الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

بعض ما يدل على عدم رضا الإمام (ع) :

والنصوص الدالة على عدم رضا الإمام (ع) بهذا الأمر كثيرة ، ومتواترة ؛ فقد قال أبو الفرج : « .. فأرسلهما ( يعني الفضل والحسن ابني سهل ) إلى علي بن موسى ؛ فعرضا ذلك ( يعني ولاية العهد ) عليه ، فأبى ؛ فلم يزالا به ، وهو يأبى ذلك ، ويمتنع منه .. إلى أن قال له أحدهما : إن فعلت ذلك ، وإلا فعلنا بك وصنعنا ، وتهدده ، ثم قال له أحدهما : « والله ، أمرني بضرب عنقك ، إذا خالفت ما يريد »!!. ثم دعا به المأمون ، وتهدده ؛ فامتنع ، فقال له قولا شبيها بالتهديد ، ثم قال له : « إن عمر جعل الشورى في ستة ، أحدهم : جدك ، وقال : من خالف فاضربوا عنقه ، ولا بد من قبول ذلك .. » (١)!!

ويروي آخرون : أن المأمون قال له : « .. يا ابن رسول الله ، إنما تريد بذلك ( يعني بما أخبره به عن آبائه من موته قبله مسموما ) التخفيف عن نفسك ، ودفع هذا الأمر عنك ؛ ليقول الناس : إنك زاهد في الدنيا ..

فقال الرضا : والله ، ما كذبت منذ خلقني ربي عز وجل ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ؛ وإني لأعلم ما تريد؟!! ..

فقال المأمون : وما أريد؟! قال : الأمان على الصدق؟

قال : لك الأمان.

قال : تريد بذلك أن يقول الناس : إن علي بن موسى لم يزهد في

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢ ، ٥٦٣ ، وقريب منه ما في ارشاد المفيد ص ٣١٠ وغير ذلك.

٢٨١

الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ؛ ألا ترون : كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة؟!

فغضب المأمون ، وقال له : « إنك تتلقاني أبدا بما أكرهه. وقد آمنت سطوتي ، فبالله أقسم : لئن قبلت ولاية العهد ، وإلا أجبرتك على ذلك ؛ فإن فعلت ، وإلا ضربت عنقك .. » (١).

وقال الإمام الرضا (ع) في جواب سؤال الريان له ، عن سرّ قبوله لولاية العهد :

« .. قد علم الله كراهتي لذلك ؛ فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل ، اخترت القبول على القتل. ويحهم .. إلى أن قال : ودفعتي الضرورة إلى قبول ذلك ، على إجبار واكراه ، بعد الاشراف على الهلاك إلخ .. » (٢).

وقال في دعاء له : « .. وقد اكرهت واضطررت ، كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل ، متى لم أقبل ولاية العهد .. ».

وقال في جواب أبي الصلت : « وأنا رجل من ولد رسول الله (ص)

__________________

(١) راجع في ذلك : مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣ ، وأمالي الصدوق ص ٤٣ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٠ ، وعلل الشرائع ج ١ ص ٢٣٨ ، ومثير الأحزان ص ٢٦١ ، ٢٦٢ ، وروضة الواعظين ج ١ ، ص ٢٦٧ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩ ، وغير ذلك.

وفي تاريخ الشيعة ص ٥٢ : أنه بعد أن عرض عليه الخلافة ، وأجابه بالجواب المتقدم في الفصل السابق ، قال له : « .. إذن ، تقبل ولاية العهد. فأبى عليه الامام أشد الإباء ؛ فقال له المأمون : « .. ما استقدمناك باختيارك ، فلا نعهد إليك باختيارك. والله ، إن لم تفعل ضربت عنقك .. ».

(٢) علل الشرائع ج ١ ص ٢٣٩ ، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨ ، وأمالي الصدوق ص ٧٢ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٣٩.

٢٨٢

أجبرني على هذا الأمر واكرهني عليه .. ».

بل لقد أعرب عن عدم رضاه في نفس ما كتبه على ظهر وثيقة العهد ، وأنه يعلم بعدم تمامية هذا الأمر ، وإنما يفعل ذلك امتثالا لأمر المأمون ، وإيثارا لرضاه ..

أما الباحثون وغيرهم فيقولون :

أما الباحثون ، فلعلنا لا نكاد نعثر على باحث يتعرض لهذا الأمر ينسى أن يؤكد على رفض الإمام (ع) لهذا الأمر ، واستيائه منه ..

يقول أحمد أمين : « .. والزم الرضا بذلك ، فامتنع ، ثم اجاب .. » (١).

وقال القندوزي : إنه قبل ولاية العهد ، وهو باك حزين (٢) ..

وقال المسعودي : « .. فألح عليه ، فامتنع ، فأقسم ؛ فأبر قسمه الخ .. » (٣).

وعلى كل حال : فإن النصوص التاريخية الدالة على عدم رضاه (ع) بهذا الأمر ، وأنه مكره مجبر عليه كثيرة جدا (٤). وتضارعها كثرة

__________________

(١) ضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٩٤.

