الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

واضطراب حبل المسلمين ؛ ولقرب أمر الجاهلية .. وهذا مما قد نص عليه علي (ع) نفسه في أكثر من مورد ، وأكثر من مناسبة ؛ قال (ع) : « .. وأيم الله ، لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ، ويبور الدين ، لكنا على غير ما كنا لهم عليه .. » ، ويقول : « إن الله لما قبض نبيه ، استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ؛ فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ؛ والناس حديثوا عهد بالاسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أدنى خلف .. » (١).

وهكذا تماما كان الحال بالنسبة للإمام الرضا (ع) ، حفيد علي ، ووارثه ؛ والذي كان زمانه لا يبعد حال الناس فيه عن حال الجاهلية ، فإنه آثر أن يصبر على هذه المحنة ، خوفا من شتات الدين ، واضطراب حبل المسلمين ؛ وذلك بتعريض نفسه ، وشيعته ، والعلويين للهلاك ، أو على الأقل للاضطهاد ، الأمر الذي سوف تكون له أسوأ النتائج على الدين والامة ، كما قلنا ..

وإذا ما قرأنا بعد ذلك قوله (ع) : « .. وقد جعلت الله على نفسي ، ـ إن استرعاني على المسلمين ، وقلدني خلافته ـ العمل فيهم عامة ، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة ، بطاعة الله ، وسنة رسوله (ص) .. » .. فإن ما يسترعي انتباهنا هو تنصيصه على بني العباس خاصة وأنه سوف يعمل فيهم بطاعة الله ، ورسوله .. « فلا يسفك دما حراما ، ولا يبيح فرجا ولا مالا ، إلا ما سفكته حدوده ، وأباحته فرائضه إلخ .. ».

فإن هذا التنصيص إنما هو في مقابل « الأرحام التي قطعت ، وفزعت ،

__________________

(١) راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٣٠٧ ، ٣٠٨ وغير ذلك.

٣٤١

وتلفت ، وافتقرت .. ، من العلويين ، على يد بني العباس ، الذين فعلوا بهم ، أكثر من فعل بني أميّة معهم ، حسبما قدمنا ..

وتعهده والتزامه بأن يعمل في المسلمين عامة ، وفي بني العباس خاصة ، بطاعة الله ، وسنة رسوله .. هو التزام بنفس الخط الذي التزم به علي (ع) ، وتعهد بانتهاجه. الأمر الذي كان سببا في ابعاده عن الخلافة في الشورى ، واضطلاع عثمان بها. بل كان ذلك هو السبب في ابعاده عنها ، بالنسبة لما قبل ذلك أيضا ، وما جرى بعده.

وعليّ (ع) هو نفس ذلك الذي استشهد به آنفا ، وبيّن أنه صبر على الفلتات ، ولم يعترض على العزمات خوفا من شتات الدين إلخ ..

والالتزام بخط علي (ع) لن يرضي المأمون ، والعباسيين ، والهيئة الحاكمة. ولن يكون في مصلحتهم ، حسبما المحنا إليه في فصل : جدية عرض الخلافة ..

كما أننا لا نستبعد كثيرا : أنه (ع) يريد أن ينبه على مدى التفاوت بين المنطلقات لسياسات أهل البيت ، ومنطلقات سياسات خصومهم ، التي عرفت جانبا منها في القسم الأول من هذا الكتاب ..

ومن هنا نعرف السر في قوله (ع) : « .. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي .. ». فإنه إشارة إلى أنه (ع) سوف ينطلق في كل نصب وعزل ـ تماما كالإمام علي (ع) ـ من مصلحة الامة ، وعلى وفق رضا الله ، وتعاليم رسوله. لا من مصالح شخصية ، أو اعتبارات سياسية ، أو قبلية ، أو غير ذلك من الاعتبارات ، التي لا يعترف بها الاسلام ، ولا يقيم لها وزنا ..

وإذا ما قرأنا قوله (ع) : « .. وإن أحدثت ، أو غيرت ، أو بدلت ، كنت للغير مستحقا ، وللنكال متعرضا ، وأعوذ بالله من سخطه إلخ .. ».

