الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

وعثمان (١) ، كما تنبأ هو نفسه (ع) بذلك (٢). إلى غير ذلك مما لا يكاد يخفى على الناظر البصير ، والناقد الخبير ..

٢ ـ وحشدا من أهل الإرجاء ، الذين ما كانوا يقيمون وزنا لعلي ، وعثمان. بل كانت المرجئة الاولى لا يشهدون لهما بإيمان ، ولا بكفر ..

٣ ـ وأيضا .. أن يضم حشدا من أهل الاعتزال ، الذين أحاطوا بالمأمون ، بل ويعد هو منهم ، والذين تدرجوا في القول بفضل عليّ (ع) حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم ؛ فقد كان مؤسّسا نحلة الاعتزال : واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل مثلا ، ولكن أتباعهما تدرّجوا على مر الزمان في القول بفضله ؛ فقد شكك أبو الهذيل العلاف في أفضليته على أبي بكر ، أو القول بتساويهما في الفضل. ولكن رئيس معتزلة بغداد : بشر بن المعتمر ، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة ، ولكنه قال بصحة خلافتهم .. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد ، وكثير من البصريين ..

وإذا كان ذلك الحشد الهائل يضم كل هؤلاء ، وغيرهم ممن لم نذكرهم .. فمن الطبيعي أن تكون كلمة الإمام هذه : « وأنا من شروطها » ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء ، وإقامة للحجة عليهم جميعا ، على اختلاف أهوائهم ، ومذاهبهم ..

ويكون قد بلغ بهذه الكلمة : « وأنا .. » صريح عقيدته ، وعقيدة

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١١٩ ، ١٢٠ ، والمحاسن والمساوي ج ١ ص ٧٩ طبع مصر. والفتوحات الاسلامية لدحلان ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٣٦٨.

(٢) فقد قال بعد أن ضرب الوليد بن عقبة الحد ، لشربه الخمر : « لتدعوني قريش بعد هذا جلادها ». الغدير ج ٨ ص ١٢١. وقد صدقت نبوءته ، صلوات الله وسلامه عليه ؛ فقد جعلوه ـ كما ترى ـ ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة!!!.

٣٢١

آبائه الطاهرين (ع) في أعظم مسألة دينية ، تفرقت لاجلها الفرق في الاسلام ، وسلت من أجلها السيوف. بل لقد قال الشهرستاني :

« .. واعظم خلاف بين الامة خلاف الامامة ؛ إذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الامامة في كل زمان .. » (١).

وبعد كل ما قدمناه .. لا يبقى مجال للقول : إن قوله هذا : « وأنا .. » لا ينسجم مع ما عرف عنه (ع) من التواضع البالغ ، وخفض الجناح ؛ إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان لا بد للامام في ذلك المقام ، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولا وآخرا ، ويفتح عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم ، إن حاضرا ، وإن مستقبلا ، وإن جزع من ذلك قوم ، وحنق آخرون ..

تعقيب هام وضروري :

ومما هو جدير بالملاحظة هنا ، هو أن أئمة الهدى عليهم‌السلام كانوا يستعملون التقية في كل شيء إلا في مسألة أنهم عليهم‌السلام الأحق بقيادة

__________________

(١) الملل والنحل ، ج ١ ص ٢٤. وقال الخضري في محاضراته ج ١ ص ١٦٧ : « .. والخلاصة : أن مسألة الخلافة الاسلامية والاستخلاف ، لم تسر مع الزمن في طريق يؤمن فيه العثار. بل كان تركها على ما هي عليه ، من غير حل محدد ترضاه الامة ، وتدفع عنه سببا لاكثر الحوادث التي أصابت المسلمين ، وأوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق والحروب المتواصلة ، التي قلما يخلو منها زمن ، سواء كان ذلك بين بيتين ، أو بين شخصين .. » انتهى.

وأقول : إذن .. كيف جاز للنبي (ص) أن يترك الامة هكذا هملا ، ثم لا يضع حلا لأعظم مشكلة تواجهها ، مع أن شريعته كاملة وشاملة ، وقد بين فيها كل ما تحتاجه الامة ، حتى أرش الخدش.

٣٢٢

الامة ، وخلافة النبي (ص). مع أنها لا شيء أخطر منها عليهم ، كما تشير إليه عبارة الشهرستاني الآنفة ، وغيرها.

وذلك يدل على مدى ثقتهم بأنفسهم ، وبأحقيتهم بهذا الأمر ..

فنرى الإمام موسى (ع) يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة ، ويصارحه بها ، أكثر من مرة ، وفي أكثر من مناسبة (١) .. بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ ..

ولقد نقل غير واحد (٢) أنه : عند ما وقف الرشيد على قبر النبي (ص) ، وقال مفتخرا : السلام عليك يا ابن عم. جاء الإمام موسى (ع) ، وقال : السلام عليك يا أبة. فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه. : وعند ما قال له الرشيد : أنت الذي تبايعك الناس سرا؟!

أجابه الإمام (ع) : أنا إمام القلوب ، وأنت إمام الجسوم (٣) ..

وأما الحسن ، والحسين ، وأبوهما ؛ فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان ..