(٢) ينابيع المودة ص ٢٨٤.

(٣) إثبات الوصية ص ٢٠٥.

(٤) وإنه وإن كان سيمر معنا نصوص اخرى تدل على ذلك .. إلا أننا نحيل القارئ على بعض مظان وجودها ؛ فراجع : ينابيع المودة ص ٣٨٤ ، ومثير الأحزان ص ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥ ، وأمالي الصدوق ص ٦٨ ، ٧٢ ،

٢٨٣

أقوال الباحثين ، الذين تعرضوا لهذا الموضوع ؛ ولذا فليس من اليسير الاحاطة بها واستقصاؤها في مثل هذه العجالة ..

ولهذا .. فإننا نكتفي هنا بهذا القدر ؛ حيث إن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك ..

__________________

والبحار ج ٤٩ ص ١٢٩ ، ١٣١ ، ١٤٩ ، وعلل الشرائع ج ١ ص ٢٣٧ ، ٢٣٨ ، وإرشاد المفيد ص ١٩١ ، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٩ ، وج ٢ ص ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، ١٤٩ ، وإعلام الورى ٣٢٠ ، والخرائج والجرائح ، وغير ذلك ..

٢٨٤

مدى جدية عرض الخلافة :

عرض الخلافة ليس جديّا ..

: مر معنا أن المأمون كان قد عرض أولا الخلافة على الإمام ، وأنه ألح عليه بقبولها كثيرا ، سواء وهو في المدينة ، أو بعد استقدامه إلى مرو ، وأنه تهدده فلم يقبلها. فلما يئس من قبوله الخلافة ، عرض عليه ولاية العهد ، فامتنع أيضا. ولم يقبل إلا بعد أن تهدده بالقتل ، وعرف الجدّ في ذلك التهديد!!.

وهنا سؤال لا بد من الاجابة عليه ، وهو :

هل كان المأمون جادا في عرضه الخلافة على الامام؟! ..

ويتفرع على الاجابة على هذا السؤال سؤال آخر ، وهو :

إذا لم يكن المأمون جادا في عرضه ذاك ؛ فما ذا ترى سوف يكون موقف المأمون ، لو أن الامام قبل أن يتقلد الخلافة ، ويضطلع بشئونها؟!.

ومن أجل استيفاء الجواب عن هذين السؤالين ، لا بد لنا من الإسهاب في المقال ، بالقدر الذي يتسع لنا به المجال فنقول :

٢٨٥

الاجابة على السؤال الأول

: أما عن السؤال الأول ، فان الحقيقة هي : أن جميع الشواهد والدلائل تدل على أنه لم يكن جادا في عرضه للخلافة :

وقد قدمنا أننا لا يمكن أن نتصور المأمون الحريص على الخلافة حرصه على نفسه ، والذي قتل من أجلها أخاه ، وأتباعه ، بل وحتى وزراءه هو وقواده ؛ وغيرهم. وأهلك العباد ، وخرب البلاد ، حتى لقد خرب بغداد بلد آبائه ، وأزال كل محاسنها ـ لا يمكن أن نتصور ـ المأمون ، الذي فعل كل ذلك وسواه من أجل الحصول على الخلافة .. يتنازل عنها بهذه السهولة ، بل ومع هذا الالحاح والإصرار منه ، لرجل غريب ، ليس له من القربى منه ما لأخيه ، ولا من الثقة به ماله بقواده ، ووزرائه!!. أم يعقل أن تكون الخلافة أعز من هؤلاء جميعا ، والرضا فقط هو الأعز منها؟!! ..

وهل يمكن أن نصدق ، أو يصدق أحد : أن كل ذلك ، حتى قتله أخاه ، كان في سبيل مصلحة الامة ومن أجلها ، ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة ، وأحق بها من أخيه ، ومنه؟!! ..

وكيف يمكن أن نعتبر اصراره الشديد على الامام ، والذي استمر أشهرا عديدة ، قبل استقدامه إلى مرو وبعده ، والذي انتهى به إلى حد تهديده إياه بالقتل ـ كيف يمكن أن نعتبره رفقا منه بالامة ، وحبا لها ، وغيرة على صالحها .. مع أننا نسمعه من جهة ثانية هو نفسه يصرح : بأن نفسه لم تسخ بالخلافة ، عند ما عرضها على الامام؟!! (١).

وإذا لم تسخ نفسه بالخلافة ؛ فلماذا يهدده بالقتل إن لم يقبلها؟!!.

__________________

(١) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٧١ ، وغيبة الشيخ الطوسي ص ٤٩.

٢٨٦

وكيف يمكن أن نوفق بين تهديداته تلك ، وجدية عرضه للخلافة .. وبين قوله : إنه لم يقصد إلا أن يوليه العهد ؛ ليكون دعاء الإمام له ، وليعتقد فيه المفتونون به الخ .. ما سيأتي؟!!.

وإذا كان قد نذر أن يوليه « الخلافة » ، لو ظفر بأخيه الأمين ، حسبما ورد في بعض النصوص التاريخية ؛ فلماذا ، وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد؟!!.

