الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

وفضائله ، التي كان يجهد المأمون في طمسها وإخفائها ، بل لقد ساعد على ترسيخ عقيدة الشيعة في نفوسهم ، وشد إليها قلوب الكثيرين ؛ حيث قد ثبت بالفعل : أن الإمام أعلم أهل الأرض على الاطلاق وأفضلهم وأتقاهم إلى آخر ما هنالك من الكمالات والفضائل الأخلاقية ، ولم يعد ذلك مجرد دعوى لا يدعمها دليل ، ولا يؤيدها برهان ..

وكان على المأمون أن يتبع أسلوبا جديدا ، يضمن له تحقيق غاياته في التخلص من الإمام (ع) ، والقضاء عليه اجتماعيا ، ونفسيا ، بل وحتى جسديا أيضا ..

وبقي في كنانته سهم آخر ، ظن أنه سوف يحقق له ما عجز كل ما سواه عن تحقيقه .. ألا وهو :

الاقتراح العجيب :

وكل قضايا المأمون تثير عجبا ، وهو أن يذهب الإمام إلى بغداد ، وقبل أن نتكلم عن هذا الاقتراح العجيب .. يحسن بنا أن نتكلم عن بغداد أولا ، وعن موقفها من البيعة للرضا (ع) ، وعن ردة الفعل فيها تجاه هذا الفعل الذي أقدم عليه المأمون من دون رضا منها .. فنقول :

موقف بغداد من المأمون والبيعة للرضا (ع) :

تعتبر بغداد أهم معقل للعباسيين على الاطلاق وهي عاصمتهم ، وحصنهم ، الذي يلوذون به ، ويلجئون إليه ..

والعباسيون هم الذين نقموا على المأمون بسبب جعل ولاية العهد للرضا (ع) ، وخلعوا المأمون بمجرد سماعهم لذلك النبأ الذي نزل عليهم نزول

٣٨١

الصاعقة ، فشغبوا في بغداد ، وأخرجوا الحسن بن سهل منها ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي ، المعروف : بابن شكلة المغني ، الذي كان عاملا للمأمون على البصرة (١) ، والذي كان من ألدّ أعداء الإمام علي بن أبي طالب وولده ..

وموقف بغداد هذا لم يكن ليخفى على أحد ، فكيف يخفى على المأمون ، وقد رأينا : أن الإمام نفسه يخبر المأمون : بأن الناس ـ يعني العباسيين ، ومواليهم (٢) ـ ينقمون عليه مكان الإمام منه ، ومكان بيعته له بولاية العهد (٣).

والفضل بن سهل أيضا قال للمأمون : « .. ثم أحدثت هذا الحدث الثاني إنك جعلت ولاية العهد لأبي الحسن ، وأخرجتها من بني أبيك. والعامة والعلماء ، والفقهاء ، وآل عباس ، لا يرضون بذلك. وقلوبهم

__________________

(١) مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٨.

(٢) لأنهم هم فقط الذين كانوا ينقمون ذلك عليه ، كما تدل عليه النصوص التاريخية. ولم يشر التاريخ ، ولو من بعيد إلى شيء من ذلك من غيرهم على الاطلاق ، بل نص على عكس ذلك كما عرفت ، حتى من أهل بغداد أنفسهم ..

(٣) الطبري ج ١١ ص ١٠٢٥ ، وابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٩ ، والكامل لابن الأثير ج ٥ ، وغير ذلك ..

وقال في النجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٧٤ : « أنه بسبب ولاية العهد للرضا قامت الفتن ، واضطربت البلاد » ، وقريب منه ما في مقدمة ابن خلدون ص ٢١١ ، وواضح : أن ذلك قول مبالغ فيه .. حيث لم يحدث بسبب البيعة شيء أصلا إلا في بغداد ، وأما سائر البلاد ، فقد خمدت الثورات فيها ، واستوسقت للمأمون كما نص عليه الذهبي ، وغيره حسبما تقدم ، وحتى في بغداد نفسها كان أكثرها يؤيد المأمون في ذلك باستثناء العباسيين ، ومن لف لفهم ؛ قال في تاريخ أبي الفداء ج ٢ ص ٢٢ : « وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة » .. ويتفق المؤرخون : على أن بغداد انقسمت إلى قسمين : قسم يقول : نلبس الخضرة ، ونبايع ، وقسم يأبى ذلك. إلى أن غلب الممتنعون ؛ لأن من بينهم رجال الدولة ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي ..

٣٨٢

متنافرة عنك ، والرأي : أن تقيم بخراسان ، حتى تسكن قلوب الناس على هذا إلخ .. » (١).

وسيأتي أن المأمون قد كتب للعباسيين ، بعد وفاة الإمام : أن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت .. إلى غير ذلك مما ليس في تتبعه كثير فائدة ..