بل إن أعظم شاهد على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الإمامة ما قاله الإمام الرضا (ع) للقائل له : إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر ، وجلست مجلس أبيك ؛ وسيف هارون يقطر الدم؟!! ..

__________________

(١) راجع : الصواعق المحرقة ، وينابيع المودة ، ووفيات الاعيان ، والبحار ، وقاموس الرجال ، وغير ذلك ..

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٨٣ ، والكامل لابن الاثير ج ٦ ، ص ١٦٤ ط صادر ، والصواعق المحرقة ص ١٢٢ ، والاتحاف بحب الاشراف ص ٥٥ ، ومرآة الجنان ج ١ ص ٣٩٥ وأعيان الشيعة ، وينابيع المودة ، وغير ذلك ..

(٣) الاتحاف بحب الاشراف ص ٥٥ ، والصواعق المحرقة ص ١٢٢.

٣٢٣

فأجابه الإمام (ع) : « جرأني على هذا ما قال رسول الله (ص) : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة ؛ فأشهد أني لست بنبيّ .. وأنا أقول لكم : إن أخذ هارون من رأسي شعرة ؛ فاشهدوا أني لست بإمام .. » (١).

وفي هذا المعنى روايات عديدة (٢) ..

ولكنهم عليهم‌السلام قد انصرفوا بعد الحسين (ع) عن طلب هذا الأمر بالسيف .. إلى تربية الامة ، وحماية الشريعة من الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار ؛ ولأنهم كانوا يعلمون : أن طلب هذا الأمر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة ، وواعية ، لن يؤدي إلى نتيجة ، ولن يقدّر له النجاح ، الذي يريدونه هم ، ويريده الله .. ولكنهم ـ كما قلنا ـ ظلوا عليهم‌السلام يجاهرون بأحقيتهم بهذا الأمر ، حتى مع خلفاء وقتهم ، كما يظهر لكل من راجع مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة ..

الموقف الخامس :

رفضه (ع) الشديد لكلا عرضي المأمون : الخلافة ، وولاية العهد ، وإصراره على هذا الرفض الذي استمر أشهرا ، وهو في مرو نفسها ، حتى لقد هدده المأمون اكثر من مرة بالقتل ..

وبذلك يكون قد مهد الطريق ليواجه المأمون بالحقيقة ؛ حيث قال له صراحة : إنه يريد أن يقول للناس : إن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا ، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه ؛ وليكون بذلك قد أفهم المأمون أن

__________________

(١) المناقب لابن شهر اشوب ج ٤ ص ٣٣٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢١٣.

(٢) راجع : البحار ج ٤٩ ، وروضة الكافي ، وعيون أخبار الرضا ، وإرشاد المفيد ، وغير ذلك.

٣٢٤

حيلته لم تكن لتجوز ، وأن زيفه لا ينطلي عليه ، ولذا فان عليه أن يكف في المستقبل عن كل مؤامراته ومخططاته .. وليكون المأمون بعد هذا غير مطمئن لأي عمل يقدم عليه ، وضعيف الثقة بكل الحيل والمؤامرات التي يحوكها. هذا بالاضافة إلى أن الناس سوف يشكون في طبيعية هذا الأمر ، وسلامة نوايا المأمون فيه ..

الموقف السادس :

ولم يكتف الامام (ع) بذلك كله .. بل كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون قد اكرهه على هذا الأمر ، وأجبره عليه ، وهدد بالقتل إن لم يقبل ..

يضاف إلى ذلك .. أنه كان يخبر الناس في مختلف المناسبات : أن المأمون سوف ينكث العهد ، ويغدر به .. حتى لقد قال في نفس مجلس البيعة للمستبشر : « لا تستبشر ؛ فانه شيء لا يتم ». بل لقد كتب في نفس وثيقة العهد ما يدل على ذلك دلالة واضحة ، كما سيأتي بيانه في الموقف الثامن ..

هذا عدا عن أنه كان يصرح بأنه لا يقتله إلا المأمون ، ولا يسمه إلا هو ، حتى لقد واجه نفس المأمون بهذا الأمر ..

بل إنه لم يكن يكتفي بمجرد القول ، وإنما كانت حالته على وجه العموم في فترة ولاية العهد تشير إلى عدم رضاه بهذا الامر ، وإلى أنه مكره مجبر عليه ..

حيث إنه كان على حد تعبير الرواة : « في ضيق شديد ، ومحنة عظيمة » و « لم يزل مغموما مكروبا حتى قبض » ، و « قبل البيعة ، وهو باك حزين » وكان كما يقول المدائني : « إذا رجع يوم الجمعة من

٣٢٥

الجامع ، وقد أصابه العرق والغبار ، رفع يديه وقال : « اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت ؛ فعجل لي الساعة (١) .. ».

إلى آخر ما هنالك ، مما لا يمكن استقصاؤه في مثل هذه العجالة ..

وواضح أن كل ذلك سوف يؤدي إلى عكس النتيجة ، التي كان يتوخاها المأمون من البيعة ؛ وخصوصا إذا ما أردنا الملائمة بين مواقفه هذه ، وموقفه في نيشابور ، وموقفه في صلاتي العيد في مرو.