٣٤٢

فإننا ندرك للتوّ أنه (ع) يريد ضرب العقيدة ، التي كان قد شجعها الحكام ، وروّج لها علماء السوء .. من أن الخليفة ، بل مطلق الحاكم في منأى ومأمن من أي مؤاخذة ، أو عقاب ، مهما اقترف من جرائم ، وأتاه من موبقات ؛ فهو فوق القانون ، ولا يجوز لأحد الخروج ، أو الاعتراض عليه ، في أي من الظروف والأحوال ، حتى ولو رمى القرآن بالنبل ، وقتل ابن بنت رسول الله ، فضلا عما عدا ذلك من الجرائم والموبقات ..

والإمام .. الذي يعرف كيف كانت سيرة المأمون ، وسائر خلفاء بني العباس ، ومن لف لفهم ، والتي عرفت فيما تقدم طرفا منها ، والذين كانوا يتمتعون بهذه الحصانة الزائفة .. قد أراد أن يوجه ضربة قاضية لهم جميعا ، حتى للمأمون ، وأشياعه ، وكل من كان من الطواغيت والظلمة على شاكلتهم ، ويبين لهم ، وللملإ أجمع : أن الحاكم حارس للنظام والقانون ، ولا يمكن أن يكون فوق النظام والقانون ؛ ولذا فلا يمكن أن يكون في منأى عن العقاب والقصاص ، لو ارتكب أي جريمة ، أو اقترف أية عظيمة.

فالمأمون ، وآباؤه ، وأشياعهم ، كانوا يضحون بكل شيء في سبيل أنفسهم ، ومصالحهم الشخصية ، ويقترفون كل عظيمة في سبيل تدعيم حكمهم ، وتقوية سلطانهم .. أما الامام (ع) فهو مستعد لأن يقدم نفسه ـ إن اقتضى الأمر ـ للعقاب والنكال ، عند صدور أية مخالفة ، وحصول أي تجاوز عما يرضي الله تعالى ، وعن سنة رسوله ..

وبعد كل ما تقدم .. نراه يعبر عن عدم رضاه بهذا الأمر ، وعدم تهالكه عليه ؛ لعلمه بعدم تماميته له ؛ ويقول بصريح العبارة : إنه أمر لا يتم ؛ لأن « .. الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك .. ». كما أن في هذا تنويه مهمّ منه (ع) بذكر الركن الثاني من أركان إمامة أئمة

٣٤٣

أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو أن الله تعالى اختصهم بأمور غيبية ، وعلوم لدنية ، منعها عن سائر الناس.

وهذان الكتابان : الجفر ، والجامعة ، هما من الكتب التي أملاها رسول الله (ص) على علي أمير المؤمنين (ع) ، وكتبها بخط يده. وقد أظهر الأئمة عليهم‌السلام بعض هذه الكتب التي بخط علي (ع) ، وباملاء الرسول (ص) لعدة من كبار شيعتهم ، واستشهدوا بها في موارد عديدة في الأحكام (١) ..

وفي الحقيقة .. إن الامام (ع) ، وإن قبل ولاية العهد مكرها من المأمون .. ولكنه يريد بكلامه هذا ، واستشهاده بالجفر والجامعة أن يقول له ، ولكل من كان على شاكلته بصريح العبارة : « .. قد انبأنا الله بأخباركم ، وسيرى الله عملكم ، ورسوله ، والمؤمنون ، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ، ويجزيكم على ظلمكم وبغيكم علينا ، وانتهاككم الحرمات منا ، ولعبكم بدمائنا وأعراضنا ، وأموالنا .. ».

ثم نراه يترقى في صراحته ، حيث يقول : « .. لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه .. ». أي أنه لو لم يقبل بهذا الأمر لتعرض لسخط المأمون .. والكل يعلم ما ذا كان يعني سخط أولئك الحكام ، الذين كانوا لا يحتاجون إلى أي مبرر لاقترافهم أي جريمة ، واقدامهم على أي عظيمة ..

