الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

يستطيع أن يكون في المستقبل قائدا للحركة المضادة للمأمون ، ونظام حكمه ، القائم على غير أساس شرعي ، ومنطقي سليم (١) ..

لا يرضى الإمام (ع) ، ولا يقتنع المأمون :

لا .. لا يمكن أن يرضى الإمام بذلك ، وخصوصا بعد أن تلقى العلم عن آبائه الصادقين ، عن النبي (ص) الذي لا ينطق عن الهوى : بأن ذلك شيء لا يتم ، وأوضح ذلك بما كتبه على وثيقة العهد الآتية بخط يده ، حيث قال : « والجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك ، لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين .. ».

لا .. لا يمكن أن يرضى ببيعة يعلم أنها لا تتم له ، وإنما تخدم مصالح آخرين. وتحقق لهم مآربهم ، على حساب الدين ، والامة ؛ ولهذا رفض بشدة وعنف ، وأصر عليه المأمون بشدة وعنف أيضا ..

ولم يكن ليقنع المأمون شيء ، بعد أن كان يرى أن القضية بالنسبة إليه قضية مصير ومستقبل. وهو مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل مصيره ومستقبله ، كما ضحى بأخيه وأشياعه من قبل ..

وإنه إذا تأكد لديه رفض الإمام (ع) القاطع ، وتصور ما سوف تؤول إليه حاله نتيجة لذلك الرفض ؛ فلسوف لا يألو جهدا ، ولا يدخر

__________________

(١) وفي كتاب : الامامة للشيخ محمد حسن آل ياسين ص ٨٦ ، قال إنه عليه‌السلام وافق على فكرة ولاية العهد ؛ لتكون فترة امتحان وتجربة للمأمون ..

ولا يخفى ما فيه ؛ فان كل الدلائل والشواهد كانت تشير إلى أن الامام عليه‌السلام كان يعلم بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه ، ولم تكن ثمة حاجة إلى امتحان وتجربة ، كما اتضح وسيتضح إن شاء الله تعالى ..

٣٠١

وسعا في الانتقام لنفسه من الإمام (ع) ، ومن كل من تصل إليه يده ، ممن له به (ع) أية صلة أو رابطة ..

هي قضية مصير :

وبأوضح بيان نقول : إنه لم يكن امتناع الإمام (ع) عن قبول ولاية العهد بالذي يثني المأمون عما كان قد عقد العزم عليه ؛ لأن الاسباب التي كانت تدعوه لذلك لم تكن تسمح له أبدا بالاصغاء لهذا الرفض ؛ فهي تحتم عليه أن يفعل ذلك ، مهما كلفه الأمر ، ومهما كانت النتائج.

ولم يكن لديه مانع من تنفيذ تهديداته ، لو علم أنه لا سبيل إلى تنفيذ ما يصبو إليه ، والحصول على ما يريد الحصول عليه ؛ فالقضية بالنسبة إليه هو المتعطش إلى الحكم والسلطة قضية مصير ومستقبل ، لا يمكن المساومة معها ، ولا مجال لغض النظر والتساهل فيها ..

وإذا كان قد قتل أخاه من أجل الملك وفي سبيله ؛ فأي مانع يمنعه من قتل الرضا (ع) من أجل الملك أيضا ، وفي سبيله .. أم يعقل أن يكون الرضا أعز عليه من أخيه ، وسائر من قتل من وزرائه هو ، وقواده ، وأشياعه؟!؟ ..

ولسوف لا نستغرب على المأمون ـ بعد قتله أخاه ـ الاقدام على أي تصرف في سبيل الملك ، حتى الاقدام على قتل الرضا (ع) ، بعد أن كان أبوه الرشيد قد أملى عليه درس « الملك عقيم » ، وقال له : « والله ، لو نازعتني أنت هذا الأمر ؛ لأخذت الذي فيه عيناك ؛ فإن الملك عقيم .. » (١).

__________________

(١) شرح ميمية أبي فراس ص ٧٣ ، والبحار ج ٤٨ ص ١٣١ ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٧٠ ، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩١ ، وينابيع المودة ص ٣٨٣ ، مع بعض تحريف لها ، وغير ذلك ..

٣٠٢

ولم يكن ليخفى عليه أيضا قول موسى بن عيسى ، عند ما رأى عبادة الحسين بن علي وأصحابه ، في وقعة فخ : « .. هم والله ، اكرم عند الله ، وأحق بما في أيدينا منا ، ولكن الملك عقيم. ولو أن صاحب هذا القبر ( يعني النبي (ص)) ، نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف .. » (١). والمنصور أيضا قد قرر هذه القاعدة بالذّات حينما اعترض عليه سليمان بن مهران الاعمش على قتله أولاد علي (ع) (٢).

