الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢

ضده. كما أنه يكون بذلك قد جمع المزيد من المؤيدين له ، ليستطيع مقابلتهم ، والوقوف في وجههم ، وينتقم منهم (١).

ولكنه رأي لا تمكن المساعدة عليه :

لأن منطق الأحداث ، وواقع ظروف المأمون يأبيان كل الاباء أن يكون هذا سببا منطقيا للبيعة .. وقد قدمنا في الفصلين السابقين البيان الكافي والوافي لما يتعلق بهذا الموضوع .. هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يتلائم مع ما هو معروف عن المأمون ، من الدهاء والسياسة ، وهل يمكن أن يقدم المأمون على خلق وإثارة مشاكل هو في غنى عنها؟ وعلى الأخص في تلك الفترة من الزمن ، التي كانت طافحة بالمشاكل ، كان العصيان فيها معلنا في أكثر مناطق الدولة ، ومهددا به من كل جانب ومكان؟!!.

إن الحقيقة هي : أن المأمون في تلك الفترة بالذات ، كان بحاجة إلى أن يكتسب ثقة وحب أي إنسان كان. فضلا عن ثقة وحب أهل بيته ، وعشيرته : العباسيين ..

ثم .. وهل يمكن أن يلجأ المأمون للانتقام منهم ، الى هذا الاسلوب العاجز ، بعد أن خضعوا له وانقادوا لأمره ، وسلموا بالأمر الواقع ، بعد مقتل الأمين؟!.

ولماذا لا يقدر : أنهم سوف يقابلونه بالمثل ، ويقومون في وجهه ؛ ثأرا لكرامتهم ، ودفاعا عن وجودهم؟! ..

ولماذا يعطيهم الفرصة لابراز عضلاتهم ضده ، ويجعلهم يفكرون في

__________________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩ ، والامام الصادق والمذاهب الأربعة ج ٢ جزء ٤ ص ٤٩٢ ، والتربية الدينية للفضلي ص ١٠٠ ، الطبعة الخامسة ، وغير ذلك ..

٢٦١

تحدي سلطته ، وهتك حرمته؟! .. حيث رأيناهم قد خلعوا المأمون ؛ بسبب بيعته للإمام (ع) ، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي ، في أواخر ذي الحجة ، من نفس السنة التي بويع فيها للإمام (ع) بولاية العهد.

وأخيرا .. ألم يكن باستطاعة المأمون أن يصفي حساباته مع خصومه الضعفاء جدا ، الذين كاد يلتهمهم المد العلوي ويقضي عليهم ، بأساليب أخرى ، أقل إثارة ، وأشد نكاية؟!! ..

ولقد أشرنا ، ولسوف نشير الى ما قاله المأمون لحميد بن مهر وجمع من العباسيين .. بل ويكفينا هنا : أن نلقي نظرة على ما قاله المأمون للعباسيين في كتابه المعروف لهم ، يقول المأمون : « .. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم ( يعني للعلويين ) عاقبة ومنفعة ، فإني في تدبيركم ، والنظر لكم ، ولعقبكم ، وابنائكم من بعدكم .. » وكذلك ما كتبه بخط يده في وثيقة العهد .. إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه ..

فتلخص أن ما ذكر هنا ، لا يمكن أن ينسجم مع ما يقال عن حنكة المأمون ، ودهائه السياسي ..

الفضل في قفص الاتهام :

وأخيرا .. فإن بعض المؤلفين ، كأحمد أمين في كلامه المتقدم ، وجرجي زيدان (١) وأحمد شلبي (٢) ، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الأثير في الكامل ، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٣ ، وابن الطقطقي في :

__________________

(١) تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٣٩.

(٢) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج ٣ ص ٣٢٠.

٢٦٢

الفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧ ، وغيرهما .. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة « ولاية العهد » هذه ، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل ، الذي كان يتشيع.

ويرى آخر : أن سبب إشارة الفضل على المأمون بذلك ، هو أنه أراد أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في العلويين (١) ..

الفضل بريء من كل ما نسب إليه :

أما نحن فإننا بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي :

إن ما بأيدينا من النصوص التاريخية يابى عن نسبة التشيع للفضل ، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون بهذا الأمر ، فضلا عن كونه المدبر له ، والقائم به .. اللهم إلا أن تكون مؤامرة اشترك الرجلان معا في وضع خطوطها العريضة ، آخذان في اعتبارهما ظروفهما ، ومصالحهما الشخصية ، ليس إلا ..