وأخيرا .. ورغم أن المأمون قد تقدم منه (ع) ، وطلب منه أن يشهد الله ، والحاضرين على نفسه .. نراه يأبى أن يكون المأمون ، ولا أي من الحاضرين شاهدا على نفسه ، ولا جعل لهم على نفسه سبيلا ؛ لأنه

__________________

(١) راجع : كتاب مكاتيب الرسول ج ١ من ص ٥٩ حتى ص ٨٩ ، فقد اسهب القول حول هذه الكتب ، واستشهادات الأئمة بها ، وغير ذلك ..

٣٤٤

كان يعلم بما كانت تكنه صدورهم ، وتضطرم به قلوبهم عليه. بل جعل الله فقط شهيدا عليه ، واستعان بالآية الكريمة ، التي تقطع الطريق على كل أحد ، وتكتفي بالله شهيدا ، حيث قال : « وأشهدت الله على نفسي ( وكفى بالله شهيدا ) .. ».

وإذا كان لا بد من كلمة :

وإذا كان لا بد في نهاية المطاف من كلمة ؛ فاننا نقول : إن أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة ، ووقفوا على الظروف والملابسات التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام ـ إن هؤلاء ولا شك ـ كانوا أقدر منا على فهم جميع ما كان يرمي إليه الامام (ع) من كل كلمة ، كلمة ، مما كتبه على وثيقة العهد ..

وإذا كان هناك من يرى : أن بعض الفقرات تحتمل غير ما قلناه .. فاننا نرى : أن كون بعض الفقرات الاخرى لا يحتمل غير ما قلناه ، وأيضا بما أن ما ذكرناه هو الذي يساعد على الجو العام ، الذي توحي به النصوص التاريخية الكثيرة جدا ، والتي قدمناها وسيأتي شطر منها ـ إن ذلك ـ هو ما يجعلنا نجزم بأن ما فهمناه هو بعض ما كان يرهي إليه (ع) مما كتبه على وثيقة العهد ..

ملاحظات هامة :

إن من الامور الغريبة حقا أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد ـ الطويلة جدا!! ـ بخط يده .. وأغرب منه أنه تقدم إلى الامام (ع) ، وقال له : « اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله والحاضرين عليك ،

٣٤٥

بما تعده في حق الله ورعاية المسلمين (١) .. ».

وهذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المأمون ، وأنه يريد تطويق هذا الموضوع من جميع جهاته ، وإن استلزم ذلك كل تلك الامور ؛ وإلا .. فما هو الداعي لأن يكتب له العهد بخط يده!!! ثم أن يتقدم إليه بنفسه!!! .. ثم ما الداعي لأن يطلب من الإمام ذلك!!!.

هذا .. ولا بأس أيضا بملاحظة تعبير المأمون بـ « قبول »!!!. ثم ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول بـ « خط يده »!!!. ثم طلب منه أن يشهد الله والحاضرين على نفسه!!!.

حقا .. إنها للعبقرية السياسية :

وعلى كل حال .. فلا شك أن المحاورات السياسية تعتبر من الصنائع المستظرفة ؛ وذلك لما تتضمنه من تعريضات وكنايات ، حسبما تفرضه الاتجاهات السياسية ، التي يلتزم بها المتحاورون ..

ولذا .. نلاحظ أنه (ع) .. وإن كان يضمن كلامه الشكر للمأمون ، بل ويكتب تحت اسمه ـ حسب رواية الاربلي فقط ـ : بل جعلت فداك .. ولكن يبطن كلامه ، ويضمنه تعريضات عميقة ؛ بلهجة معتدلة ، لا عنف فيها ، وذلك يعني : أن الإمام (ع) لم يتنازل عن مبدئه ، ولا حاد عن نهجه ، الذي اختطه لنفسه ، بوحي من رسالة الله ، وتعاليم محمد (ص) ، وخطى جده علي (ع) .. لم يحد عنه قيد شعرة ، ولا هادن فيه ، ولا حابى أحدا ، حتى في هذا الموقف ..

__________________

(١) مآثر الانافة ج ٢ ص ٣٣٢.

٣٤٦

ولعمري .. لو كان ما كتبه الإمام الرضا (ع) على وثيقة العهد من شخص عادي آخر ، لكان يقال عنه الشيء الكثير تعظيما وتبجيلا ؛ حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه ، ولا حاد عن نهجه قيد أنملة .. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة ، ولم يكن هو مستعدا ، ولا متوقعا لذلك ؛ لأن العادة لم تكن قد جرت على ذلك ..