وهذا الدرس قد أخذه الكل عن عبد الملك بن مروان ؛ فإنه عند ما قتل مصعب بن الزبير بكى ، وقال : « لقد كان أحب الناس إليّ ، وأشدهم مودة لي ، ولكن الملك عقيم ؛ ليس أحد يريده من ولد ولا والد إلا كان السيف » (٣).

بل وحتى نفس أخيه الأمين ، عند ما لم يعد له نجاة من براثن أخيه المأمون ، نراه يتذكر هذه القاعدة ، فيقول : « هيهات ، الملك عقيم ، لا رحم له .. » (٤).

ولقد عمل المأمون بهذه القاعدة ؛ فقتل أخاه ، وأعطى الذي جاءه برأسه مليون درهم ، بعد أن سجد شكرا لله ، ونصب الرأس على خشبة ليلعنه الناس ، إلى آخر ما مر تفصيله ..

وإذا كانت القضية بالنسبة إلى المأمون قضية مصير ومستقبل وقضية ملك وسلطان ؛ فطبيعي إذن أن نراه يخاطر بالخلافة ( وان كنا قدمنا أن ذلك كان منه سياسة ودهاء من أجل التمهيد لفرض ولاية العهد ) ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٥٣ ، وثمرات الأعواد ١٩٩ ، ٢٠٠ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ٧٤.

(٢) مناقب الخوارزمي ص ٢٠٨.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ٢٩٦ ، وطبقات ابن سعد ج ٥ ص ١٦٨ ، والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣١٦.

(٤) تتمة المنتهى ص ١٨٥.

٣٠٣

وأقدم على التخلي عن ولاية العهد ، مع أن العباس ابنه وسائر ولده كانوا أحب إلى قلبه ، وأجلى في عينه من كل أحد ، على حد تعبيره في رسالته للعباسيين ..

ولقد قدمنا الشرح الكافي والوافي لحقيقة الظروف والأسباب ، التي دعت المأمون إلى ذلك ، والتي هي دون شك كافية لأن تجعل المأمون يقدم على أي عمل ـ ولو كان انتحاريا ـ من أجل انقاذ نفسه وخلافته ، والعباسيين .. حتى ولو كان ذلك الشيء هو قتل الإمام (ع) .. ولقد أخبر الإمام كرّات ، ومرات : أنه لم يقبل إلا بعد أن اشرف من المأمون على الهلاك ..

مبررات قبول الإمام لولاية العهد :

ولقد قبل الإمام (ع) ولاية العهد ، ولكن .. بعد أن عرف أن ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه. هذا عدا عما سوف يتبع ذلك من تعرض العلويين ، وكل من يتشيع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها .. ولو فرض أنه كان له هو (ع) الحق ـ في مثل هذه الظروف ـ في أن يعرض نفسه للهلاك ، فلن يكون له حق أبدا في أن يعرض غيره من شيعته ومحبيه ، والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضا ..

هذا .. عدا عن أنه (ع) كان عليه أن يحتفظ بحياته ، وحياة شيعته ومحبيه ؛ لأن الامة كانت بأمس الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم ؛ ليكونوا لها قدوة ومنارا ، تهتدي ، وتقتدي به ، في حالكات المشاكل ، وظلم الشبهات ..

نعم .. لقد كانت الامة بأمس الحاجة إلى الإمام (ع) ، وإلى من رباهم الإمام ؛ حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري ، وثقافي غريب ، من الزندقة والالحاد ، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات

٣٠٤

بالمبادئ الإلهية الحقة ؛ فكان على الإمام (ع) أن يقف ، ويقوم بواجبه ، وينقذ الامة ، ولقد كان ذلك منه بالفعل ؛ فلقد قام بواجبه ، وأدى ما عليه ، على أكمل وجه ، رغم قصر المدة التي عاشها بعد البيعة نسبيا ؛ ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية ؛ « .. السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين ؛ حتى خصم أهل الكتب ، وثبت قواعد الدين .. » (١)

والمراد بذلك : الإمام الرضا (ع) ..

ولو أنه (ع) رفض ولاية العهد ، وعرض نفسه ، وشيعته ، ومحبيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته ؛ وموتهم أدنى أثر في هذا السبيل ، بل كان الاثر عكسيا ، وخطيرا جدا ..

أضف إلى ذلك : أن قبول الإمام بولاية العهد ، معناه اعتراف من العباسيين عملا ، مضافا إلى القول : بأن العلويين لهم حق في هذا الأمر ، بل إنهم هم الأحق فيه ، وأن الناس قد ظلموهم حقهم هذا. وأن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحق لهم ..

وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا وليا للعهد ، لا يعني أن الحق في الخلافة كان للرضا والعلويين ، دون المأمون والعباسيين ؛ وأنه انما أعطاهم ذلك عن طريق التقوى والورع ، وليثبت لهم أن الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا انفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضه ، فهو يقول :

وأعطاكم المأمون حق خلافة

لنا حقها لكنه جاد بالدنيا

ليعلمكم أن التي قد حرصتم

عليها وغودرتم على اثرها صرعى

__________________

(١) البحار ج ١٠٢ ص ٥٣.

٣٠٥

يسير عليه فقدها غير مكثر

كما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

فمات الرضا من بعد ما قد علمتم

ولاذت بنا من بعده مرة أخرى (١)

وأيضا .. حتى لا يتناساهم الناس ، ويقطعوا آمالهم بهم. وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنهم مجرد علماء فقهاء ، لا يهمهم العمل لما فيه خير الامة. ولا يفكرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم رواد صلاح واصلاح ولعل إلى ذلك كله ، يشير الإمام (ع) في قوله لمحمد ابن عرفة ، عند ما سأله عن قبوله بولاية العهد ؛ فقال له : « يا ابن رسول الله ، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟!! » .. فأجابه الإمام (ع) : « ما حمل جدي على الدخول في الشورى .. » (٢).

هذا بالإضافة إلى أنه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الناس ، وعرّفهم بواقع واهداف كل ما أقدم عليه ، وأزال كل شبهة ولبس في ذلك. كما قد حدث ذلك بالفعل ..

هل الإمام راغب في هذا الأمر :

ولكن هذا كله وسواه ، لا يعني أن الإمام (ع) كان راغبا في أي من الخلافة ، أو ولاية العهد ؛ فإن ما ذكرناه لا يبرر ذلك ؛ حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان يمكن الحصول على بعضها

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٦٥. وديوان ابن المعتز ص ٢٢ ـ ٢٣ وان اهتمام ابن المعتز الواضح بقضية الرضا مع المأمون ، كما يظهر من شعره هنا ، والذي قدمناه مع التعليق عليه في فصل : ظروف البيعة .. يدلنا على أن هذه القضية كان لها في الامة صدى واسعا ، وآثارا هامة ، لم يكن بوسع ابن المعتز التغاضي عنها ، والسكوت عليها.

(٢) راجع : مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٤ ، ومعادن الحكمة ص ١٩٢ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٠ ١٤١.

٣٠٦

من دون الدخول في هذا الأمر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره ، ما سوف يجره الدخول في هذا الأمر من مآس ومشاكل ، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة.

وقد قدمنا في الفصل السابق البيان الكافي والوافي ، لما سوف يعترض طريق الإمام (ع) من عقبات في الحكم ؛ لو أنه كان قبل عرض الخلافة ، وكيف ستكون النهاية له ، ولنظام حكمه ..

وهو يوضح لنا أيضا حقيقة حاله ، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد أيضا ؛ إذ أنه (ع) كان يعلم : أن وصوله للخلافة ، وتسلمه لأزمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة ، وأهوال عظيمة ، لن يكون من اليسير التغلب عليها ، وتجاوزها.

فلقد كان يعلم ـ كما أظهرت الأحداث والوقائع بعد ذلك ـ أنه لن يسلم من دسائس المأمون وأشياعه ، بحيث يبقى محتفظا بحياته ، أو على الأقل بمركزه ، إلى ما بعد وفاة المأمون ، ولم يكن يشك في أن المأمون سوف يقدم على كل غريبة ؛ من أجل التخلص منه ، وتصفيته ، إن جسديا ، وان معنويا ..

بل .. وحتى لو أن المأمون لم يقدم على أي عمل ، فإن آماله بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون ، وهو بهذه السن المتقدمة ، بالنسبة لسن المأمون .. كانت ضعيفة جدا ، لا تبرر له الاقدام على قبول مثل هذا الأمر ، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعا عن نفسه ، بأنه لم يزهد بالدنيا ، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه ، كما كان يريد المأمون!!!

ومع غض النظر عن كل ذلك .. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون ، فلسوف يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة عامة ، وفوق

٣٠٧

ذلك كله ، لسوف يصطدم بمؤامرات العباسيين ، وأشياعهم ، والذين كانوا على استعداد لأن يعملوا المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك ، ولو تمكن من ذلك ؛ فلسوف لا يدخرون وسعا ، ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول ؛ من أجل زعزعة حكمه ، وتقويض سلطانه ، وخلق المشاكل الكثيرة له ؛ لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت تواجه الحكم ..

إنهم سوف لا يمكنونه من قيادة الامة قيادة صالحة ، وسليمة وحكيمة ؛ وليمنى ـ من ثم ـ بالفشل الذريع ، والخيبة القاتلة ..