الموقف السابع :

إنه (ع) كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له ، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله ، بعد أن كانوا قد اغتصبوه منهم ، بل واثبات أن خلافة المأمون ليست صحيحة ولا شرعية ..

أما ما يتعلق بصحة خلافة المأمون :

فنلاحظ : أنه (ع) حتى في كيفية البيعة يشير ـ على ما صرح به كثير من المؤرخين ـ إلى أن المأمون ، الذي يحتل عنوة مجلس رسول الله (ص) ، يجهل حتى كيفية ذلك العقد الذي خوّله ـ بنظره ـ أن يكون في ذلك المجلس الخطير ؛ حيث إنه (ع) : « .. رفع يده ؛ فتلقى بظهرها وجه نفسه ، وبطنها وجوههم ؛ فقال له المأمون : ابسط

__________________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٤٠ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥.

٣٢٦

يدل للبيعة ؛ فقال له : إن رسول الله هكذا كان يبايع ؛ فبايعته الناس .. » (١).

ونظير ذلك أيضا : ما روي من أن المأمون قد أمر الناس : أن يعودوا للبيعة من جديد ، عند ما أعلمه الإمام (ع) : بأن كل من كان قد بايعه ، قد بايعه بفسخ البيعة إلا الشاب الأخير .. وهاج الناس بسبب ذلك ، وعابوا المأمون على عدم معرفته بالعقد الصحيح والكيفية الصحيحة للبيعة وهذه القضية مذكورة في العديد من المصادر أيضا (٢).

وأما أن الخلافة حق للامام (ع) دون غيره :

فلعله لا يكاد يخفى على من له أدنى اطلاع على حياة الإمام (ع) ومواقفه وقد تحدثنا آنفا عن موقفه في نيشابور ، وهو في طريقه إلى مرو ، وكيف أنه (ع) جعل نفسه الشريفة والاعتراف بامامته شرطا لكلمة التوحيد ، والدخول في حصن الله الحصين ..

وأشرنا أيضا إلى أنه قد عدد الأئمة الشرعيين ، وهو أحدهم في عديد من المناسبات والمواقف حتى فيما كتبه للمأمون ..

بل لقد المح إلى ذلك أيضا بل لقد ذكره صراحة فيما كتبه على حاشية وثيقة العهد بخط يده.

كما أن من الامور الجديرة بالملاحظة هنا خطاب الإمام (ع) حينما بويع له بولاية العهد ، وهو ما يلي :

__________________

(١) راجع : المناقب ج ٤ ص ٣٦٩ ، ٣٦٤ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ ، وعلل الشرائع ، ومقاتل الطالبيين ، ونور الابصار ، ونزهة الجليس ، وعيون أخبار الرضا.

(٢) راجع : على سبيل المثال : شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤.

٣٢٧

« .. إن لنا عليكم حقا برسول الله ، ولكم علينا حق به ؛ فإذا أنتم أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم .. ».

ولم يؤثر عنه في ذلك المجلس غير ذلك .. وهو معروف ومشهور بين أرباب السير والتاريخ ..

ومن الواضح أن اقتصاره على هذه الكلمة في ذلك المجلس الذي يقتضي إيراد خطبة طويلة ، يتعرض فيها لمختلف المواضيع ، وعلى الأقل لشكر المأمون على ما خصه به من ولاية العهد بعده ـ إن اقتصاره على هذا ـ يعتبر أسلوبا رائعا لتركيز المفهوم الذي يريده الإمام (ع) في أذهان الناس ، وإعطائهم الانطباع الحقيقي عن البيعة ، وعن موقفه منها ، ومن جهاز الحكم ، في نفس مجلس البيعة ، حتى لا يبقى هناك مجال للتكهن بأن : الإمام كان يرغب في هذا الأمر ، ثم حدث ما أوجب غضبه وسخطه ، وقد يكون له الحق في ذلك وقد لا يكون ..

يضاف إلى كل ذلك أنه (ع) قال لحميد بن مهران ، حاجب المأمون :

« .. وأما ذكرك صاحبك ( يعني المأمون ، والمأمون جالس ) ، الذي أجّلني ؛ فما أحلني إلا المحل الذي أحله ملك مصر ليوسف الصديق (ع) ، وكانت حالهما ما قد علمت .. ».

كما أنه (ع) قد قال أكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة : « إن من أخذ برسول الله ؛ لحقيق بأن يعطي به » ، وذلك عند ما عرض له المأمون بالمن عليه بأن جعله ولي عهده ، وفي غير هذه المناسبة أيضا ..

المأمون يعترف بأحقية آل علي بالأمر :

ولعل من أعظم المواقف الجديرة بالتسجيل هنا موقفة (ع) مع المأمون ،

٣٢٨

عند ما حاول هذا أن يحصل منه (ع) على اعتراف بأن العباسيين والعلويين سواء بالنسبة لقرباهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك من أجل أن يثبت ـ بزعمه ـ أن له ولبني أبيه حقا في الخلافة ؛ فكانت النتيجة : أن نجح الإمام (ع) في انتزاع اعتراف من المأمون بأن العلويين هم الأقرب .. وتكون النتيجة ـ على حسب منطق المأمون ، ومنطق أسلافه كما قدمنا ـ هي : أن العلويين هم الأحق بالخلافة والرئاسة ، وأنه هو ، وآباءه غاصبون ، ومعتدون ..

