهل الى الامام (ع).

٢ ـ وثيقة ولاية العهد.

٣ ـ رسالة المأمون الى العباسيين.

٤ ـ رسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون.

٥ ـ رسالة سفيان إلى هارون.

قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني.

٤٤٣
٤٤٤

رسالة الفضل بن سهل الى الامام (ع)

هذه الرسالة :

هذه الرسالة هي التي أرسلها الفضل بن سهل إلى الامام (ع) ، يطلب فيها منه القدوم ، من أجل عقد ولاية العهد له ..

وقد اطلعت عليها في وقت متأخر ، وتحدثت عن بعض ما يمكن استخلاصه منها في بعض فصول الكتاب ..

ونظرا لأهميتها .. فقد آثرت أن أجعلها مع الوثائق الهامة ، ليطلع عليها القارئ بنفسه ..

وقد أورد هذه الرسالة أبو القاسم عبد الكريم بن محمد ، بن عبد الكريم الرافعي ، الشافعي ، القزويني ، المتوفى سنة ٦٢٣ ه‍. في كتابه : « التدوين ».

والكتاب موجود منه نسختان خطيتان : إحداهما في مكتبة « ناصرية » القسم الثاني رقم ٧٨٢ في لكنهو. والاخرى : خطية أيضا موجودة في الاسكندرية .. وهناك نسختان مصورتان عنهما : إحداهما : في مكتبة دفتر تبليغات اسلامي في قم مصورة عن نسخة لكنهو ، والاخرى : في مكتبة المرعشي النجفي العامة في قم مصورة في طهران عن نسخة الاسكندرية.

٤٤٥

وهي في النسخة المصورة عن لكنهو موجودة في المجلد الثاني .. وفي المصورة عن مكتبة الاسكندرية موجودة في ج ٤ ص ٥١. ونقلها عن هذه النسخة السيد المرعشي النجفي في ج ١٢ من ملحقات الإحقاق ص ٣٨١ ، ٣٨٢ :

نص الرسالة :

قال في التدوين : والنص لنسخة : لكنهو :

ولما عزم المأمون على تفويض العهد إليه ( أي إلى الرضا ) ، بسعي ذي الرئاستين الفضل بن سهل .. كتب إليه ذو الرئاستين :

بسم الله الرحمن الرحيم :

لعلي بن موسى الرضا ، وابن رسول الله المصطفى ، المهتدى بهديه ، المقتدى بفعله ، الحافظ لدين الله ، الخازن لوحي الله ، من وليه الفضل ابن سهل ، الذي بذل في رد حقه إليه مهجته ، ووصل ليله فيه بنهاره ..

سلام عليك أيها المهتدي ورحمة الله وبركاته.

فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله.

أما بعد :

فإني أرجو أن الله قد أدّى لك ، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك ، وأن يعظم مننه عليك ، وأن يجعلك الامام الوارث. ويري أعداك ، ومن رغب عنك ، منك ما كانوا يحذرون ..

وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين ، عبد الله الامام المأمون

٤٤٦

ومني : على رد مظلمتك عليك ، وإثبات حقوقك في يديك ، والتخلي منها إليك ، على ما أسأل الله الذي وقف عليه : أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين ، وعند الله من الفائزين ، ولحق رسول الله من المؤدين. ولك عليه من المعاونين ، حتى أبلغ في توليتك ودولتك كلتا الحسنتين (١).

فإذا أتاك كتابي ـ جعلت فداك ـ وأمكنك أن لا تضعه من يدك ، حتى تسير إلى باب أمير المؤمنين ، الذي يراك شريكا في أمره ، وشفيعا في نسبه ، وأولى الناس بما تحت يده .. فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفا ، وبملائكته محفوظا ، وبكلاءته محروسا. وإن الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك ، وصلاح الامة بك ..

وحسبنا الله ونعم الوكيل ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ..

وكتبت بخطي ..

__________________

(١) الظاهر انها : الحسنيين ، لأنها اقتباس من الآية الكريمة ..