وكيف استطاع إجباره على قبول ولاية العهد ، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة؟!

وأيضا .. ولماذا بعد أن رفض الإمام (ع) العرض ، لا يتركه وشأنه؟ وأين هي أنفة الملوك ، وعزة السلطان؟!!.

وإذا كان يأتي به من المدينة ليجعله خليفة المسلمين ، ويرفع من شأنه ؛ فلماذا يأمره ويؤكد عليه في أن لا يمر عن طريق الكوفة وقم ، حتى لا يفتتن به الناس؟!!.

وأيضا .. هل يتفق ذلك مع إرجاعه للإمام (ع) عن صلاة العيد مرتين ، لمجرد أنه جاءه من ينذره بأن الخلافة سوف تكون في خطر ؛ لو أن الإمام (ع) وصل إلى المصلى؟!! .. حتى لقد خرج هو بنفسه مسرعا ، وصلى بالناس ، رغم تظاهره بالمرض ، ورغم زعمه ، أنه : كان يريد من الإمام أن يصلي بالناس ؛ من أجل أن تطمئن قلوبهم على دولته المباركة ـ على حد تعبيره ـ بسبب مشاركة الإمام (ع) في ذلك ..

وأيضا .. هل يتفق عرضه الخلافة على الإمام ، وتنازله عنها له ، ثم توليته العهد ، وبكاؤه عليه حين وفاته ، وبقاؤه على قبره ثلاثة أيام ، حسبما سيأتي بيانه .. هل يتفق كل ذلك ، مع كتابته لعامله على

٢٨٧

مصر : يأمره بغسل المنابر التي دعي عليها للامام (ع) ؛ فغسلت؟!! (١).

وبعد .. وإذا كان الإمام (ع) حجة الله على خلقه ، وأعلم أهل الأرض على حد تعبير المأمون ؛ فلماذا يفوض عليه نظرية لا يراها مناسبة ، ويتهدده ، ويتوعده على عدم قبولها ، والاخذ بها؟! ..

وأخيرا .. هل يتفق ذلك كله ، مع ما أشرنا ، ولسوف نشير إليه ، من ذلك السلوك اللاإنساني مع الإمام (ع) ، قبل البيعة ، وبعدها ، في حياة الإمام ، وحين وفاته ، وبعدها .. وكذلك سلوكه مع العلويين ، وإخوة الإمام الرضا (ع) بالذات. ذلك السلوك الذي يترفع حتى الاعداء عن انتهاجه ، والالتزام به.

إلى آخر ما هنالك مما عرفت ، وستعرف جانبا منه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ..

المأمون يرتبك في تبريراته :

ولعل من الامور الجديرة بالملاحظة هنا : أن المأمون لم يكن قد حسب حسابا للأسئلة التي سوف تواجهه في هذا الصدد ؛ ولذا نرى أنه كان مرتبكا جدا في تبريراته لما أقدم عليه ؛ فهو تارة يعلل ذلك بأنه :

__________________

(١) ولا منافاة بينهما في نظر المأمون ؛ فانه لم يكن يخشى من ردة الفعل في مصر ؛ لأنها بالاضافة إلى بعدها ، لم تكن من المناطق الحساسة في الدولة ، ولم تكن أيضا شديدة التعاطف مع العلويين ؛ فهي إذن مأمونة الجانب .. وما كان يخشى منه قد أمنه ؛ بتظاهره أمام الملأ بالحزن الشديد على الامام عليه‌السلام ؛ حيث يكون بذلك قد طمأنهم ، وأبعد التهمة عن نفسه في المنطقة التي يخشى منها في الوقت الحاضر .. وإلى أن تصل أخبار مصر إلى هذه المناطق الحساسة ؛ فانه يكون قد تجاوز المرحلة الخطيرة ، ولم يعد يخشى شيئا على الإطلاق ..

٢٨٨

أراد مكافأة علي بن أبي طالب في ولده!! (١).

وأخرى : بأن ذلك كان منه حرصا على طاعة الله ، وطلب مرضاته ؛ ولما يعلمه من فضل الرضا ، وعلمه ، وتقاه .. وأنه أراد بذلك الخير للامة ، ومصلحة المسلمين!! (٢).

وثالثة : بأنه أراد أن يفي بنذره : أنه إن أظفره الله بالمخلوع يعني أخاه الأمين الذي قتله ـ أن يجعل ولاية العهد في أفضل آل أبي طالب!!. (٣)

بل ورابعة : بأنه أراد أن يجعله ولي عهده ؛ ليكون دعاؤه له ، وليعتقد فيه المفتونون به إلخ (٤) .. ما سيأتي تفصيله ..

مع تبريرات المأمون تلك

: ومن الواضح أن تلك العلل والتبريرات ، وسواها ، مما كان يتعلل

__________________

(١) الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٩ ، والبحار ج ٤٩ ص ٣١٢ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٨ ، والتذكرة لابن الجوزي ص ٣٥٦ ، وشذرات الذهب ، لابن العماد ج ٢ ص ٣ ، وغير ذلك ..