فبينما المأمون والرضا (ع) يسيران ؛ إذ قال المأمون :

« .. يا أبا الحسن ، إني فكرت في شيء ؛ فنتج لي الفكر الصواب فيه : فكرت في أمرنا وأمركم ، ونسبنا ونسبكم ؛ فوجدت الفضيلة فيه واحدة ، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية ..

فقال له أبو الحسن الرضا (ع) : إن لهذا الكلام جوابا ، إن شئت ذكرته لك ، وإن شئت أمسكت ..

فقال له المأمون : إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه ..

قال له الرضا (ع) : أنشدك الله يا أمير المؤمنين ، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمدا (ص) ؛ فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام ، يخطب إليك ابنتك ، كنت مزوجه إياها؟ ..

فقال : يا سبحان الله ، وهل أحد يرغب عن رسول الله (ص)؟!.

فقال له الرضا (ع) : أفتراه كان يحل له أن يخطب إليّ؟ ..

قال : فسكت المأمون هنيئة ، ثم قال :

« أنتم والله ، أمس برسول الله رحما .. » (١).

__________________

(١) كنز الفوائد للكراجكي ص ١٦٦ ، والفصول المختارة من العيون والمحاسن ص ١٥ ، ١٦ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٨ ، ومسند الامام الرضا عليه‌السلام ج ١ ص ١٠٠.

٣٢٩

وكانت هذه ضربة قاضية وقاصمة للمأمون. لم يكن قد حسب لها أي حساب. ولم يكن ليتمكن في مقابل ذلك من أي عمل ضد الإمام (ع) ؛ بعد أن كان هو الجاني على نفسه ؛ ف « على نفسها جنت براقش ».

وبعد كل ذلك فقد قدمنا قول ابن المعتز :

وأعطاكم المأمون حق خلافة

لنا حقها ، لكنه جاد بالدنيا

وخلاصة الأمر :

انه (ع) لم يكن يدخر وسعا في إحباط مسعى المأمون ، وتضييع الفرصة عليه ، وإفهام الناس أنه مكره على هذا الأمر ، مجبر عليه .. والتأكيد على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له ؛ ولذا فلا يمكن أن يعتبر قبوله بولاية العهد اعترافا بشرعية الخلافة العباسية ، أو بشرعية أي تصرف من تصرفاتها. كما أنه إذا كان ذلك حقا للامام قد اغتصبه الغاصبون ، واعتدى عليه فيه المعتدون ؛ فليس للمأمون حق في أن يعرض له (ع) بالمن عليه ، بما جعل له من ولاية العهد ..

وكذلك ليس للمأمون بعد : أن يدعي العدل والانصاف ، فضلا عن الايثار والتضحية في سبيل الآخرين ؛ بعد أن فضح الإمام اهدافه من لعبته تلك ، وعرف كل أحد أنها لم تكن شريفة ولا سليمة ..

الاكذوبة المفضوحة :

وبعد .. فقد ذكر بعض أهل الأهواء ، كابن قتيبة ، وابن عبد ربه ، واقعة خيالية ، غير تلك التي ذكرناها آنفا وهي :

أن المأمون قال لعلي بن موسى : علام تدعون هذا الأمر؟! ..

قال : « بقرابة علي وفاطمة من رسول الله (ص) .. »

٣٣٠

فقال المأمون : « إن لم تكن إلا القرابة ، فقد خلف رسول الله (ص) من هو أقرب إليه من علي ، أو من هو في قعدده. وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول الله (ص) ؛ فإن الأمر بعدها للحسن ، والحسين ؛ فقد ابتزهما علي حقهما ، وهما حيان ، صحيحان ، فاستولى على ما لا حق له فيه .. ».

فلم يحر علي بن موسى له جوابا (١) .. انتهى ..

وهي واقعة مزيفة ومجعولة من أجل التغطية على الواقعة الحقيقية ، التي جرت بينهما ، والتي تنسجم مع كل الأحداث والوقائع ، وجميع الدلائل والشواهد متظافرة على صحتها ، ألا وهي تلك التي قدمناها آنفا ..

والدليل على زيف هذه الرواية : أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البيت ورأيهم في الخلافة ومستحقها ؛ لأنهم يرون ـ كما تدل عليه تصريحاتهم المتكررة ، وأقوالهم المتضافرة ـ : أن منصب الإمامة لا يكون إلا بالنص.

وأما الاستدلال بالقرابة ؛ فقد قلنا في الفصل الأول من هذا الكتاب : أن أول من التجأ إليه أبو بكر ، ثم عمر. ثم الامويون ، فالعباسيون ، ثم أكثر ، إن لم يكن كل مطالب بالخلافة .. وأنه إذا كان في كلام الأئمة وشيعتهم ما يفهم منه ذلك ، فإنما اقتضاه الحجاج مع خصومهم.