وهذا ولا شك مما يزيد من عظمة الإمام ، ويعلي من شأنه ، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له ..

ولكن الحقيقة هي : أنه ـ وهو الإمام المعصوم ـ غني عن كل تلكم التقريظات ، وعن ذلكم التعظيم والتبجيل ..

الموقف التاسع :

شروطه (ع) على المأمون لقبول ولاية العهد ، وهي :

« أن لا يولي أحدا ، ولا يعزل أحدا ، ولا ينقض رسما ، ولا يغير شيئا مما هو قائم ، ويكون في الأمر مشيرا من بعيد (١) » ؛ فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون .. إذ أن :

__________________

(١) الفصول المهمة ، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١ ، ونور الابصار من ص ١٤٣ ، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠ ، وج ٢ ص ١٨٣ ، ومواضع اخرى ، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣ ، وعلل الشرائع ج ١ ، ص ٢٣٨ ، وإعلام الورى ص ٣٢٠ ، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٩٥ ، وغيرها ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩ ، وارشاد المفيد ص ٣١٠ ، وأمالي الصدوق ص ٤٣ ، واصول الكافي ص ٤٨٩ ، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ومعادن الحكمة ص ١٨٠ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٤٧

١ ـ السلبية تعني الاتهام :

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس ، ولسوف تكون سببا في وضع علامات استفهام كبيرة ، حول الحكم ، والحكام ، وكل اعمالهم وتصرفاتهم ؛ إذ أن السلبية إنما تعني : أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه ؛ بأي نحو من أنحاء التعاون ؛ وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه ، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!! ..

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام :

ولقد قدمنا : أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمام (ع) على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته ، كما صرح هو نفسه بذلك « وليعترف بالملك ، والخلافة لنا ».

والإمام .. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم ، بأي نحو من أنحاء الاعتراف ، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك ، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الاسلامي الأصيل ..

هذا .. وقد عضد شروطه هذه ، بسلوكه السلي مع المأمون ، والهيئة الحاكمة ، طيلة فترة ولاية العهد ، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة ، التي تحدثنا عنها فيما سبق ..

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم :

والأهم من كل ذلك : أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسئولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس

٣٤٨

للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات واعمال المأمون وحزبه ، على أنها تحظى برضى الإمام (ع) وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظره (ع) في الحكم ورأيه في أساليبه ، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الاسلام الصحيح فيه. الاسلام .. الذي يعتبر الائمة (ع) الممثلين الحقيقيين له ، في سائر الظروف ، ومختلف المجالات ..

وانطلاقا مما تقدم : نراه (ع) يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون ، من : كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان .. ويرفض أيضا : أن يؤم الناس في الصلاة مرتين .. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك ؛ فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده ، وتضيع الفرصة من يده.

ولا بد من ملاحظة : أنه عند ما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة ، ورأى عليه‌السلام : انه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ : أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول الله (ص) ، لا كما يخرج الآخرون ..

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط ، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا ؛ فقال له ولعله بدون اكتراث : أخرج كيف شئت .. وكانت نتيجة ذلك .. أنه (ع) قد أفهم الناس جميعا : أن سلوكه وأسلوبه ، وحتى مفاهيمه ، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمد (ص) ، ومنهاجه هو منهاج علي (ع) ، ربيب الوحي ، وغذي النبوة ، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام ، الذين اعتاد الناس عليهم ، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون ، أن يفهم الناس : أن الحاكم : من كان ، ومهما كان ، هذا هو سلوكه ، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية : من ومهما كانت ، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل ،

٣٤٩

والحرية : والمساواة ، وغير ذلك شعارات لها ، إلا أنها عند ما تصل إلى الحكم ، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة ، مستأثرة بكل شيء ، ومستهترة بكل شيء ؛ ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم ، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمام (ع) المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ .. فضلا عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماما ؛ إذ قد رأينا : كيف أن الإمام (ع) بشروطه تلك ، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه .. يضيع على المأمون هذه الفرصة ، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئا. بل إن كثيرا منها كان سوءا ووبالا عليه ، كما سيأتي ..