بل إن بعض النصوص تفيد أن الفضل كان عدوا للامام (ع) ، حيث إنه كان من صنائع البرامكة (٢) ، أعداء أهل البيت (ع). وأنه لم يكن حتى راغبا في البيعة للرضا (ع) ، وأنه وأخاه قد مانعا في عقد العهد للرضا (٣) ؛ فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له .. بل لم يكن

__________________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٣٢ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٧ ، نقلا عن : البيهقي عن الصولي ..

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٤٣ ، ١١٣ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦ ، وص ٢٢٦.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٣ ، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٧٠ ، ونور الأبصار للشبلنجيّ ص ١٤٢ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٦ ، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٩ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٥ ، وارشاد المفيد ص ٣١٠ ، ٣١١ ، وغير ذلك ..

٢٦٣

يعلم أن المأمون يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان واحضار المأمون له ، واعلامه بأنه يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص ٥٦٢ والطبري وغيرهما. وإن كان ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي ارسلها إلى الإمام وهو في المدينة والتي أوردها الرافعي في التدوين.

وذلك ما يقوي أنه كان متآمرا على الإمام مع المأمون كما نصت عليه تلك الرسالة بأن ذلك عن اتفاق بينه وبين المأمون فراجعها.

ولو أنه كان ممن يتشيع للإمام (ع) ، فكيف يمكن أن يتآمر عليه ، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة للاقدام على التخلص منه (ع) ، وذلك عند ما ذهب إلى الرضا ، وحلف له بأغلظ الأيمان ، ثم عرض عليه قتل المأمون ، وجعل الأمر إليه. (١)

لكن الإمام بسبب وعيه وتيقظه قد ضيع عليه وعلى سيده هذه الفرصة ، حيث أدرك للتوّ أنها دسيسة ومؤامرة ، فزجر الفضل وطرده ، ثم دخل من فوره على المأمون ، وأخبره بما كان من الفضل ، وأوصاه أن لا يأمن له ..

وبذلك يكون الإمام (ع) قد ضيع على المأمون والفضل فرصة تنظيم اتهام له بما لم يكن ـ كما أنه يكون قد شكك المأمون في اخلاص الفضل له.

وعاد الفضل من مهمته تلك بخفي حنين ، يجر هو وسيده أذيال الخيبة ، والخزي ، والخسران ..

أما إذا كان الفضل قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ـ كما

__________________

(١) وان كنا لا نستبعد أن يكون قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون ؛ وبدافع من حقده الدفين على الامام عليه‌السلام ، وحسده له ؛ يريد بذلك تمهيد السبيل لقتله ؛ ليخلو له الجو ، وليفعل من ثم ما يشاء وحسبما يريد.

٢٦٤

هو غير بعيد ـ فليس ذلك إلا بدافع من حقده الدفين على الإمام (ع) ، وحسده له ، يريد بذلك تمهيد الطريق لمقتله ، ليخلو له الجو ، وليفعل من ثم ما يشاء ، وحسبما يريد ..

وأيا ما كانت الحقيقة ، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار ، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في هذه القضية ..

ويا ليته كان قد قنع بذلك .. ولكنه استمر في تحريض المأمون على التخلص من الإمام (ع) ، حتى إن بعض المؤرخين يرى : أن المأمون لم يقتل الإمام إلا بتحريض من الفضل بن سهل!!! ..

وبعد .. فهل يمكن أن تنسجم دعوى تشيعه مع إشارته على المأمون بارجاع الإمام عن صلاة العيد ، وذلك حتى لا تخرج الخلافة منه؟! .. كما سنشير إليه إن شاء الله.

وأيضا .. مع إظهاره العداوة الشديدة للإمام (ع) وحسده له على ما كان المأمون يفضله به ، على حد تعبير الريان بن الصلت؟!! (١).

وكذلك مع اصطناعه هشام بن إبراهيم الراشدي ، وجعله عينا للمأمون على الإمام ، ينقل إليه حركاته وسكناته ، ويمنع الناس من الوصول إليه حسبما تقدم؟!!.

ولو أن الفضل كان ممن يتشيع للإمام ، لكان يجب أن يعد من أعظم البلهاء ، إذ كيف لا يلتفت لأمر المأمون المؤكد لرسله : أن لا يمروا بالإمام عن طريق الكوفة وقم ، لئلا يفتتن به الناس. ثم إلى تهديداته له بالقتل ، إن لم يقبل ما يعرضه عليه ، ثم إلى جلبه العلماء والمتكلمين

__________________

(١) مسند الامام الرضا ج ١ ص ٧٨ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٣.