وبعد .. فهل يخفى على الإمام (ع) ضعف ووهن هذه الحجة ؛ مع أننا نراه يصرح في أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدي ولا تفيد ـ كما سنشير إليه ـ وانه لا بد في الإمام من جدارة وأهلية في مختلف الجهات ، وعلى جميع المستويات.

ولقد كان على المأمون ـ لو صحت هذه الرواية ـ أن يغتنمها فرصة ،

__________________

(١) راجع : عيون الاخبار ج ٢ ص ١٤٠ ، ١٤١ ، طبع مصر سنة ١٣٤٦ ، والعقد الفريد ج ٥ ص ١٠٢ ، وج ٢ ص ٣٨٦ ، طبع دار الكتاب العربي ..

٣٣١

ويعلنها على الناس جميعا ، ويشهّر بالإمام (ع) ؛ ليسقطه ـ ومن ثم .. يسقط العلويين كلهم من أعين الناس .. ويسلبهم وإلى الابد السلاح الذي كانوا يحاربونه ويحاربون آباءه به .. مع أن ذلك هو ما كان يبحث عنه المأمون ليل نهار ، ويدبر المكايد ، ويعمل الحيل ، من أجله ، وفي سبيله ..

وعدا عن ذلك كله .. كيف يمكن أن تنسجم هذه الرواية مع مواقف الإمام ، وتصريحاته المتكررة حول مسألة الامامة ، وبأي شيء تثبت ، وحول أوصاف الإمام ووظائفه ، والتي لو أردنا استقصاءها لاحتجنا إلى عشرات الصفحات؟!!.

وكذلك .. مع احتجاج الإمام (ع) على العلماء والمأمون في اكثر من مناسبة بالنص ، وأيضا مع موقفه (ع) في نيشابور؟!

اللهم إلا أن يكون أعلم أهل الأرض ـ باعتراف المأمون قد نسي حجته ، وحجة آبائه ، وكل من ينتسب إليهم ، ويذهب مذهبهم .. تلك الحجة ـ التي عرفوا وكل المتشيعين لهم بها على مدى الزمان ـ نسيها ـ في تلك اللحظة فقط ؛ لأن المأمون هو الذي يسأل ، والرضا هو الذي يجيب!!!.

وبعد ؛ فهل يستطيع أن يشك في ذلك أحد .. وهو يرى رسالة الرضا ، التي كتبها للمأمون تلبية لطلبه ، وجمع له بها أصول الاسلام ، والتي صرح فيها بالنص على علي (ع). بل وذكر فيها الائمة الاثني عشر ، الذين نص عليهم النبي (ص) كلهم بأسمائهم ، حتى من لم يكن قد ولد بعد منهم؟!. وهذه الرسالة مشهورة وقد أوردها واستشهد بها غير واحد من المؤرخين والباحثين (١) ..

__________________

(١) وكان آخرهم الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه : نظرية الامامة ص ٣٨٨ ، وقال : إنها من المخطوطات الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم ١٢٥٨.

٣٣٢

وفيها يصف الإمام (ع) أئمة الهدى أدق وصف ، وأروعه ، وأوفاه ..

بل إن المأمون نفسه كان يرى وجوب نصب الإمام من قبل الله كالنبي ، كما يتضح من مناظرته الشهيرة لعلماء وقته ، التي أوردها غير واحد من كتب التاريخ ، والأدب ، والرواية ، وذكرها في العقد الفريد أيضا قبل ذكره لهذه الرواية المفتعلة. وإن كان قد تصرف فيها ( أي في المناظرة ) ؛ فحرف فيها ، وحذف منها الكثير .. وأشار إليها أيضا أحمد أمين في ضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٧ ، وغيره ..

فلماذا لا يلزمه الإمام بمقالته التي كان يلزم نفسه بها؟!. أم يمكن أن لا يكون مطلعا على مقالة المأمون هذه ، التي سار ذكرها في الآفاق؟!.

ويحسن بنا هنا أن ننبه إلى أن الاختلاف في نقل مثل هذه القضايا ، حسب أهواء الناقلين لم يكن بالأمر الذي يخفى على أحد ؛ فقد رأينا : أن جواب أحمد بن حنبل في المحنة بخلق القرآن ، يرويه كل من الشيعة ، والمعتزلة ، وأهل السنة بصور ثلاثة مختلفة. ومناظرة هشام لأبي الهذيل العلاف يروي المعتزلة أن الغلبة فيها كانت لأبي الهذيل ، بينما يروي الشيعة ، ويؤيدهم المسعودي (١) أن الغلبة فيها كانت لهشام. إلى غير ذلك من عشرات القضايا بل المئات ..

ولكن الأمر هنا مختلف تماما ؛ إذ أن مختلق الرواية هنا قد غفل عن أن روايته المفتعلة تتنافى كليا مع نظرة الأئمة عليهم‌السلام ورأيهم في الخلافة ومستحقها .. ويبدو أنه لم يكن مطلعا على الآراء المختلفة الشائعة آنذاك في مسألة الإمامة ؛ ولذا نراه ينسب إلى الإمام (ع) رأيا لا يقول به ، ولا يقره. وإنما هو يناسب رأي الشيعة الزيدية القائلين بإمامة ولد علي (ع) من فاطمة ؛ بشرط أن يكون بليغا ، شجاعا ، عادلا مجتهدا ،

__________________

(١) مروج الذهب ج ٤ ص ٢١.