٤٤٧

وثيقة ولاية العهد

مصادر الوثيقة :

نذكر من المصادر التي أوردت هذه الوثيقة ، على سبيل المثال لا الحصر :

القلقشندي في صبح الأعشى ج ٩ من ص ٣٦٢ ، إلى ص ٣٦٦ ، وأكملها بذكر ما كتبه الرضا (ع) والشهود في نفس الجزء من ٣٩١ وحتى ٣٩٣ ، وأوردها أيضا في مآثر الانافة في معالم الخلافة ج ٢ من ص ٣٢٥ حتى ص ٣٣٦. ، وهي أيضا في شرح ميمية أبي فراس من ٢٩٩ إلى ٣٠٣. وفي نور الابصار ١٤٢ ، ١٤٣ ، وفي البحار ج ٤٩ ص ١٤٨ ، إلى ١٥٣ ، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ من ص ١٠٢ إلى ص ١٠٧ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ابتداء من ص ٢٩٣ ، ووسيلة النجاة لمحمد مبين الهندي ابتداء من ص ٣٨٧ ، طبع لكنهو ، ورواها أيضا الكاشاني في معادن الحكمة ، والشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف مختصرا وابن شهر اشوب في مناقب آل أبي طالب ، والاربلي في كشف الغمة ، والسيد الامين في المجالس السنية ، وأعيان الشيعة ، وابن الجوزي في التذكرة ، وذكر الأخيران إنها قد ذكرها عامة المؤرخين. وعن التفتازاني إن الوثيقة كانت موجودة في عهده ، والاربلي أيضا يقول

٤٤٨

بأنها كانت موجودة في عهده ، وأنه في سنة سبعين وستمائة اطلع على وثيقة العهد الأصلية ، ونقلها في كتابه حرفا فحرفا .. وأشار إليها أيضا ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية.

وغير هؤلاء كثير .. ونحن نذكر الوثيقة موافقة لما في صبح الاعشى ، ومآثر الانافة ، فنقول :

نص الوثيقة :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ :

هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد ، أمير المؤمنين ، لعلي بن موسى بن جعفر ، ولي عهده ..

أما بعد :

فإن الله عز وجل اصطفى الاسلام دينا ، واصطفى من عباده رسلا دالين عليه ، وهادين إليه ، يبشر أولهم بآخرهم ، ويصدق تاليهم ماضيهم ، حتى انتهت نبوة الله إلى محمد (ص) ، على فترة من الرسل ، ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به النبيين ، وجعله شاهدا لهم ، ومهيمنا عليهم. وأنزل عليه كتابه العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، بما أحل وحرم ، ووعد وأوعد ، وحذر وأنذر ، وأمر به ، ونهى عنه ؛ لتكون له الحجة البالغة على خلقه ؛ ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم ..

فبلغ عن الله رسالته ، ودعا إلى سبيله بما أمره به : من الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ثم بالجهاد والغلظة ،

٤٤٩

حتى قبضه الله إليه ، واختار له ما عنده (ص) ؛ فلما انقضت النبوة ، وختم الله بمحمد (ص) الوحي والرسالة ، جعل قوام الدين ، ونظام أمر المسلمين بالخلافة ، واتمامها وعزها ، والقيام بحق الله فيها بالطاعة ، التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده ، وشرائع الاسلام وسننه ، ويجاهد بها عدوه ..

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده ، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله ، وأمن السبيل ، وحقن الدماء ، وصلاح ذات البين ، وجمع الالفة. وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين ، واختلالهم ، واختلاف ملتهم ، وقهر دينهم ، واستعلاء عدوهم ، وتفرق الكلمة ، وخسران الدنيا والآخرة

فحق على من استخلفه الله في أرضه ، وائتمنه على خلقه ، أن يجهد الله نفسه ، ويؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ، ويعتد لما الله مواقفه عليه ، ومسائله عنه. ويحكم بالحق ، ويعمل بالعدل فيما أحله الله وقلده ؛ فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود : « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ، ولا تتبع الهوى ، فيضلك عن سبيل الله ، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ». وقال الله عز وجل : « فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون » ، وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال : « لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات ، لتخوفت أن يسألني الله عنها ».