ولسوف يجدون هناك مرتعا خصبا لمؤامراتهم ، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الأطراف ، الطافحة بالمشاكل ، وذلك عند ما يجدون أن الإمام (ع) لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جدّيه محمد (ص) وعلي (ع). وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لنقبل حكم كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك ، ويخضعوا لارادته ، بعد أن كانوا قد اعتادوا على حياة الخلفاء الامويين ، والعباسيين ، المليئة بالانحرافات والموبقات ..

اللهم إلا أن يقوم الإمام (ع) في فترة ولاية العهد ، أو بداية حكمه باعداد مسبق ، وتعبئة عامة وشاملة ، على جميع المستويات ، وفي مختلف المجالات .. ولن يفسح العباسيون ، والمأمون ، وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الاعداد ، وتلك التعبئة مهما كلفهم ذلك من تضحيات.

فالسلبية اذن هي الموقف الصحيح :

وبعد كل ما تقدم : فإن من الطبيعي أن لا يفكر الإمام (ع) في الوصول إلى الحكم عن مثل هذا الطريق الملتوي ، والمحفوف بالأخطار ، والذي لن يحقق له أي هدف من أهدافه. بل على العكس : سوف يكون

٣٠٨

موجبا للقضاء عليه ، وعلى كل آماله ، وكل العلويين ، والمتشيعين لهم ، ويحقق فقط آمال الآخرين ، وأهدافهم .. ولسوف يكون إقدامه على عمل من هذا النوع عملا انتحاريا ، لا مبرر له ، ولا منطق يساعده.

لا بد من خطة لمواجهة الموقف :

وأخيرا .. وإذا كان لم يكن للرضا (ع) خيار في قبول ولاية العهد .. وإذا كان لا يمكن أن يقبل بأن يجعل وسيلة لتحقيق أهداف ، وآلة يتوصل بها إلى مآرب يمقتها ، ويكرهها كل الكره ؛ لعلمه بما سوف يكون لها من آثار سيئة وخطيرة ، على حاضر الامة ، ومستقبلها ، وعلى مستقبل هذا الدين. وكذلك لا يمكنه أن يسكت ، ويظهر بمظهر الموافق ، والمؤيد ، والمساعد ..

فان كل ما يمكن له أن يفعله ـ بعد هذا ـ هو أن يضع خطة ، يستطيع بها مواجهة مؤامرات المأمون ، وإحباط مخططاته ؛ حتى لا يزداد الوضع سوءا ، والطين بلة ..

فإلى الحديث عن خطته هذه في الفصل التالي ..

٣٠٩

خطة الامام (ع)

انحراف الحكام :

إن أدنى مراجعة لتاريخ الحكام آنذاك ـ العباسيين والامويين على حد سواء ـ لكفيلة بأن تظهر بجلاء مدى منافاة تصرفات أولئك الحكام ، وسلوكهم ، وحياتهم لمبادئ الاسلام وتعاليمه .. الاسلام ، الذي كانوا يستطيلون على الناس به ، ويحكمون الامة ـ حسب ما يدّعون ـ باسمه ، وفي ظله .. حتى لقد اصبح الناس ، والناس على دين ملوكهم ، يتأثرون بذلك ، ويفهمون خطأ : أن الاسلام لا يبتعد كثيرا عما يرون ، ويشاهدون ؛ مما كان من نتائجه شيوع الانحراف عن الخط الاسلامي القويم. بنحو واسع النطاق ، ليس من السهل بعد السيطرة عليه ، أو الوقوف في وجهه ..

العلماء المزيفون وعقيدة الجبر :

ولقد ساعد على ذلك ، وزاد الطين بلة ، فريق من أولئك الذين اشتريت ضمائرهم ، ممن يتسمّون ، أو بالأحرى سماهم الحكام بـ « العلماء » ؛ حيث إنهم قاموا يتلاعبون بمفاهيم الاسلام ، وتعاليمه ؛

٣١٠

لتوافق هوى ، وتخدم مصالح أولئك الحكام المنحرفين ، الذين أغدقوا عليهم المال ، وغمروهم بالنعمة.

حتى إن أولئك المأجورين قد جعلوا عقيدة الجبر ـ الواضح لكل أحد زيفها وسخفها ـ من العقائد الدينية الاسلامية!!. ؛ من أجل أن يسهلوا على أولئك الحكام استغلال الناس ، ولكي يوفروا لهم حماية لتصرفاتهم تلك ، التي يندى لها جبين الانسان الحر ألما وخجلا ؛ إذ أنهم يكونون بذلك قد جعلوا كل ما يصدر منهم هو بقضاء من الله وقدره ؛ ولذا فليس لأحد الحق في أن ينكر عليهم أي تصرف من تصرفاتهم ، أو أي جناية من جناياتهم ..