٣٣٣

يخرج بالسيف ضد كل ظلم وانحراف إلخ .. وبأن إمامة علي (ع) قد ثبتت بالوصف والإشارة إليه ، لا بالتصريح والنص عليه (١).

كما أنه غفل عن أن الذين كانوا يحتجون بالقرابة والإرث هم العباسيون ، الذين كانوا إلى عصر المهدي ـ كما قدمنا ـ يدّعون انتقال الخلافة إليهم عن طريق علي (ع) ، ومحمد بن الحنفية ، وفي عصر المهدي عدلوا عن ذلك ؛ لما يتضمنه من اعتراف للعلويين. ورأوا أن يجعلوا إمامتهم عن طريق العباس وأبنائه .. وحاولوا تقوية هذه النحلة بكل وسيلة ، وبذلوا من أجلها الأموال الطائلة للعلماء والفقهاء ، والشعراء.

ولم يكن لتخفى على أحد أبيات مروان بن أبي حفصة المتقدمة :

هل تطمسون من السماء نجومها

أو تسترون إلخ ..

ولا قوله :

أنى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

وقد أجابه جعفر بن عفان المعاصر له. على هذا البيت بقوله :

ما للطليق وللتراث وإنما

صلى الطليق مخافة الصمصام (٢)

وكيف يخفى كل ذلك على الإمام (ع) ، خصوصا بعد أن كان الجدل في هذا الموضوع قائما على قدم وساق في زمن هارون ، بل وفي زمن المأمون كما يظهر من قول ابن شكلة المتقدم :

فضجت أن تشد على رءوس

تطالبها بميراث النبي

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ١٩٧ ر ١٩٨.

(٢) مقتل الحسين للمقرم ص ١١٩ ، والاغاني ج ٩ ص ٤٥ ، طبع ساسي ، والادب في ظل التشيع ص ٢٠١ ، وضحى الاسلام ج ٣ ص ٣١٣ ، وقاموس الرجال ج ٢ ص ٣٩٣ ، وغير ذلك.

٣٣٤

ومن قول القاسم بن يوسف وهي قصيدة طويلة فلتراجع (١)

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه .. وبعد كل تلك الوقائع الشهيرة التي حدثت قبل خلافة المأمون ، واثناءها بالنسبة لدعوى العباسيين هذه ؛ فلا يمكن أبدا أن تجري المحاورة بين أعلم أهل الأرض ( باعتراف المأمون ) وبين المأمون أعلم خلفاء بني العباس على هذا النحو من السذاجة والبساطة .. اللهم إلا إذا كان أعلم أهل الأرض ، لا يرى ولا يسمع ، أو أنه كان يعيش في غير هذا العالم ، أو في سرداب تحت الأرض .. واللهم إلا إذا كان القائل : ما للطليق وللتراث إلخ .. أعلم بالحجة للدعوى التي يدعيها أعلم أهل الأرض من مدعي الدعوى نفسه .. وهل لم يكن يحسن أن يقول للمأمون ـ لو سلم أنه احتج بالقرابة ـ : إن قرابة العباس لا تفيده ؛ بعد أن تخلى عنها يوم الانذار. وبعد أن كان من الظالمين ، الذين حرمهم الله من عهده ، حيث قال تعالى : « لا ينال عهدي الظالمين ». وبعد أن ترك الهجرة معه (ص). وبعد أن حارب النبي (ص) يوم بدر. وبعد جهله بالدين واحكامه ؛ ولقد قال سبحانه : « أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتّبع ، أمّن لا يهدّي إلا أن يهدى ، فما لكم كيف تحكمون .. » (٢). إلى آخر ما هنالك ..

وأخيرا .. وبعد أن لم يبق مجال للشك في زيف هذه الرواية وافتعالها .. فإننا نرى أن لنا كل الحق في أن نسجل هنا : أنه لم يخف علينا ، ونأمل أن لا يخفى على أحد سرّ ذكر ابن عبد ربه هذه الرواية المزيفة المفتعلة ، بعد ذكره لرواية احتجاج المأمون على علماء وقته في أفضلية علي (ع) على جميع الخلق ، والتي تصرف فيها ما شاء له حقده ونصبه ،

__________________

(١) الاوراق للصولي ص ١٨٠. وقد تقدم شطر منها في بعض فصول هذا الكتاب.

(٢) يونس آية ٣٥.

٣٣٥

الحذف والتحريف ؛ فإنه ـ على ما يبدو ـ ليس إلا من أجل التشويش على تلك ، وإبطال كل أثر لها ، ظلما للحقيقة ، وتجنيا على التاريخ ..

الموقف الثامن :

وأعتقد أنه أعظمها أثرا ، وأعمها نفعا ، وهو ما كتبه (ع) على وثيقة العهد ، التي كتبها المأمون بخط يده ..

فإننا إذا ما رجعنا إليه نجد : أن كل سطر فيه ، بل كل كلمة لها مغزى عميق ، ودلالة هامة ، تلقي لنا ضوءا كاشفا على خطته (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون ، وخططه ، وأهدافه ..