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته :

ولعل من الواضح : أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون ، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته ؛ إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو ، وقضية العلويين ، ومن ثم تؤثر على الامة بأسرها .. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط ، قد حفظت له (ع) حياته في حمام سرخس ، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة ، كما سيأتي بيانه .. مما يعني أن سلبيته (ع) مع النظام كانت أمرا لا بد منه ؛ إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل ، وأخطار هو في غنى عنها .. والذي أمّن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك ، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها ، ولا رجاء ..

٣٥٠

ولعل الأهم من كل ذلك .. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة ، التي صرح الإمام (ع) أنه كان عارفا بها ، ولم يكن له خيار في تحملها ، والصبر عليها ، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ..

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك ، وتلافي الأخطاء ، التي كان يقع فيها الحكم ، والهيئة الحاكمة .. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام ، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر ، والفرصة لتصفيته (ع) من أهون سبيل ؛ فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون ، وأشياعه ، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم ..

٥ ـ الإمام .. لا ينفذ ارادات الحكم :

ولعل من الأهمية بمكان .. أن نشير إلى أنه (ع) كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون : أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم ، والحاكم ، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات ، والامور الشكلية ؛ فإنه .. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للامة ؛ لا يمكن أن يرضى بديلا عن أن ينقذ الامة ، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة ، الذين جلسوا في مكان رسول الله (ص) ، وأوصيائه عليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله ..

إنه يريد أن يخدم الامة ، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى ، والعيش الكريم ، ولا يريد أن يخدم نفسه ، ويحقق مكاسب شخصية على حساب الآخرين ؛ ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن ، ولا تغني من جوع ..

٣٥١

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا :

إنه مضافا إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون : الخلافة ، وولاية العهد ، دليل قاطع على زهده فيه .. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة ، وجليل الأثر في الاظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا ، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا ، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه .. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف .. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب ؛ من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته ..

ولقد قدمنا : أن الإمام (ع) قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه ، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه ، ولن تخفى عليه مقاصده ؛ ولذا فان من الافضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته .. وإلا فإنه إذا ما أراد اجبار الإمام على التعاون معه ؛ فلسوف يجد أنه (ع) على استعداد لفضحه ، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ ، وافهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمام (ع) في مجالات لا يرغب ، بل واشترط عليه أن لا يزجّ فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبدا في صالح المأمون ، ونظام حكمه ..

ومن هنا رأيناه (ع) يجيب الريان عند ما سأله عن سر قبوله بولاية العهد ، واظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ : ببيان أنه مجير على هذا الأمر ، ويذكره بالشروط هذه ، والتي تعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه ، كما تقدم ..

وهكذا .. وبعد أن كان (ع) سلبيا مع النظام ، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون ، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد ؛ فليس من السهل على المأمون ، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب

٣٥٢

إليه (ع) : أنه رجل دنيا فقط ، وأنه ليس زاهدا في الدنيا ، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال : ورغم كل محاولات المأمون تلك .. فقد استطاع الإمام (ع) ؛ بفضل وعيه ، ويقظته ، واحكام خطته : أن يبقى القمة الشامخة للزهد ، والورع ، والنزاهة ، والطهر ، وكل الفضائل الانسانية .. وإلى الابد.

الموقف العاشر :

موقفه (ع) في صلاتي العيد .. ففي إحداهما :

« بعث المأمون له يسأله : أن يصلي بالناس صلاة العيد ، ويخطب ، لتطمئن قلوب الناس ، ويعرفوا فضله ، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة ؛ فبعث إليه الرضا (ع) ، وقال : قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر ؛ فاعفني من الصلاة بالناس. فقال المأمون : إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة ، والجند ، والشاكرية هذا الأمر ؛ فتطمئن قلوبهم ، ويقروا بما فضّلك الله تعالى به ..

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال : يا أمير المؤمنين ، إن أعفيتني من ذلك ، فهو أحب إليّ ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله (ص) ، وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

قال المأمون : أخرج كيف شئت ..