(٢) صرح بذلك في وثيقة العهد. وفي الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧ ، قال : « كان المأمون قد فكر في حال الخلافة بعده ، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها ، كذا زعم .. » ..

وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧ قال : « إن المأمون رأى عليا الرضا خير أهل البيت ، وليس في بني العباس مثله : في علمه ، ودينه ؛ فجعله ولي عهده من بعده » ومثل ذلك كثير ..

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١ ، ومقاتل الطالبيين ص ٥٦٣ ، واعلام الورى ص ٣٢٠ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٣ ، ١٤٥ ، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٢ ، وعيون أخبار الرضا ، وارشاد المفيد ، وغير ذلك ..

(٤) لكن هذا الكلام لم يكن إلا لخصوص العباسيين ، كما عرفت وستعرف!!!.

٢٨٩

به المأمون ؛ كانت مفتعلة قبل أوان نضجها. ولعله لما أشرنا إليه من أنه لم يكن قد حسب حسابا لهذه الاسئلة التي واجهته ، كانت أجوبته متناقضة ، متضادة ، من موقف لآخر ، ومن وقت لآخر .. حتى إن التناقض يبدو في التبرير الواحد ، إذ تراه مرة يقول : « إنه نذر أن يجعل الخلافة في ولد علي ». وأخرى يقول : « إنه نذر أن يجعل ولاية العهد فيهم ». وثالثة : يضيف إليهم آل العباس .. وهكذا ..

ولو لا خوف الناس منه ، ومن بطشه لوجدنا الكثيرين يسألونه : إنه إذا صح : أنه نذر الخلافة لولد علي ، فلماذا قبل منه واكتفى بولاية العهد؟! ، إذ قد كان عليه أن يجبره على قبول الخلافة ، كما أجبره على قبول ولاية العهد .. وإذا صح أنه نذر له ولاية العهد ؛ فلماذا عرض عليه الخلافة ، وأصر عليه بقبولها.

وإننا وإن لم نجد لهذه الأسئلة ، وسواها أثرا فيما بأيدينا من كتب التاريخ. إلا أننا رأينا الشواهد الكثيرة الدالة على أن الناس كانوا يشكون كثيرا في نوايا المأمون وأهدافه مما أقدم عليه. وحسبنا هنا : ما رواه لنا الصولي ، والقفطي ، وغيرهما من قضية عبد الله بن أبي سهل النوبختي المنجم ؛ حيث أراد اختبار ما في نفس المأمون ؛ فأخبره أن وقت البيعة للامام (ع) كان غير صالح ؛ فأصر المأمون على إيقاع البيعة في ذلك الوقت ، وتهدده بالقتل إن حدث تغيير في الوقت والموعد ، وقد تقدمت القصة بكاملها تقريبا في فصل سابق ، وقد ذكرها غير واحد من المؤلفين (١).

__________________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص ١٤٢ ، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٤ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٢ ، ١٣٣ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٧ ، ١٤٨ ، وغير ذلك ..

٢٩٠

الامام يدرك أهداف المأمون من عرض الخلافة :

ولعلنا نستطيع أن نجد فيما قدمناه في هذا الكتاب ما يفسر لنا موقف الإمام (ع) من المأمون .. ذلك الموقف الذي لم يكن يتسم بالمهادنة ، أو الموافقة أصلا. بل كان قاسيا وعنيفا في مقابل عرض المأمون للخلافة عليه ، كما ألمحنا إليه في باب : « عرض الخلافة ، ورفض الإمام ».

وما ذلك .. إلا لأنه كان يعلم أنها لعبة خطيرة ، تحمل في طياتها الكثير من المشاكل والأخطار ، وسواء بالنسبة إليه (ع) ، أو بالنسبة إلى العلويين ، أو بالنسبة إلى الامة بأسرها ..

ولقد كان (ع) يدرك : أن المأمون كان يرمي من وراء هذا العرض إلى أن يعرف حقيقة نوايا الامام (ع) ، ويستظهر دخيلة نفسه ، حتى إذا ما رآه راغبا فيها رغبة حقيقية ، سقاه الكأس ، التي سقاها من قبل لمحمد بن محمد بن يحيى بن زيد ، صاحب أبي السرايا ، ومن بعد لمحمد بن جعفر ، وطاهر بن الحسين ، وغيرهم ، وغيرهم .. وانه كان يريد أن يجعل ذلك ذريعة لفرض ولاية العهد ، وتمهيدا لإجباره على قبولها ؛ لأن ما يحقق له مآربه ، ويوصله إلى غاياته ، التي تحدثنا عن جانب منها في فصل : ظروف البيعة .. هو قبول الإمام لولاية العهد ، لا الخلافة .. كما أن هذا هو الذي يمكن أن يكون ممهدا لتنفيذ الجزء التالي من خطته ، ألا وهو القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم.

ومن ثم .. وبعد كل ما تقدم .. تكون النتيجة هي : أن المأمون لم يكن جادا في عرضه للخلافة ، وإنما فقط كان جادا في عرضه لولاية العهد ..

