الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

ما يقال حول وفاة الامام (ع)

ما ذا ترى بعض الفرق في الحكام :

قبل كل شيء نود أن نشير إلى أمر مهم ، كنا قد أشرنا إليه من قبل ، وله ـ إلى حدّ ما ـ صلة فيما نحن بصدده .. وهو : أن بعض فرق المسلمين ترى : أن الحكام تجب طاعتهم ، ولا تجوز مخالفتهم ، والقيام ضدهم ، والوقوف في وجههم بحال من الأحوال .. مهما كانت هويتهم ، وأيا كان سلوكهم ، حتى ولو أنهم ارتكبوا أعظم المحرمات ، وانتهكوا جميع الحرمات ..

أي .. أنهم حتى لو قتلوا الابرياء ـ ولو كانوا أبناء محمد ـ ، وهدموا الكعبة .. مع ذلك كله ـ تجب طاعتهم ، ولا تجوز مخالفتهم ، ولا الوقوف في وجههم ..

هكذا .. تعتقد الفرق الاسلامية ـ كما قلنا ـ .. ومن المؤسف جدا أن من هؤلاء الفرق : أهل الحديث ، وعامة أهل السنة ، قبل الامام الاشعري ، وبعده. وهو أيضا قائل بهذه المقالة ومعتقد بهذه العقيدة ..

ولقد أيدوا هذه العقيدة بمختلف أنواع التأييد ، حتى لقد وضعوا في

٤٠١

تأييدها الروايات على لسان النبي (ص) ، مع عدم تنبههم إلى أن ذلك ينافي صريح القرآن ، ويصادم حكم العقل والوجدان ..

انعكاسات هذه العقيدة على التراث :

وطبيعي أن ينعكس ذلك إلى حد كبير على كتابهم ومؤرخيهم (١) ، وحتى على علمائهم ، وفقهائهم أيضا ، حيث كان لا بد لهم من التستر على كل هفوات أولئك الحكام ، وكل مخازيهم وموبقاتهم ، مما كان من نتيجته ـ بطبيعة الحال ـ إخفاء كثير من الحقائق ، وطمسها ، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك ، تراهم يحاولون اللف والدوران ، وتوجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع .. هذا إن لم تخولهم غيرتهم ، وتدفعهم حميتهم إلى تشويهها ، والتغيير والتبديل فيها ؛ بحيث تبدو مستهجنة ، وغريبة ، ولتسقط من ثم عن الاعتبار .. وقد يختلقون في كثير من الأحيان في مقابلها ، ما ينسجم مع نظرتهم الضيقة ، وتعصبهم المقيت ، أو يوافق هوى نفوسهم ، ويرضي حكامهم ، الذين كانوا يرون أنهم يقربونهم من الله زلفى ..

إخفاء كل الحقائق عن الأئمة عليهم‌السلام :

ولقد أراد الحكام ـ لسبب أو لآخر ـ إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، أو تشويهها ، فكان لهم ما أرادوا ، ووجدوا من العلماء ، والكتاب ، والمؤرخين ، من لا يألوا جهدا ، ولا يدخر وسعا من أجل تنفيذ إرادتهم تلك ، التي يرون : أنها إرادة الله

__________________

(١) راجع تمهيد الكتاب ..

٤٠٢

ـ حسب عقيدة الجبر التي ابتدعوها ـ .. حتى إنك قد لا تجد في كثير من الكتب التاريخية ، حتى اسم الأئمة الأطهار عليهم‌السلام. فضلا عن شرح أحوالهم ، وبيان نشاطاتهم ..

وليس ذلك لأنهم عليهم‌السلام كانوا غير مشهورين ، ولا معروفين .. أو لأنهم ممن لا يعتنى بشأنهم ، ولا يلتفت إليهم .. لا .. أبدا. فقد كان ذكرهم يسري في جميع الآفاق في الدولة الاسلامية المترامية الأطراف : إما حبا وتشيعا ، واما عداء ونصبا ..

وقد ذكر الجاحظ في رسالته : « فضل هاشم على عبد شمس » ـ وهو الكاتب المعروف في عصره ، وبعد عصره .. وحتى الآن ، والذي تعرض في كتبه لمختلف الموضوعات التي شاع التكلم بها في زمانه ، ومنها موضوع رسالته المشار إليها .. والذي كان يظهر الحياد في كتاباته ، وإن كان المعتزلة ـ أهل نحلته ـ مثل الاسكافي وغيره يتهمونه بالنصب والعداء لأهل البيت عليهم‌السلام ، ومما يدل على نصبه وتعصبه : أنه قد ألّف كتابا في نقض فضائل الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) (١) ـ الجاحظ هذا ـ يقول في رسالته المشار إليها :

« .. ومن الذين يعد من قريش ، أو من غيرهم ، ما بعد الطالبيون في نسق واحد ، كل واحد منهم : عالم ، زاهد ، ناسك ، شجاع ، جواد ، طاهر ، زاك ، فمنهم خلفاء ، ومنهم مرشحون : ابن ، ابن ، ابن ، ابن .. هكذا إلى عشرة .. وهم : الحسن بن علي ، بن محمد ، ابن علي ، بن موسى ، بن جعفر ، بن محمد ، بن علي ، بن الحسين ، ابن علي. وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ، ولا من العجم إلخ .. » (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٣٧.