وأيم الله ، إن المسئول عن خاصة نفسه ، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله ، ليعرض على أمر كبير ، وعلى خطر عظيم ، فكيف بالمسؤول عن رعاية الامة. وبالله الثقة ، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة ، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة ، والفوز من الله بالرضوان والرحمة ..

٤٥٠

وأنظر الامة لنفسه ، وأنصحهم لله في دينه وعباده ، من خلائقه في أرضه ، من عمل بطاعة الله وكتابه ، وسنة نبيه (ص) في مدة أيامه ، وبعدها ، وأجهد رأيه فيمن يوليه عهده ، ويختاره لامامة المسلمين ورعايتهم بعده ، وينصبه علما لهم ، ومفزعا في جمع الفتهم ، ولمّ شعثهم ، وحقن دمائهم ، والأمن بإذن الله من فرقتهم ، وفساد ذات بينهم واختلافهم ، ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم ، فإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام الاسلام وكماله ، وعزه ، وصلاح أهله ، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم من عظمت به النعمة ، وشملت فيه العافية ، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة ، والسعي والفرقة ، والتربص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة ، فاختبر بشاعة مذاقها ، وثقل محملها ، وشدة مؤونتها ، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ، ومراقبته فيما حمله منها ، فأنصب بدنه ، وأسهر عينه ، وأطال فكره فيما فيه عز الدين ، وقمع المشركين ، وصلاح الامة ، ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة. ومنعه ذلك من الخفض والدعة ، ومهنأ العيش ، علما بما الله سائله عنه ، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه ، وعباده ، ومختارا لولاية عهده ، ورعاية الامة من بعده : أفضل من يقدر عليه : في دينه وورعه ، وعلمه ، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه ، مناجيا بالاستخارة في ذلك ، ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته ، في آناء ليله ونهاره. معملا في طلبه والتماسه في أهل بيته : من ولد عبد الله بن العباس ، وعلي بن أبي طالب فكره ، ونظره. مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه ، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته .. حتى استقصى أمورهم معرفة ، وابتلى أخبارهم مشاهدة ، واستبرأ أحوالهم معاينة ، وكشف ما عندهم مساءلة ، فكان خيرته بعد

٤٥١

استخارته الله ، وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده ، في البيتين جميعا :

علي بـن موسى ، بـن جعفر ، بـن محمد

ابن علي ، بن الحسين ، بن علي ، بن أبي طالب

لما رأى من فضله البارع ، وعلمه النافع ، وورعه الظاهر ، وزهده الخالص ، وتخليه من الدنيا ، وتسلمه من الناس ..

وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة ، والألسن عليه متفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل : يافعا ، وناشئا ، وحدثا ، ومكتهلا ، فعقد له بالعقد والخلافة من بعده (١) .. واثقا بخيرة الله في ذلك ، إذ علم الله أنه فعله إيثارا له ، وللدين ، ونظرا للاسلام والمسلمين ، وطلبا للسلامة ، وثبات الحجة ، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.

ودعا أمير المؤمنين ولده ، وأهل بيته ، وخاصته ، وقواده ، وخدمه فبايعوا مسارعين مسرورين ، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ، ممن هو أشبك منه رحما ، وأقرب قرابة.

وسماه « الرضا » (٢) ؛ إذ كان رضا عند أمير المؤمنين.

__________________

(١) في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش : أنه (ع) كتب بقلمه الشريف تحت قوله : « والخلافة من بعده » قوله : « بل جعلت فداك ».

(٢) في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش : أنه (ع) كتب بقلمه الشريف تحت كلمة : « الرضا » قوله : « رضي الله عنك وأرضاك ، واحسن في الدارين جزاك » وفي اخرى : أنه كتب تحت ذكر اسمه عليه‌السلام بقلمه الشريف : « وصلتك رحم ، وجزيت خيرا » ، وكتب بقلمه الشريف تحت الثناء عليه : « أثنى الله عليك فأجمل ، وأجزل لديك الثواب فأكمل ».