فلقد كان يعلم : أن هذه الوثيقة ستقرأ في مختلف الأقطار الإسلامية ؛ ولذلك نراه (ع) قد اتخذها وسيلة لإبلاغ الامة الحقيقة كل الحقيقة ، وتعريفها بواقع نوايا وأهداف المأمون. وأيضا تأكيد حق العلويين ، وكشف المؤامرة التي تحاك ضدهم ..

فبينما نراه (ع) يبدأ كلامه ـ فيما كتبه في الوثيقة المشار إليها ـ بداية غير طبيعية ، ولا مألوفة في مناسبات كهذه حيث قال : « الحمد لله الفعال لما يشاء ، ولا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه .. » .. لا يأتي بعدها بما يناسب المقام ، ويتلائم مع سياق الكلام ، من تمجيد الله ، والثناء عليه على أن ألهم أمير المؤمنين!! هذا الأمر .. بل نراه يأتي بعبارة غريبة ، وغير متوقعة ؛ ألا وهي قوله : « يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور الخ .. ».

أفلا توافقني ـ قارئي العزيز ـ على أنه (ع) يريد أن يوجه أنظار الناس إلى أن الأمر ينطوي على خيانة مبيتة ، وأن هناك صدورا تخفي غير ما تظهر؟!. ثم .. ألا توافقني على أن هذه العبارة تعريض بالمأمون

٣٣٦

نفسه ؛ من أجل تعريف الناس بحقيقة نواياه وأهدافه؟!. هذا مع علمه (ع) بأن هذه الوثيقة سوف ترسل إلى مختلف أقطار العالم الاسلامي ؛ لتقرأ على الملأ العام ، كما حدث ذلك بالفعل ..

وإذا ما وصلنا إلى فقرة أخرى ، مما كتبه (ع) على وثيقة العهد ؛ فإننا نراه يقول : « .. وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين ، وآله الطيبين الطاهرين .. » فإننا إذا لاحظنا : أنه لم تجر العادة في الوثائق الرسمية في ذلك العهد بعطف « الآل » على « محمد » ، ثم توصيفهم بـ « الطيبين الطاهرين » ـ نعرف أن هذا ليس إلا ضربة أخرى للخليفة المأمون ، وهجوم آخر عليه ؛ حيث إنه يتضمن التأكيد على طهارة أصل الإمام (ع) ، وسنخه ، ومحتده ؛ وعلى أن الآل قد اختصوا بهذه المزية ، وليس لكل من سواهم ، حتى الخليفة المأمون ، مثل هذا الشرف ، ولا مثل تلك المزية ..

ثم نراه (ع) يعقب ذلك بقوله : « .. إن أمير المؤمنين .... عرف من حقنا ما جهله غيره .. » ..

فما هو ذلك الحق الذي جهله الناس كلهم ، حتى بني العباس ، فيما عدا المأمون؟! ..

فهل يمكن أن تكون الامة الاسلامية قد انكرت أنهم (ع) ابناء بنت رسول الله (ص)؟!!. أليس ذلك منه (ع) إعلان للامة بأسرها بأن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له ، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله ، بعد أن كان قد اغتصبه منهم الغاصبون ، واعتدى عليهم به المعتدون؟! .. بل أليس ذلك ضربة للمأمون نفسه ، وأن خلافته ليست شرعية ، ولا صحيحة ؛ لأنه كآبائه مغتصب لحق غيره؟!.

نعم .. إن الحق الذي جهله الناس هو حق الطاعة. ولم يكن

٣٣٧

الإمام (ع) يتقي المأمون ، ولا غيره من رجال الدولة ، في إظهار هذا الحق ، وبيان أن خلافة الرسول (ص) إنما كانت في علي (ع) ، وولده الطاهرين ، وأنه يجب على الناس كلهم طاعتهم ، والانقياد لهم. وقد اعلن (ع) ذلك في نيشابور كما قدمنا .. ورأيناه يصرح به ، ويطلب من الناس أن يعلم شاهدهم غائبهم به ، في محضر من رجال الدولة في خراسان ، ففي الكافي : بسنده عن محمد بن زيد الطبري قال : كنت قائما على رأس الرضا (ع) بخراسان ، وعنده عدة من بني هاشم ، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ؛ فقال : « يا إسحاق ، بلغني أن الناس يقولون : إنا نزعم : أن الناس عبيد لنا!!. لا وقرابتي من رسول الله (ص) ما قلته قط ، ولا سمعته من آبائي قاله ، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله ، ولكنني أقول : الناس عبيد لنا في الطاعة ، موال لنا في الدين ؛ فليبلغ الشاهد الغائب .. » (١).

وستأتي الاشارة إلى هذه الرواية مرة أخرى في الفصل الآتي .. وليتأمّل في عبارته الأخيرة. فليبلغ إلخ .. وليلاحظ أيضا أنه اختار لتوجيه خطابه : اسحاق بن موسى بن عيسى العباسي!!!