(٢) آثار الجاحظ ص ٢٣٥.

٤٠٣

هذا .. ويجب أن لا يفوتنا هنا : التنبيه على أن الجاحظ كان في البصرة ، والامام العسكري (ع) كان في سامراء ، موضوعا تحت الرقابة الشديدة.

وتوفي الجاحظ قبل وفاة العسكري بخمس سنين ..

وقد كان عمره (ع) عند ما ألف الجاحظ رسالته في حدود اثنتين وعشرين سنة ، لو فرض ان الجاحظ كان قد ألفها في آخر يوم من أيام حياته ..

ولم يكن الامام العسكري اعرف ، ولا أشهر من آبائه الطاهرين (ع) ، سيما الامام علي ، والحسن ، والصادق ، والرضا عليهم‌السلام ..

بل كان الأئمة (ع) ، بعد الرضا (ع) ـ مع نباهة شأنهم ، وعلو أمرهم ـ يسمون : بـ « ابن الرضا » ، وذلك يدل على أنه (ع) كان أنبه من أبنائه الطاهرين ، فكان يقال ذلك ـ يعني : ابن الرضا ـ للجواد ، والهادي بعده ، بل وللعسكري أيضا (١) ، ويؤيد ذلك قول أبي الغوث ، اسلم بن مهموز المنبجي في داليته المعروفة ، التي يمدح فيها أئمة سامراء عليهم‌السلام :

إذا ما بلغت الصادقين بني الرضا

فحسبك من هاد يشير إلى هاد (٢)

نعم .. إن هؤلاء الأئمة ، الذين كان يسري ذكرهم في الآفاق ، قد لا تجد حتى أسماءهم في كثير من الكتب التاريخية .. مع أنك تجد ما شاء الله : من قصص المغنين ، والجواري ، والاعراب ، بل وحتى قطاع الطرق ، مما لا يسمن ، ولا يغني من جوع ..

__________________

(١) راجع : قاموس الرجال ج ١٠ ص ٢٤٨ ، والرسالة التي في آخر ج ١١ من قاموس الرجال ص ٥٨.

(٢) سفينة البحار ج ٢ ص ٥٢٩ ، والكنى والألقاب ج ١ ص ١٣٣.

٤٠٤

كل ذلك خيانة للحقيقة ، وتخليا عن الأمانة ، التي أخذوا على أنفسهم أداءها للأجيال التي تأتي بعدهم ؛ حيث كان عليهم : أن يصدعوا بالحق ، ويظهروا الواقع ، مهما كانت الظروف ، وأيا كانت الأحوال .. وإلا .. فيجب أن لا يتصدوا للكتابة ، ويبوءوا باثم الخيانة ..

هذا .. ولم يكن المجال مفسوحا أمام شيعة أهل البيت (ع) ، ليتمكنوا من إظهار الحقائق كاملة ؛ وذلك بسبب ملاحقة الحكام لهم ، ومحاولات القضاء عليهم أينما كانوا ، وحيثما وجدوا ، وبأي ثمن كان .. ومن قبلهم القضاء على أئمتهم أئمة الهدى ، وقادتهم ، القادة إلى الحق ..

ويبقى هنا سؤال :

لماذا إذن كان يهتم الخلفاء بالعلماء ، ويرسلون إليهم يستدعونهم من مختلف الأقطار والأمصار؟! .. وكيف لا يتنافى ذلك مع اضطهادهم الأئمة ، أئمة أهل البيت ، وشيعتهم ومواليهم؟! ، ومحاولاتهم تصغير شأنهم ، وطمس ذكرهم؟!.

سرّ اهتمام الخلفاء بأهل العلم :

وللإجابة على هذا السؤال نقول : إن سرّ اضطهادهم لأهل البيت (ع) يعود : أولا : إلى أن الحق في الحكم كان لأهل البيت ، من كل جهة ، فالقضاء عليهم معناه القضاء على ذلك الحق ، وتكريس الامور لهم ، وفي صالحهم ..

وثانيا : إلى أن الأئمة عليهم‌السلام ما كانوا يؤيدون أولئك الحكام ، ولا يرضون عن أعمالهم ، وسلوكهم الذي كان يتنافى مع مبادئ الاسلام وتعاليمه ..

٤٠٥

وثالثا : إلى أن الأئمة عليهم‌السلام بسلوكهم المثالي ، وبشخصياتهم الفذة كانوا يشكلون أكبر مصدر للخطر عليهم ، وعلى حكمهم ذاك غير الأصيل ..

إلى غير ذلك من أمور يمكن استخلاصها من الفصول الاولى من الكتاب ..

وأما السبب في تشجيعهم ـ في تلك الحقبة من الزمن للعلم والعلماء فإنه يعود إلى أهداف سياسية معينة ، وفي الحدود التي كانت لا تشكل عليهم خطرا في الحكم ؛ لأن الحكم كان في نظرهم هو كل شيء ، وليس قبله ولا بعده شيء ، وكل ما في الوجود يجب أن يكون من أجله ، وفي خدمته ، حتى العلماء والمفكرون ..

ولم يكن جمعهم للعلماء من حولهم ، والاتيان بهم من كل حدب وصوب ، إلا :

١ ـ ليكون أولئك العلماء ، الذين يمثلون الطليعة الواعية في الامة تحت نظرهم ، وسيطرتهم ..