٢٦٥

من أقاصي البلاد ، من أجل افحام الإمام ، واظهار جهله وعجزه ، إلى آخر ما هنالك ، من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

ثم نرى أنه هو بنفسه يشارك في ذلك كله ، وسواه ، ويعمل من أجله حتى لقد شارك في التهديد للامام ، إن لم يقبل ما يعرضه عليه المأمون ..

وإذا كان نفوذه قد بلغ حدا يجعل المأمون يتنازل عن عرشه ـ الذي قتل من أجله أخاه ـ لرجل غريب ، فلماذا لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني ، الذي انتهجه مع الإمام ، ابتداء من حين وجود الإمام في المدينة ، وإلى آخر لحظة عاشها معه ، وبعد ذلك إلى ما شاء الله ..

هذا كله من جهة ..

موقف الإمام من الفضل ينفي نسبة التشيع له :

ومن جهة ثانية .. لو كان للفضل فضل في مسألة البيعة للإمام (ع) ، أو كان ممن يتشيع له ، لم يكن من اللائق من الرضا (ع) ، أن يخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون ، وجعل الأمر إليه .. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له ، ويخبره بغشه وكذبه ، وأنه يخفي عنه حقيقة ما يجري في بغداد ، وغيرها (١) ..

ولا من اللائق منه أيضا : أن يعامله تلك المعاملة ، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون ، والتي كان فيها الكثير من الخشونة ، والاحتقار والامتهان ، فقد قدمنا أنه عند ما ذهب إليه الفضل يطلب منه كتاب

__________________

(١) تاريخ الطبري ، طبع ليدن ج ١١ ص ١٠٢٥.

٢٦٦

الامان ، لم يسأله عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه ، ثم أمره بقراءة الكتاب ، فقرأه ـ وكان كتابا في اكبر جلد ـ وهو واقف ، لم يأذن له بالجلوس ..

وكذلك لم يكن من اللائق منه : أن يزري عليه عند المأمون ، فقد ذكر المؤرخون : أنه « .. كان يذكر ابني سهل عند المأمون ، ويزري عليهما ، مما دفعهما إلى السعاية به ، وكان يوصيه أن لا يأمن لهما » (١).

إلى آخر ما هنالك مما لا يصدر من اى انسان عادي آخر في حق من يتشيع له ، فضلا عمن يتسبب في جعله وليا لعهد الخلافة الإسلامية للامة بأسرها.

والمأمون نفسه يستنكر ذلك :

ومن جهة ثالثة .. فقد كفانا المأمون نفسه مؤونة الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية .. ولا شك أن « عند جهينة الخبر اليقين ».

فقد قدمنا في الفصل السابق : أن الريان بن الصلت ـ وكان من رجال الحسن بن سهل (٢)!! ـ عند ما رأى أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا ، وأنهم يقولون : « إن هذا من تدبير الفضل » .. قال للمأمون ذلك ، فأجابه المأمون : « .. ويحك يا ريان!! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية ، والقواد ، واستوت الخلافة ، فيقول

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٦٥ ، ٥٦٦ ، وإعلام الورى ص ٣٢٥ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٧١ ، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٧٦ ، والبحار ج ٤٩ ، وإرشاد المفيد ، وأعيان الشيعة ، وغير ذلك ..

(٢) صرح بأنه من رجاله في كتاب : البحار ج ٤٩ ص ١٣٣ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩.

٢٦٧

له : ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟!! .. الخ »

لا .. أبدا .. لا يمكن أن نتصور ، ولا يجوز في العقل : أن يأتي وزير ملك إليه ، ويطلب منه التنازل عن عرشه ، ويسلمه إلى رجل غريب ، وهو يعلم أن ذلك الملك ، قد قتل أخاه ، وغيره ، وهدم البلاد ، وأهلك العباد ، من أجل ذلك العرش .. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب ، أي شأن ، أو دور يذكر. أو على الأقل لن يكون له من النفوذ ، والسلطة والطول ، ما كان له مع ذلك الملك الأول. بل سوف يكون كأي فرد عادي آخر ، محكوما لا حاكما ، بكل ما لهذه الكلمة من معنى .. اللهم إلا أن يكون قد تآمر مع ذلك الملك الأول ، لتنفيذ خطة معينة ، قد رسماها معا من قبل ، وعملا على أن تكون الامور في نهاية الأمر في صالحهما ، ومن أجل تعزيز نفوذهما وسلطتهما ..