وأما نصب ابن شكلة :

لقد رضي العباسيون بابن شكلة حاكما عليهم ، مع علمهم بانحرافه عن علي ، ونصبه ، بل لعل هذا هو أحد المرجحات لاختيارهم له ..

ويكفي دلالة على انحرافه عن علي (ع) ، وولده ما تقدم : من أن المأمون كان يظهر التشيع ، وابن شكلة يظهر التسنن (٢) ، وأنه غير المأمون بتشيعه فقال :

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه

وغيره المأمون بنصبه ، فقال :

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدد عنده ذكرى علي

وصل على النبي وأهل بيته (٣)

وقال ابراهيم هذا مرة للمأمون : إن عليا ليس من البلاغة في شيء ؛

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٠ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٦. وواضح أن من مصلحة الفضل : أن يضخم الأمر ويهول به على المأمون ؛ لأنه يريد أن يردعه عن الذهاب إلى بغداد ، التي يعرف أنه سوف يتعرض فيها لأهوال وأخطار قد لا يكون له القدرة على تحملها.

(٢) استعمال المسعودي لكلمة « التسنن » هنا يفند ما ادعاه أحمد أمين المصري : من أنه هو المصطنع لهذه الكلمة ، وأول من استعملها .. والظاهر أنه قرأها فيه أو في النجوم الزاهرة ، أو وفيات الأعيان ترجمة علي بن الجهم أو غيرها .. ثم نسي.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٧ وراجع ص ٢٣١ / ٢٣٢ من هذا الكتاب.

٣٨٣

حيث إنه رآه في منامه ، فسأله مسألة ؛ فقال له الإمام (ع) : « سلاما سلاما » .. فعند ما أفهمه المأمون : أنه (ع) يشير بذلك إلى قوله تعالى : « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » خجل ، وندم على إخباره المأمون بما كان (١) ..

وعن صلاح الدين الصفدي في شرح الجهورية : أنه لما مات ابراهيم ابن المهدي سأل الواثق عن وصيته ؛ فوجده قد أمر بمال عظيم : أن يفرق على أولاد الصحابة ، إلا أولاد علي (ع) ؛ فقال الواثق : « والله ، لو لا إطاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه ، ولا انتظرت دفنه » ، ثم انصرف الواثق وهو يقول : « منحرف عن شرفه ، وخير أهله ؛ والله ، لقد أدليته في قبره كافرا. » (٢).

إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد التي يطول بذكرها المقام ..

المأمون .. هو الذي ينقل لنا اقتراحه العجيب :

ولكن رغم موقف بغداد ذاك ، ورغم أنه كان يعلم به ، ويعلم بكل ما جرى في بغداد بسبب جعله ولاية العهد للرضا نرى المأمون يحاول أن يرسل الامام إلى بغداد ، ليكون وجها لوجه مع ألد أعدائه العباسيين ، وفي نفس معقلهم ، ومحل قوتهم ، وحيث لهم كل النفوذ والسيطرة. يرسله ـ وحده!! ـ ويبقى هو خليفته في خراسان ..

ويرفض الامام ، ويصر على الرفض ، حتى يئس المأمون من قبوله ..

يقول المأمون : « رحم الله الرضا (ع) ، ما كان أعلمه ، لقد

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٣ ص ٢٧١ ، ونزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٣.

(٢) نزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٤.

٣٨٤

أخبرني بعجب. سألته ليلة ، وقد بايع له الناس ، فقلت : جعلت فداك ، أرى لك أن تمضي إلى العراق ، وأكون خليفتك بخراسان ؛ فتبسم ، ثم قال : لا .. لعمري .. » إلى أن يقول المأمون : « فجهدت الجهد كله ، وأطمعته في الخلافة ، وما سواها ، فما أطمعني في نفسه .. » (١).

ولماذا هذا العرض :

عجيب إذن!! .. هكذا أصبحت الخلافة رخيصة إلى هذا الحد!! الخلافة .. التي لم يكن يعدلها عنده في الدنيا شيء!!. الخلافة .. التي قتل من أجلها المئات والالوف!! ، وخرب المدن ودك الحصون!! .. والتي قتل من أجلها أخاه ، ومن معه ، وقواده ، ووزراءه!! .. الخلافة هذه .. أصبحت رخيصة إلى حد أنه يبذلها ـ حسب منطقه ـ لرجل غريب!! ، وفي مقابل أي شيء؟! في مقابل أن يذهب إلى العراق!!.!.

ولقد عرفنا الخلافة التي بذلها ، لكن ما سواها لم نستطع أن نعرفه بالتحديد!!.