٢ ـ ليتمكنوا بواسطتهم من تنفيذ الكثير من مخططاتهم ، والوصول إلى كثير من مآربهم ، كما تشهد به الأحداث التاريخية الكثيرة ..

٣ ـ ليظهروا للناس بمظهر المحبين للعلم والعلماء ؛ ليقوى مركزهم في نفوسهم ، وتتأكد ثقتهم بهم ؛ إذ كان لا بد لهم ، بعد أن تركوا أهل البيت عليهم‌السلام ، من الاستعاضة عنهم بغيرهم ، ودفع شكوك وشبهات الناس عن أنفسهم ..

٤ ـ محاولة التشويش بذلك على أهل البيت عليهم‌السلام ، وطمس ذكرهم ، واخفاء أمرهم ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا .. ولكن .. يأبى الله إلا أن يتم نوره ..

٤٠٦

ويتفرع على ما سبق :

وإذا تحقق لدينا أنهم إنما كانوا يقدرون العلم والعلماء لاهداف سياسية معينة كما أوضحنا .. فلسوف لا نستغرب إذا رأينا :

أنهم كانوا إذا شعروا بالخطر يتهددهم من قبل أية شخصية ، ولو كانت علمية ، لا يترددون في القضاء عليها ، والتخلص منها ، بأي وسيلة كانت ..

قال أحمد أمين : إن المنصور كان « يقرب المعتزلة إذا شاء ، ويقرب المحدثين والفقهاء ، ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه ؛ فهناك التنكيل .. » (١).

وقال السيد أمير علي : « .. كان خلفاء بني العباس يسحقون كل اختلاف معهم في الرأي بصرامة. وحتى الفقهاء المعاصرون كانوا عرضة للعقاب ؛ إذا تجرءوا على الافصاح عن رأي لا يتفق ومصلحة الحاكمين .. » (٢) ..

ولقد رأينا المنصور يدس السم لأبي حنيفة ، ويضيق على الإمام الصادق ـ الذي لم يبايع لمحمد بن عبد الله العلوي ـ ، وضيق على من تلاه من ذريته ، ولا حق تلامذته ومحبيه ..

لكنه لم يقتل عمرو بن عبيد ، ولا أهانه بل مدحه بقوله :

كلكم يطلب صيد

غير عمرو بن عبيد ..

رغم أن عمرا هذا كان قد بايع لمحمد بن عبد الله العلوي ، ورغم أن مذهبه يفرض عليه الخروج على النظام ؛ لأن من أصول المعتزلة الخمسة ،

__________________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٠٢ ، ولا بأس أيضا بمراجعة ج ٢ ص ٤٦ و ٤٧.

(٢) روح الاسلام ص ٣٠٢.

٤٠٧

التي يكون الانسان بها معتزليا هو : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعملا بهذا الأصل كان عمرو هذا قد خرج مع يزيد الناقص سنة ١٢٦ ه‍. على الوليد بن يزيد ـ لم يفعل المنصور مع ابن عبيد إلا كل ما يقتضي الاجلال والتكريم بخلاف ما فعله مع أولئك ـ لأن عمرا ـ بخلافهم ـ قد تخلى عن مذهبه ، ومالأ النظام ، وكان المنصور ، ومن تبعه من الخلفاء يستفيدون منه ، ومن أضرابه ، ولم يروا بأسا في مبايعته لمحمد لكنهم لما لم يكونوا يستفيدون من أولئك نكلوا بهم ، وفعلوا بهم الافاعيل رغم امتناعهم عن مبايعة محمد .. وإلا فما قيمة عمرو هذا عند واحد من تلامذة الصادق ، كزرارة ، وهشام ، ومحمد بن مسلم ، وأضرابهم (١) ..

عود على بدء :

قلنا : إن الحكام كانوا يريدون ـ لسبب أو لآخر ـ اخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالأئمة عليهم‌السلام ، أو تشويهما ؛ فكان لهم ما أرادوا على أيدي حفنة ممن يطلق عليهم اسم : « علماء » ، فتلاعبوا ، ودسوا ، وشوهوا ما شاءت لهم قرائحهم ، وأوحاه لهم تعصبهم المذهبي المقيت ..

ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا : إن ابن الأثير ، والطبري ،

__________________

(١) يرى البعض : أن الخلفاء كانوا يحاولون القاء أسباب النزاع بين العلماء ؛ بهدف صرفهم عن واقع الامة ، وعما يجري ويحدث في مخادع الخلفاء ، وداخل قصورهم. ولعل ذلك هو السر في عنايتهم بالترجمة ، وإدخال الثقافات الغربية إلى البلاد الاسلامية .. ولذا رأينا الكثيرين من المؤرخين غير راضين عن أعمال الترجمة تلك كالمقريزي في النزاع والتخاصم ص ٥٥ ، وغيره .. ولكل ما ذكرنا شواهد تاريخية كثيرة ، ليس هنا محل ذكرها ، ولعلنا نوفق لذلك في مجال آخر ..

٤٠٨

وأبو الفداء ، وابن العبري ، واليافعي وابن خلكان .. كانوا من أولئك الذين ظلموا الحقيقة والتاريخ ، بل وأنفسهم ، عند ما أرخوا للامة الاسلامية ، وكتبوا في أحوالها ، وأوضاعها السالفة ، دون أن يراعوا الانصاف والحيدة فيما أرخوا ، وفيما كتبوا ..