٢٩١

ويبقى هنا سؤال

: « لو أن الإمام قبل عرض الخلافة ؛ فما ذا ترى سوف يكون موقف المأمون؟! ».

والجواب :

أولا : انه قد يمكن الاقتناع بالجواب هنا لو قيل :

بديهي أن المأمون كان قد أعد العدة لأي احتمال من هذا النوع .. وقد كان يعلم أنه يستحيل على الإمام ، خصوصا في تلك الظروف : أن يقبل عرض الخلافة ، من دون إعداد مسبق لها ، وتعبئة شاملة لجميع القوى ، وفي مختلف المجالات ، ولسوف يكون قبوله لها بدون ذلك عملا انتحاريا ، لا مبرر له ، ولا منطق يساعده ..

إذ من البديهي أن الإمام الذي كان يعلم كم كان للقائد الحقيقي ، والمصلح الواعي ، من أثر في حياة الامة ، وفي مستقبلها. وكيف يمكن أن تتحد في ظله قدرات الامة ـ أفرادا وجماعات ـ وامكاناتها المادية ، والفكرية وغيرها في طريق صلاحها ، واصلاحها .. ويعلم أيضا : كيف يكون الحال ، لو كان القائد فاسدا ، حتى بالنسبة لما يبدو من تصرفاته في ظاهره صحيحا وسليما ..

إن الإمام الذي كان يعلم ذلك وسواه ـ وبصفته القائد الحقيقي للامة ، لو حكم ؛ فلا بد له أن يقيم دولة الحق والعدل ، ويحمل الناس على المحجة ، ويحكم بما أنزل الله ، كما حكم جده محمد (ص) ، وأبوه علي (ع) من قبل .. وحكمه هذا سوف يكون مرفوضا جملة وتفصيلا ؛ لأن الناس ، وإن كانوا عاطفيا مع أهل البيت عليهم‌السلام ؛ إلا أنهم حيث لم يتربوا تربية إسلامية صحيحة ، وصالحة ، إذا أراد العلويون ، أو غيرهم حملهم على المحجة ؛ فلسوف لا ينقادون لهم بسهولة ، ولا يطيعونهم بيسر. ولسوف يكون الحكم بما أنزل الله غريبا على أمة اعتادت

٢٩٢

على حياة خلفاء بني العباس ، ومن قبلهم بني أمية المليئة بالانحرافات والموبقات.

أولئك الخلفاء الذين كانوا في طليعة المستهترين ، والمتحللين من كل قيود الدين والانسانية ، والذين كانوا يتساهلون في كل شيء ، ما دام لا يضر بوجودهم في الحكم .. نعم .. في كل شيء على الاطلاق ، حتى في الدين وأحكامه ، والأخلاق ، والمثل العليا ؛ وما ذلك إلا لأنهم لم يكن همهم إلا الحكم ، والتسلط ، وامتصاص دماء الشعوب ، ولا يهمهم ـ بعد ـ أن يفعل الناس ما شاءوا ، ليتستروا بالدين ، ليكفروا بالله ، ليتحللوا من الأخلاق والفضائل الانسانية ، ليأكل بعضهم بعضا ، ليكونوا أنعاما سائمة ، أو ليكونوا وحوشا ضارية ؛ فان ذلك كله لا يضر. والذي يضر فقط هو : أن يتعرضوا للحكم ، ويفكروا بالسلطان ، كيفما كان التعرض ، وأيا كان التفكير ..

وإذا كان الإمام علي (ع) ، عند ما أراد أن يحكم بما أنزل الله تعالى ، قد لاقى ما لاقى مما لا يجهله أحد .. رغم ما سمعته الامة من فم النبي (ص) مباشرة في حقه ، وقرب عهدها به .. فكيف بعد أن مرت عشرات السنين ، وأصبح الانحراف عادة جارية ، وسنة متبعة ، واتخذ نحوا من الاصالة في حياة الامة ، وروحها ، وأصبح ـ للأسف ـ جزءا لا يتجزأ من كيانها وواقعها ..

وأيضا .. إذا كان أبو مسلم قد قتل ست مائة ألف نفس صبرا ، عدا مئات الالوف الاخرى ، التي ذهبت طعمة للسيوف في المعارك ..

وإذا كانت ثورة أبي السرايا قد كلفت المأمون (٢٠٠) ألف جندي ، من جنوده هو ..

وإذا كان العصيان ما انفك يظهر من كل جانب ومكان ، رغم أن

٢٩٣

الحكم كان أولا وآخرا ينسجم مع أهواء الناس ، ومصالحهم الشخصية ..

فهل يمكن مع هذا .. ان لا يتعرض الإمام (ع) لعصيان أصحاب الأهواء ـ وما أكثرهم ـ ، والكيد من قبل الأعداء ، الذين سوف يزيد عددهم. وتتضاعف قوتهم ، عند ما يحاول الامام (ع) ان يفرض عليهم حكما ما اعتادوه ، وسلوكا ما ألفوه؟! ..