ولماذا يجهد الجهد كله؟! ولماذا يبذل الخلافة؟! ، ولماذا يبذل ما سواها؟! لماذا كل ذلك؟!!. أليس هو ذا القوة والسلطان؟! ؛ فلم لا يجبر الإمام (ع) على ذلك ، كما أجبره على قبول ولاية العهد؟!! .. ألم يكن باستطاعته أن يرسله مقيدا مصفدا بالحديد؟!! .. ولماذا يسمح له بأن يعصيه ويخالف أمره؟! .. أفلا يعتبر ذلك جريمة يستحق عليها أقسى العقوبات ؛ باعتبار أنه يعرض الخليفة والخلافة ، وهيبتهما للخطر؟! ..

__________________

(١) الغيبة للطوسي ص ٤٨ ، ومناقب ابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٣٧ ، والبحار ج ٤٩ ص ٥٨ و ١٤٥.

٣٨٥

نعم .. إنه يريد أن يذهب الإمام إلى بغداد ، ولكنه يريد في نفس الوقت أن يذهب راضيا وغافلا عما يهدف إليه المأمون من وراء ذهابه هذا .. وإلا فإن ذهابه لن يجديه نفعا ؛ لأنه قد جرب معه الاكراه والاجبار من قبل ، في قضية ولاية العهد ، ورأى أن الإمام قد اتخذ ذلك وسيلة من الوسائل المضادة ، من أجل تضييع الفرصة على المأمون .. كما أن بذله للخلافة لم يكن مجازفة بها ؛ لأنه كان مطمئنا إلى أن ما يبذله اليوم سوف يعود إليه غدا .. وبالشكل الأفضل والأكمل ؛ لو أن الإمام (ع) قبل منه ما كان عرضه عليه ..

نعم .. إنه يريد أن يرسله إلى العراق ـ بغداد ـ وطلب منه أن يذهب وحده ، ويبقى هو خليفة له في خراسان ؛ ليواجه المحنة ، التي لن يكون له القدرة على تحملها ، والصمود في وجهها .. ويتخلص المأمون منه بذلك من أهون سبيل ..

المأمون يتحرك نحو بغداد بنفسه :

لكن رفض الامام القاطع جعله يفكر في الأمر بنحو آخر ؛ فلقد تحرك هو بنفسه نحو بغداد ، مصطحبا معه وزيره الفضل بن سهل وولي عهده الامام الرضا (ع) ، الذي كان هو الشجا المعترض في حلق المأمون ..

ولقد كان من الممكن : أن يحتفظ بهما حتى يدخلوا بغداد ، فتقوم قائمة بني العباس ، ويثورون ، ويعصفون ، وتعم الفوضى ، ويختل النظام .. وقد يتخلص المأمون حينئذ من الامام (ع) على يد من يرتفع به حقده ، ويخرجه غضبه عن طوره ..

وإن لم يكن ذلك ، وجبنوا عن الإقدام عليه .. وبعد أن يكون الناس قد رأوا أن وجود الامام ـ وليس قتل الأمين ـ هو المانع والعائق

٣٨٦

من عودة المياه إلى مجاريها بين المأمون ، وبين العباسيين بني أبيه ، الذين أصبح يرى الناس : أن لهم ـ كغيرهم ـ الحق في الخلافة .. فإن المأمون سوف يجد ـ من ثم ـ العذر والمبرر لخلعه من ولاية العهد ؛ من أجل أن تستقر البلاد ، وتذهب الأحقاد والإحن ، وتعود الامور إلى حالتها الطبيعية بينه وبين بني أبيه ، والمحبين والمتشيعين لهم .. ولتكون هذه ـ وبعد ملاحقتها بحملة دعائية واسعة ـ ضربة قاضية لسمعة الامام ، وطعنة نجلاء في كرامته ، سوف يسعد المأمون بها أيّما سعادة ..

لكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين :

لقد كان من الممكن ذلك .. ولكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين ، الذين في بغداد ، أن يتفهموا حقيقة موقفه ، ويدركوا ما ترمي إليه مخططاته .. فقد يثورون ضده هو ، ويوصلون إليه ما يسوؤه ويزعجه ؛ كما حدث ذلك من قبل .. فهو مع أنه لم يبايع للرضا بولاية العهد ، إلا من أجل أن يحقن دماءهم ، ومع أنه كان يدبر الأمر ليدوم لهم ، ولعقبهم من بعدهم .. إلا أنهم لم يدركوا ذلك رغم أنه كتب إليهم به صراحة .. واستمروا على مناوءته ومحاربته ..

ولا كان واثقا من سكوت الامام (ع) :

كما أنه كان يخشى أن الامام ، الذي رأى المأمون منه العجائب ، والذي أصبح قريبا من العباسيين ، وأشياعهم ، وقريبا من محبيه ومواليه أيضا ـ كان يخشى أن يتمكن ـ من قلب ما يدبره ، ويخططه ، وجعله وبالا عليه .. وقد تقدم ان أباه موسى (ع) قد أفسد على الرشيد قلوب شيعته ، رغم أنه كان في سجونه وتحت نظره ومراقبته الدقيقة ..