وكان قد مضى على ترويجهم هذه العقيدة المبتدعة ـ حتى زمان المأمون ـ أكثر من قرن ونصفا ، أي من أول خلافة معاوية ، بل وحتى قبل ذلك أيضا .. بزمان طويل!!

عقيدة الخروج على سلاطين الجور :

كما أنهم ـ أعني هؤلاء العلماء ـ قد جعلوا الخروج على سلاطين الجور والفساد موبقة من الموبقات ، وعظيمة من العظائم ..

وقد جرحوا بذلك عددا من كبار العلماء : مثل الإمام أبي حنيفة وغيره ؛ بحجة أنه : « يرى السيف في أمة محمد » (١) ..

__________________

(١) راجع : نظرية الامامة ، للدكتور أحمد محمود صبحي ، وغيره ..

وفي تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٧٤ : أنه قيل لأبي مسهر : كيف لم تكتب عن محمد بن راشد؟! قال : « كان يرى الخروج على الأئمة » .. وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى ج ٣ ص ٥٨ ، في مقام ترجيح سفيان على حسن بن حي ، كان من جملة ما جرحه به أنه : « كان يرى السيف ». ومثل ذلك كثير لا نرى حاجة لاستقصائه.

٣١١

بل لقد جعلوا عدم جواز الخروج هذا من جملة العقائد الدينية ، كما يظهر من تتبع كلماتهم (١).

أما عقائد التشبيه ، وقضية خلق القرآن ، فلعلها أشهر من أن تذكر ، أو تحتاج إلى بيان.

والذي زاد الطين بلة :

يضاف إلى ذلك كله غرور الحكام ، الذي لا مبرر له ، وكذلك من لف لفهم ، الذين كانوا يحكمون الامة باسم الدين ..

وكذلك غفلة الناس ، وعدم إدراكهم لحقيقة ما يجري وما يحدث ، وللواقع المزري ، الذي كان قائما آنذاك ..

وأيضا .. وهو الأهم من كل ذلك ـ ابتعادهم ؛ بسعي من الهيئات الحاكمة ، عن أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ..

كل ذلك .. قد أدى بالفعل إلى انحلال الدولة داخليا ، وتمزيق أوصالها .. كما وأنه قد أسهم إسهاما كبيرا في ابعاد الناس عن تعاليم السماء ، وشريعة الله .. الأمر الذي لم يكن يعني إلا نهاية الحكم الإسلامي ،

__________________

(١) حسبما صرح به أحمد بن حنبل في رسالة « السنة » ، وهي عقائد أهل الحديث ، والسنة. وقد أوردها أبو يعلى في طبقات الحنابلة ج ١ ص ٢٦. وصرح بذلك أيضا الأشعري في مقالات الاسلاميين ج ١ ص ٣٢٣ ، وفي الإبانة ص ٩. وقد علل ذلك في نظرية الامامة ص ٤١٧ بقوله : « .. ذلك أنها : إن كانت بلوى من الله عقابا لهم ؛ فما ثورتهم برادة عقاب الله ، وإن كانت محنة للمسلمين ؛ فما هم برادي قضاء الله »!!.

وفي كتاب السنة قبل التدوين ص ٤٦٧ ، نقل عن ابن خزيمة ، في وصفه الطاعنين على أبي هريرة ، قوله : إنهم إما معطل جهمي .. « وإما خارجي يرى السيف على امة محمد ، أو قدري ، اعتزل الاسلام ، وأهله الخ .. » ..

٣١٢

وردة الناس إلى الجاهلية الجهلاء .. الأمر الذي لم يكن يرهب الحكام كثيرا ؛ لأن الإسلام الذي يريدون ، والدين الذي ينشدون ، هو ذلك الذي يستطيعون أن يتسلطوا على الامة ، ويستأثروا بقدراتها وامكاناتها في ظله. ويمهد لهم السبيل لاستمرار هم في فرض نفوذهم وسيطرتهم ، ولو كان ذلك على حساب جميع الشرائع السماوية ، وكل المفاهيم الانسانية ..

إن أولئك الحكام ، ما كانوا يفكرون إلا في وسائل بقائهم واستمرارهم في الحكم ، وإلا في شئونهم ومصالحهم الخاصة بهم. أما الامة المسلمة ، وأما الإسلام ، فلم يكن لهما لديهم أية قيمة ، أو شأن يذكر ، إلا في حدود ما يستطيعون الافادة منهما في بقائهم ووجودهم في الحكم والسلطة ..