أما حصيلة هذه الجولة :

وهكذا .. تأبى الأحداث ، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه القضية شيء ، إلا عن طريق التآمر والتواطؤ مع سيده المأمون ، أفعى الدهاء والسياسة ، بعد دراسة دقيقة مشتركة للوضع ، وتقييم عام له .. اتفقا على أثره على خطة للتخلص من المشاكل التي كانت تعترض سبيلهما ، وتشكل ـ إلى حدّ ما ـ خطرا على وجودهما في الحكم ، وتفردهما بالسلطة .. وبذلك فقط نستطيع أن نفسر قول ابراهيم بن العباس في مدح الفضل في جملة أبيات له :

وإذا الحروب غلت بعثت لها

رأيا تفل به كتائبها

رأيا إذا نبت السيوف مضى

عزم به فشفى مضاربها

٢٦٨

أجرى إلى فئة بدولتها

وأقام في أخرى نوادبها (١)

ولعل الفضل كان مخدوعا!.

ولكن ألا يحتمل قريبا : أن يكون الفضل مخدوعا في هذه المرة على الأقل؟ وأنه هو أيضا راح ضحية تآمر وتضليل من نفس سيده : المأمون؟! ..

الحقيقة أن ذلك أمر محتمل جدا ، لأننا نرى في النصوص التاريخية ، ما يشير لنا بوضوح إلى أن الفضل لم يكن سوى لعبة بيد المأمون ، وأنه قد جازت عليه حيلته في بادئ الأمر ، بادّعائه : أنه إنما يوليه العهد ، لأنه يريد خير الامة ومصلحتها. أو لأنه يريد أن يفي بنذره ( أي أنه نذر إن ظفر بأخيه الأمين ؛ فلسوف يسلم الخلافة لرجل غريب!! ) ..

وقد تقدم أن ابن القفطي يرى أن الفضل لم يكن عارفا بسر القضية ، ولا عالما بواقع الأمر .. ولعلنا نستطيع : أن نستدل على ذلك بقوّة بمانعة الفضل وأخيه الحسن في هذا الأمر ..

كما أننا رأينا المأمون : يرفض أن يطلب من الإمام (ع) كتاب الأمان للفضل ، بحجة أن الإمام كان قد اشترط : أن لا يتدخل في شيء من أمور الدولة وشئونها (٢).

ثم نرى المأمون نفسه يطلب من الإمام : أن يولي فلانا ، أو أن يكتب إلى فلان بكذا ، أو أن يساعده في إدارة شئون الخلافة ، أو أن

__________________

(١) الأغاني ط ساسي ج ٩ ص ٣١ ـ ٣٢.

(٢) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٨ ، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٨.

٢٦٩

يصلي بالناس ، إلى غير ذلك من الامور .. مع أن ما كان يريده الفضل من الإمام ، لم يكن له من الأهمية مثل ما كان يطلبه منه المأمون ..

وعلى كل فقد يجوز للمأمون ـ حتى مع الشرط ـ ما لا يجوز لغيره بدونه ..

الفضل يقع في الشرك :

واخيرا .. فلا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا أن نقول :

مسكين الفضل بن سهل ، لقد استطاع المأمون أن يبرئ ساحة نفسه ، من كل الذنوب العظيمة والخطيرة التي ارتكبها ، وأن يجعل هذا الوزير المسكين ، الذي كان عدوا للامام ، والذي لم يشعر إلا وهو في الفخ ، هو المسئول عن أكثر جرائمه وموبقاته ، بل وعنها جميعا ، حتى البيعة للرضا (ع) ، بل وحتى عن قتل أخيه الأمين!!

ولقد أدرك الفضل أنه قد وقع في الشرك ، ولكن .. بعد فوات الأوان ، ولذا نراه يمتنع عن الذهاب إلى بغداد ، لأنه يعرف ما سوف يواجهه من مشاكل وأخطار ، وما سوف يتعرض له من مؤامرات ، وحاول بكل وسيلة أن يقنع المأمون بالعدول عن رأيه ، وبيّن له صراحة أنه هو المتهم بالبيعة للرضا ، وبقتل الأمين ، فلقد قال له :

« .. يا أمير المؤمنين ، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك ، وعند العامة ، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع ، وببعة الرضا ، ولا آمن السعاة والحساد ، وأهل البغي أن يسعوا بي ، فدعني أخلفك بخراسان الخ .. » (١).