٣٨٧

كما أنه لم ينس بعد أبدا : أنه قد أفسد عليه جلّ ، إن لم يكن كل مؤامراته ، وتدبيراته .. بل لقد كان يجعلها كلها في صالحه هو ، ودمارا ، ووبالا على المأمون مدبرها ، ومخططها الحقيقي ..

وقد يكون الامام مستعدا لقبول اقتراح من المأمون بالتنحي عن ولاية العهد. ولكن ذلك ولا شك سوف يعيد الامور إلى سيرتها الاولى. بل سوف يزيد الأمر تعقيدا ، والوضع خطورة عما كان عليه قبل البيعة له (ع) بولاية العهد. ولن يسكت العلويون ولا الخراسانيون ، بل حتى ولا العرب عن أمر كهذا. ولن يعيد الامور إلى سيرتها الاولى بيعة أو مناورة أخرى من أي نوع كانت ، وعلى أي مستوى كانت.

كيف يخرج المأمون من المأزق إذن؟!

وهكذا .. وبعد أن رأى المأمون نفسه قد فشل في تحقيق الجزء الأهم من خطته ، ألا وهو أن يضع منه (ع) قليلا قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر .. بل لقد رأى نفسه يحصد غير ما يزرع ، وأن النتائج التي كان يحصل عليها هي تماما عكس ما كان ينتظر ويؤمل ؛ وذلك بسبب وعي الإمام وحنكته ، ويقظته ..

ورأى أنه قد حارب الإمام بجميع الاسلحة التي كان يمتلكها ، من المكر والخديعة ، والدهاء إلخ .. لكن أسلحة الإمام كانت أمضى وأقوى من كل ما كان يمتلكه المأمون. ومن أين للمأمون علم الامام وزهده ، وتقواه وفضله ، وفضائله النفسية ، وشخصيته الفذة ، وسائر صفاته وخصاله الحميدة ، صلوات الله وسلامه عليه؟ ..

وإذا كان قد تأكد لديه أن محاولاته تلك لم تكن تثمر إلا أن يزداد الامام رفعة بين الناس ، ومحلا في نفوسهم ، وإلا اتساع قاعدته الشعبية

٣٨٨

باطّراد. وأنه هو نفسه قد ساعد على اتساعها .. حتى لقد اضطر هو نفسه لأن يستجير بالامام لينقذه من أولئك الذين شغبوا عليه بسبب قتله الفضل ابن سهل .. إلى آخر ما هنالك مما قدمناه .. إذا كان كذلك. فإنه قد أصبح يرى نفسه مستحقا لذلك التأنيب القاسي الذي تلقاه من حميد بن مهران ، وجمع من العباسيين ؛ حيث قال له حميد : « .. ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي ، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك ، والتوثب على مملكتك. هل جنى أحد مثل جنايتك؟! » .. وقد تقدم جواب المأمون لهم في أول هذا الفصل ؛ فلا نعيد ..

ويلاحظ هنا : أن قول حميد بن مهران : « ما أخوفني أن يخرج هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي » قد كان بعد البيعة للرضا (ع) بولاية العهد ؛ فكأنه كان على علم بخطة المأمون ، وأهدافه من البيعة!! .. نعود فنقول : إنه كما أصبح يرى نفسه مستحقا لذلك التأنيب القاسي أصبح أيضا يرى : أن من الضروري العثور على وسيلة تسهل عليه الخروج من ذلك المأزق الحرج ، الذي أوقع نفسه فيه .. حتى لا ينتهي به الأمر إلى تلك النهاية المرعبة ، التي كان يخشاها كل الخشية ، وتمتلئ نفسه فرقا ورعبا منها ..

فما هي تلك الوسيلة؟! ، وأين يجدها؟! وهل يستطيع أن يحصل عليها؟! وكيف؟؟ ..

.. ولقد وجد الوسيلة وهي سهلة جدا ، ولكنها غير مأمونة العواقب ، وهذه الوسيلة هي :

تصفية الإمام (ع) جسديا :

والتدبير فيه ـ وبسرعة ـ بما يحسم عنه مواد بلائه .. وواضح :

٣٨٩

أن قتل الإمام (ع) جهارا سوف يثير مشاعر العلويين والشيعة ، سواء من الخراسانيين ، أو من غيرهم ، بل هو يثير الامة بأسرها. ولسوف يعطيهم ، وخصوصا العلويين الفرصة ، بل والحق في القيام بوجه نظام الحكم من جديد .. وبكلمة .. سوف يخسر المأمون حينئذ كل ما كان يرى نفسه أنه قد ربحه ، هذا إن لم تكن النتيجة أسوأ من ذلك بكثير .. وأسوأ مما يتصور.

وإذن .. فلا بد للقضاء على الإمام من إعمال الحيلة ، واحكام الخطة ، ودراستها دراسة كافية ووافية.