إن من الواضح : ان الناس وان كانت قلوبهم معه ، الا ان سيوفهم سوف تنقلب لتصير عليه ، كما انقلبت على آبائه وأجداده من قبل ، وذلك عند ما لا ينسجم حكمه (ع) مع رغائبهم ، وأهوائهم ، وانحرافاتهم .. حيث إن الإمام (ع) إذا أراد أن يحكم ، فلسوف يواجه ـ بطبيعة الحال ـ تلك العناصر القوية ، ذات النفوذ ، وأولئك المستأثرين بكل الاموال والاقطاع ، من أصحاب الأطماع ، والمصالح الشخصية ، وجها لوجه .. إذ أننا لا يمكن أن ننتظر من حكومة الإمام ، التي هي على الفرض حكومة الحق ، والعدل : أن تقرهم على ما هم عليه ، فضلا عن أن توفر لهم الحماية لتصرفاتهم المشبوهة ، وغير المنطقية ، بل حتى ولا الاخلاقية أيضا ..

إن حكومة الإمام (ع) ، إذا أرادت أن تقوم بعمل أساسي في سبيل استئصال كل جذور الانحراف والفساد .. فان عليها أولا ، وقبل كل شيء ، أن تقوم بقطع أيدي أولئك الغاصبين لاموال الامة ، والمتحكمين بقدراتها. وإبعاد كل أولئك الذين كانوا يستغلون مناصبهم ، التي وصلوا إليها عن طريق الظلم ، والغطرسة ، والابتزاز ـ يستغلونها ـ لمآربهم الشخصية ، وانحرافاتهم اللاأخلاقية ..

ثم .. قطع أعطيات ذلك الفريق من الناس ، الذين كانوا يعيشون على حساب الأمة ، ويأكلون خيراتها .. ثم لا يقومون في مقابل ذلك بأي عمل ، أو نشاط يذكر ..

٢٩٤

وأيضا .. منع المحسوبيات ، والوساطات ، من أصحاب الوجاهات ، الذين كانت تسيرهم الروح القبلية ، ويهيمن عليهم الشعور الطبقي في دولة الأطماع والمزايدات ، أو دولة التهديد ، والعسف ، والارهاب.

يضاف إلى ذلك كله .. أنه إذا أراد الإمام (ع) أن ينطلق في كل نصب وعزل من مصلحة الامة ، لا من مصلحة الحاكم والقبيلة ؛ فطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة القبائل ضده ، ويؤلبهم عليه .. فزعماء القبائل سواء كانوا عربا أو فرسا كانوا يلعبون دورا هاما في انجاح اية ثورة وقيام أية دعوة واستمرار ونجاح أي حكم.

وبعد كل ذلك ؛ فإن من الطبيعي إذن : أن يستفحل الصراع بينه ، وبين العناصر القوية ، ذات النفوذ ، من أصحاب الأهواء ، والمصالح الشخصية ، وأولئك الذين يعتمل في نفوسهم طموح كبير ، نحو زبارج الدنيا ، وبهارجها .. وذلك عند ما يعطي القيمة الحقيقية لهؤلاء جميعا ، ويجعلهم في المستوى الذي يجب أن يكونوا فيه ، ويحدّد ويقيّم لهم واقعهم الذي لن يرضوا أبدا بتحديده وتقييمه. وعلى الأقل لن تساعده تلك العناصر على تصحيح الوضع ، وإقرار النظام .. هذا إن لم تكن هي العقبة الكأداء ، التي تحول بينه وبين ما يصبو إليه ، وتمنعه من تحقيق ما يريد ..

يضاف إلى ذلك كله : أن القيادة القبلية كانت قد فسدت آنذاك ، واعتاد رؤساء القبائل على نكث العهود والمواثيق التي يعطونها ؛ فكانوا يؤيدون هذه الدعوة ، وهذا القائم بها ، إلى أن يجدوا من يستفيدون منه ، ويغدق عليهم أكثر من الأموال ، ويخصهم بما يفضل ما يخصهم به ذاك من المناصب. وكان للقيادات القبلية دور كبير في إنجاح أية دعوة ، وانتصار أية ثورة ..

وبعد .. فإنه إذا كان الإمام (ع) لن يحابي أحدا على حساب دينه ورسالته .. وإذا كان ـ من الجهة الأخرى ـ مركزه ضعيفا في الحكم .. وإذا كان ليس لديه القوة والقدرة الكافية لمواجهة مسئولياته كاملة.

٢٩٥

فلسوف ينهار حكمه وسلطانه أمام أول عاصفة تواجهه ، ولن يستطيع أن يبقى محتفظا بوجوده في الحكم ، أو على الأقل بمركز يخوله أن يفرض الحكم الذي يريد على المجتمع ، بجميع فئاته ، ومختلف طبقاته ..

إلا أن يكون حاكما مطلقا ، لا تحد سلطته حدود ، ولا تقيدها قيود ، وأنى له بذلك.