__________________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٢ ، ومسند الامام الرضا ج ١ ص ٨٧ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٧.

٢٧٠

ولكن أنى له أن يتركه المأمون ، الذي كان يريد التخلص منه ، من أجل أن ترضى عنه بغداد ، مضافا إلى أنه هو أيضا كان يخشاه ويخافه ..

فلقد كان قد أعدّ العدة ، وأحكم الخطة في أمره ، ولم يبق إلا التنفيذ ( كما سيأتي بيانه ) ..

وبعد أن يئس الفضل من اقناع المأمون ، حاول أن يحتاط لنفسه ما أمكنه ذلك ، فطلب منه أن يكتب له كتاب ضمان وأمان ، فاستجاب المأمون لهذا الطلب ، وكتب له كتابا (١) ، يسمى كتاب الحياء والشرط يظهر بوضوح الدور الذي لعبه الفضل في تشييد صرح خلافة المأمون ، وتوطيد سلطانه.

ونلاحظ : أن المأمون قد كتب للفضل كل ما يريد ، بل وزاد على ما كان يتوقعه الفضل الشيء الكثير ، إذ لم يكن يرى في ذلك أي ضرر عليه ، ما دام أنه قد أحكم الخطة ، ودبر له النهاية.

وكما رسم ودبر .. كانت النهاية!! ..

لماذا الاصرار على اتهام الفضل :

وهكذا .. فإننا بعد كل ما تقدم ، لا نرى مجالا للإصرار على نسبة التشيع للفضل ، أو القول : بأن المأمون كان واقعا في أمر البيعة تحت تأثيره ، وخاضعا لارادته ، فقد يكون الفضل قد أعطي أكثر مما يستحقه من النفوذ والقدرة .. ولعل إصرار أولئك أو هؤلاء على اتهام الفضل بذلك ، حتى وإن أنكره المأمون نفسه ، وكذبته جميع الوقائع والأحداث ـ لعله ـ يرجع إلى حرصهم على أن لا يتهم المأمون ـ السلطة ـ بما

__________________

(١) الكتاب موجود في : البحار ج ٤٩ ص ١٦٠ ، ١٦٢ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٧ ، ١٥٩ ، وأوعز إليه اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ٤٥١ طبع صادر

٢٧١

لا يحبون اتهامه به ، كالتشيع ، والحب لآل علي (ع) ، أو ليبرءوا ساحته من هذه التهمة ، لو فرض وجودها فعلا .. أو لعل لأنهم لم يكونوا على درجة من الوعي تؤهلهم لإدراك حقيقة ظروف المأمون ، وأهدافه من البيعة ..

هذا .. وقد رأينا : أن العباسيين في بغداد ، بمجرد وصول نبأ البيعة لهم ، يتهمون الفضل بن سهل بتدبيرها (١) .. مع أنهم لم يكونوا قد اطلعوا بعد على حقيقة الأمر وواقع القضية ، وما ذلك إلا لما قلناه ، وليبقوا على علاقاتهم مع المأمون ، وليبقى باب الصلح معه في المستقبل مفتوحا .. وكذلك ليحافظوا على شخصية المأمون ، حتى لا تلصق بها تهمة ، يعلمون هم أكثر من غيرهم ـ وأهل البيت أدرى بما فيه ـ ببراءته منها ، ألا وهي تهمة : الحب لعلي ، وآل بيته ..

ولعله أيضا لهذه الاسباب نفسها جعلوا المأمون لعبة في يد الفضل ، وأنه لا يملك معه من الأمر شيئا ، حتى لقد قالوا عنه : إنه مسجون ومسحور (٢). وإن كان لا شاهد لهذه الدعوى أصلا إلا البيعة للرضا (ع) ، ولولاها لكان العكس عندهم هو الصحيح فعلا ..

جميل .. وجميل جدا .. فلقد أصبح المأمون لعبة بيد الفضل ، وإن كانت جميع الدلائل والشواهد متظافرة على العكس من ذلك .. ولو لم يكن ذلك يكفي لتبرئة المأمون ، فهم على استعداد لاتهامه بعقله ، كما قد حدث ذلك بالفعل ، فذلك عندهم خير من اتهامه بالحب لآل علي ، والتشيع لهم ..