قضية حمام سرخس :

وحاول أن يقضي على الامام (ع) ، والفضل معا ، مرة واحدة في حمام سرخس. ولكن يقظة الامام (ع) ، ووعيه قد حال دون ذلك ؛ حيث إنه رفض الذهاب إلى الحمام. وأصر المأمون بدوره على ذلك ، وأعاد عليه الرقعة مرتين!!. لكن الامام قد بيّن له بيانا قاطعا : أنه لن يدخل الحمام بأي وجه من الوجوه .. كما أنه (ع) قد حاول أن يدفع المكيدة عن الفضل ؛ فقال للمأمون : « ولا أرى للفضل أن يدخل الحمام غدا .. ». لكن المأمون يصر على أن يدخل الفضل الحمام ، ويمتنع من تحذيره ؛ حيث قال للامام : « وأما الفضل فهو أعلم وما يفعله .. » (١).

مقتل الفضل بن سهل :

ونجح المأمون في تنفيذ أحد جزئي مهمته ، وفشل في تنفيذ الجزء

__________________

(١) قد تقدم بعض مصادر هذا النص في فصل : شخصية الامام الرضا ، عند ذكر التجاء المأمون إلى الرضا (ع) عند ما شغب عليه الجند ، بسبب مقتل الفضل.

٣٩٠

الآخر ، والأهم منها ؛ فقد نجا الامام (ع) بفضل وعيه ويقظته ، ووقع الفضل في الشرك وحده وقتل بتدبير من المأمون ، فرضي بذلك العباسيون. وقتل قتله ، فرضي الحسن بن سهل ، والخراسانيون.

ومجمل قضية قتل الفضل هنا : « أن المأمون لما رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله من نقل الخلافة إلى بني علي ، وأنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل ، ورأى الفتنة قائمة ولا يستطيع أن يقتل الفضل جهارا لمكان أخيه الحسن بن سهل ، وكثرة من معه من الرجال (١) فأعمل الفكرة في ذلك ، ودس جماعة لقتل الفضل ..

والذين قتلوا الفضل كانوا خمسة اشخاص من حشم المأمون ، أحدهم : خاله غالب ؛ فأخذوا وجيء بهم إليه ؛ فقالوا : أنت أمرتنا بقتله!! .. فقال لهم : أنا أقتلكم باقراركم ، وأما ما ادعيتموه : من أني أنا أمرتكم بذلك ؛ فدعوى ليس لها بينة. ثم أمر بهم فضربت أعناقهم ، وحمل رءوسهم إلى الحسن أخي الفضل ، وأظهر الحزن عليه .. » (٢)!! كما أنه قد اقصى قوما من قواده سماهم الشامتة ؛ واظهر عليه أشد الجزع كما نص عليه اليعقوبي. وواضح أن قتله لقتلة الفضل ، ثم إرساله رءوسهم إلى الحسن ، ثم إظهاره للحزن عليه لخير دليل على دهائه وحنكته السياسية ..

بل ذكر المسعودي ، ويظهر ذلك من غيره أيضا : أن المأمون قتل

__________________

(١) راجع لطف التدبير ص ١٦٤ ـ ١٦٦.

(٢) راجع في ذلك : الآداب السلطانية ص ٢١٨ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٩ ، ولطف التدبير ص ١٦٤ ـ ١٦٦ ومآثر الانافة ج ١ ص ٢١١ ، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٩١ و ١٩٢ ، والطبري ج ١١ ص ١٠٢٧ ، ووفيات الأعيان ، طبع سنة ١٣١٠ ج ١ ص ٤١٤ ، ومرآة الجنان ج ٢ ص ٧ ، واثبات الوصية ص ٢٠٧. وليراجع تجارب الامم ج ٦ ص ٤٤٣.

٣٩١

الفضل بن سهل بيده ، وأنه باشر قتله بنفسه (١) ، ولعله اتهم هؤلاء من أجل أن يبعد التهمة عن نفسه لاسباب سياسية لا تكاد تخفى ومن أهمها أن لا يفسد عليه الحسن بن سهل ومن معه والخراسانيين.

وتحسن الاشارة هنا إلى ما قدمناه من عرض المأمون على الفضل أن يزوجه ابنته ـ على الرغم من استهجان تزويج بنات الخلفاء من غير ذوي قرباهم ، فرفض الفضل العرض ، وشكر المأمون ، وجهد المأمون الجهد كله في اقناعه ، فلم يفلح!!. وقال له : لو صلبتني ما فعلته (٢).

فإن عرضه هذا ، وجهده في اقناعه ما كان إلا شركا منه للتجسس والايقاع بالفضل على يدها ، كما فعل بالجواد والرضا (ع) .. وعند ما لم يفلح في اقناع الفضل ، وفشلت مؤامرته ، دبّر قضية حمام سرخس ، ونحج في تدبيره ذاك كما عرفنا ..