ولعل من جملة سقطات هؤلاء الشنيعة ، التي لم يخف على أحد تعصبهم فيها ، وانقيادهم للحكام ، والهوى الأعمى في بيانها ، قضية : « كيفية وفاة الإمام الرضا (ع) .. » ؛ حيث ذكروا : أن سبب وفاته (ع) هو أنه : « أكل عنبا ؛ فأكثر منه ؛ فمات .. » (١).

وكأنّ ابن خلدون ، الاموي النزعة ، يريد أن يتابعهم في ذلك ؛ حيث قال في تاريخه : « ولما نزل المأمون مدينة طوس ، مات علي الرضا فجأة ، آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين ، من عنب أكله .. » (٢). ولعله نسي ما ذكره هو نفسه من ثورة ابراهيم بن موسى على المأمون لاتهامه اياه بقتل أخيه. كما سيأتي.

ما عشت أراك الدهر عجبا :

وهو كلام عجيب حقا :

فهل يعقل ويتصور أن يصدر هذا العمل من أي إنسان عادي ، فضلا عن الإمام ، الذي شهد بعلمه ، وحكمته ، وزهده ، كل من عرفه ، وكل من أتى من المؤرخين على ذكره؟!.

__________________

(١) الكامل ج ٥ ص ١٥٠ ، والطبري ج ١١ ص ١٠٣٠ ، وتاريخ أبو الفداء ج ٢ ص ٢٣ ، ومختصر تاريخ الدول ص ١٣٤ ، ومرآة الجنان ج ٢ ص ١٢ ، ووفيات الأعيان طبع سنة ١٣١٠ ه‍ ج ١ ص ٣٢١. لكن بعضهم قد حكى سمه بلفظ : قيل ..

(٢) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٠.

٤٠٩

أفهل يمكن أن يسمح أحد لنفسه أن يصدق بأن شخصا عاقلا ، وحكيما ، كالإمام (ع) ، يسمح لنفسه بالاقدام على الانتحار من كثرة الأكل؟!.

وهل عرف عن الإمام في سابق عهده : أنه كان اكولا ، أو نهما إلى هذا الحد؟! ، أي إلى حد أنه ينتهي به ذلك إلى قتل نفسه؟! ..

أم أن الزهد والتقوى والعلم ، فضلا عن العقل والحكمة .. تقضي وتحتم عليه أن يأكل هذا المقدار الهائل ، الذي من شأنه أن يؤدي بحياته؟!.

أم أن الإمام (ع) قد نسي ما كتبه في رسالته الذهبية ، التي كتبها للمأمون ، والتي هي من أشهر وأجلّ الوثائق المأثورة عنه؟! ..

أم أنه (ع) لم يكن قد رأى العنب في حياته ؛ فأراد أن يغتنم هذه الفرصة الذهبية ، لينال أكبر قدر تصل إليه يده؟! ..

لا .. لا هذا ، ولا ذاك ، ولا ذلك ..

وإنما العصبية المذهبية ، والهوى الأعمى .. هما اللذان فرضا على الإمام (ع) أن يأكل العنب ، ويكثر منه ، ويموت هذه الميتة .. حتى ولو لم يقبل بها العقل ، ويصدق بها الوجدان ..

إن الإمام (ع) لو كان هو الحاكم ، والمتسلط لم يمت هذه الميتة ، بل كان مات على حسب ما اشتهى ، وبالكيفية التي أراد ..

دعك من هؤلاء وأمثالهم ؛ فإنني لا أرى : أن كلاما كهذا يستحق من العناية أكثر من ذلك .. بل لا أرى أنه يستحق شيئا من العناية على الاطلاق ..

دعك منه .. وذره لأهله في سنبله!! ..

وتعال معي لننظر الى ما يقوله الآخرون ، ممن أرخو للامة ، وتحدثوا عن ماضيها ؛ فقد نجد في كلامهم ما ينقع الغلة ، ويشفي الغليل ..

٤١٠

قول فريق آخر من المؤرخين :

وإننا بعد القاء نظرة سريعة وعابرة على أقوال المؤرخين في هذا المجال ، نستطيع أن نلاحظ : إلى أي حد اضطربت كلماتهم في هذه القضية ، وتباينت اتجاهاتهم ..

فعدا عن أولئك القلة الذين تحدثنا عنهم آنفا نرى :

فريقا ثانيا قد أوردوا خبر وفاته مجردا عن بيان السبب ، ثم سكتوا ، أو عقبوا ذلك بقولهم : « وقيل : إنه مات مسموما » ومن هؤلاء اليعقوبي في تاريخه ج ٣ ص ٨٠. وإن كان يظهر من عبارته اختيار مسموميته ، وابن العماد في شذرات الذهب ، وغيرهم.