الأئمة في مواجهة مسئولياتهم :

وفي هذا الوسط الغريب : من غفلة الناس ، ومن سيرة الحكام ، والمتسمين بالعلماء وسلوكهم .. كان الأئمة عليهم‌السلام يؤدون واجبهم في نشر تعاليم السماء ، ويكافحون ، وينافحون عنها ، بقدر ما كانت تسمح لهم ظروفهم ، التي كانت في ظل سلطان أولئك المنحرفين قاسية إلى حد بعيد.

وأما عن الامام الرضا بالذات :

وقد سنحت للامام الرضا (ع) فرصة لفترة وجيزة ، كان الحكام منشغلين فيها بأمور تهمهم .. للقيام بواجبه في توعية الامة ، وتعريفها بتعاليم الإسلام. وذلك في الفترة التي تلت وفاة الرشيد ، وحتى قتل الأمين. بل نستطيع أن نقول : إنها امتدت ـ ولو بشكل محدود ـ حتى وفاة الإمام (ع) في سنة (٢٠٣). الأمر الذي كان من نتيجته ازدياد

٣١٣

نفوذه (ع) ، واتساع قاعدته الشعبية ؛ حتى لقد كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب. وكان هو الأرضى في الخاصة والعامة ، حسما ألمحنا إليه من قبل.

الخطة الحكيمة :

وعند ما أراد المأمون أن ينفذ خطته في البيعة له بولاية العهد ، وعرف الرضا : أن لا مناص له من قبول ذلك ، كان من الطبيعي أن يعد (ع) العدة ، ويضع خطة لمواجهة خطط المأمون ، واحباط أهدافه الشريرة ، والتي كان أهونها القضاء على سمعة الامام (ع) ، وتحطيمه معنويا واجتماعيا.

ولقد كانت خطة الإمام هذه في منتهى الدقة والإحكام. وقد نجحت أيما نجاح في إفشال المؤامرة ، وتضييع كثير من أهدافها ، وجعل الامور في صالح الإمام (ع) ، وفي ضرر المأمون .. حتى لقد ضاع رشد المأمون ( بل ورشد أشياعه أيضا ) ، وهو أفعى الدهاء والسياسة ، ولم يعد يدري ما يصنع ، ولا كيف يتصرف ..

مواقف لم يكن يتوقعها المأمون :

ولعلنا نستطيع أن نسجل هنا بعض المواقف للامام (ع) ، التي لم يكن المأمون قد حسب لها حسابا ، والتي كانت ضمن خطة الإمام (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون ..

الموقف الأول :

اننا نلاحظ أن الإمام (ع) قد رفض دعوة المأمون ، وهو في المدينة

٣١٤

ولم يقبل إلا بعد أن علم أنه لا يكف عنه .. بل إن بعض النصوص تشير إلى أنه قد حمل إلى مرو بالرغم عنه ، لا باختياره ..

وما ذلك إلا ليعلم المأمون : أن حيلته لم تكن لتجوز عليه ، وأنه (ع) على علم تام بأبعاد مؤامرته وأهدافها .. كما أنه بذلك يثير شكوك الناس وظنونهم حول طبيعة هذا الحدث ، وسلامة النوايا فيه.

الموقف الثاني :

إنه رغم أن المأمون كان قد طلب من الإمام (ع) ـ وهو في المدينة ـ أن يصطحب معه من أحب من أهل بيته في سفره إلى مرو ..

انه رغم ذلك .. نلاحظ : أنه (ع) لم يصطحب معه حتى ولده الوحيد الإمام الجواد (ع) ، مع علمه بطول المدة ، التي سوف يقضيها في هذا السفر ، الذي سوف يتقلد فيه زعامة الامة الإسلامية ، حسب ما يقوله المأمون .. بل مع علمه بأنه سوف لن يعود من سفره ذاك ، كما تؤكد عليه كثير من النصوص التاريخية ..

شكوك لها مبرراتها :

ونرى أننا مضطرون للشك في نوايا المأمون واهدافه من وراء طلبه هذا « أن يصطحب الامام (ع) من شاء من أهل بيته إلى مرو » .. بعد أن رأينا : أنه لم يرجع أحد ممن ذهب مع محمد بن جعفر الى مرو ، ولا رجع محمد بن جعفر نفسه ، ولا رجع محمد بن محمد بن زيد ، ولا غير هؤلاء ، كما سيأتي بيانه في الفصل التالي وغيره ..

فلعل الامام (ع) ، بل إن ذلك هو المؤكد ، الذي تدل عليه

٣١٥

تصريحاته وتصرفاته حين تأهب للسفر ـ لعله ـ قد فطن لنوايا المأمون هذه ؛ فضيع الفرصة عليه ، وأعاد كيده إليه ..