وقبل أن نمضي في الحديث يحسن بنا أن نشير الى ما ذكره الاصفهاني في أغانيه ، فيما يتعلق بمقتل الفضل ، حيث قال ما ملخصه : إن ابراهيم ابن العباس الشاعر كان من خواص الفضل بن سهل. وجعله كاتبا لعبد العزيز بن عمران ؛ فلما دبر المأمون قتل الفضل ، وندب إليه عبد العزيز ابن عمران. علم ابراهيم بذلك ، فأخبر به الفضل ، فأظهره للمأمون ، وعاتبه عليه .. وبعد قتل المأمون للفضل ولقتلته سأل من أين سقط الخبر للفضل ؛ فعرف أنه من جهة ابراهيم ؛ فطلبه ؛ فاستتر ، وتحمل ابراهيم بالناس على المأمون. وجرد في أمره هشام الخطيب المعروف بالعباسي ،

__________________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٧ ، ويظهر أيضا من : الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٨.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٣٠٧.

٣٩٢

وكان جريئا على المأمون ، لأنه رباه ، فلم يجبه المأمون الى ما سأل (١). إلى آخر ما قال.

ظاهرة قتل الوزراء :

وتحسن الاشارة هنا : إلى أن قتل الوزراء كان ظاهرة شائعة في حياة الخلفاء العباسيين ؛ حتى إن أحمد بن أبي خالد الأحول امتنع بعد مقتل الفضل عن قبول اسم « وزير » ، مع قبوله بالقيام بكل أعمال الوزير ووظائفه ..

وهنا لطائف وظرائف تتعلق بهذا المطلب ، ليس هنا محل ذكرها ..

ولنعد الآن للحديث عن موقف المأمون فنقول :

لا بد من العودة الى سنة معاوية :

إنه رغم فشل المأمون في قضية حمام سرخس ، لم ييأس ، ولم يهن في الوصول إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه ؛ فاستمر يعمل الحيلة ويدبر المكيدة للإمام (ع).

وكان عليه : أن لا يعرض نفسه للخطأ الذي وقع فيه في قضية الفضل ؛ حيث أعلن القتلة في وجهه بأنه هو الذي أمرهم بقتله ؛ مما كان سببا في ثورة الجند عليه ، وتعرض لخطر عظيم جدا ، لو لم يلتجئ الى الامام ، الذي أنقذ موقفه ، وفرق الناس عنه ، كما تقدم ..

ولم ير وسيلة أسهل وأسلم من تلك التي سنها سلفه معاوية ، الذي

__________________

(١) الأغاني ط الساسي ج ٩ ص ٣١.

٣٩٣

قدمنا في فصل : آمال المأمون وآلامه : أن المأمون قد ارتضى سيرته ، ورد سيرة أبي بكر وعمر وعلي وهذه الوسيلة هي : « السم » ..

ودسّ إليه السم في العنب ، أو في ماء الرمّان ، ومضى الإمام (ع) شهيدا ، صابرا محتسبا .. وهذه هي نفس الطريقة التي تخلص بواسطتها ، من قبل : من محمد بن محمد ، صاحب أبي السرايا ، ولا نستبعد أنه قد دبر مثل ذلك في محمد بن جعفر ، الذي مات هو الآخر ـ كالرضا (ع) والفضل بن سهل ـ في طريق بغداد (١).

كما ويلاحظ : أنه لما مات محمد بن جعفر نادى منادى المأمون : « ألا لا تسيئن الظن بامير المؤمنين ؛ فان محمد بن جعفر جمع بين أشياء في يوم واحد. وكان سبب موته أنه جامع وافتصد ، ودخل الحمام فمات » (٢)

وهكذا .. مات اللذان تكرههما بغداد ، في نفس طريق بغداد .. ولم يعد هناك ما يعكر صفو العلاقات بينه ، وبين بني أبيه العباسيين وأشياعهم ، وأصبح باستطاعته ان يكتب إليهم :

« .. إن الأشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت ، وأنهم ما نقموا عليه إلا بيعته لعلي بن موسى الرضا (ع) ، وقد مات ؛ فارجعوا إلى السمع والطاعة ، وانه يجعل ولاية العهد في ولد العباس .. » (٣).

__________________

(١) ولعل ابن قتيبة يشير إلى هذا في معارفه طبع سنة ١٣٠٠ ص ١٣٣ حيث يقول : « وظفر بمحمد بن جعفر ، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته ، فلم يرجع منهم أحد .. »!!. ولكننا نراه مع ذلك ، عند ما يؤتى بجنازة محمد بن جعفر قد نزل بين العمودين ، وحمله! وقال : هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة ، وصلى عليه وقضى دينه!!! .. بل إننا لا نستبعد أن يكون هو المدبر لشائعة غلبة السوداء على الحسن بن سهل أخي الفضل. وهكذا .. فيكون قد قضى على كل أولئك الذين تكرههم بغداد وتخشاهم ، وتخلص منهم واحدا بعد الآخر.