٤٥٢

فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين ، ومن بالمدينة المحروسة ، من قواده وجنده ، وعامة المسلمين ، لأمير المؤمنين ، وللرضا من بعده علي ابن موسى على اسمه وبركته ، وحسن قضائه لدينه وعباده ، بيعة مبسوطة إليها أيديكم ، منشرحة لها صدوركم ، عالمين بما أراد أمير المؤمنين ، بها ، وآثر طاعة الله ، والنظر لنفسه ولكم فيها ، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين بها : من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم وصلاحكم ، راجين عائدة ذلك في جمع الفتكم ، وحقن دمائكم ، ولمّ شعثكم ، وسد ثغوركم ، وقوة دينكم ، ورغم عدوكم ، واستقامة أموركم.

وسارعوا إلى طاعة الله ، وطاعة أمير المؤمنين ؛ فإنه الأمن إن سارعتم إليه ، وحمدتم الله عليه ، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله.

وكتب بيده يوم الاثنين ، لسبع خلون من شهر رمضان ، سنة إحدى ومائتين ..

قال القلقشندي : « ثم إنه تقدم إلى علي بن موسى ، وقال له : اكتب خطك بقبول هذا العهد ، وأشهد الله ، والحاضرين عليك بما تعده في حق الله ، ورعاية المسلمين ، فكتب علي الرضا تحته إلخ .. ».

صورة ما كان على ظهر العهد ، بخط الامام علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم :

الحمد لله الفعال لما يشاء ، ولا معقب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه ، يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور. وصلاته على نبيه محمد ، خاتم النبيين ، وآله الطيبين الطاهرين ..

أقول ـ وأنا علي بن موسى الرضا بن جعفر ـ : إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ، ووفقه للرشاد ، عرف من حقنا ما جهله غيره ؛

٤٥٣

فوصل أرحاما قطعت ، وأمن أنفسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغيا رضا رب العالمين ، لا يريد جزاء من غيره ، وسيجزي الله الشاكرين ، ولا يضيع أجر المحسنين ..

وإنه جعل إليّ عهده ، والإمرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده ، فمن حلّ عقدة أمر الله بشدها ، وفصم عروة أحب الله إيثاقها ، فقد أباح الله حريمه ، وأحل محرمه ، إذ كان بذلك زاريا على الإمام ، منتهكا حرمة الإسلام. بذلك جرى السالف ، فصبر منه على الفلتات ، ولم يعترض على العزمات ، خوفا من شتات الدين ، واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية ، ورصد فرصة تنتهز ، وبائقة تبتدر ..

وقد جعلت الله على نفسي ، إن استرعاني أمر المسلمين ، وقلدني خلافته : العمل فيهم عامة ، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته ، وطاعة رسوله (ص) ، وأن لا أسفك دما حراما ، ولا أبيح فرجا ، ولا مالا ، إلا ما سفكته حدود الله ، وأباحته فرائضه. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي. وجعلت بذلك على نفسي عهدا مؤكدا ، يسألني الله عنه ؛ فإنه عز وجل يقول : « وأوفوا بالعهد ، إن العهد كان مسئولا ».

وإن أحدثت ، أو غيرت ، أو بدلت ، كنت للغير مستحقا ، وللنكال متعرضا. وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته ، والحول بيني وبين معصيته ، في عافية لي وللمسلمين ..

والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك ، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن الحكم إلا لله ، يقضي بالحق (١) ، وهو خير الفاصلين ..

__________________

(١) الظاهر أن الصواب هو « يقص الحق » ، كما في معالم الانافة.

٤٥٤

لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه ، والله يعصمني وإياه ، وأشهدت الله على نفسي بذلك ، وكفى بالله شهيدا ..