وفي الكافي أيضا بسنده عن معمر بن خلاد قال : سأل رجل فارسي أبا الحسن (ع) ، فقال : طاعتك مفترضة؟. فقال : نعم. قال : مثل طاعة علي بن أبي طالب (ع)؟. قال : نعم (٢).

والمراد بأبي الحسن هو الرضا (ع) ؛ لأنه هو الذي كان في خراسان ، وهو الذي يروي عنه معمر بن خلاد كثيرا .. ومثل ذلك كثير لا مجال لتتبعه ..

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٨٧ ، وأمالي المفيد ص ١٤٨ ط النجف وأمالي الطوسي ج ١ ص ٢١ ، ومسند الامام الرضا عليه‌السلام ج ١ ص ٩٦.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٨٧ ؛ والاختصاص ٢٧٨ ، ومسند الامام الرضا ج ١ ص ١٠٣ عنه ..

٣٣٨

ويقول (ع) في وثيقة العهد ، بعد تلك العبارة مباشرة : « .. فوصل أرحاما قطعت ، وآمن أنفسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ».

فهو كما ترى .. في حين يشكر المأمون ، ويكتب تحت اسمه : « بل جعلت فداك » ( حسب رواية الإربلي فقط ) ، لا ينسى أن يشوب ذلك بالازراء ضمنا على آبائه العباسيين. ويذكر بما اقترفوه في حق العلويين ، حيث كانوا يلاحقونهم تحت كل حجر ومدر ، ويطلبونهم في كل سهل وجبل ، كما قدمنا ..

هذا .. ولا بأس أن نقف قليلا عند قوله : « وانه جعل إلى عهده ، والامرة الكبرى ـ إن بقيت ـ بعده .. ».

فإننا لا نكاد نتردد في أنه (ع) يشير بقوله : « إن بقيت بعده » إلى ذلك الفارق الكبير بالسن بينه (ع) ، وبين المأمون. وأنه يعتمد توجيه الأنظار إلى عدم طبيعية هذا الأمر ، وإلى عدم رغبته فيه.

وإنه كان يريد أن يعرف الناس بأنه يتوقع في أن لا يدخر المأمون وسعا من أجل التخلص منه ، ولو بالاعتداء على حياته (ع) ، فيما لو سنحت له الفرصة لذلك ، بعد أن يكون قد حقق كل ما كان يريد تحقيقه ، ووصل إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه ؛ حيث لا بد حينئذ أن « يحل العقدة التي أمر الله بشدها ». ولا بد أيضا أن تنكشف خيانته للملإ ، ويظهر ما يخفيه في صدره ، على حد تعبيره (ع) .. وإلا فما هو الداعي له (ع) لاقحام هذا الشرط ـ إن بقيت ـ في أثناء مثل هذا الكلام ..

وإننا إذا نظرنا بعمق إلى قوله بعد ذلك : فمن حل عقدة أمر الله بشدها ، وفصم عروة أحب الله إيثاقها .. ». وتأملنا قوله السابق :

٣٣٩

يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور. وقوله اللاحق : لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين ، وآثرت رضاه .. فلسوف نعرف : أنه (ع) يعرض هنا بالمأمون نفسه ، ويقول للناس جميعا : إنه لا يشك في أن المأمون سوف ينقض العهد ، ويحل العقدة.

ويلاحظ هنا أيضا : أنه وصف هذه العقدة بأنها مما أمر الله بشده ، وأحب إيثاقه .. وهذا لعله لا يختلف عما كان (ع) يردده ، ويؤكد عليه كثيرا ، ونص عليه آنفا ، وهو أن المأمون لم يجعل له إلا الحق الذي جهله غيره ، واغتصبه هو وآباؤه ، منه (ع) ومن آبائه ..

وإذا ما وصلنا إلى قوله (ع) : « .. بذلك جرى السالف ، فصبر منه على الفلتات ، ولم يعترض بعدها على العزمات ، خوفا من شتات الدين ، واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية الخ .. ».

فإننا نراه كأنه يستشهد لاطاعته المأمون ، وعدم اصراره على الرفض الموجب لتعريض نفسه ، والعلويين ، وشيعته للهلاك ، والاضطهاد ـ يستشهد لذلك ـ بما جرى لسالفه : وهو أمير المؤمنين علي (ع) ، حيث صبر على الفلتات (١) التي كانت من خلفاء عصره ، ولم يعترض (ع) على ما كانوا قد عقدوا العزم عليه ، من المضي قدما في مخططاتهم ، التي كانت تستهدف إبعاده عن مسرح السياسة ، وتكريس الأمر الواقع ، وتثبيته ، لأنه يخدم مصالحهم ، ويرضي مطامحهم ..

ـ لم يعترض علي (ع) على ذلك ـ لأنه خاف من شتات الدين ،

__________________

(١) ومن المحتمل جدا أنه عليه‌السلام : يشير إلى تعبير عمر ـ كانت بيعة أبي بكر فلتة إلخ ـ. ولكنه عمم الكلام بحيث يشمل غير بيعة أبي بكر أيضا ؛ باعتبار أن بيعة عمر وعثمان ، ومعاوية وغيرها ، كانت أيضا من الفلتات ، أو باعتبار تفرعها على بيعة أبي بكر التي كانت فلتة ..

٣٤٠