الموقف الثالث :

سلوكه في الطريق ، كما وصفه رجاء بن أبي الضحاك (١) ، حتى اضطر المأمون لأن يظهر على حقيقته ، ويطلب من رجاء هذا : أن لا يذكر ما شاهده منه لأحد ؛ بحجة أنه لا يريد أن يظهر فضله إلا على لسانه (٢) ، ولكننا لم نره يظهر فضله هذا ، حتى ولو مرة واحدة ؛ فلم يدّع أحد أنه سمع شيئا من المأمون عن سلوك الامام (ع) ، وهو في طريقه إلى مرو. وأما رجاء ، فلعله لم يحدث بذلك إلا بعد أن لم يعد في ذلك ضرر على المأمون ، وبعد أن ارتفعت الموانع ، وقضي الأمر ..

الموقف الرابع :

موقفه في نيشابور ، الذي لم يكن أبدا من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من المصادفة أيضا ؛ حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف ، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات بل مئات الالوف (٣) ـ أبلغهم ـ : « كلمة لا إله إلا الله حصني ؛ فمن دخل

__________________

(١) راجع : البحار ج ٤٩ من ص ٩١ حتى ٩٥ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨١ فما بعدها. وهو كلام معروف لا ترى أننا بحاجة لتكثير مصادره هنا ..

(٢) البحار ج ٤٩ ص ٩٥ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٣.

(٣) وذلك يدل على مدى تعاطف الناس مع أهل البيت ، ومحبتهم لهم. الأمر الذي كان يرعب المأمون ويخيفه .. حتى لقد كان يحاول كبت عواطف الناس هذه ، وهذا هو السبب في منع الامام من المرور عن طريق الكوفة وقم ، كما سيأتي ..

٣١٦

حصني أمن من عذابي (١) » ..

هذه الكلمة .. التي عد أهل المحابر والدوى ، الذين كانوا يكتبونها ؛ فانافوا على العشرين الفا .. هذا على قلة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك ، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف العظيم ..

«. ونلاحظ : أنه (ع) ـ في هذا الظرف ـ لم يحدثهم عن مسألة فرعية ، ترتبط ببعض مجالات الحياة : كالصوم ، والصلاة ، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا ، وترغبهم في الآخرة ، كما كان شأن العلماء آنذاك ..

كما أنه لم يحاول أن يستغل الموقف لاهداف شخصية ؛ أو سياسية ، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه المواقف .. مع أنه يتوجه إلى مرو ؛ ليواجه أخطر محنة تهدد وجوده ، وتهدد العلويين ، ومن ثم الامة بأسرها.

وانما كلم الناس باعتباره القائد الحقيقي ، الذي يفترض فيه : أن يوجه الناس ـ في ذلك الظرف بالذات ـ إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم ، ووجودهم ، إن حاضرا ، وإن مستقبلا. ألا وهي مسألة :

التوحيد .. التوحيد : الذي هو في الواقع الأساس للحياة الفضلى ، بمختلف جوانبها ، وإليه تنتهي ، وعليه وبه تقوم ..

التوحيد : الذي ينجي كل الامم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا فقده الانسان ؛ فإنه يفقد كل شيء في الحياة حتى نفسه ..

مدى ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد :

هذا .. ولأنه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ

__________________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه القضية في فصل : « شخصية الامام الرضا » فمن أراد فليراجع ..

٣١٧

لهم سماع كلمة الإمام (ع) ؛ لانشغالهم مع بعضهم بأحاديث خاصة ؛ أو لتوجههم لامور جانبية أخرى ، كما يحدث ذلك كثيرا في مناسبات كهذه ..

نرى الإمام (ع) يتصرف بنحو آخر ؛ حيث إنه عند ما سارت به الناقة ، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم ، وقلوبهم مشدودة إليها ..

نراه يخرج رأسه من العمارية ؛ فيسترعي ذلك انتباه الناس ، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي عليهم ـ وهم يلتقطون أنفاسهم ؛ ليستمعوا إلى ما يقول ـ كلمته الخالدة الاخرى :

« بشروطها ؛ وأنا من شروطها ».

لقد أملى الإمام (ع) كلمته هذه عليهم ، وهو مفارق لهم ؛ لتبقى الذكرى الغالية ، التي لا بد وأن يبقى لها عميق الأثر في نفوسهم (١) ..

لقد أبلغهم (ع) مسألة أساسية أخرى ، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتوحيد ، ألا وهي مسألة : « الولاية » ..