وكتبت بخطي ، بحضرة أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءه ، والفضل ابن سهل ، وسهل بن الفضل ، ويحيى بن اكثم ، وعبد الله بن طاهر ، وثمامة بن أشرس ، وبشر بن المعتمر ، وحماد بن النعمان ، في شهر رمضان ، سنة إحدى ومائتين ..

الشهود على الجانب الأيمن :

شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب ، ظهره ، وبطنه.

وهو يسأل الله : أن يعرف أمير المؤمنين ، وكافة المسلمين ببركة هذا العهد ، والميثاق. وكتب بخطه في تاريخ المبيّن فيه ..

عبد الله بن طاهر بن الحسين ، أثبت شهادته فيه بتاريخه.

شهد حماد بن النعمان بمضمونه : ظهره وبطنه ، وكتب بيده في تاريخه.

بشر بن المعتمر يشهد بمثل ذلك.

الشهود على الجانب الأيسر :

رسم أمير المؤمنين ، أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة ، التي هي صحيفة الميثاق. نرجو أن نجوز بها الصراط ، ظهرها وبطنها ، بحرم سيدنا رسول الله (ص) ، بين الروضة والمنبر ، على رءوس الأشهاد ، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم ، وساير الأولياء والأجناد ، بعد استيفاء شروط البيعة عليهم ، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع

٤٥٥

المسلمين ، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين : « وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه » ..

وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ فيه (١).

انتهى ..

__________________

(١) وفي هامش نسخة مصححة قال مصححها : « قال العبد الفقير إلى الله تعالى ، الفضل بن يحيى عفى الله عنه : قابلت المكتوب الذي كتبه الامام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه ، وعلى آبائه الطاهرين بأصله الذي كتبه الامام المذكور (ع) بيده الشريفة ، حرفا فحرفا. والحقت ما فات منه ، وذكرت أنه من خطه. وذلك يوم الثلاثاء ، مستهل المحرم ، من سنة تسع وتسعين وست مائة الهلالية بواسط ، والحمد لله ، وله المنة .. » انتهى أقول : والذي الحقه هو ما قدمناه في هوامش الصفحات المتقدمة ..

٤٥٦

رسالة المأمون الى العباسيين

مصادر الكتاب :

هذا الكتاب مذكور في طرائف ابن طاوس ، الترجمة الفارسية من ص ١٣١ ، إلى ص ١٣٥ ، نقلا عن كتاب نديم الفريد ، لابن مسكويه ، صاحب كتاب حوادث الاسلام .. وفي البحار للعلامة المجلسي ج ٤٩ من ص ٢٠٨ إلى ص ٢١٤ ، وفي قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٥٦ ، إلى ٣٦٠ ، وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٤٨٤ ، ٤٨٥ مختصرا ، ونقل في الغدير ج ١ ص ٢١٢ قسما منه عن عبقات الأنوار للهندي ج ١ ص ١٤٧ ، وأشار إليه غير واحد من المؤلفين ..

نص الكتاب :

كتب العباسيون كتابا إلى المأمون ، وطلبوا منه الاجابة عليه ؛ فأجابهم بما يلي :

« بسم الله الرحمن الرحيم : والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآل محمد ، على رغم أنف الراغمين ..

٤٥٧

أما بعد :

عرف المأمون كتابكم ، وتدبير أمركم ، ومخض زبدتكم ، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم ، وعرفكم مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم ، في مراوضة الباطل ، وصرف وجوه الحق عن مواضعها ، ونبذكم كتاب الله والآثار ، وكلما جاءكم به الصادق محمد (ع) ، حتى كأنكم من الامم السالفة ، التي هلكت بالخسفة ، والغرق ، والريح ، والصيحة ، والصواعق ، والرجم ..

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ .. والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد ، لو لا أن يقول قائل : إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم ؛ من سوء أخلاقكم ، وقلة أخطاركم ، وركاكة عقولكم ، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ؛ فليستمع مستمع ، فليبلغ شاهد غائبا ..