ولعل هؤلاء ممن جازت عليهم لعبة المأمون ، وانطلت عليهم حيلته ، وأقنعتهم الحجج الواهية الآتية التي يسوقها الفريق القائل ببراءة المأمون من دم الرضا (ع) .. أو لعلهم لم يكونوا بصدد بحث هذا الأمر وتمحيصه .. أو لأنهم لم يستطيعوا أن يصدعوا بالحقيقة ؛ لما كانوا يخشونه من سطوة الحكام ، وبطشهم. ولم يريدوا أن يحرفوا الكلم عن مواضعه ، فآثروا السكوت ، واهمال ذلك ، على أمل أن يقيض الله من يصدع بالحق ويكشف عن الواقع .. إلى غير ذلك من الاحتمالات ، التي قد يجد بعضها شواهد تاريخية كثيرة ..

رأي فريق ثالث في ذلك :

وهناك فريق آخر يرى أنه (ع) مات مسموما ، وأن الذي دس إليه السم هم العباسيون .. وهذا هو رأي السيد أمير علي ، وأشار إليه

٤١١

أحمد أمين (١) أيضا ..

وهذا الرأي ليس له أي شاهد أو سند تاريخي إلا ما نقل عن الاربلي انه قال : « فلما رأوا أن الخلافة قد خرجت إلى أولاد علي ، سقوا علي بن موسى سما ؛ فتوفي بطوس في رمضان » (٢). وهو عدا عن أنه كلام مبهم ؛ فإن ، الشواهد كلها على خلافه .. كما قدمنا وسيأتي .. ولذا فهو لا يحتاج إلى كبير عناء في رده وتفنيده ..

ورأي آخر يقول :

إنه (ع) مات مسموما من قبل المأمون ، ولكن بإشارة الفضل ، واغرائه.

ونرى نحن بدورنا : أن المأمون لم يكن بحاجة إلى حث واغراء ، بعد أن كان يرى أن وجود الإمام (ع) يشكل خطرا محققا عليه ، وعلى كل بني أبيه من بعده. ونحن ـ وإن كنا لا نستبعد أن يكون هذا الرأي قد جاء بدافع من حب تبرئة المأمون ـ السلطة ـ إلا أننا لا نضايق في أن الفضل ، الذي قتل قبل الإمام (ع) بمدة!!! كان من الراغبين في التخلص من الإمام ، ولا سيما إذا لاحظنا : أنه كان يشكل عقبة كبرى في طريق نفوذه وقوته وسلطانه .. ولكننا لا نوافق على أن المأمون كان لا يريد ذلك ، وإنما فعله استجابة لرغبة الفضل ، الذي كان قد قتل قبل ذلك بزمان!!! ..

__________________

(١) روح الاسلام للسيد أمير علي ص ٣١١ ، ٣١٢. وأما أحمد أمين فقد أشار إليه في عبارته الآتية عما قريب بقوله : « فان كان حقا قد سم ، يكون سمه أحد غير المأمون ؛ من دعاة البيت العباسي ».

(٢) الامام الرضا ولي عهد المأمون ص ١٠٢ ، عن خلاصة الذهب المسبوك ص ١٤٢.

٤١٢

وقد تحدثنا في فصل : أسباب البيعة لدى الآخرين ، وغيره من الفصول ، وسيأتي الحديث بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى ..

ورأي فريق خامس يقول :

إنه (ع) قد مات حتف أنفه ، ولا يقبل أبدا بأنه (ع) مات مسموما ، ويورد لذلك الحجج والبراهين التي رأى أنها كافية للدلالة على أنه (ع) لم يمت مسموما.

ونذكر من هؤلاء سبط ابن الجوزي ، حيث قال ـ بعد أن أورد خبر وفاته ، وحكى القيل بأنه دخل الحمام ثم خرج ، فقدم له طبق فيه عنب قد أدخلت فيه الابر المسمومة ، من غير أن يظهر أثرها ، فأكله ، فمات ـ قال بعد ذلك : « وزعم قوم : أن المأمون سمه ، وليس بصحيح ؛ فإنه لما مات علي توجع له المأمون ، وأظهر الحزن عليه ، وبقي أياما لا يأكل طعاما ، ولا يشرب شرابا (١) ، وهجر اللذات إلخ .. » (٢).

لكن عبارة سبط ابن الجوزي هذه تقتضي أنه ينكر أن يكون المأمون هو الذي سمه ، ولا ينكر أن يكون (ع) قد مات بسم غير المأمون.

وقد تابعه الاربلي في كشف الغمة على ذلك ، محتجا بعين ما احتج به ، وأضاف إلى ذلك : أن سمه إياه يتنافى مع اكرامه له ، وأنه كان ينبه على علم الرضا ، وشرف نفسه وبيته إلخ ..

__________________

(١) في تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٨١ : أن المأمون بقي ثلاثة أيام مقيما عند قبر الرضا (ع) ، يؤتى كل يوم برغيف وملح ؛ فيأكله. ثم انصرف في اليوم الرابع.

(٢) تذكرة الخواص ص ٣٥٥.

٤١٣

وأما أحمد أمين فيقول : إن ذلك بعيد ؛ لأن المؤرخين « يروون حزن المأمون الشديد عليه ، كما يروون أن المأمون بعد موته ، وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة .. إلى أن قال : فإن كان حقا قد سم ، يكون قد سمه أحد غير المأمون ، من دعاة البيت العباسي .. » ثم استشهد لذلك أيضا بمناظرة المأمون للعلماء في تفضيل الإمام علي (ع) ، والتي ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد ، وبأنه ظل يظهر العطف على العلويين ، رغم كثرة خروجهم عليه (١).