وأمر المأمون القواد ، والحجاب ، والناس : أن يبكروا إلى باب أبي الحسن (ع) ؛ فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات ، والسطوح : من الرجال ، والنساء ، والصبيان ، وصار جميع القواد ، والجند إلى بابه (ع) ؛ فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس ..

٣٥٣

فلما طلعت الشمس قام الرضا (ع) فاغتسل ، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن ، والقى طرفا منها على صدره ، وطرفا بين كتفيه ، ومس شيئا من الطيب ، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه : افعلوا مثل ما فعلت ..

ثم أخذ بيده عكازة ، وخرج ، ونحن بين يديه ، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق ، وعليه ثياب مشمرة ..

فلما قام ، ومشينا بين يديه ، رفع رأسه إلى السماء ، وكبر أربع تكبيرات ؛ فخيل إلينا : أن الهواء والحيطان تجاوبه. والقواد والناس على الباب ، قد تزينوا ، ولبسوا السلاح ، وتهيئوا بأحسن هيئة ..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة : حفاة ، قد تشمرنا. وطلع الرضا ووقف وقفة على الباب ، وقال : « .. الله اكبر ، الله اكبر على ما هدانا ، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام ، والحمد لله على ما أبلانا ». ورفع بذلك صوته ، ورفعنا أصواتنا ..

فتزعزعت مرو بالبكاء ، فقالها : ثلاث مرات ؛ فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة ، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم عن الدواب إلى الأرض ، ورموا بخفافهم ، وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها ، وتحفى .. وصارت مرو ضجة واحدة ، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي ، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات ؛ فيتخيل إلينا : أن السماء ، والأرض ، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك ؛ فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين : يا أمير المؤمنين : إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس ، وخفنا كلنا على دمائنا ؛ فالرأي أن تسأله أن يرجع ..

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له : إنه قد كلفه شططا ، وأنه ما

٣٥٤

كان يحب أن يتعبه. ويطلب منه : أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم ..

فدعا أبو الحسن بخفه ؛ فلبسه ، ورجع ..

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم ، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ .. » (١).

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس :

ذكروا بطلعتك النبي ؛ فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابسا

نور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع

لله ، لا يزهى ، ولا يتكبر

ولو أنّ مشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر (٢)

ومما يلاحظ هنا : أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه ، ويصلي بالناس ، رغم تظاهره بالمرض ..

وعلى كل حال .. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل ، وفي فصل : ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الحادثة ؛ إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط .. وهما :

__________________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل : ظروف البيعة .. فراجع ..

(٢) مناقب آل أبي طالب ، لابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٧٢. ولكن هذا الشعر ينسب أيضا للبحتري في المتوكل عند ما خرج لصلاة العيد .. وانتحال الشعر ، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري. ولعل البحتري قد صحف وصار : البحري .. ولعل العكس.

٣٥٥

١ ـ الأثر العاطفي ، والقاعدة الشعبية :

فنلاحظ : أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة ، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها ، من الانفعال والتأثر بها ؛ فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!!.

وغني عن البيان هنا : أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور ، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم ، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية له (ع) ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بارجاعه (ع) :

وإذا كان هدف المأمون من الاصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية ، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضا أن إرجاع المأمون للإمام (ع) في مثل تلك الحالة ، وذلك التجمع الهائل ، وتلك الثورة العاطفية في النفوس ، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون ، وأشياعه ؛ حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي ، ويؤكد كراهيتها له .. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال ..

وبعد هذا .. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد اقامة الإمام للصلاة .. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها .. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي ، وتلك الحالة الروحية ، التي أثارها فعل الإمام (ع) وتصرفه في هذا الموقف .. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه ..

فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم

٣٥٦

وأبعد أثرا ، وأشد خطرا .. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر ، وخطب الناس ، بعد أن هيأهم نفسيا ، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور : « وأنا من شروطها .. » لا سيما وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمد (ص) ، ووصيه علي (ع) وهو أمر جديد عليهم .. مما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على انفسهم ، كما ذكر الفضل بن سهل .. ولسوف يحول الامام مروا من معقل للعباسيين والمأمون ، وعاصمة ، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون ، حصن لأئمة أهل البيت .. ففضل المأمون : أن يختار إرجاعه (ع) عن الصلاة ، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرّين واقل الضررين.