وبعد كل ما تقدم ؛ فان النتيجة تكون ، أن الامام (ع) ، وإن كان يمتلك القدرة على الاصلاح ، لكن الامة لم تكن لتتحمل مثل هذا الإصلاح ، خصوصا وأن الحكام ـ بوحي من مصالحهم الخاصة ـ كانوا قد أدخلوا في أذهان الناس صورا خاطئة عن الحكم ، وعن الحكام ، الذين يفترض فيهم ان يقودوا الامة في مسيرها إلى مصيرها ..

هذا كله .. لو فرض ـ جدلا ـ سكوت العباسيين والمأمون عنه ، مع أن من المؤكد أنهم سوف يعملون بكل ما لديهم من قوة وحول ، من أجل تقويض حكمه ، وزعزعة سلطانه ..

وإذا كان يستحيل على الإمام (ع) ، في تلك الفترة على الأقل : أن يتسلم زمام السلطة إلا أن يكون حاكما مطلقا كما قدمنا .. فمن الواضح أن سؤالا من هذا النوع لا مجال له بعد. ولن يكون في تجشم الاجابة عليه كبير فائدة ، أو جليل أثر.

ولكن .. مع ذلك ، وحتى لا نفرض على القارئ وجهة نظر معينة ؛ إذ قد يرى أن من حقه أن يفترض ـ وإن أبى واقع الأحداث مثل هذا الافتراض ـ أنه كان على الإمام (ع) : أن يجاري ، ويداري في بادئ الأمر ؛ من أجل الوصول إلى أهداف فيها خير الامة ومصلحتها ؛ من أجل ذلك .. نرى لزاما علينا أن نجاريه في هذا الافتراض ، ونتجه إلى الإجابة على ذلك السؤال بنحو آخر ؛ فنقول :

وثانيا : إنه إذا كان المأمون في تلك الفترة هو الذي يمتلك القدرة والسلطان .. وإذا كانت كل أسباب القوة والمنعة متوفرة لديه بالفعل ؛

٢٩٦

فإنه سوف يسهل عليه ـ إذا لم يكن حكم الإمام (ع) على وفق ما يشتهي ، وحسبما يريد ـ : أن يأخذ على ذلك الحكم : ( الذي يرى نفسه ، ويرى الناس أنه مدين للمأمون ) أقطار الأرض ، وآفاق السماء. ولن يصعب عليه تصفيته ، والتخلص منه من أهون سبيل ؛ حيث إنه حكم لا يزال ، ولسوف يسعى المأمون لأن يبقيه في المهد ، يستطيع المأمون أن ينزل به الضربة القاصمة القاضية متى شاء ، دون أن تعطى له الفرصة لحشد قدراته ، وتجميع قواه في أي من الظروف والأحوال ..

وهكذا .. فإن النتيجة تكون : أن الإمام (ع) سوف يكون بين خيارين لا ثالث لهما : فاما أن يحاول تحمل المسئولية الحقيقية ، بكل أبعادها ، وتبعاتها ، باعتباره القائد الحقيقي للامة ، ويقدم على كل ما تقدمت الاشارة إليه من اصلاحات جذرية في جميع المجالات ، وعلى مختلف المستويات ؛ مما سوف يكون من نتائجه أن يعرض نفسه للهلاك ؛ حيث لا يستطيع الناس ؛ والمأمون واشياعه تحمل ذلك ، والصبر عليه ، ويكون له ولهم كل العذر في تصفيته ، والتخلص منه.

وإما أن لا يتحمل مسئولية الحكم ، ولا يأخذ على عاتقه قيادة الامة ، وإنما تكون مهمته ، وما يأخذه على عاتقه هو فقط تنفيذ إرادات المأمون ، وأشياعه من المنحرفين. ويكون هو الواجهة التي يختفي وراءها الحكام الحقيقيون ، المأمون ومن لف لفه ..

وواضح أن نتيجة ذلك سوف تكون أعظم خطرا على الإمام ، وعلى العلويين ، وعلى الامة بأسرها ، وأشد فداحة من نتيجة الخيار السابق ؛ حيث يكون قد قضى بذلك على كل آمال الامة ، وكل توقعاتها.

وذلك هو كل ما يريده المأمون ، ويسعى من أجل الحصول عليه ، بكل ما أوتي من قوة وحول ..

وثالثا : إن من الواضح : أن عرض المأمون التنازل عن الخلافة للامام (ع) ، لا يعني أبدا أن المأمون سوف لا يحتفظ لنفسه بأيّ من

٢٩٧

الامتيازات ؛ التي تضمن له ـ في نظره ـ نصيبا من الأمر (١). ولسوف يرى الناس كلهم أن له كل الحق في ذلك ..

كما أن ذلك لا يعني أنه سوف لا يعود له نفوذ في الاوساط ذات النفوذ والقوة. بل إنني أعتقد أنه سوف يكون في تلك الحال أقوى بكثير منه في غيرها ؛ حتى إن المنصب للإمام (ع) ، قد يكون شكليا ، ومركزه صوريا ، لا حول له فيه ولا قوة ..