وصاحب كتاب عصر المأمون يستند في استبعاده لذلك إلى تلك الرعاية التي أظهرها المأمون له ، وذلك الاحترام والتقدير ، الذي كان يحيطه به ، وخصوصا بعد أن توثقت عرى المودة بينهما بالمصاهرة .. ويضيف إلى ذلك أيضا : أن نفسية المأمون ، وخلقه ، يأبيان ـ على زعمه ـ عليه ذلك .. وعقد ولاية العهد له من بعده هو عند هؤلاء الدليل القاطع على حسن نية المأمون ، وسلامة طويته ..

والدكتور أحمد محمود صبحي يرى : أن قضية مسمومية الرضا (ع) هي من مختلقات الشيعة « الذين لم يجدوا تناقضا بين الحظوة التي كان ينالها من المأمون ، ثم مبايعته له بولاية العهد ، وتزويجه أخته (٢) ، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب ، ثم يصلي عليه ، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد ؛ فقد أصبح مقدرا على الأئمة منذ الحسن : أن يكون قاتلوهم هم : الخلفاء ، أو بإيعاز منهم .. » (٣).

__________________

(١) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥ ، ٢٩٦.

(٢) قد اتفق المؤرخون تقريبا على أن المأمون قد زوج للرضا عليه‌السلام « ابنته » وليس اخته.

ولم يذكر أنها اخته إلا شاذ منهم لا يعتد به ، وهو الذي يتشبث به الدكتور هنا ، ولعله لأنهم رأوا عدم انسجام سن الامام مع سن ابنته آثروا أن يجعلوها اخته .. وأيا كانت الحقيقة فان مقصود المأمون هنا حاصل ..

(٣) نظرية الإمامة ص ٣٨٧.

٤١٤

هذه هي الحجج ، التي حاول هؤلاء إقامتها على صحة ما ذهبوا إليه ، من براءة المأمون من دم الامام (ع).

ملخص ما سبق :

ومن أجل التسهيل على القارئ نعود فنوجز ما ذكروه من الأدلة في النقاط التالية :

١ ـ عقده له ولاية العهد من بعده ..

٢ ـ إكرامه وتقديره له ، وتنبيهه على شرفه ، وعلمه وفضله ، وبيته.

٣ ـ تزويجه ابنته ، الأمر الذي كان سببا في توثيق عرى المودة بينهما.

٤ ـ احتجاجه على العلماء في تفضيل علي (ع) على جميع الخلق ..

٥ ـ إظهاره الحزن والتوجع لوفاته ، وهجره الطعام والشراب ، واللذات لذلك.

٦ ـ دفنه له بجوار أبيه الرشيد ، وصلاته عليه ..

٧ ـ بقاؤه بعد وفاته على لباس الخضرة حتى دخل بغداد ..

٨ ـ إنه ظل يظهر العطف على العلويين رغم كثرة خروجهم عليه ..

٩ ـ إن نفسية المأمون وخلقه يأبيان عليه ذلك ..

١٠ ـ إن ذلك من مختلقات الشيعة ؛ حيث كتب على أئمتهم بعد الحسن أن يموتوا بسم الخلفاء ، أو بإيعاز منهم ..

آفة ذلك : هل هو الجهل ، أم التعصب :

هذا ملخص أدلة ما ذهبوا إليه من عدم دس المأمون السم للإمام (ع) ، ونحسب أن هؤلاء : إما أنهم لم يطلعوا على الحقائق اطلاعا كافيا ، يخولهم

٤١٥

إصدار أحكام صائبة ، في قضايا هي من أكثر المسائل التاريخية تعقيدا ، بل وغموضا وابهاما ، كقضية حقيقة ظروف وعلاقات المأمون بالرضا ؛ فحكموا على الامور حكما سطحيا ، لا يلبث أن ينهزم أمام المنطق السليم والنظر الصائب.

وإما أنهم جروا على ديدن أسلافهم في التعصب على الأئمة (ع) ، والمجاراة لأهوائهم ، ولخلفائهم في طمس معالم الحقيقة ، التي كان يضر أولئك الخلفاء أكثر من غيرهم إظهارها ، ومعرفة الناس لها ..

نحن .. وما يقوله هؤلاء :

إن كل ما ذكره هؤلاء لا يمكن أن يمنع المأمون من التدبير في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه .. كما دبر من قبل بوزيره الفضل بن سهل ، الذي أراد أن يزوجه ابنته ، وكما دبر في قائده الكبير هرثمة بن أعين ، الذي قتله فور وصوله إلى مرو ، دون أن يستمع لشكواه ، أو يصغي إلى دفاعه عن نفسه (١) ، وكما دبر فيما بعد بطاهر وأبنائه (٢) وغيرهم ،

__________________

(١) هكذا ذكر بعض المؤرخين. وقال ابن خلدون في تاريخه ج ٣ ص ٢٤٥ و ٢٤٩ : إنه حبس ، ثم دس عليه المأمون من قتله .. وفي معارف ابن قتيبة ص ١٣٣ طبع سنة ١٣٠٠ ه‍.

قال : « .. فلما سمع حاتم بن هرثمة ما صنع أبوه كاتب الأحرار هناك ، والملوك ، ودعاهم إلى الخلاف ؛ فبينما هو على ذلك أتاه الموت ؛ فيقال : إن سبب خروج بابك كان ذلك .. ».