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة ، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة ، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور ، ولا ما كتبه في وثيقة العهد ، ولا غير ذلك من مواقفه (ع) ، وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف ..

الموقف الحادي عشر :

وأخيرا .. فقد كان سلوك الإمام (ع) العام ، سواء بعد عقد ولاية العهد له ، أو قبلها ، يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته. ذلك السلوك المثالي ، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه ..

ويكفي أن نذكر هنا ما وصفه به إبراهيم بن العباس ، كاتب القوم وعاملهم ، حيث قال :

« ما رأيت أبا الحسن جفا أحدا بكلامه قط ، وما رأيته قطع على

٣٥٧

أحد كلامه حتى يفرغ منه ، وما رد أحدا عن حاجة يقدر عليها ، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط ، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ، ولا شتم أحدا من مواليه ومماليكه قط ، ولا رأيته تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط ، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا ، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه ، حتى البواب والسائس. وكان قليل النوم بالليل ، يحيي اكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام ؛ فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ، ويقول : ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السر ، واكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ؛ فمن زعم أنه رأى مثله في فضله ؛ فلا تصدقوه .. » (١).

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت اسهاما كبيرا في أن يكون الإمام (ع) هو الارضى في الخاصة والعامة ، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب ، إلى غير ذلك مما تقدم ..

الحكم ليس امتيازا وإنما هو مسئولية :

وقد اعترض عليه بعض أصحابه ؛ عند ما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه ، حتى البواب والسائس ؛ فأجابه (ع) : « مه ؛ إن الرب تبارك وتعالى واحد ، والام واحدة ، والأب واحد ، والجزاء بالأعمال .. » (٢) .. وقال له أحدهم : أنت والله خير الناس ، فقال له الإمام : « لا تحلف يا هذا ، خير مني من كان أتقى لله تعالى ، واطوع له ؛ والله ما

__________________

(١) كلام ابراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور ، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية ؛ ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١ ، والكافي للكليني ، ومسند الامام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٥٨

نسخت هذه الآية : « وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم .. » (١).

وقال لإبراهيم العباسي : إنه لا يرى أن قرابته من رسول الله (ص) تجعله خيرا من عبد أسود ، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به (٢).

وقال رجل له : ما على وجه الأرض اشرف منك أبا. فقال : التقوى شرفتهم ، وطاعة الله أحظتهم (٣).

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا ، هو أنه (ع) يريد بذلك أن يفهم الملأ : أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان ، ومهما كان ـ امتيازا ، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره ، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الاخلاقية .. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ؛ وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام ، ليس هو السلوك الذي يريده الله ، وتحكم به النواميس الاخلاقية ، والانسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم ، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع ، ولا يحكم بها قانون ..

وبكلمة مختصرة : إن الإمام (ع) يرى : أن الحكم ليس امتيازا ، وإنما هو مسئولية ..

وعلى كل حال .. فان سلوك الامام (ع) ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الاخلاقية ، والفضائل النفسية .. ويكفي أنه لم يظهر منه (ع) طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلا بينهم ، ومحلا في نفوسهم ، على حدّ تعبير أبي الصلت. وعلى حدّ تعبير شخص

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦ ، ومسند الامام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الامام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٥٩

آخر : أقام بينهم لا يشركهم في مآثم من مآثم الحكم .. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكم آنئذ .. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون ، ويمنعه من الشراب والغناء ، طيلة الفترة التي عاشها معه ، إلى آخر ما هنالك ، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه ..

وفي نهاية المطاف نقول :

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة ، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءا كاشفا على الخطة التي اتبعها الامام (ع) في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته .. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس ، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم .. ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون ، وأعوانه ، وجعلهم يتصرفون بلا روية ، ويقعون بالمتناقضات .. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك ، حسبما صرح به المأمون نفسه .. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه. كما وعد حميد بن مهران ، وجماعة من العباسيين ..

٣٦٠