وهي مسألة بالغة الأهمية ، بالنسبة لأمة تريد أن تحيا الحياة الفضلى ، وتنعم بالعيش الكريم ؛ إذ ما دامت مسألة القيادة الحكيمة ، والعادلة ، والواعية لكل ظروف الحياة ، وشئونها ، ومشاكلها ـ ما دامت هذه

__________________

(١) ويلاحظ : أن هذه الكلمة قد صيغت بنحو لا بد معه من الرجوع إلى الكلمة الاولى ، ومعرفتها.

وبعد .. فما أشبه موقفه عليه‌السلام هنا بموقف النبي (ص) في غدير خم ؛ حيث إنه (ص) كان أيضا قد أبلغ المسلمين مسألة الولاية ، في ذلك الموقف الحاشد ، وفي المكان الذي لا بد فيه من تفرق الناس عنه (ص) ، وذهاب كل منهم إلى بلده ، ولعل إرجاع المتقدمين ، وحبس المتأخرين يشبهها إخراج الامام عليه‌السلام رأسه من العمارية .. يضاف إلى ذلك : أن موقفه (ص) كان آخر مواقفه العامة في حياته إلى آخر ما هنالك من وجوه الشبه بين الواقعتين.

ولعلنا نجد تشابها بين هذه الواقعة ، وبين قضية إرجاع أبي بكر عن تبليغ آيات سورة براءة ، ثم إرسال علي مكانه ..

٣١٨

المسألة ـ لم تحل ؛ فلسوف لا يمكن إلا أن يبقى العالم يرزح تحت حكم الظلمة والطواغيت ، والذين يجعلون لأنفسهم صلاحيات التقنين والتشريع الخاصة بالله ، ويحكمون بغير ما أنزل الله ؛ وليبقى العالم ـ من ثم ـ يعاني الشقاء والبلاء ، ويعيش في متاهات الجهل ، والحيرة ، والضياع .. » (١).

وإننا إذا ما أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة : « الولاية » بمسألة « التوحيد » ؛ فلسوف نعرف : أن قوله (ع) : « وأنا من شروطها » لم تمله عليه مصلحته الخاصة ، ولا قضاياه الشخصية .. ولسوف ندرك أيضا : الهدف الذي من أجله ذكر الإمام (ع) سلسلة سند الرواية ، الأمر الذي ما عهدناه ، ولا ألفناه منهم عليهم‌السلام ، إلا في حالات نادرة ؛ فإنه عليه‌السلام قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للامة بالمبدإ الأعلى ..

الإمام ولي الأمر من قبل الله ، لا من قبل المأمون :

وعدا عن ذلك كله .. فإننا نجد أن الإمام (ع) ، حتى في هذا الموقف ، قد اهتبل الفرصة ، وأبلغ ذلك الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الالوف : أنه الإمام للمسلمين جميعا ، والمفترض الطاعة عليهم ، على حد تعبير القندوزي الحنفي ، وغيره .. وذلك عند ما قال لهم : « وأنا من شروطها ».

وبذلك يكون قد ضيع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الإمام (ع) إلى مرو. ألا وهو : الحصول على اعتراف بشرعية خلافته ، وخلافة بني أبيه العباسيين ..

__________________

(١) قد استرشدنا في بعض ما ذكرناه هنا بما ذكره بعض المؤلفين ، في كتابه : « يادبود هشتمين امام » ( فارسي ).

٣١٩

إذ أنه قد بين للناس بقوله : « وأنا من شروطها » : أنه هو بنفسه من شروط كلمة التوحيد ، لا من جهة أنه ولي الأمر من قبل المأمون ، أو سيكون ولي الأمر أو العهد من قبله ؛ وإنما لأن الله تعالى جعله من شروطها.

وقد أكد (ع) على هذا المعنى كثيرا ، وفي مناسبات مختلفة ، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما سيأتي ، وأيضا في الكتاب الجامع لاصول الاسلام والأحكام ، الذي طلبه منه المأمون ؛ حيث كتب فيه أسماء الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ، مع أن عددا منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد ، كما أنه ذكر أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية ، وفي غير ذلك من مواقفه الكثيرة (ع) ..

الإمام يبلغ عقيدته لجميع الفئات :

وأخيرا .. لا بد لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الاشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن يضم ذلك الحشد العظيم ، الذي يقدر بعشرات ، بل بمئات الالوف :

١ ـ حشدا من أهل الحديث واتباعهم ، الذين جعلوا صلحا جديدا بين الخلفاء الثلاثة ، وبين عليّ (ع) في معتقداتهم ، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الأحاديث في ذلك ما شاءت لهم قرائحهم ؛ حتى جعلوه إذا سمع ذكرا لأبي بكر يبكي حبا ، ويمسح عينيه ببرده (١).

وجعلوه أيضا ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة : أبي بكر ، وعمر ،

__________________

(١) تاريخ الخلفاء ص ١٢٠ ، وغيره.

٣٢٠