__________________

(١) فقد اتهموا الفضل بذلك بمجرد وصول رسالة الحسن بن سهل إليهم ، يخبرهم فيها بأمر البيعة .. راجع : الطبري ج ١١ ص ١٠١٣ ، طبع ليدن وتجارب الامم ج ٦ ص ٤٣٦ وغير ذلك من كتب التاريخ.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٨ ، والطبري ج ١١ ، وغير ذلك ..

٢٧٢

احتمال وجيه جدا :

على أننا لا نستبعد كثيرا .. أن يكون المأمون نفسه قد شجع وغذى هذه التبريرات والتمويهات ، وخصوصا بعد مقتل الفضل ، ليبرئ نفسه أمام العباسيين ، وليشوه الفضل .. كما أننا لا نشك أبدا في أن كثيرا مما يذكر عن الأمين هو في عداد الخرافات والأساطير ، التي شجعها المأمون وحزبه ، لأن الأمين كان هو المغلوب ، والمأمون كان هو الغالب .. وللغالب القدرة ، بل والحق أيضا ـ في نظر قاصري النظر ـ في أن يشوه المغلوب ، ويصوره بالصورة التي يريد ..

ويدلنا على أن المأمون هو المسئول عن ذلك ، ما رواه الحصري في زهر الآداب من : « أنه لما خلع المأمون أخاه الأمين ، ووجه بطاهر ابن الحسين لمحاربته ، كان يعمل كتبا بعيوب أخيه ، تقرأ على المنابر بخراسان الخ .. » (١). وطبيعي بعد ذلك : أن على الكتاب والمؤرخين الذين ما كانوا أحرارا ، ولا يعتمدون النزاهة في كتاباتهم : أن يؤرخوا كما يريد المأمون ، وأن يكتبوا ما يمليه عليهم ، لا ما هو حق وواقع .. يرونه بام أعينهم. أو تحكم به ـ إن كانت ـ ضمائرهم ..

وأخيرا .. وإذا تحقق أن الفضل بريء من تهمة التشيع ، وتهمة تدبير أمر البيعة الاعلى نحو التآمر ، فلا يعني ذلك أنه بريء مما هو أشنع من ذلك وأقبح « فكل إناء بالذي فيه ينضح » ..

__________________

(١) راجع : امراء الشعر العربي في العصر العباسي ص ٨٦ ، نقلا عن : زهر الآداب ج ٢ ص ١١١ ، تحقيق زكي مبارك ، وطبع دار الجيل ج ٢ ص ٤٦٤.

٢٧٣
٢٧٤

القسم الثّالث

أضواء على الموقف :

١ ـ عرض الخلافة ، ورفض الإمام ..

٢ ـ قبول ولاية العهد بعد التهديد ..

٣ ـ مدى جدية عرض الخلافة ..

٤ ـ موقف الإمام ..

٥ ـ خطة الإمام ..

٢٧٥
٢٧٦

عرض الخلافة ، ورفض الامام (ع)

: نصوص تاريخية

: تحدثنا كتب التاريخ : أن المأمون كان قد عرض الخلافة على الإمام أولا .. (١) لكنه (ع) رفض قبولها أشد الرفض ، وبقي مدة يحاول اقناعه بالقبول ؛ فلم يفلح .. وقد ورد أن محاولاته هذه ، استمرت في مرو وحدها اكثر من شهرين والإمام عليه‌السلام يأبى عليه ذلك (٢).

بل لقد ورد أنه (ع) كان قد أجاب المأمون بما يكره ؛ فقد :

قال المأمون للإمام : « .. يا ابن رسول الله ، قد عرفت فضلك ، وعلمك ، وزهدك ، وورعك ، وعبادتك ؛ وأراك أحق بالخلافة مني .. ».

__________________

(١) كما نص عليه في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٥٠ ، والفخري في الآداب السلطانية ص ٢١٧ ، وغاية الاختصار ص ٦٧ ، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٨٤ ، ومقاتل الطالبيين ، وغير هؤلاء كثير. وسنشير في آخر هذا الفصل إلى طائفة منهم أيضا .. لكن السيوطي قال في تاريخ الخلفاء : « .. حتى قيل : أنه همّ أن يخلع نفسه ، ويفوض الأمر إليه .. » أما رفضه لذلك ؛ فهو أشهر من أن يذكر كما سيأتي ..