ومن يدري فلعل المأمون قد دبر بحاتم بما يحسم عنه مواد بلائه .. كما دبر في الكثيرين قبله وبعده ..

وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٦ : أن أهل بغداد ثاروا ، وأعلنوا العصيان بسبب قتل هرثمة. هذا .. ويقال : إن الفضل بن سهل قد عمل على قتل هرثمة. ولا بأس بمراجعة تاريخ ابن الوردي ج ١ ص ٢٨٩ ، وغيره ..

(٢) في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٦٠ ، ومرآة الجنان ج ٢ ص ٣٦ ، ووفيات الأعيان ج ١ ص ٢٣٧ ، طبع سنة ١٣١٠ : إن سبب وفاة طاهر هو أن المأمون عند ما ولاه

٤١٦

وغيرهم ، ممن كان يختلهم واحدا فواحدا ـ على حد تعبير عبد الله بن موسى في رسالته له ـ سواء من العلويين أو من غيرهم ..

مع أن هؤلاء كانوا وزراءه وقواده ، ولهم من الفضل عليه ، وعلى دولته ما لا يمكن أن يخفى على أحد ؛ فإنهم هم الذين وطدوا له دعائم حكمه ، وبسطوا نفوذه وسلطانه على البلاد ، وأذلوا له العباد ، وقامت دولته بأسيافهم ، وعلى أكتافهم ..

لقد ختلهم واحدا فواحدا .. مع أنه كان يظهر لهم من الحب والتقدير ما لا يقل عما كان يظهره للامام .. وحسبنا أن نذكر هنا : أنه قتل أخاه وعمل برأسه ما تقدمت الاشارة إليه من أجل الملك والسلطان فكيف لا يقتل الرضا من أجل الملك والسلطان ، أيضا .. ثم يتستر على فعلته بتلك الظواهر التي لا تضره؟! أم يعقل أن يكون الرضا أعز من هؤلاء جميعا .. وحتى أعز عليه من أخيه الذي قتله؟! ..

وأما تظاهره بالحزن والاسى لوفاة الامام (ع) إلخ .. فما أدري إن كان هؤلاء يريدون من ذلك الأفعى الداهية : أن يظهر الفرح والاستبشار بموت الامام (ع)!!.

وهل نسوا أنه قتل الفضل ثم تظاهر بالحزن العظيم عليه (١) وتتبع قتلته

__________________

خراسان ، أهداه غلاما ليخدمه ، ودفع إليه سما لا يطاق ، فسمه الخادم في كامخ ، فمات من ليلته. وفي الفخري في الآداب السلطانية ص ٢٢٤ : أن الذي أهداه الغلام هو أحمد ابن أبي خالد وزير المأمون ، ليقتله إذا فارق الطاعة ؛ فقتله بأمر من المأمون .. وفي تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٩٢ : أن المأمون تآمر عليه فقتله .. والمؤرخون متفقون على أن المأمون كان يضمر له الشر والخيانة ..

والنتيجة هي : أن طاهرا يموت ـ بتدبير من المأمون بهذه الكيفية الغامضة ، ويبقى المأمون نفسه بعيدا عن الشكوك والشبهات.

(١) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ ص ٣٢٢ ، ومآثر الانافة ج ١ ص ٢١١. وقد تكلمنا عن كيفية قتل الفضل في ما تقدم فلا نعيد ..

٤١٧

وقتلهم. وأرسل رءوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل ، ثم تزوج ابنة الحسن هذا؟!. ولكنه عاد فغض من الحسن بن سهل حينما ظفر بابراهيم ابن شكلة ، وأسقطه وحجبه وعزله عما كان في يده (١).

وقتل طاهرا ثم أرسل يحيى بن اكثم إلى الرقة ، لينوب عنه في تقديم التعازي ، لولده عبد الله ، ثم ولى أبناءه مكانه ، ثم غدر بهم واحدا بعد الآخر ..؟! (٢).

وقتل محمد بن جعفر ، ثم جاء وجمل نعشه ، وقال : إن هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة؟! ..

وغيرهم وغيرهم ، ممن لا مجال هنا لتتبع أسمائهم وأحوالهم .. أما مواقفه وتصريحاته عند وفاة الإمام ، فالظاهر أنهم لم يقيموا لها وزنا ، ولا أعارها أي منهم أذنا صاغية ، أو قلبا واعيا؟! ..

وكيف يتفق كل ما ذكرناه ـ وخصوصا ما فعله مع أخيه حيا ، أو ميتا ، وتخريبه بغداد ، وأيضا قتله لسبعة من أخوة الإمام واضطهاده للعلويين كما سنبينه ، وكتابه للسري عامله على مصر يأمره فيه بغسل المنابر إلخ .. كيف يتفق كل ذلك ، وسائر أفاعيله التي قدمنا شطرا منها مع خلق المأمون ونفسيته؟! .. ولا يتفق قتله الإمام (ع) مع نفسيته وخلقه الكريم؟!. وهل قتل أولئك مع إظهار المحبة والاكرام لهم

__________________

(١) لطف التدبير ص ١٦٦.