وحينئذ .. وإذا كان المأمون سوف يبقى له نفوذ وقوة ، وإذا كان سوف يشترط لتنازله عن الخلافة للامام ، ما يضمن له استمرار تلك القوة ، وذلك النفوذ ، بل وعودة الخلافة له في نهاية الأمر .. فلسوف لا يصعب عليه كثيرا أن يدبر ـ وهو الداهية الدهياء ـ في الإمام (ع) بما يحسم عنه مواد بلائه ، على حد تعبير المأمون ..

وليطمئن ـ من ثم ـ خاطره ، ويهدأ باله ؛ حيث يكون قد حقق كل ما كان يصبو ويطمح إلى تحقيقه. كما أنه يكون قد اصبح يمتلك اعترافا من العلويين بشرعية خلافته .. بل يكون العلويون على يد أعظم شخصية فيهم ، هم الذين رفعوه على العرش وسلموا إليه أزمّة الحكم والسلطان .. إلى آخر ما هنالك مما قدمناه ، ولا نرى ضرورة لاعادته ..

وفي النهاية :

والآن .. وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على مدى جدية المأمون ، في عرضه للخلافة على الإمام (ع) ، وتحدثنا عن الوضع الذي سوف ينتج لو أن الإمام قبل ذلك العرض .. فإن من الطبيعي أن نتطلع لنعرف ما هو موقف الإمام من تلك اللعبة ـ لعبة ولاية العهد ـ وما هي خطته في مواجهة ما يعلمه من خطط المأمون ، وأهدافه الشريرة ..

فإلى الفصل التالي ، والذي بعده ..

__________________

(١) كأن يشترط أن يكون هو الوزير ، أو ولي العهد مثلا.

٢٩٨

موقف الامام (ع) :

سؤال يطرح نفسه :

هل يعقل أن رجلا تعرض عليه الخلافة ، أو ولاية العهد ، بل ما هو أقل منهما بمراتب ؛ ويعرف جدية العرض ، ثم يرفض ذلك رفضا قاطعا ، ثم يهدد ، فلا يقبل إلا بما هو أبعد منالا ، وأقل احتمالا ـ بالنسبة إلى سنه ـ وبشروط تبعده كل البعد عن مسرح السياسة والحكم ، وتجعل من كل شيء مجرد إجراءات شكلية ، لا أثر لها ..

هل يعقل أن رجلا من هذا القبيل ـ يسلم من أن ينسب إلى ما لا يرضى أحد بأن ينسب إليه؟!! .. اللهم إلا إذا كان هناك ما هو أعظم ، وأدهى وأخطر من ذلك المنصب ، وإلا إذا علم أنه سوف يدفع ثمن ذلك غاليا ، وغاليا جدا ، ألا وهو نفسه التي بين جنبيه!! ..

والامام .. الذي نعرف ، ويعرف كل أحد : أنه ذلك الرجل الجامع لكل صفات الفضل والكمال : من العلم ، والعقل ، والحكمة ، والدراية ، والتقى ، شهد له بذلك أعداؤه ومحبوه ، على حد سواء ـ هذا الامام .. قد رفض كلا عرضي المأمون : الخلافة ، وولاية العهد .. رفضهما رفضا

٢٩٩

باتا وقاطعا ، ولم يقبل ولاية العهد إلا على كره واجبار منه ، وإلا وهو باك حزين ، وعاش بعد ذلك في ضيق شديد ، ومحنة عظيمة ، حتى إنه كان يدعو الله بالفرج بالموت!! ..

وعليه .. أفلا يكفي موقف الامام هذا ، وسائر مواقفه من مختلف تصرفات المأمون ، لأن يضع علامة استفهام كبيرة حول طبيعية هذا الحدث؟! ..

ألم يكن من الواجب أن يكون الامام (ع) مستبشرا مبتهجا كل الابتهاج لما سيؤول إليه أمره. ومدافعا عن المأمون ، ونظام حكمه ، ومناصرا له ، بكل ما أوتي من قوة وحول؟! ..

ثم ألا يفهم من ذلك كله : أنه (ع) كان يدرك ما يكمن وراء قبوله لأي من العرضين من مشاكل ، وما ينتظره من أخطار؟! .. وأن ذلك ليس إلا شركا يقصد ايقاعه به ، ومن بعده كل العلويين ، وشيعتهم للقضاء عليه وعليهم ، وإلى الابد!!! ..

وإذا كان الامام (ع) يعرف الحقيقة ، كل الحقيقة .. فهل يمكن أن نتصور أن يكون راضيا بأن يجعله المأمون وسيلة لأغراضه ، وآلة لتحقيق مآربه وأهدافه؟!! ولا سيما إذا لاحظنا أنه يعرف أكثر من أي انسان آخر ما لتلك اللعبة من عواقب سيئة ، وما تحمله في طياتها من آثار ، ليس عليه هو ، وعلى العلويين ، والمتشيعين لهم فحسب .. وإنما على الامة بأسرها إن حاضرا ، وإن مستقبلا!! ..

هذا كله عدا عن أن هذه اللعبة سوف تكون بمثابة قطع الطريق عليه في أي تحرك يقوم به ، وأي نشاط إصلاحي يمارسه ؛ حيث لم يعد

٣٠٠