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤ ، وينابيع المودة وغير ذلك.

٢٧٧

فقال الإمام (ع) : « .. بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله ..

قال المأمون : فاني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة ، وأجعلها لك ، وأبايعك؟! ..

فقال الإمام (ع) : إن كانت هذه الخلافة لك ؛ فلا يجوز أن تخلع لباسا ألبسكه الله ، وتجعله لغيرك ، وإن كانت الخلافة ليست لك ؛ فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك (١).

قال المأمون : لا بد لك من قبول هذا الأمر!! فقال الإمام (ع) : لست أفعل ذلك طائعا أبدا ..

فما زال يجهد به اياما ، والفضل والحسن (٢) يأتيانه ، حتى يئس من قبوله ..

وخرج ذو الرئاستين مرة على الناس قائلا : وا عجبا!! وقد رأيت عجبا!! رأيت المأمون أمير المؤمنين يفوض أمر الخلافة إلى الرضا.

__________________

(١) عبارة تاريخ الشيعة ص ٥١ ، ٥٢ ، هكذا : « .. إن كانت الخلافة حقا لك من الله ، فليس لك أن تخلعها عنك ، وتوليها غيرك. وإن لم تكن لك ؛ فكيف تهب ما ليس لك .. » وهذه أوضح وأدل.

(٢) لا ندري ما الذي أوصل الحسن بن سهل إلى مرو ، مع أنه كان آنئذ في العراق ، ولعل ذكر الحسن اشتباه من الراوي. واحتمل السيد الأمين في أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٢٠ : أن يكون المأمون قد استدعى الحسن بهذه المناسبة إلى خراسان ؛ فلما تم أمر البيعة عاد إلى بغداد.

٢٧٨

ورأيت الرضا يقول : لا طاقة لي بذلك ، ولا قدرة لي عليه .. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها (١).

__________________

(١) راجع في جميع هذه النصوص بالاضافة إلى ما تقدم : روضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، وإعلام الورى ص ٣٢٠ ، وعلل الشرائع ج ١ ص ٢٣٦ ، وينابيع المودة ص ٣٨٤ ، وأمالي الصدوق ص ٤٢ ، ٤٣ ، والإرشاد ص ٣١٠ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥ ، ٦٦ ، ٨٧ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ ، ١٤٠ ، والمناقب ج ٤ ص ٣٦٣ ، والكافي ج ١ ص ٤٨٩ ، والبحار ج ٤٩ ، ص ١٢٩ ، ١٣٤ ، ١٣٦ ، ومعادن الحكمة ، وتاريخ الشيعة ، ومثير الأحزان ص ٢٦١ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٤ ، ١٦٥ ، وغاية الاختصار ص ٦٨.

٢٧٩

قبول ولاية العهد بعد التهديد

مع محاولات المأمون لاقناع الإمام

: الذي يبدو من ملاحظة كتب التاريخ والرواية ، هو : أن محاولات المأمون لاقناع الامام بما يريد ، كانت متعددة ، ومتنوعة. وأنها بدأت من حين كان الإمام (ع) لا يزال في المدينة ؛ حيث كان المأمون يكاتبه ، محاولا إقناعه بذلك ؛ فلم ينجح ، وعلم الإمام أنه لا يكف عنه ..

ثم أرسل رجاء بن أبي الضحاك ، وهو قرابة الفضل والحسن ابني سهل (١) ؛ فأتى بالإمام (ع) من المدينة الى مرو رغما عنه .. وبذل المأمون في مرو أيضا محاولات عديدة ، استمرت أكثر من شهرين. وكان يتهدد الإمام بالقتل ، تلويحا تارة ، وتصريحا أخرى ، والإمام (ع) يأبى قبول ما يعرضه عليه .. إلى أن علم أنه لا يمكن أن يكف عنه ، وأنه لا محيص له عن القبول ؛ فقبل ولاية العهد مكرها ، وهو باك حزين ـ على حد تعبير الكثيرين ـ ، وكانت البيعة له في السابع من شهر رمضان ، سنة ( ٢٠١ ه‍ ـ. ) ، كما يتضح من تاريخ ولاية العهد ..

__________________

(١) وقيل : أنه عمهما. وقد كان رجاء هذا من قواد المأمون. وقد ولاه المأمون خراسان مدة ، لكنه أساء السيرة ؛ فعزله ..

٢٨٠