(٢) تاريخ جرجان ص ٤٠٤.

(٣) راجع في ذلك : الطبري ج ١١ ص ١٠٣٠ ، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٩ ،

٣٩٤

فرجعوا إليه ، وانقادوا له ، ولكن بعد التخلص ممن كان يكره ويكرهون ، ويخاف ويخافون ..

رجع إلى بغداد ، فأطاعته ، وانقادت له ؛ لأنه قضى على من كانت تخافهم ، وتخشاهم ، وحقق لها ما كانت ترجوه ، وتصبو إليه ، وغفرت له قتله أخاه ، ونسيته حتى كأنه أمر لم يكن!! .. بل لقد أصبحت ترى أنه أفضل من أخيه الأمين ؛ لأنه استطاع أن يثبت أقدام بني أبيه في الحكم والسلطان إلى ما شاء الله ..

رجع إلى بغداد ، إلى بني أبيه ؛ لأن رجوعه إليهم كان ضروريا ؛ من أجل أن يرجع إليهم اعتبارهم من جهة .. ولأنهم هم الدرع الواقي له ، والحصن الحصين من جهة أخرى .. هذا بالاضافة إلى أن خلافة لا تكون بغداد مقرا لها ليست في الحقيقة بخلافة .. إلى غير ذلك من أمور واعتبارات.

نبوءة الإمام (ع) قد تحققت :

هذا .. وكما تنبأ الامام (ع) من قبل بأن أمر البيعة لا يتم ، وتنبأ أيضا بأنه يموت ويدفن بخراسان .. لم يكن ليصعب عليه أن يتنبأ بأن المأمون سوف يقدم في النهاية على ما أقدم عليه : من الاعتداء على حياته (ع) ، سيما وأنه كان على علم أكثر من أي إنسان آخر بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه .. وبالفعل نرى الامام (ع) يصرح بذلك في أكثر من مورد ، وأكثر من مناسبة ، حتى للمأمون نفسه ، كما تقدم ..

__________________

وتاريخ الخلفاء ص ٣٠٧ ، وابن الأثير ج ٥ ص ١٩٣ ، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٨ ، وتاريخ أبي الفداء ج ٢ ص ٢٤ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٠ ، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٧٣ ، وتجارب الامم ج ٦ ص ٤٤٤. وغير ذلك.

٣٩٥

ومن جهة أخرى ؛ فرغم محاولات المأمون للتستر على جريمته النكراء تلك خوفا من ثورة الرأي العام ضده .. فإنه لم يستطع إخفاء الحقيقة ، وطمس الواقع بل شاع الأمر ، وافتضح المأمون .. بل سيمر معنا أنه هو نفسه قد فضح نفسه ..

الحقد الدفين :

وأخيرا .. فإن ما أقدم عليه المأمون من الغدر بالامام (ع) ، ودس السم إليه لخير دليل على فشل المأمون في سياسته ، الفشل المزري والمهين .. حتى إنه عند ما عجز عن أن ينال من الامام (ع) حيا ، أراد أن ينال منه ميتا ؛ بدافع من حقده الدفين ، الذي لم يعد يستطيع أن يتحمل مضاعفاته ؛ فكتب إلى السري عامله على مصر ، يخبره بوفاة الرضا ، ويأمره بغسل المنابر ، التي دعي له عليها ، فغسلت .. كما تقدم .. وهذا إن دل على شيء ؛ فإنما يدل على أن الحقد كان قد أكل قلبه ، وأعمت البغضاء بصره وبصيرته ..

كما أنه يدل على خسّة في النفس ، وإسفاف في التفكير ، وشعور بالعجز ، وبالنقص أيضا ..

٣٩٦

كاد المريب أن يقول : خذوني.

ومع غض النظر عن كل ما تقدم :

لسوف نغض النظر هنا عن تصريحات المأمون الدالة على أنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه ، وعن تأكيدات الإمام وتصريحاته بأنه سوف يموت شهيدا بسمّ المأمون ، حتى لقد واجه نفس المأمون بذلك ، لكنه تجاهل الأمر ، وغير الحديث (١) ..

ولسوف نغض النظر أيضا عن اعتراف المأمون نفسه بأن الإمام (ع) لم يمت حتف أنفه ، وإنما مات مقتولا بالسم. وأن قتلته هما عبيد الله ، والحمزة ، ابنا الحسن (٢) ، واللذان لم يكن بينهما وبين الإمام (ع) ما يوجب ذلك .. بل إن كان لهما دور ما ، فإنما هو باشارة من يهمه مثل هذا الأمر ..