(٢) ولقد كان يؤكد براءته من تلك الجرائم بأساليب مختلفة اخرى ، ويرضي جميع الأطراف ، فهو يرضي العباسيين بقتل الرضا. ويرضي العلويين باستقدام الجواد ـ ولد الرضا ـ من المدينة ، وإكرامه إياه. ويقتل الفضل ، ويرضي الحسن أخاه ، بما ذكرنا ، ويقتل طاهرا ، ويرضي أبناءه بتوليتهم مكانه ، ويبقى يستعين بهم طيلة فترة حكمه تقريبا .. حيث يغدر بهم واحدا واحدا كما ذكرنا ، وعلى هذه فقس ما سواها مما يدل على مدى حنكة المأمون ودهائه السياسي ..

٤١٨

لا يتنافى مع نفسيته وخلقه الكريم ؛ ويتنافى قتل الإمام مع الاكرام والمحبة له وللعلويين مع نفسيته وخلقه الكريم أيضا؟! ..

وأيضا هل بعد كل ذلك ، يمكن أن يقال : إن مصاهرته للإمام تمنعه من الغدر به ، ودس السم إليه؟! ولقد بينا في فصل : ظروف البيعة بعض أهدافه من تزويجه ، وتزويج ولده الجواد ، وتزويج الفضل أيضا .. وتحدثنا أيضا عن السبب في لباسه الخضرة ، ودوافع ولاية العهد ، وغير ذلك من أمور.

بل نجرؤ على القول هنا : إن المأمون قد اكره الامام (ع) على هكذا زواج ؛ إذ كيف يمكن أن نتصور رجلا حكيما عاقلا ، زاهدا في الدنيا .. يقدم ويرغب في زواج طفلة ومن هي بالنسبة إليه بمنزلة حفيدته ، بل أصغر ؛ حيث كان يكبرها بحوالي أربعين سنة .. ثم لا يكون هناك سرّ آخر يكمن وراء مثل هكذا زواج؟! ، إلا أن يدعي هؤلاء : أن ذلك يتفق مع العقل والحكمة ، وينسجم مع زهد الامام في الدنيا ، وانصرافه عنها ..

وإذا كان ثمة سرّ آخر يكمن وراء ذلك الزواج ، فان ما تجدر الاشارة إليه هنا هو أنه (ع) لم يكن يستطيع التصريح بحقيقة الأمر ، وواقع القضية إلى آخر ما قدمناه في فصل : ظروف البيعة.

وأما قوله بتفضيل علي (ع) على جميع الخلق .. فاننا إن لم نقل : أنه كان من ضمن المخطط ، الذي كان قد رسمه للوصول إلى مآربه وأهدافه ـ كما اتضح في فصل ظروف البيعة .. فاننا ـ ونحن نرى تباين مواقفه وتصريحاته ـ نرى أنفسنا مضطرين إلى القول : بأنه لم يكن ينطلق في مواقفه السياسية من مواقف عقائدية ..

وأما إكرامه للعلويين .. فقد تقدم تصريحه في كتابه للعباسيين : بأن ذلك ما كان منه إلا سياسة ودهاء .. وتقدم أنه بعد وفاة الرضا (ع)

٤١٩

قد أخذهم بلبس السواد ، ومنعهم من الدخول عليه .. وأنه كان يختلهم واحدا فواحدا حسب ما كتب إليه عبد الله بن موسى.

وسيأتي بيان أنه قتل سبعة من اخوة الإمام (ع) .. وأنه أمر الولاة والحكام بالقبض على كل علوي ..

وأما ما ذكره أحمد أمين : من كثرة خروج العلويين عليه ..

فإننا لم نجد ، ولم نسمع ذكرا في التاريخ لثورة قامت ضد المأمون ، بعد وفاة الرضا (ع) إلا ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن ، والتي كانت باتفاق المؤرخين بسبب جور العمال ، وظلمهم .. وسوى ثورة إخوة الإمام الرضا (ع) طلبا بثأر أخيهم كما سيأتي ..

ولم يبق ثمة إلا نسبة فكرة اغتيال الرضا (ع) إلى الشيعة .. وأنهم انما اختلقوها وابتدعوها بدافع من الشعور بالحاجة إلى مثل هذه التزويرات ؛ إذ قد كتب إلخ ..

فهي دعوى تكذبها جميع الشواهد والدلائل التاريخية .. هذا بالاضافة إلى أن السنة قد اتهموا المأمون بهذه التهمة ، قبل اتهام الشيعة له بها ، والشيعة إنما يعتمدون في ذلك على كتب أهل السنة ، التي استفاضت في اتهام المأمون بذلك ، والتي يؤيدها الكثير مما قدمناه في هذا الكتاب ، وغيره ..

وهكذا .. يتضح أن كل ما ذكره هؤلاء لا يصلح ما نعا ولا دليلا على أن المأمون لم يكن وراء استشهاد الإمام (ع) .. بل جميع الدلائل والشواهد متضافرة على خلاف ذلك حسبما فصلناه في الفصلين المتقدمين وغيرهما ، ولو لا أن تعداد مواقف المأمون مع الإمام وتصريحاته يستلزم تكرارا نربأ بالقارئ الفطن أن يضطرنا إليه .. لا استطعنا أن نحشد الكثير الكثير من الدلائل والشواهد ، التي تؤكد سوء نية المأمون ، وخبث طويته تجاه الإمام (ع) .. فما استند إليه هؤلاء في حكمهم ذاك ،

٤٢٠