أما بعد :

فإن الله تعالى بعث محمدا على فترة من الرسل ، وقريش في أنفسها ، وأموالها ، لا يرون أحدا يساميهم ، ولا يباريهم ، فكان نبينا (ص) أمينا من أوسطهم بيتا ، وأقلهم مالا ؛ فكان أول من آمن به خديجة بنت خويلد ؛ فواسته بمالها. ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سبع سنين ، لم يشرك بالله شيئا طرفة عين ، ولم يعبد وثنا ، ولم يأكل ربا ، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم ، وكانت عمومة رسول الله إما مسلم مهين ، أو كافر معاند ، إلا حمزة ؛ فإنه لم يمتنع من الاسلام ، ولا يمتنع الاسلام منه ، فمضى لسبيله على بينة من ربه ..

وأما أبو طالب : فإنه كفله ورباه ، ولم يزل مدافعا عنه ، ومانعا منه ؛ فلما قبض الله أبا طالب ، فهمّ القوم ، وأجمعوا عليه ليقتلوه ؛

٤٥٨

فهاجر إلى القوم الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ..

فلم يقم مع رسول الله (ص) أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب (ع) : فإنه آزره ووقاه بنفسه ، ونام في مضجعه. ثم لم يزل بعد مستمسكا بأطراف الثغور ، وينازل الأبطال ، ولا ينكل عن قرن ، ولا يولي عن جيش ، منيع القلب ، يؤمر على الجميع ، ولا يؤمر عليه أحد. أشد الناس وطأة على المشركين ، وأعظمهم جهادا في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام.

وهو صاحب الولاية في حديث « غدير خم » ، وصاحب قوله : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي » ، وصاحب يوم الطائف. وكان أحب الخلق إلى الله تعالى ، وإلى رسول الله (ص). وصاحب الباب ، فتح له ، وسد أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خيبر. وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة. وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين ..

وهو منيع جزيل. وهو صاحب آية : « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ، ويتيما ، وأسيرا ». وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء أهل الجنة ، وهو ختن خديجة (ع). وهو ابن عم رسول الله (ص) ، رباه وكفله. وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده. وهو نفس رسول الله (ص) في يوم المباهلة.

وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان أمرا حتى يسألانه عنه ؛ فما رأى إنفاذه أنفذاه ، وما لم يره رداه. وهو دخل من بني هاشم في

٤٥٩

الشورى ، ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه (١) عنه (ع) ، كما دفع العباس رضوان الله عليه ، ووجدوا إلى ذلك سبيلا لدفعوه.

فأما تقديمكم العباس عليه ؛ فإن الله تعالى يقول : « أجعلتم سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله ، لا يستوون عند الله ».

والله ، لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل ، والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل من رجالكم ، أو غيره ، لكان مستأهلا متأهلا للخلافة ، مقدما على أصحاب رسول الله بتلك الخلة ، ثم لم يزل الامور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين ، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعبد الله بن عباس ، تعظيما لحقه ، ووصلة لرحمه ، وثقة به ، فكان من أمره الذي يغفر الله له ..

ثم .. نحن وهم يد واحدة ـ كما زعمتم ـ حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا ، فأخفناهم ، وضيقنا عليهم ، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم .. ويحكم ، إن بني أمية إنما قتلوا من سل منهم سيفا ، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا ، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت ، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء ، هيهات ، إنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ..

وأما ما وصفتم في أمر المخلوع ، وما كان فيه من لبس ؛ فلعمري ما لبّس عليه أحد غيركم ؛ إذ هونتم عليه النكث ، وزينتم له الغدر ، وقلتم له : ما عسى أن يكون من أمر أخيك ، وهو رجل مغرب ، ومعك الأموال والرجال ، نبعث إليه ، فيؤتى به ؛ فكذبتم ، ودبرتم ،

__________________

(١) في الترجمة الفارسية هكذا : « على دفع علي (ع) عنها إلخ .. ».

٤٦٠