بل لقد ورد : أن المأمون رمى بنفسه على الأرض ، وجعل يخور كما يخور الثور ، ويقول : « ويلك يا مأمون ، ما حالك ، وعلى ما

__________________

(١) راجع : عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٩ ، وعلل الشرائع ج ١ ص ٢٣٧ ، وأمالي الصدوق ص ٤٢ ، ٤٣ ، وغير ذلك ..

(٢) راجع : غيبة الشيخ الطوسي ص ٤٩ ، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٦.

٣٩٧

أقدمت. لعن الله فلانا وفلانا ، فإنهما أشارا علي بما فعلت .. » (١).

لسوف نغض النظر عن كل ما تقدم ، وحتى عن رسالته للسري ، عامله على مصر ، والتي أشرنا إليها غير مرة ..

والذي نريده هنا :

ولا نريد هنا إلا أن نضع بعض علامات الاستفهام على بعض تصرفات المأمون ، وأقواله حين وفاة الامام (ع) ، حيث رأيناه : قد ارتبك في أمر وفاة الرضا (ع) أشد ما يكون الارتباك ..

الأسئلة التي لن تجد جوابا :

فأول ما يطالعنا من الأسئلة هو أنه :

لماذا يستر موت الرضا (ع) يوما وليلة؟! (٢).

ولماذا يقول للامام ، وهو بعد لم يمت : « .. ما أدري أي المصيبتين علي أعظم : فقدي إياك ، أو تهمة الناس لي : أني اغتلتك وقتلتك » (٣)؟!.

__________________

(١) إثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٩.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٧ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧٢ ، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٧ ، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٩ ، وإرشاد المفيد ص ٣١٦.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٧٢ ، وارشاد المفيد ص ٣١٦ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤١ ، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٩. وعبارة مقاتل الطالبيين : « وأغلظ من ذلك علي ، وأشد : أن الناس يقولون : إني سقيتك سما » ..

٣٩٨

ولماذا يظهر التمارض ، بعد أن أكل مع الإمام (ع) العنب (١) ..؟! وكيف مات الامام (ع) في مرضه من العنب ، ولم يمت المأمون منه أيضا؟! ..

ولماذا يحضر محمد بن جعفر ، وجماعة من آل أبي طالب ، ويشهدهم على أن الرضا مات حتف أنفه ، لا مسموما (٢)؟!!.

ولماذا يبقى على قبره ثلاثة أيام!! يؤتى!! كل يوم برغيف واحد وملح ليأكله!! .. الأمر الذي لم يفعله حتى عند ما مات أبوه الذي ولد منه ، وأخوه الذي قتله ، وفعل برأسه ما فعل؟!!.

وهل يمكن أن نصدقه حينما نسمعه يقول : « وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك » (٣)!!. هذا مع علمه بأن الامام (ع) كان يكبره بـ (٢٢) سنة؟!! أم أن وقع المصيبة جعله يتكلم بما لا معنى له ، ولا واقع وراءه؟!!.

ولماذا أيضا : يجبره على أكل العنب بعد امتناع الامام (ع) من أكله ، ثم يقول له : « لا بد من ذلك ، وما يمنعك منه ، لعلك تتهمنا بشيء؟! » وبعد أن أكل منه الامام (ع) قام ، فقال له المأمون : إلى أين؟ قال (ع) : إلى حيث وجهتني .. » (٤)؟!

ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر ما هنالك مما يضيق عنه المقام ..

__________________

(١) إعلام الورى ص ٣٢٥ ، وارشاد المفيد ص ٣١٦ ، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٦ ، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٥٨ ، وغير ذلك ..

(٢) روضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٧ ، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٧ ، وارشاد المفيد ص ٣١٦ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧٢ و ١٢٣ ، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٩ ، وإعلام الورى ص ٣٢٩.

(٣) نفس المصادر السابقة باستثناء كشف الغمة.

(٤) أمالي الصدوق ص ٣٩٣ ، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٤ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٤٣ ، وإعلام الورى ص ٢٢٦ ، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠١ ، وغير ذلك.

٣٩٩

كاد المريب أن يقول : خذوني :

وبعد .. فهذه بعض الأسئلة ، التي تدور حول تصرفات المأمون عند استشهاد الامام (ع) .. تحتاج إلى جواب .. وأنى لها من المأمون الجواب الصحيح ، والصريح. ولكن مواقفه وتصرفاته هذه ، هي الجواب الكافي والشافي ، فلقد قيل ، وما أصدق ما قيل : « كاد المريب ان يقول : خذوني .. كما أن المؤرخين بدورهم قد أجابوا عنها بكل صراحة أحيانا ، وباللف والدوران ـ لأسباب مختلفة ـ أحيانا أخرى ..

فإلى الفصل التالي ، لنقف على بعض أقوال ومواقف المؤرخين ، بالنسبة لسبب وفاة الامام (ع) ..

٤٠٠